المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌السباء والوأد أما بعد: فإنا لا نخدع التاريخ في ماضيه، فنمثله - المرأة العربية في جاهليتها وإسلامها - جـ ١

[عبد الله العفيفي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌في سبيل المرأة

- ‌ماضينا وحاضرنا

- ‌المرأة في الحياة

- ‌المرأة العربية في عهد جاهليتها

- ‌نصيبها من الوجود

- ‌بلقيس ملكة اليمن

- ‌زينب ملكة تدمر

- ‌السباء والوأد

- ‌سمو أدبها ونفاذ لبها

- ‌ حياتها الزوجية

- ‌اختيار الزوجة

- ‌كرامتها على زوجها

- ‌شرف الرجل وعفته

- ‌الأم العربية

- ‌المرأة العربية في عامة حياتها

- ‌عملها

- ‌حجابها وسفورها

- ‌ ثيابها

- ‌حليها

- ‌بيتها

- ‌دينها وعقائدها

- ‌الخرزات والتمائم والرُّقَي

- ‌التفاؤل والتطير

- ‌سفر الرجل وطول غيبته

- ‌خَدَر الرَّجْل واختلاج العين

- ‌رأيها في مصير موتاها

- ‌ضمان القلوب

- ‌صنيع المِقْلَات

- ‌البئر في شفة الصبي

- ‌عمل الشمس في الأسنان

- ‌بعض شأنها

- ‌عرسها

- ‌ يوم الإملاك

- ‌خطبة أبي طالب

- ‌خطبة ورقة بن نوفل

- ‌المهر

- ‌يوم البناء

- ‌مناحتها

- ‌تجملها

- ‌فصاحتها وسماحة منطقها

- ‌أثارة من قولها

- ‌مأثور من المنثور

- ‌بين امرأتين

- ‌أَبلغ الكَلم في أبلغ الكرم

- ‌امرأة تصف رسول الله

- ‌سناء الرأي وحسن الاستعطاف

- ‌بين نارين

- ‌تداوُل الأيام

- ‌صفات في فقرات

- ‌نساءٌ يَصِفْن رجالا

- ‌مجاذبة الثناء

- ‌الكَلمِ القِصار

- ‌أمثال أرسلها النساء فتمثل بها الرجال

- ‌أَغَيْرةً وَجُبْناً

- ‌بَيْتيِ يَبْخَلْ لَا أَنا

- ‌تَرَى الْفِتَيان كالنَّخل وما يُدريك مَا الدخَّل

- ‌لا تَأمَني الأَْحَمق وفي يَدِهِ سِكيَّنٌ

- ‌رَمَتْني بِدائِها وانْسَلّتْ

- ‌صارَتِ الفِتْيانُ حُمَماً

- ‌لا تعْدَمُ الْحسْناء ذامّاً

- ‌لا عِتابَ عَلى الجَنْدَلِ

- ‌تَرَك الخِدَاعَ مَنْ كَشفَ القِنَاعَ

- ‌كُلُّ فَتَاةٍ بأبيهَا مُعْجَبَةٌ

- ‌لَوْ تُرك القطاَ لَيلا لَنام

- ‌مَرْعىً وَلا كالسَّعدَان

- ‌ماءٌ ولا كَصَدَّاء

- ‌عيون من الشعر

- ‌في الحَنين إلى الوطَن

- ‌البكاء

- ‌بكاء الأبناء

- ‌بكاء الاخوة

- ‌بكاء الأزواج

- ‌بكاء العشيرة

- ‌في الفخر

- ‌في اللوم والإغراء

- ‌نساء يصفن أنفسهن

الفصل: ‌ ‌السباء والوأد أما بعد: فإنا لا نخدع التاريخ في ماضيه، فنمثله

‌السباء والوأد

أما بعد: فإنا لا نخدع التاريخ في ماضيه، فنمثله زهر الأشواك فيه. فلئن كان من الحب ما يُمضُّ ويؤذي، ومن الصداقة ما يضر ويؤلم، لقد أصيبت المرأة العربية في سبيل إعزازها والحرص عليها بلواذع بلغت في بعض المواطن حبة قلبها ومستقرّ حياتها.

