الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ الْمَغَازِي
بَابُ مَا جَاءَ فِي حَفْرِ زَمْزَمَ، وَقَدْ دَخَلَ فِي الْحَجِّ أَوَّلُ مَا ذُكِرَ مِنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
عَبْدُ الرَّزَّاقِ،
9718 -
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: " إِنَّ أَوَّلَ مَا ذُكِرَ مِنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَدِّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ قُرَيْشًا خَرَجَتْ مِنَ الْحَرَمِ فَارَّةً مِنْ أَصْحَابِ الْفِيلِ، وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَخْرُجُ مِنْ حَرَمِ اللَّهِ أَبْتَغِي الْعِزَّ فِي غَيْرِهِ، فَجَلَسَ عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَجْلَتْ عَنْهُ قُرَيْشٌ فَقَالَ:
[البحر الكامل]
لَاهُمَّ إِنَّ الْمَرْءَ يَمْنَعُ رَحْـ
…
لَهُ فَامْنَعْ رِحَالَكْ
⦗ص: 314⦘
لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ
…
وَمِحَالُهُمْ غَدْوًا مِحَالَكْ
فَلَمْ يَزَلْ ثَابِتًا حَتَّى أَهْلَكَ اللَّهُ تبارك وتعالى الْفِيلَ وَأَصْحَابَهُ، فَرَجَعَتْ قُرَيْشٌ وَقَدْ عَظُمَ فِيهِمْ بِصَبْرِهِ، وَتَعْظِيمِهِ مَحَارِمِ اللَّهِ، فَبَيْنَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ وُلِدَ لَهُ أَكْبَرُ بَنِيهِ، فَأَدْرَكَ، وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَأُتِيَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ: احْفُرْ زَمْزَمَ، خَبِيئَةَ الشَّيْخِ الْأَعْظَمِ قَالَ: فَاسْتَيْقَظَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لِي، فَأُرِيَ فِي الْمَنَامِ مَرَّةً أُخْرَى: احْفُرْ زَمْزَمَ تَكْتُمْ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ فِي مَبْحَثِ الْغُرَابِ فِي قَرْيَةِ النَّمْلِ، مُسْتَقْبِلَةَ الْأَنْصَابِ الْحُمْرِ قَالَ: فَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَمَشَى حَتَّى جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَنْظُرُ مَا خُبِّئَ لَهُ مِنَ الْآيَاتِ، فَنُحِرَتْ بَقْرَةٌ بِالْحَزُورَةِ، فَأَفْلَتَتْ مِنْ جَازِرِهَا بِحُشَاشَةِ
⦗ص: 315⦘
نَفْسِهَا، حَتَّى غَلَبَهَا الْمَوْتُ فِي الْمَسْجِدِ فِي مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَجُزِرَتْ تِلْكَ الْبَقْرَةُ فِي مَكَانِهَا، حَتَّى احْتُمِلَ لَحْمُهَا، فَأَقْبَلَ غُرَابٌ يَهْوِي حَتَّى وَقَعَ فِي الْفَرْثِ، فَبَحَثَ فِي قَرْيَةِ النَّمْلِ، فَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَحْفِرُ هُنَالِكَ، فَجَاءَتْهُ قُرَيْشٌ فَقَالُوا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ: مَا هَذَا الصَّنِيعُ؟ لَمْ نَكُنْ نَزُنَّكَ بِالْجَهْلِ، لِمَ تَحْفُرُ فِي مَسْجِدِنَا؟ فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إِنِّي لَحَافِرٌ هَذِهِ الْبِئْرَ، وَمُجَاهِدٌ مَنْ صَدَّنِي عَنْهَا، فَطَفِقَ يَحْفِرُ هُوَ وَابْنُهُ الْحَارِثُ وَلَيْسَ لَهُ يَوْمَئِذٍ وَلَدٌ غَيْرُهُ، فَيَسْعَى عَلَيْهِمَا نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَيُنَازِعُونَهُمَا، وَيُقَاتِلُونَهُمَا، وَيَنْهَى عَنْهُ النَّاسُ مِنْ قُرَيْشٍ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ عِتْقِ نَسَبِهِ، وَصِدْقِهِ، وَاجْتِهَادِهِ فِي دِينِهِ يَوْمَئِذٍ، حَتَّى إِذَا أَمْكَنَ الْحَفْرَ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْأَذَى، نَذَرَ إِنْ وُفِيَ لَهُ بِعَشْرَةٍ مِنَ الْوِلْدَانِ يَنْحَرُ أَحَدَهُمْ، ثُمَّ حَفَرَ حَتَّى أَدْرَكَ سُيُوفًا دُفِنَتْ فِي زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ السُّيُوفَ فَقَالُوا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ: أَحْذِنَا مِمَّا وَجَدْتَ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: بَلْ هَذِهِ السُّيُوفُ لِبَيْتِ
⦗ص: 316⦘
اللَّهِ، ثُمَّ حَفَرَ حَتَّى أَنْبَطَ الْمَاءَ، فَحَفَرَهَا فِي الْقَرَارِ ثُمَّ بَحَرَهَا حَتَّى لَا تُنْزِفُ، ثُمَّ بَنَى عَلَيْهَا حَوْضًا، وَطَفِقَ هُوَ وَابْنُهُ يَنْزِعَانِ فَيَمْلَآنِ ذَلِكَ الْحَوْضَ، فَيَشْرَبُ مِنْهُ الْحَاجُّ، فَيَكْسَرُهُ نَاسٌ مِنْ حَسَدَةِ قُرَيْشٍ بِاللَّيْلِ، وَيُصْلِحُهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حِينَ يُصْبِحُ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا إِفْسَادَهُ، دَعَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ رَبَّهُ، فَأُرِيَ فِي الْمَنَامِ، فَقِيلَ لَهُ: قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أُحِلُّهَا لِمُغْتَسِلٍ، وَلَكِنْ هِيَ لِشَارِبٍ حِلٌّ وَبَلٌّ، ثُمَّ كَفَيْتُهُمْ، فَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حِينَ أَجْفَلَتْ قُرَيْشٌ بِالْمَسْجِدِ، فَنَادَى بِالَّذِي أُرِيَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمْ يَكُنْ يُفْسِدُ عَلَيْهِ حَوْضَهُ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا رُمِيَ بِدَاءٍ فِي جَسَدِهِ، حَتَّى تَرَكُوا لَهُ حَوْضَهُ ذَلِكَ، وَسِقَايَتَهُ، ثُمَّ تَزَوَّجَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ النِّسَاءَ فَوُلِدَ لَهُ عَشْرَةُ رَهْطٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ لَكَ نَحْرَ أَحَدِهِمْ، وَإِنِّي أُقْرِعُ بَيْنَهُمْ، فَأَصِبْ بِذَلِكَ مَنْ شِئْتَ، فَأَقْرِعْ بَيْنَهُمْ، فَصَارَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ أَحَبَّ وَلَدِهِ إِلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَوْ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ؟ قَالَ: ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ
⦗ص: 317⦘
، فَصَارَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى مِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ فَنَحَرَهَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ مَكَانَ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ أَحْسَنُ رَجُلٍ رُئِيَ فِي قُرَيْشٍ قَطُّ، فَخَرَجَ يَوْمًا عَلَى نِسَاءٍ مِنْ قُرَيْشٍ مُجْتَمِعَاتٍ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: يَا نِسَاءَ قُرَيْشٍ أَيَّتُكُنَّ يَتَزَوَّجُهَا هَذَا الْفَتَى فَنَصَطَتِ النُّورَ الَّذِي بَيْنَ عَيْنَيْهِ، - قَالَ: وَكَانَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ نُورٌ - فَتَزَوَّجَتْهُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ فَجَمَعَهَا فَالْتَقَتْ، فَحَمَلَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ بَعَثَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَمْتَارُ لَهُ تَمْرًا مِنْ يَثْرِبَ فَتُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بِهَا، وَوَلَدَتْ آمِنَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ فِي حِجْرِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَاسْتَرْضَعَهُ امْرَأَةً مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، فَنَزَلَتْ بِهِ الَّتِي تُرْضِعُهُ سُوقَ عُكَاظٍ، فَرَآهُ كَاهِنٌ مِنَ الْكُهَّانِ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ عُكَاظٍ، اقْتُلُوا هَذَا الْغُلَامَ، فَإِنَّ لَهُ مُلْكًا، فَرَاعَتْ بِهِ أُمُّهُ الَّتِي تُرْضِعُهُ، فَنَجَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ شَبَّ عِنْدَهَا، حَتَّى إِذَا سَعَى وَأُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ تَحْضُنُهُ، فَجَاءَتْهُ أُخْتُهُ مِنْ أُمِّهِ الَّتِي تُرْضِعُهُ فَقَالَتْ: أَيْ أُمَّتَاهُ، إِنِّي رَأَيْتُ رَهْطًا أَخَذُوا أَخِي آنِفًا، فَشَقُّوا بَطْنَهُ، فَقَامَتْ أُمُّهُ الَّتِي
⦗ص: 318⦘
تُرْضِعُهُ فَزِعَةً، حَتَّى أَتَتْهُ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ مُنْتَقِعًا لَوْنُهُ، لَا تَرَى عِنْدَهُ أَحَدًا، فَارْتَحَلَتْ بِهِ، حَتَّى أَقْدَمَتْهُ عَلَى أُمِّهِ، فَقَالَتْ لَهَا: اقْبِضِي عَنِّي ابْنَكِ، فَإِنِّي قَدْ خَشِيتُ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: لَا وَاللَّهِ، مَا بِابْنِي مَا تَخَافِينَ، لَقَدْ رَأَيْتُ وَهُوَ فِي بَطْنِي أَنَّهُ خَرَجَ نُورٌ مِنِّي أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ، وَلَقَدْ وَلَدْتُهُ حِينَ وَلَدْتُهُ، فَخَرَّ مُعْتَمِدًا عَلَى يَدَيْهِ، رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَافْتَصَلَتْهُ أُمُّهُ وَجَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ثُمَّ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ، فَهَمَّ فِي حِجْرِ جَدِّهِ، فَكَانَ - وَهُوَ غُلَامٌ - يَأْتِي وِسَادَةَ جَدِّهِ، فَيَجْلِسُ عَلَيْهَا، فَيَخْرُجُ جَدُّهُ وَقَدْ كَبُرَ، فَتَقُولُ الْجَارِيَةُ الَّتِي تَقُودُهُ: انْزِلْ عَنْ وِسَادَةِ جَدِّكَ، فَيَقُولُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: دَعِي ابْنِي فَإِنَّهُ مُحْسِنٌ بِخَيْرٍ، ثُمَّ تُوُفِّيَ جَدُّهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غُلَامٌ، فَكَفَلَهُ أَبُو طَالِبٍ، وَهُوَ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَلَمَّا نَاهَزَ الْحُلُمَ، ارْتَحَلَ بِهِ أَبُو طَالِبٍ تَاجِرًا قِبَلَ الشَّامِ، فَلَمَّا نَزَلَا تَيْمَاءَ رَآهُ حَبْرٌ مِنْ يَهُودِ تَمِيمٍ، فَقَالَ لِأَبِي طَالِبٍ: مَا هَذَا الْغُلَامُ مِنْكَ؟ فَقَالَ: هُوَ ابْنُ أَخِي، قَالَ لَهُ: أَشَفِيقٌ أَنْتَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدِمْتَ بِهِ إِلَى الشَّامِ لَا تَصِلُ بِهِ إِلَى أَهْلِكَ أَبَدًا، لَيَقْتُلُنَّهُ، إِنَّ هَذَا عَدُوُّهُمْ، فَرَجَعَ أَبُو طَالِبٍ مِنْ تَيْمَاءَ إِلَى مَكَّةَ. فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحُلُمَ، أَجْمَرَتِ امْرَأَةٌ الْكَعْبَةَ، فَطَارَتْ شَرَارَةٌ
⦗ص: 319⦘
