الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفاؤل والتطير
المرأة العربية كمن سواها من الناس، إذا اعتزمت أمراً، أو صَبَت إلى مطلوب كان أكبرهمها أن تعرف مآله من الخير والشر، وتكشف عن نصيبه من العسر واليسر. لذلك عنيت في عامة أمرها أن تطالع ما تستقبله من مظاهر الكون فإن كان ممن خُيَّلَ لها أنه بادرة الخير، وطليعة التوفيق، ومضت في عملها آمنة مؤمنة مطمئنة، وإن مُنيت بما راعت نبْأَته وساءت طلْعته، رجف قلبها وانبعثت ريبتها، واستشعرت الهيبة من الخيبة.
وهي في ذلك قسيمة الرجل لما اجتمع عليهما من غلبة المشاعر، وانفساح مدى الخيال.
والعرب أمة لغة وبيان. يَكْلفون باللفظ ويستأسرون لديباجة الكلام. لذلك كان أول ما يأخذهم من الشيء اسمه، وما ينيء عنه اشتقاقه من خير أو شر؛ ثم ما ينم عنه صوته ومنظره، ثم مواطنه التي يهبط إليها، ويغلب عليها إن كان مما يألف الرياض الحالية، أو الطلول البالية، والرسوم العافية.
ومما ينبئك عن موقع الأسماء من نفوسهم، ومبلغ أثرها في مشاعرهم، قول بَشَّار ابن المُضَرَّب.
تغنى الطائران بِبَين ليلى
…
على غصنين من غرَب وبان
فكان البانُ أن بانت سُلَيمى
…
وفي الغَربَ اغتراب غير دان
فانظر كيف أخذ الغربة من الغرب! والبين من البان؟
ومثله قول من يقول:
أقول يوم تلاقينا وقد سجعت
…
حمامتان على غصنين من بان
الآن أعلمُ أن الغُصن لي غَصَن
…
وإنما البان بين عاجل دان
فقمت تخفضني أرض وترفعني
…
حتى ونَيْت وهد السير أركاني
ومثل ذلك يقول جِرَان العَود:
جرى يوم رححنا يَزُفُّها
…
عُقاب وشَحّاج من البين يبرح
فأما العُقاب فهو منا عقوبة
…
وأما الغراب فالغريب المُطوّح
فلم يجد في العُقاب إلا العقوبة، وجعل الشّحاج - وهو غراب البين - دليل الغرب المطوّح.
ولئن أشفق جِرَان العَوْد من العقاب. وارتفعت منه العقوبة، لقد تيمن به غيره، وتنظَّر منه العقبى، مما هو فيه من نار الشوق، فقال:
وهاب رجال يقولوا جَمْجَموا
…
فقالت لهم جار إلىّ ربيح
عُقاب بأعقاب من النار بعد ما
…
مضت نِيّةٌ لا تستطاع طروح
وقالوا دَمٌ دامت مودة بيننا
…
وعاد لنا غصن الشباب قريح
وقال صِحابي هدهد فوق بأنة
…
هدى وبيان في الطريق يلَوح
وقالوا حَمامات فحّم لقاؤها
…
وَطَلْحٌ فَزيرت والمَطيّ طَليح
قالوا: فهو إذا شاء جعل الحمام من الحِمام والحميم والحِمىَ. وإن شاء قال: وقالوا حمامات فحّم لقاوها. وإذا شاء اشتق البين من البان. وإذا شاء اشتق منه البيان
وشبيه بذلك قول من يقول:
وقالوا عُقاب قلت عقبي من الهوى
…
دنت بعد هجر منهم ونزُح
وقالوا حمامات فحُمّ لقاؤها
…
وعاد لنا حلو الشباب ربيح
وقالوا تغنى هدهد فوق بأنه
…
فقلت هدى نغدو به ونروح
لكل ذلك كان الغراب أشد ما يروعهم، وتُطوف به أعينهم، لما ينيء عنه اسمه من الغربة، ولروعة سواده إن كان أسود، ولاختلاف لونه إن كان أبقع، ولأنه غريب لا يقطع إليهم، ولأنه لا يوجد في موضع خيامهم يَتَقَمم إلا عند معاينتهم لمساكنه، ومزايلتهم لدورهم. ولأنه ليس شيء من الطير أشد على ذوات الدَّبر من إبلهم من الغربان. لأنه ينقب عن الدّبر حتى يبلغ إلى دايات العنق، وما اتصل بها خرزات الصلب وفقار الظهر قال عنترة:
ظعن الذين فراقهم أتوقع
…
وجرى ببينهم الغراب الأبقع
إن الذين نعيت لي بفراقهم
…
هم أسهروا ليلى التمام فأوجعوا
وأشد ما يتشاءمون بالغراب إذا ولاهم ظهره أو شماله - وذلك البارح عندهم - أو أبصروه يتفلى وينتتف، أوصاح بهم صيحة واحدة. أما إذا استقبلهم بوجهه أو ثَنى في صوته، فهم به يتيمنون.
