الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المرأة العربية في عهد جاهليتها
نصيبها من الوجود
لم تطْوَ التاريخ على امرأة بلغ من الضَّنَّ بها، والإيثار لها، وبذل المهج رِخصاً في سبيلها، ما بلغ بالمرأة العربية في تلك الحقب المتطاولة المترامية.
نشأت المرأة المصرية في قوم غَلَبت عليهم دقت الحِسَّ، وسَورة النفس، وخوض مناهل الدم خوف انثلام الشرف، واستباحة الحمى، فكانت هي أدق أوتار الحس في قلوبهم، وأوضح مواطن الشرف في نفوسهم. ولولا المرأة ما كان بالرجل نزوع إلى حًمى، ولا رَعْى على وطن.
لقد كان العرب رُوَّادَ غارات، وطلَاّب ثارات، وكان الرجل منهم يغتمر الموقعة لا يدري أَوقع على الموت أم وقع الموت عليه؛ غير أن ابنته وما عسى أن يصيبها بعده من حاجة وهوَ إن كان يتغلغل في نفسه فيهيج بها حبّ الحياة. فمثله في ذلك مثل إسحاق بن خلف حيث يقول: -
لولا أُمَيْة لم أجزع من العدم
…
ولم أَُجب في الليالي حِنْدِس الظُّلَم
وزادني رغبة في العيش معرفتي
…
ذل اليتيمة يجفوها ذوو الرحِم
تهوى بقائي وأهوى موتها شَفَقاً
…
والموت أكرم نزال على الحرَم
أحاذرُ يوماً أن يُلم بها
…
فيكشف الستْرَ عن لحم على وَضَم
إذا تذكرت بنتي حين تندبني
…
فاضت لرحمة بنتي عَبرتي بدم
وفي سبيل ذلك يقول حَّطانُ بن المعلَّى:
لولا بُنَيَّات كزُغْب القطا
…
ردُدن من بعض إلى بعض
لكان لي مُضْطَرَب واسع
…
في الأرض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا بيننا
…
أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم
…
لامتنعت عيني عن الغمض
كذلك كانت المرأة تهتف بالرجل أو تلمُّ به تحت ظلال السيوف، وقد ملَلك الروعُ القلوبَ، وعقد الهول الألسنة، وانثغرت الأفواه، وحارات النواظر في المحاجر؛ فيستمد عزماً نبا؛ ويسترد قوة عَزَبت. ومَثَل ذلك ما فعل ابنتا الفِنْد الزَّمَّاني يوم تَحْلَاق اللمم وهو يوم انتصاف بكر من تَغْلب. فقد اشتجرت
الأسنة، واعتنقت الأبطال، ونفذت السيوف إلى أعماق القلوب وظهرت تَغْلبُ كالجذوة المضطرمة، وبدأت تنكشف وترتد. وهنالك الفتاتان البكريتان خماريهما ونفذتا بين صفوف قومها وأخذتا تُنْشدَان نفوسهم، وتذْكيان نار الحفيظة فيهم وكان مطلع قولهما:
وغى وغى وغى وغى
…
حَرَّ الحَرَار واْلتَظَى
ومُلَئت منه الرُّبى
…
يا حَبّذَا الُمحَلّقون بالضحى
وأقبلت من ورائهما كَرْمة بنت ضِلَع، أم مالك بن زيد، فارس بكر وواحدِها فتغنت بما يُحيل الجبان المستطار شهاباً ثاقباً، وسعيراً مستطيراً، وكان مما تغنت به قولها:
نحن بنات طارق
…
نمشي على النمارق
مَشْيَ القُطَيّ البارق
…
المسكُ في المفَارق
والدُّر في المخانق
…
إن تقبلوا نعانق
أو تدبروا نفارق
…
فِرَاقَ غير وامِق
عِرسُ المُوَلّي طالق
…
والعار منه لاحق
فلم يلبث القوم أن تدافعوا وراءهن على أعدائهم، واقتحموا صفوفهم، واستباحوا معاقلهم، وأعملوا السيوف في رؤوسهم، وأنهلوا الأسنة من صدورهم فلم ينكشف
الهول حتى كانت تغلب بين قتيل وأسير وشريد، وفي مثل هذا الموقف يقول عمرو بن كلثوم:
على آثارنا بِيضٌ حِسَانٌ
…
نُحاذر أن تُقَسم أو تهونا
أخَذْنا على بعولتهنّ عهداً
…
إذا لا قَوْا كتائب مُعلمينا
لَيَسْتَلِبُنّ أفراساً وبيضاً
…
وأسرى في الحديد مُقَرّنينا
إذا ما رُحْن يمشين الهُوَينى
…
كما اهْتَزَّت متون الشاربينا
يقْتَن جيادنا ويقلن لستم
…
بُعُولَتَنَا إذا لم تمنعونا
إذا لم نحمهن فلا بقينا لشيء بعدهن ولا حيينا
كل ذلك ينبئك أن المرأة العربية مَثَار عاطفة الرجل، ومَدَار وِجدانه، هي سر حياته وموته، هي مَهَاج غضبه، ومَعقِد أُلفته، هي مُجْتَلَى قريحته، ومطلع قصيدته، هي موطن غنائه، ومذهب غِنَائه، هي مَشْرِق وحيه، ومنار إلهامه، هي نور الوجود في ناظريه، هي كل شيء بين يديه.
