الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
زينب ملكة تدمر
مدينة قاصية قامت بين نطاق من الصحراء، فتألقَ لألاؤُها، وتبلَّجَ بهاؤها، وأخذت تبدو كما شق النجمُ رداء الظلمات، في كبد السماء. نهضت بها امرأة من العرب، فبسطت سلطانها، ونشرت أعلامها، على ما بين مجاهل السودان، ومعالم أنقرة، من مسالك وممالك، وأمم وشعوب.
تلك هي تدمر، في عهد ملكتها زينب.
تقع تدمر في بادية الشام إلى الشمال منها، على مدى مائة وخمسين ميلاً من دمشق، ومسيرة خمس أيام من الفرات. وهي ملتقى الغادين والرائحين بين الشام والعراق. لذلك كان انتجاع أهل هذا البلد إلى ذينك القطرين لا ينقطع. ومن أجل ذلك جمعوا بين مدينتي الفرس والرومان، فأرهفت لذلك طباعهم ورقت شمائلهم، ونَفَذَت أفهامهم، وطفقوا يقيمون البنية ترسخ أصولها في أعماق الأرض، وتناغى مشارفها منازل الأفلاك. ومن أدل ذلك على ما نقول هيكل الشمس أو هيكل بعل. والقصر الأعظم الذي بلغ ذرعه ألفى ذراع في مثلها. ولا تزال أطلالهما باقية تعنو لها الوجوه، وتخشع بين أيديها القلوب.
تلك هي الأمة التي قامت بأمرها زينب فبلغت بها غاية ما أسلفنا لك.
تَنَقَل الملك بزينب في دورين: فكانت مشيرة لزوجها، ثم وصية على ولدها وفي كلا الدورين كانت الوحي الُملهم، واليد الطائلة.
كانت زينب على فرط من جمالها، وعذوبة منطقها، وسماحة أسلوبها، ونفاذ لها، وعظمة قلبها؛ من أشد الناس بأسا، وأمضاهم عزماً، وأرسخهم في الحروب قدماً.
وكانت إذا وقفت الصفوف، وأُشرعت الرماح، والتمعت الأسنة؛ تتقلد سيفها وتعتقل رُمحها، وعلى رأسها خُوذة مُرصعة بالدر والياقوت، وقد تَدَلَّت فوق غلالتها أهداب من الحرير الأُرجواني، ثم تمر بين الصفوف مُجَرَّدة يُمنى ذراعيها كما يفعل أبطال اليونان والرومان، فُيذهل القوم عن نفوسهم، وتملك عليهم
مشاعرهم حتى تكون أبصارهم التي يبصرون. وأيديهم التي بها يبطشون، وقلوبهم التي بها يشعرون، ثم يصَبُّون على أعدائهم كما تنصب النار على هشيم الكلأ. بذلك افتتح جندها ما افتتحوا من بلاد، واقتحموا ما اقتحموا من معاقل. ولذلك أشادت الأمم قديماً بذكرها، وأفسحوا لأخبارها وسِيَرها المكان الأوفى من صدور تاريخهم. وبطون صحائفهم.
وكانت زينب تجيد لغات الفرس واليونان والرومان وأخلاط من يليها من شعوب وقبائل.
على أن هذه الجمرة المستطيرة نكبت في آخر عهدها نكبة لم تجد لها من مُقيل. فقد فجأتها جنود الرومان معقودة اللواء بكف أورليان وكان في جيشها جمع لا يُحصَون عدداً ممن انحسر عنهم ظل الروم في عهدها، يولونها ظاهر الطاعة وزمام قلوبهم بأيدي سادتهم الأقدمين، فكانوا الفتنة والاضطراب في جندها. وكان سبيل ذلك أن تراجعت جنودها مرة بعد مرة حتى إلى أمرها إلى التسليم
لعدوها سنة 282م. فأخذت أسيرة إلى روما ثم أعيدت إلى موطنها لمكانها من نفوس قاهريها فعكفت على عزلتها ونسكها حتى ماتت.
هذا وللعرب حديث عن ملكة تدمر يعزب لب الناقد عنه، وتضل حقائق التاريخ دونه. وهم يَدعونها الزّبّاء وينسبون إلى عمرو بن عَدِيٍّ الّلخمي أنه قادها إلى الموت انتقاما لخاله جذيمة بن مالك ملك الحيرة، ويزعمون أن عمراً خبأ لها الرجال في الغرائر.
وتلك لعمرك أشبه بأساطير الأولين، منها بحقائق المؤرخين، والله بكل شيء عليم.