ومثلُ الصُّرد عندهم كمثل الغراب فهو طليعة الشؤم، وسبيل الخراب. وهم إذا رأوه ذكروا التصريد، وهو القلة، وانزعجوا مما عسى أن يصيبهم من نقص في الأهل والمال قال قائلهم:
دعا صُرَد يوما على غصن بانة
…
وصاح بذات البين فيها غرابها
فقلت أتصريد وشَحْطٌ وغربة
…
فهذا لعمري نأُيها واغترابها
وحكم الرَّخم والبوم كحكم الصردِ والغراب. وهم يقولون: إن لئام الطير ثلاثة، الغربان والرخم والبوم.
كذلك أمر الجراد عندهم لأنهم تنظروا منه الجرد لأنه مختلف الألوان فهو عندهم كحوادث الزمان.
أما الهدهد فأمره من أولئك بعيد، فهو عندهم غرة النجح، وآية اليُمن، وسبيل الهداية. ويزعمون أنه الذي كان يدل سليمان صلوات الله عليه على مواضع الماء في أعماق الأرض. ويقولون أن القُنْزُعةَ التي على رأسه ثواب من الله على ما كان من بره بأمه لأن أمه لما ماتت جعل قبرها على رأسه
وشعارهم إذا استمعوا من الطير ما يروعهم أن يقولوا طائر الله لا طائرك أما ما سوى الطير من الحيوان فهم يتشاءمون منه بالأعضب، والأعور، والأبتر والقعيد، والنطيح.
فالأعضب المكسور القرن، أو المشقوق الأذن. والأبتر المقطوع الذنَب والقعيد ما أتاك من ورائك من ظبي أو طائر. والنطيح ما استقبلك من أمامك من طائر أو ظبي أو وحش
أما النبات فهم يتشاءمون منه بالغرب والبان كما علمت، وبالخلاف لأنه سبيل القطيعة. ويتيمنون بالريحان لأنهم أخذوا منه الروح. وربما نظروا إلى مرارة طعمه فتشاءموا به
وللعرب فيما عدا الطير والوحش والنبات. بوادر يتشاءمون بها، ويعوذون منها، ومنها العُطاس. قال امرؤ القيس:
وقد اغتدى العُطاس بهيكل
…
شديدٍ منيع الجنب فْعمِ المُنطق
يقول: إنه يغتدي قبل أن يستيقظ الناس لئلا يستمع عطاسهم فيخيب. وكان قولهم إذا عطَس من يحبونه: عمراً وشباباً. وإذا عطَس من يبغضونه: ورَياً وقُحَاباً. وإذا استمع أحدهم العاطس ممن لا يعرف قال: بِكِلابي أسأل الله أ، يجعل شُؤْمك بك لا بي وكانت المرأة تتطير إذا انكفأ الإناء وصب ما فيه. وتقول في العياذ من ذلك دافق خير.
وكانوا إذا اشتروا الدار، أو بنوها، أو فجَّروا العين، ذبحوا عندها ذبيحة ودعوها ذبيحة الجن، حتى لا ينالها من الشؤم شيء.
وبعد فإن كان التطير مما أسلفنا لزام العرب وسبيل قصدهم، فلقد جحده كثير من رجالهم، وأخَصُّهم أولو العزم والإقدام منهم.
قال الحارث بن حِلَّزَة:
يأيها المزمع ثم انثني
…
لا يثنيك الحادي ولا الشاحج
ولا قعيد أغضب قرنه
…
هاج له من مربع هائج
بينا الفتى يَسْعَى ويُسعَى له
…
تاح له من أمره خالج
يترك ما رَقَّحَ من عيشه
…
يعيش منه هَمَجٌ هامج