لقد بلغ خيال العربي من السموّ بالمرأة أن جعل الملائكة أشباهاً لها ونظائر فقال:
هم بنات الله وصَفِيَّاته. . .
تعالى الله عما يقولون علَّوا كبيرا.
وإذا علمت العرب اتخذوا الملائكة آلهة من دون الله فما ظنك بأشباههم يومئذ؟
بل ما ظنك بامرأة ملكت على الرجل قلبه ورأيه فلا يكاد يصيب معن، أو يطيف بموضوع، حتى يُلِمَّ بذكْرها، يتغنى بمحاسنها، ويمتدح بشمائلها، ويتأثر بأطلالها ومَعَالمها.
كذلك كان يفعل شعراء العرب، وهم ألسنة القوم، وحَفَظة آدابهم وحُماة مجدهم، وشُرَّاع فضائلهم. حتى لقد بكى مُهَلْهِلُ بن ربيعة كليباً أخاه وهو مُحْرَق الكبد، موصل الكَمد، فبدأ بالمرأة يذكرها ويصف دارها، قبل أن يذكر أخاه، وذلك حيث يقول:
الدار قَفْرٌ عفاها بعد ساكنها
…
بالريح بعد ارتحال الحيَ عافيها
وغالها الدهر إن ذو غِيَل
…
فأصبحت بَلْقعاً قفراً مغانيها
إلا رَواكدَ سُفْعاً بين مُلْتَبِد
…
مثل الحمامة منتوفاً خوافيها
دار لمهضومة الكَشْحَين خَرْعَبةٍ
…
كالشمس حين بدا في الَّضْوء باديها
فما زال يستتبع قوله في وصف صاحبة الدار حتى قال:
كليبُ لا خير في الدنيا ومن فيها
…
إذ أنت خلَّيتها فِيمن يُخَلّيها
كذلك فعل الحارث بن عُباد بعد أن قتل مهلهل ابنهُ بحيراً واستَعَرَت جمرة الحفيظة والثأر في صدره، حتى صبها على آل مهلهل جحيماً وحميماً. فقال يصف فتكته، ويذكر ولده في قصيدة ضافية ألم في أولها بالمرأة فقال:
بانت سعاد وما وَّفتك ما تعد
…
فأنت في إثِرها حَرّانُ مُعتَمدُ
وما زال يمعن في وصف سعاد حتى استكمل فيها عشرة من أبيات كاملة، ثم عطف على موضوعه فقال:
سل حتى تغلب عن بكر ووقعتهم
…
بالِحنو إذ خَسِرُوا جهداً وما رَشَدوا
لعمرك ما ترك الحزن لمهلهل ما يشغله عنه، وما أبقى الزمن للحارث ما يقوى على اللهو به. فما لهما يفعلان ذلك؟ أما إنهما لم يفعلا ما فعلا إلا ليتألفا المعاني النافرة ويستقيدا الألفاظ الشاردة. ولولا ذلك ما جاء قولهما كماء جاء عذباً فراتا.
ذلك طبع العرب. وتلك سنتهم.