فمن ذلك السباء. وذلك أن العرب كانوا يُعقبون صفوف القتال بنسائهم، وذوات أرحامهم، تثبيتاً لأنفسهم، وتشديداً لعزائمهم. وربما أحيط بهم، وغلبوا على أمرهم، فيكون هَمٌّ الظافر أن يتخذ نساء المقهور سبايا يسوقهن إلى بيته، ويتحكم فيهن كما يتحكم في ماله، لا لحاجته إليهن، بل ليقطع باستلابهن آخر عرق ينبض من قلب عدوه فيعيش ذليل الناصية، مُقَنَّع الوجه أمد الحياة.

على أنهم وإن غلظت إلى هذا الحد أكبادهم على أعدائهم فهم يعرفون لسباياهم منازلهم بين قومهن فيخلطونهن بأنفسهم، إلا قليلا ممن أرّث الحقد صدورهم، وملكت الضغينة منازع الرحمة من قلوبهم. وفي أولى الحالتين يقول حاتم بن عبد الله الطائي:

فما أنكحونا طائعين بناتِهِم

ولكن خطبناها بأسيافنا قسرا

فما زادها فينا السباء مذلة

ولا كُلَّفت خَبزا ولا طبخت قدرا

ولكن خلطناها بخير نسائنا

فجاءت بهم بيضاء وجوهُهمُ زُهْرا

وكائن ترى فينا من ابن سَبِيَّةٍ

إذا لقي الأبطال يطعنهم عذْرا

ص: 40

ويأخذ رايات الطعان بكفه

فيوردها بيضاً ويُصدرُها حمرا

كريم إذا اعتز اللئيم تخاله

إذا ما سرى الدجى قمراً بدرا

وهنالك الكثير من سادات العرب وذوي زعامتهم انكشفت عنهم السبايا فلم يضع ذلك من منازلهم أو يُهَجَّنْ من أحسابهم. ومن بين أولئك دُرَيدُ بن الصَمَةِ حكيم العرب وشاعر فرسانهم وفارس شعرائهم وأمُّهُ ريحانة بنت معد يكرب أسرها

الصَمَّةُ بن عبد الله تزوجها فأنجبت دريداً واخوته. وهي التي يقول عمرو في حديث إسارِها:

أمن ريحانة الداعي السَّميعُ

يُؤرَّقُني وأصحابي هُجُوع

سباها الصَمَّةُ آلْجشَمِيُّ غصبا

كأن بياض غُرتها صديع

وحالت دونها فرسان قيس

تَكَشَّفتُ عن سواعدها الدروع

إذا لم تستطيع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع

وبرغم كل ذلك كان النساء يبذلن ما ملكن من جهد وحيلة في الخلاص من الأسر ولو إلى الموت أنفة واستحياء وإبقاء على ذكر آلهن وذويهن. ومن أمثلتهن في ذلك: المنية ولا الدنية كما حدّثوا أن فاطمة بنت الْخرشُب لما أسرها حَمَل بن بدر رمت بنفسها من الهودج منكسة فماتت. ومن أمثال العرب: شرُّ يوميها وأغواه لها

وأصل ذلك أن امرأة من طَسْم يقال لها عَنز أُخذت سَبية فحملوها في هودج وألطفوها بما ملكت ألسنتهم وأيديهم فقالت عند ذلك: شرُّ يوميها وأغواه لها

ص: 41

بل ربما تزوج الرجل بسبيته وأقام بها مقام العشير الكريم من عشيرته الوفية، حتى إذا أتاح لها القدر معاودة أهلها أقامت بينهم وأنفت أن تعود سيرتها الأولى من زوجها وبنيها. ومن ذلك ما حدث به أحمد بن معاوية الباهلي قال: إن رجلا من العرب أستى امرأة فولدت له سبعة بنين ثم قالت له: أزرْني أهلي ليذهب اسم السباء عنى، ففعل. فلما نزلت بقومها وتذاكروا ما في السباء من ذل وعار لزوجها: قد أبى القوم أن ينتزعوني منك. فقال: لا أُفارقك حتى تثنى علىّ بما تعلمين. فقالت: العشية إذا اجتمع القوم. فاجتمعوا وحضر الرجل وزوجه فقال:

نشدتك هل خُبَرتِني أو علمتنِي

كريماً إذا اسودّ الكراسيع أزهرا

فقالت: نعم. فقال:

نشدتك هل خبرتني أو علمتني

شجاعاً إذا هاب الجبان وقصرا

فقالت: نعم. فقال:

نشدتك هل خبرتني أو علمتني

صبوراً إذا ما الشيء ولّى وأدبرا

قالت: نعم. فانصرفت نادماً حزيناً وهو يقول:

تُبكَّي على ليلى بحق بلادها

وأنت عليها بالملا كنت أقدرا

ومثل ذلك ما فعلت سَلْمَى الكنانية زوج عروة بن الورد.

وكان عروة شاعرا بطلا كريما، وله في صفاته تلك مواقف لا يستهان بها، وكان قد أصاب سلمى في غزاة غزاها لبني كنانة، فأعتقها وتزوجها وحلت من نفسه وعشيرته محلاًّ كريماً، فأقامت عنده بضع عشرة سنة. وولدت له أولادا.

ص: 42

وهو لا يشك في أنها أرغب الناس فيه، وكانت تقول له: لو حججت بي فأمُرَّ على أهلي وأراهم؟ فحج بها، فأتى مكة ثم أتى المدينة فنزل في بني النَّضير - وكانت له بهم صلة وصداقة - وكان قومها يخالطون بني النضِير فأتوهم وهو عندهم، فقالت لهم سلمى: إنه خارج بي قبل أن يخرج الشهر الحرام فَتَعالوا إليه وأخبره أنكم تستحيون أن تكون امرأة منكم معروفة النسب صحيحتُهُ سَبِيةً وافتدوني فإنه لا يرى أني أفارقه ولا أختار عليه أحدا. فأتوه فسقوه الشراب. فلما ثمل قالوا له: فادِنَا بصاحبتنا فإنها وسيطة النسب فينا معروفته، وإن علينا سُبَّةً أن تكون سبية، فإذا صارت إلينا وأردت معاودتها فعلنا. فقال لهم: ذلك لكم. ولكن لي الشرط فيها أن تخيروها، فإن اختارتني انطلقت معي إلى ولدها، وإن اختارتكم انطلقتم بها قالوا: ذلك لك. فلما كان الغد جاءوه فامتنع من فدائها. فقالوا له: قد فاديتنا بها منذ البارحة، وشهد عليك بذلك جماعة ممن حضر. فلم يجد إلى الامتناع سبيلا، وفاداها. فلما فادوه بها خيروها، فاختارت أهلها، ثم أقبلت عليه فقالت: يا عروة أما إني أقول فيك - وإن فارقتك - الحق: والله ما أعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بعل خير منك. وأغَضَّ طرفاً، وأَقل فُحشاً، وأجودَ يداً وأحمى

لحقيقته. وما مَرَّ على يوم منذ كنت عندك إلا والموت فيه أَحب إلى من الحياة بين قومك، لأني لم أشأ أن أسمع امرأة من قومك تقول: قالت أَمةُ عروة كذا وكذا - إلا ما سمعته ووالله لا أنظر في وجه غَطْفَانية أبداً، فارجع راشداً إلى ولدك وأحسن إليهم.