ولقد كان الرجل منهم وما كاد يبتدر صالحةً، أو يسبق إلى مَكْرُمة، حتى يسبق إلى المرأة، فيسوق إليها الشعر فياضاً بمأثرته، حفيلاً بمفخرته، وأكبر أمله أن تذكره بكلمة طيبة بين نظرائه، فيروحَ عنها بفخر لا ينفد، ومجد لا يبيد. وفي مثل ذلك يقول شاعر قيس:
إنا مُحَيُّوكِ فَحّيينا
…
وإن سَقَيْتِ كرام الناس فاسقينا
وإن دعوت إلى جُلى ومكْرُمة
…
يوماً سَرَاة الناس فادعينا
ويقول شاعر ذُهل يوم ذي قار:
إن كنت ساقية يوماً ذوي كرم
…
فاسقي فوارس من ذهل بن شيبانا
واسقي فوارسَ حاموا عن ذِمارهم
…
واعلي مفارقهم مسكاً ورَيحانا
بل لقد كان الرجل يأتي الأمر تسوّغه نفسه؛ ويحمله عليه موقفه وربما كان الخير كله فيه، فلا تهدأ نفسه، ولا تطمئن سريرته، حتى يُفضى إليها بعذره،
ويكشف عن مكنونه أمره. وفي مثل ذلك ما يقول أَزهَرُ بن هلال التميمي يعتذر عن فراره:
أعاتِكَ ما ولّيت حتى تبددت
…
رجالي حتى لم أجد متقدّما
وحتى رأيت الوَرد يَدْمَى لَبَاُنهُ
…
وقد هزه الأبطال وانتعلَ الدَّما
أعاتك إني لم أُلم في قتالهم
…
وقد عَضّ سيفي كبشهم ثم صّمما
أعاتك أفناني السلاح ومن يُطِل
…
مقارعة الأبطال يرجعْ مُكلما
وشبيه بذلك قول من يقول:
قالت سَلَامة ما رأى عادةً
…
أن تترك الأعداء حتى تُعذِرا
لو كان قتل ياسلامَ فراحةُ!
…
لكن فررت مخافةً أن أوسَرا
وسبقت قبل المقرفين فوارساً
…
لبني فزارة دارعين وحُسَّرا
ولعل هذا أبلغ من هذين معذرة، وأقوام سبيلاً، ذلك الذي يعتذر عن قراره في داره، ورضاه باليسير من عيشه، فيقول:
قالت أما ترحل تبغي الغنى
…
قلت فَمنْ للطارق المُعتم؟
قالت فهل عندك شيء له
…
قلت نعم جُهْدُ الفتى المعْدِم
فكم وحقّ الله من ليلة
…
قد أُطعِمُ الضيف ولم أَطَعم
إن الغِنَى بالنفس يا هذه
…
ليس الغِنَى بالمال والدرهم
ومن أمثل ما جاء في الاعتذار إلى المرأة قول عنترة العبسي:
بَكَرَت تَخوّفني الحتوف كأنني
…
أصبحتُ من غَرَض الحتوف بمعزلِ
فأجبتها: إن المنية منهل
…
لا بدّ أن أُسقى بكأس المنهل
أما ضنُّ الرجل بها، وإيثاره لها، وحرصه عليها، وتفديته إياها بنفسه وما ملكت يمينه فقد بلغ من أمره أن كسرى أَبْرويز ملك الفرس وسيد ملوك المشرق، وأرسل إلى النعمان يبغي مصاهرته - ولو أن ملكاً من أقطاب العالم وأبطاله الفاتحين خَطبَ إليه كسرى ابنته لوثب عن عرشه زهواً واختيالاً بتلك النعمة السابغة - على النعمان وهو مولاه، وصنيعته، والقائم بأمره، والقارّ لسيفه، والخاضع لسلطانه، رَدّ رسوله مُقَنّعاً بالخيبة ضنّا ببنات المنذر أن يكون قائد بيت أعجمي أيًّا كان مكانه وسلطانه. حتى إذا عاود الرسول مولاه بما لا يرضاه اضطرمت في صدره جذوة الغضب، وثارت بين جنبيه سورة الملك، فأرسل يستقدم عاهل العرب!
هنالك أبصر النعمان وميض الموت يلمع من صوب المدائن، فأودع ابنته حرقة وما يعتزُّ به من سيوف ودروع هانئ بن قبيصة الشيباني وذهب إلى حيث طرح تحت أقدام الفيلة، فذهبت بلحمه وعظمه ودمه كل مذهب من ثَغَرات الأرض وسَوّت معالم جسمه بالتراب.
بذلك نقع كسرى غليل غضبه، وأراد أن يعاود ما بدأ، فأرسل إلى هانئ يقضيه ابنة النعمان، فما كان نصيبه منه بأجمل من نصيب صاحبه. هاج كسرى هائجُ الحَنق على هذه الأمة التي استأسدت في وجهه، واحتجزت فتَاتَها دونه. فأرسل فيالقه يزَحم بعضها بعضاً ليوقع الخسف بها، وَيبسط رواق الذل ضافياً عليها. وهنالك قام العرب يدفعون عن حوزتهم، ويذودون عن أعراضهم فالتقوا بجحافل الفرس على بَطحاء ذي قار، في موقعة احمرّ لها وجه الأفق. وارتفع النّقْع المثار، حتى مَحَا آية الشمس، فظهرت الكواكب واضحة عند منتصف
النهار. وقام من أبطال العرب من قطع وُضُن النساء حتى لا يجدن سبيلاً إلى الفرار إذا جاشت به
نفوس ذويهن؛ فتأججت عند ذلك قلوب القوم، وأرهفت أنياُبهم، واستحالوا إلى صواعق ساحقة. ثم انحسر القتال وقد ضربوا أعداءهم ضربة أطارت قلوبهم، فنكصوا على أعقابهم، وفزعوا إلى ديارهم، وسيوف أولئك البواسل، القلائل، الأباة الضيم، الحماةِ الذَّمار، تعمل في أقفيتهم حتى أرباض المدائن. وفي ذلك يقول العُديل العِجلى:
ما أوقد الناس من نار لمكرُمة
…
إلا اصطلينا وكنا موقدي النار
وما يَعُدٌّون من يوم سمعت به
…
للناس أفضَلَ من يوم بذي قار
جئنا باسلابهم والخيلُ عابسة
…
لما استلبنا لكسرى كل أُسوار
ذلك يوم ذي قار. ذلك يوم انتصاف العرب من الفرس، وتحريرهم من رقهم ولم تكن المغالاة بالمرأة العربية وقفاً على ذوات الثراء والسناء منهن. فقد كان يغَالي بها وتغالي بنفسها، مها هان أمرها، أو اتضعت عشيرتها، ومثل ذلك ما حَدَّث ابن الأثير أن أحد دهاقين الفرس جَهدَ أن يتزوج امرأة من باهلة فأبت عليه ذلك. كل ذلك رَغم ما لدَهاقين الفرس من سعة العيش، ونعومة الحال، وما بلغته باهلة بين العرب، من لؤم الحسب، وانصداع النسب.
كذلك بلغ من غضب العربي للمرأة، وحرصه على كرامتها، ووقف شرفه على شرفها: أن يعمد الرجل منهم إلى الملك المتوج فيقصم هامته، حِيَاطة لهذا
الشرف، وذياداً عنه أن يُبذَل أو يُذال. فقد حَدثوا أن عمر بن هند ملك العرب قال لجلسائه: تعلمون أحداً تأنف أمه أن تخدُم أمّي؟ فقالوا: نعم! ليلى بنت مهلهل، لأن أباها مهلهل بم ربيعة، وعمها كليب وائلٍ أعزُّ العرب، وبعلها كلْثوم بن مالك أفرس العرب، وابنها عمرو بن كلثوم سيد قومه، وليث كتيبتهم. فأرسل عمرو بن هند إلى عمرو بن كلثوم يستزيره ويسأله أن يزيز أمّهُ أمّهُ، فأقبل عمرو من الجزيرة في جماعته من بني تَغلب، وأقبلت ليلى في ظُعٌنٍ من قومها. وأمر عمرو بن هند