فانصرف عنها حزيناً حسيراً. وفيها يقول قصيدته التي مطلعها:

أرقت وصُحبتي بمضيق عُمْقٍ

لبرق من تهامة مُستطير

سقى سلمى وأين ديار سلمى

إذا كانت مجاورة السَدير

ص: 43

أقول: ولم يكن غريباً عند العرب أن تفعل المرأة ما فعلته سلمى إذا استطاعت إلى الخلاص سبيلا، ولكن الغريب ألَاّّ تفعله وهي قادرة عليه. كما حدثوا أن ربيعة أُغير عليهم، فسبيت ابنة لأمير لهم، فجهد الأمير في استردادها. حتى إذا خُيرت بين أبيها وسابيها، آثرت من هي عنده. فراع الأمير ذلك وغضب له قومه وسَن لهم وأْد البنات وسنوه هم لمن سواهم، ويروون شبيه ذلك عن قيس بن عاصم.

أما الوأْد فأشتد وأشنع ما اقترفته يد ظالمة آثمة، في نفس بريئة طاهرة. وذلك يعمد الرجال إلى وليدته وقد بدأت تستقبل الوجود وتستنشي نسيم الحياة، فيقذفها في حفرة من الأرض، ويهيل على جسمها التراب. ثم يدعها في غمرة الموت بين طِبَاق الأرض!!. ولو أننا افترضنا تلك الجريمة الموبقة بين جمهور العرب لما آمنا بتلك الجيوش الخضارم التي وطئت نواصي الأرض، وطوَّقت أعناق الأمم، وهم أبناؤهم وحَفَدَتهم والحق أن الوأد لم يكن معروفاً إلا في فرائق من ربيعة وكندة وتميم، وأفذاذ مغمورين لا يعدون قلةً من مختلف القبائل وهم بين رجلين: رجل أملق من عقل ومال، فهو يخشى أن يسيء الفقر إلى أدب ابنته، ويهتك من سترها، ويبذل من عرضها. وذلك جبان لا عزم له ولا ثقة ولا إيمان. والعرب براء منه. وآخر من سَراة القوم ذهبت بعقله الغيرة، وهوى بنفسه الإشفاق من

تبدل الحوادث، وتداول المَثُلات وما عسى أن يصيبها من ذل أو سباء. وذلك وأمثاله شر مكانا وأقل عدداً.

ص: 44

ذلك وقد نهض من سادات العرب من حال دون الوأد بما بذل من مال جم، وسعي حميد.

ومن بين هؤلاء صَعْصَعة بن ناجية التميمي. فقد كان يلتمس من مسها المخاض فيغدو إليها ويستوهب الرجل حياة مولوده إن كان بنتاً على أن له في سبيل ذلك بعيراً وناقتين عُشَرَاوين. فجاء الإسلام وقد افتدى أربعمائة وليدة.

ومنهم زيد بن عمرو بن نُفيل القرشيّ. كان يضرب بين مضارب القوم فإذا بَصُر برجل يهم بوأد ابنته قال له: لا تقتلها. أنا أكفيك مؤونتها. فيأخذها ويلي أمرها حتى تشب عن الطوق فيقول لبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها.

وللعرب غير السباء والوأد هَنوات ظلموا بها المرأة، وموعدنا بذكرها والوفاء بها عند الكلام عن المرأة العربية في عهد إسلامها إن شاء الله.

ولعمري إذا نحن أرخينا على تلك المظالم وضربنا صفحاً من أولئك الوائدين من القوم، فإنا واجدو العرب من وراء ذلك يكادون يذوبون عطفاً وحناناً على بناتهم، فهم ينزلون عما ملكت أيمانهم إغلاء لهن وإيثاراً للعز والنعمة والدلال فيهن. وأذكر أن صعصعة بن معاوية خطب إلى عامر بن الظرب - حكم العرب - وابنته عمرة فقال: يا صعصعة، إنك أتيتني تشتري مني كبدي، فارحم ولدي قبلتك أو رددتك، والحسيب كفء الحسيب، والزوج الصالح أب بعد أب، وقد أنكحتك خشية ألا أجد مثلك، أفر من السر إلى العلانية. يا معشر عَدْوان خرجت من بين أظهركم كريمتكم، من غير رهبة ولا رغبة؛ أقسم لولا قسم الحظوظ على الجدود، ما ترك الأول للآخر ما يعيش به.

ص: 45