برواقه فضربه فيما بين الجزيرة والفرات وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فحضروا. ثم دخل عمرو بن كلثوم على عمرو بن هند في رواقه، ودخلت ليلى وهند في قبة واحدة. وقد كان الملك أمر أمه أن تُنَحَّى الخدم إذا دعا بالُّطرف وتستخدم ليلى! فدعا عمر بمائدته، ثم دعا بالطرَف. فقالت هند: ناولني يا ليلى هذا الطبق. فقالت ليلى: لِتَقْم صاحبة الحاجة إلى حاجتها! فأعادت هند ما طلبت، وألَحّت في ذلك وأكثرت. فصاحت ليلى: واذلاه! يا لَتَغْلِب! فسمعها عمروا ابنها فانتفض انتفاضة المحموم وقال: لا ذل لتغلب بعد اليوم! ثم نظر إلى سيف معلق بالرواق ليس هناك غيره. فاخترطه وصدع به رأس عمرو. ونادى بعد ذلك في بني تغلب فانتبهوا ما في الرواق. واستاقوا نجائب الملك. ففي ذلك يقول عمرو معلقته وفيها يقول:
أبا هند فلا تعجل علينا
…
وأنظِرنا نُخَبَّرْك اليقينا
بأنّا نورِد الرايات بِيضا
…
ونصْدِرُهُنّ حُمْراً قد رَوينا
حتى يقول:
ألا لا يعلم الأقوام أّنا
…
تضعضعنا وأنا قد ونينا
ألا لا يجهلن أحد علينا
…
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
بأي مشيئة عمرو بن هند
…
تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
بأيَّ مشيئة عمرو بن هند
…
نكون لقيلِكم فيها قطِينا
تَهدّدنا وأوعدنا رويداً
…
متى كنا لأمك مقْتوينا
وكأن ما فعل عمرو بن كلثوم لم يغن تغلبَ كثيراً. فقام مُرة بن كلثوم وقتل ولد النعمان وأخاه ليطفئ جذوة من الغضب هاجها تعمد المهانة لأمه.
ألا إن كلمة واحدة قذَفَت بها امرأة فأصابت مواطن الحسَّ من رجل فهاجمت لها الحرب أربعين عاماً لم يدرّ فيها ضرع، ولم يكتهل بين أثنائها فتى.
وحديث ذلك: أن البسوس ابنة مُنقذ - خالة جَساس بن مرة سيد بني بكر نزل بها ضيف من ذويها يدعى سعداً، فأفسحت دارها له، وأناخت بحظيرتها ناقته، فما كاد يطمئن بالرجل مُقاُمهُ حتى انطلقت ناقته ترعى. وقادها حينها إلى حِمى لكليب بن ربيعة صهر جساس، وفتى العرب، وسيد تغلب - ولم يكن لأحد غير جساس أنن يُرْعِىَ إبِله حِمى كليب - فلما بصُرَ كليب بها غريبة بين إبله أنفذ سهمه في ضرعها، فانطلقت تعدو وهي تشخب دما ولبناً حتى نزلت بفناء البسوس. فلما استبانت ما بها صاحت وأعولت واندفعت تقول:
لعَمْرُك لو أصبحت في دار مُنقِذ
…
لما ضيمَ سعد وهو جارٌ لأبياتي
ولكنني أصبحت في دار غربة
…
متى يعدُ فيها الذئب يَعد على شاني
فيا سعد لا تغرر بنفسك وارتحل
…
فإنك في قوم عن الجار أموات
ودونك أذْوَادي فإني عنهم
…
لراحلةٌ لا يفقدون بُنَيّاتي
سمع جساس تلك الكلمة الأخيرة فأصابت الوتر الأرَنّ من قلبه، فأجفل إجفال الأخيذة من تلك الوَصمةِ المنْدية؛ وصمة العجز عن حياطة بنيات خالته! فقال: اسكتي أيّتها المرأة فَلُيقْتَلَنّ غداً جمل أعظم عقراً من ناقة جارك ولم يزل يتوقع غِرة كليب حتى أنبئ بانفراده فاعتقل رمحه، وخرج للقائه. فلما أبصره طعنه، ودَقّ صُلْبهُ، وأبى عليه الماء أن يُبَلَغَهُ به. وعلى إثر ذلك ثارت حرب البسوس، وفيها استحرّ القتل باْلَحَّيين أربعين عاماً حتى كاد يلحقهما الدثور في أثرها وما عصفت بها إلا كلمةٌ واحدة كان خليقاً بها أن تذهب لحينها، لولا أن نَسَجَتَها امرأة، وحاكتها على امرأة.
ربما قلت أولئك سَرَوات القوم وهاماتهم، غضِب بعضهم لبعض، وهاج بعضهم على بعض، فتدافع العرب في مَسَاقسهم طَوَاعيةً لهم، وانسياقاً في أثرهم. فمثلهم في ذلك مثل عامة الفرس والرومان وأمم القرون الوسطى من أشرافهم.
على أن ذلك إن قيل فيمن سوى العرب من الأمم، فالعرب أجل وأعظم من أن يوصموا به، أو يكونوا في شيء منه.
إن شرف المرأة العربية حَلْقَةٌ مُفْرَغةٌ لا طَرف لها. ولئن تدافعت عامّة العرب في مَسَاق أشرافهم يوم البسوس، لقد تدافع الأشراف في مساق عامتهم
يوم الفِجار قريش وهوازن. وكان من أمر ذلك أن شباباً من كنانة أطافوا بامرأة من غَمار الناس في سُوق عُكاظ، فأعجبهم ما رأوا من حسنها، وسألوها أن تسفِر لهم عن وجهها. فأبت ذلك عليهم، فأخذوا يُعْنِتُونها ويسخرون بها، وهنالك نادت يا آل عامر، فلبَّتها سيوف بني عامر. ووقف بنو كنانة يدرءون عن فتيانهم. وهاجت هوازن لعامر، واغتمرت قريش في كنانة، وهنالك تفجرت الدماء، وتناثرت الأشلاء. ولولا حكمة بدرت من حرب بن أمية يومئذ لكان الخطب أفدح، والمصاب أطَمّ. فقد بين القوم فحسم ضغينتهم، واحتمل ديات قتلاهم.
لم تقف منزلة من الرجل عند حدّ حمايته لها، وسفك دمه دون البلوغ إليها، ففي ذلك ما عسى أن يشعر بشيء من رعاية المالك لما يملك، وما كذلك كان أمرهما. فقد كانا جميعاً على سواء، يتجاذبان الرأي، ويتساجلان المعونة، ويتآزران على نوائب الحياة. وإن من ضعف الأسلوب أن يقال إن العربي كان رفيقاً بالمرأة، عطوفاً عليها. فإن الرفق والعطف يُشعران بالضعف بين يدي القوة، على حين كان نصيبها من الحياة على قدر نصيبه منها، وقسطه من الإجلال والاحترام في قلبها على قدر قسطها في قلبه.
ففي العهد الذي كانت المرأة الرومانية تدين فيه بالعبادة للرجل وكانت تعتدُّه من دون الله إلها قهاراً: كانت أختها العربية في الذروة والسّنام من الحرية والمساواة لها ما للرجل وعليها ما عليه.
وليس أمثلُ بذلك ولا أدلّ عليه من قولهم فيما سار من أمثالهم:
إن النساءَ شقائق الأقوام
يريدون بذلك أنّ نساءهم في سواء رجالهم فلا فضل فيهم لامرئ على امرأة. بل لقد كان للمرأة فرط من الكرامة، وحرمة الكلمة ما لم يستشرف له الرجال على هول قوّته، ومضاء عزيمته، ولقد عقدت فتاة من العرب أمانا لرجل فلم يستطيع ملك العرب وجبارها أن ينقضه أو يبلغ منه.
وبيان ذلك فيما حدّثوا أن مَروان القَرَظ بن زنباع بكر بن وائل فقَصُّوا أثر جيشه فأسَرَه منهم وهو لا يعرفه فأتى به أمَّه فلما دخل عليها قالت له: إنك لتختال بأسيرك كأنك جئت بمروان القرَط. فقال لها مروان: وما ترتجين من مروان؟ قالت: عظم فدائه. قال: وكم ترتجين من فدائه؟ قالت: مائة بعير. قال مروان: ذاك لك على أن تؤدّيني إلى خُماعةَ بنت عوف بن مُلحم - وكان مروان قد أسدى إليها يداً فيما سلف من دهرها - فقالت المرأة: ومن لي بمائة من الإبل؟ فأخذ عوداً من الأرض فقال: هذا لك بها. فمضت به إلى عوف بن مُلحم فأجارته ابنته من كل مكروه. وكان مروان قد أساء إلى عمرو بن هند ملك العرب وطاغية الحبرة فأقسم عمرو لا يعفو عنه حتى يضع يده في يده. فلم علم بمستقره من عوف أرسل إليه ليأتيه به. فقال عوف: قد أجارته ابنتي وليس إليه من سبيل. فقال عمرو: قد آليت ألَاّ أعفو عنه أو يضع يده في يدي. قال عوف: يضع يده على يدك على أن تكون يدي بينهما. فأجابه عمرو
إلى ما طلب وعفا عن مروان وما كان ليعفو عنه بعد أن ظفِرَ به لولا أن أجارته المرأة. ولو أن عوفاً هو الذي أجاره لسامهُ الحرب أو يُسْلمه.
تجاوزت المرأة مواطن الرعاية إلى ما هو أسمى وأجل. فقد كان حَسب الهارب المطلوب أن يعقد رداءه بطنُب خبائها فيعود آمناً ليس عليه من سبيل. وكذلك كانت ساحتها حرماً آمناً، إليه يفزع الخائفون، وببابه يتدافع العافون، ويهتدي
السارون.
ومن أبدع مظاهر ذلك ما حدّثوا أن سُبيعة ابنة عبد شمس بن عبد مناف كانت زوجاً لمسعود بن مالك الثقفي، فلما عصفت حرب الفجار الأكبر - بين كنانة وقيس - كانت سيادة الأولين لحرب بن أمية ابن أخيها، وقيادة الآخرين لمسعود زوجها. وكان مسعود قد ضرب لها خباء وراء جنده، فدخل عليها فأبصر بالدموع تجول بين خدّيها، فقال: ما يبكيك؟ قالت أبكي لما عسى أن يصيب قومي. فقال لها: من دخل خباءك من قريش فهو آمن، فأخذت تصل به قطعاً حتى يسع الجمع العديد من قومها.
فلما انكشفت قيس وغُلب على أمره مسعود، قال لها ابن أخيها: من تمسك بأطناب خبائك آمن، ومن دار حول خبائك فهو آمن، فلم يبق قيسي إلَاّ اعتصم بها، ودار حول خبائها.
وإني لمفضٍ إليك بحديث عن القوم يملأ قلبك روعة وإيماناً بما كان للمرأة يومذاك من سماحةٍ في الرأي، ووفور في الحرية، وسمو في المنزلة:
ذلك أن سيد العرب الحارث بن عوف المري قال لمن حوله: أتروني أخطب إلى أحد فيردني؟ قيل: نعم. قال ومن ذاك؟ قيل له: أوس بن حارثة الطائي فقال الحارث لغلامه: إرحل بنا إليه. فركبا ومعهما خارجة بن سنان حتى أتوا أوساً في بلاده، فألقوه في منزلة. فلما رأى الحارث قال: مرحبا بك يا حارث. قال: وبك قال: ما جاء بك؟ قال: خاطباً: ليست هناك! فانصرف الحارث ولم يكلمه. ودخل أوس امرأته مُغْضَباً فقالت: من الرجل وقف عليك فلم تُطلْ ولم تكلمه؟ قال: ذاك سيد العرب الحارث بن عوف المرَّي. قالت: فما لك لا تستنزله؟ قال: إنه اسْتَحْمَقْ قالت: وكيف؟ قال: جاءني خاطباً! قالت: أفتريد أن تزوج بناتك؟ قال: نعم. قالت: فإذا لم تزوج سيد العرب فمن؟ قال: قد كان ذلك. قالت: فتدارك ما قد كان
منك. قال: ماذا قالت: تلحقه فترده. قال: وكيف وقد فرط ما فرط إليه؟ قالت: تقول له إنك لقيتني مغضَباً بأمرٍ لم تُقدّم مني فيه قولاً فلم يكن عندي من الجواب إلا ما سمعتَ، فانصرف ولك عندي كل ما أحببت فإنه سَيفعل، فركب في أثَرهما.
قال خارجة بن سنان: فوالله إني لأسير حانت منى التفاتة فرأيته، فأقبلت على الحارث وما يلمني غما، فقلت له: أوس بن حارثة في أثَرنا. قال: وما نصنع به؟ امض. فلما رآنا لا نقف عليه قال: يا حارث اربَعْ عَلَي ساعة فوقفنا له، فكلمنا بذلك الكلام، فرجع مسروراً.
فبلغني أن أوساً لما دخل منزله قال لزوجته: أدعى لي فلانة - لكْبَرى بناته - فأتته، فقال: هذا الحارث بن عوف سيد من سادات العرب قد جاءني طالباً خاطباً، وقد أردت أن أزوجك منه فما تقولين؟ قالت: لا تفعل. ولَمِه؟ قالت
لأنني امرأة في وجهي رَدّة وفي خُلقي بعض العُهدَة ولستَ بابن عمه فيرعى رَحمي وليس بجارك في البلد فيستحي منك، ولا آمَن أن يرى مني ما يكره فيطلقني، فيكون على من ذلك ما فيه. قال: قُومي بارك الله عليك، ادعي فلانة - لابنته الوُسْطَى - فدَعَتها، ثم قال لها مقالتَهُ لأختها، فأجابته بمثل جوابها وقالت: إني خرقاء، وليست بيدي صناعة، ولا من أن يرى مني ما يكره فيطلقني، فيكون عَلَى من ذلك ما تعلم، وليس بابن عمي فَيرْعى حقي، ولا جارك في البلد فَيْستَحييَك. قال: قومي بارك الله عليك، أدعى لي بُهَيْسَة - يريد الصُّغرى - فأُتي بها، فقال لها ما قال لهما، فقالت: أنت وذاك. قال: قد عرضت ذلك على أختيك فأَبتاه. فقالت: - ولم يذكر لهما مقالتيهما - لكنني والله الجميلة وجهاً الصّناع يداً، الرفيعة خُلقاً، الحسيبة أباً، فإن طلقني فلا أخلف الله عليه بخير. فقال: بارك الله عليك. ثم خرج إلينا فقال: قد زوجتك يا حارث بُهَيْسَة بنت أوس. قال: قد قبلت. فأمر أمها أن تهيئها وتُصْلح من شأنها حتى إذا حُملت إلى زوجها، وبلغ بها حماه كانت حرب داحِسٍ والغَبْراء
بين عَبْس
وذُبيان قد عَصَفت هوجاؤُها بهم، واشتدت نارها فيهم، فلم تَذَرْ من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم. وهَمَّ من يليهم من العرب بأن يَكْتَوُوا بضرامها، ويصطلوا بلظاها. فلما بَصرت به مرتدياً مطارف العُرس قالت: والله لقد ذكرت من الشرف مالا أراه فيك؟ قال: وكيف؟ أتفرغ للنساء والعرب يقتل بعضها بعضا؟ قال: فيكون ماذا؟ قالت: أخرج إلى هؤلاء القوم فأصلح بينهما. فخرج لساعته إلى صاحبه خارجةَ ابن سنان وقَص عليه حديث امرأته. فقال خارجة: والله إني لأرى همة وعقلا، ولقد قالت قولا. قال: فاخرج بنا إليه. فخرج الرجلان فمشيا بين القوم بالصلح واحتملا حمائل القوم وديات قتلاهم فكان ما نزلا عنه ثلاثة آلاف بعير في ثلاث سنين وهي لعمر أبيك ثروة للأعرابي لا تقوم بما مَلك الحضري من ضياع. وما اختزن من أموال.
ذلك شيء بلغته المرأة يومذَاك من سموّ في الوجود، وإكبار للرأي، وبلوغ من النفس بل لقد كانت وكان الرجل العربي - وهو مَنْ تَعْلم من صلابة العود، ورجاحة الرأي، وفرط الإباء - ينزل تحت حكمها، ويَفيءُ إلى ظلها لسلطانها. إذا آنس منها القدرة على قيادته وسياسته.
وقد نبغ من النساء مشيرات آزرن أزواجهن وذويهن من الملوك والأبطال فأحسن مؤازرتهم؛ وملكات قمن بالأمر من دون الرجال فابتنين مجدا لا يُطاول وبلغن غاية لا ترام.
ونحن ملمون لك بحياة امرأتين ملكتا فاختصهما التاريخ بصفحتين خالدتين واصطفاهما بآيتين بينتين. وهما: -
بِلقيس مَلِكة اليمن وزَيْنَبُ ملكة تَدْمرُ