مِنْ مِجْمَرِهَا فِي ثِيَابِ الْكَعْبَةِ فَأَحْرَقَتْهَا، وَوَهَتْ، فَتَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ فِي هَدْمِهَا، وَهَابُوا هَدْمَهَا، فَقَالَ لَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: مَا تُرِيدُونَ بِهَدْمِهَا؟ الْإِصْلَاحَ تُرِيدُونَ أَمِ الْإِسَاءَةَ؟ فَقَالُوا: بَلِ الْإِصْلَاحُ قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُهْلِكُ الْمُصْلِحَ قَالُوا: فَمَنِ الَّذِي يَعْلُوهَا فَيَهْدِمُهَا؟ قَالَ الْوَلِيدُ: أَنَا أَعْلُوهَا، فَأَهْدِمُهَا، فَارْتَقَى الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَلَى ظَهْرِ الْبَيْتِ، وَمَعَهُ الْفَأْسُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ، ثُمَّ هَدَمَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قَدْ هَدَمَ مِنْهَا، وَلَمْ يَأْتِهِمْ مَا خَافُوا مِنَ الْعَذَابِ، هَدَمُوا مَعَهُ، حَتَّى إِذَا بَنَوْهَا فَبَلَغُوا مَوْضِعَ الرُّكْنِ، اخْتَصَمَتْ قُرَيْشٌ فِي الرُّكْنِ، أَيُّ الْقَبَائِلِ تَرْفَعُهُ؟ حَتَّى كَادَ يَشْجُرُ بَيْنَهُمْ فَقَالُوا: تَعَالَوْا نُحَكِّمُ أَوَّلَ مَنْ يَطْلُعُ عَلَيْنَا مِنْ هَذِهِ السِّكَّةِ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى ذَلِكَ، فَطَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ غُلَامٌ عَلَيْهِ وِشَاحُ نَمِرَةٍ، فَحَكَّمُوهُ، فَأَمَرَ بِالرُّكْنِ، فَوُضِعَ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِسَيِّدِ كُلِّ قَبِيلَةٍ فَأَعْطَاهُ بِنَاحِيَةِ الثَّوْبِ، ثُمَّ ارْتَقَى وَرَفَعُوا إِلَيْهِ الرُّكْنَ، فَكَانَ هُوَ يَضَعُهُ. ثُمَّ طَفِقَ لَا يَزْدَادُ فِيهِمْ بِمَرِّ السِّنِينَ إِلَّا رِضًا، حَتَّى سَمَّوْهُ الْأَمِينَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، ثُمَّ طَفِقُوا لَا يَنْحَرُونَ جَزُورًا لِبَيْعٍ إِلَّا دَرُوهُ فَيَدْعُو لَهُمْ فِيهَا
⦗ص: 320⦘
. فَلَمَّا اسْتَوَى وَبَلَغَ أَشُدَّهُ، وَلَيْسَ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمَالِ اسْتَأْجَرَتْهُ خَدِيجَةُ ابْنَةُ خُوَيْلِدٍ إِلَى سُوقِ حُبَاشَةَ وَهُوَ سُوقٌ بِتَهَامَةَ وَاسْتَأْجَرَتْ مَعَهُ رَجُلًا آخَرَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْهَا مَا رَأَيْتُ مِنْ صَاحِبَةِ أَجِيرٍ خَيْرًا مِنْ خَدِيجَةَ، مَا كُنَّا نَرْجِعُ أَنَا وَصَاحِبِي إِلَّا وَجَدْنَا عِنْدَهَا تُحْفَةً مِنْ طَعَامٍ تُخْبِئْهُ لَنَا قَالَ: فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ سُوقِ حُبَاشَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قُلْتُ لِصَاحِبِي: انْطَلِقْ بِنَا نُحْدِثُ عِنْدَ خَدِيجَةَ قَالَ: فَجِئْنَاهَا فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهَا إِذْ دَخَلَتْ عَلَيْنَا مُنْتَشِيَةٌ مِنْ مُوَلَّدَاتِ قُرَيْشٍ وَالْمُنْتَشِيَةُ النَّاهِدُ الَّتِي تَشْتَهِي الرَّجُلَ قَالَتْ: أَمُحَمَّدٌ هَذَا؟ وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ إِنْ جَاءَ لَخَاطِبًا فَقُلْتُ: كَلَّا، فَلَمَّا خَرَجْنَا أَنَا وَصَاحِبِي قَالَ: أَمِنْ خِطْبَةِ خَدِيجَةَ تَسْتَحِي؟ فَوَاللَّهِ مَا مِنْ قُرَشِيَّةٍ إِلَّا تَرَاكَ لَهَا كُفْوًا قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَيْهَا مَرَّةً أُخْرَى، فَدَخَلَتْ عَلَيْنَا تِلْكَ الْمُنْتَشِيَةُ، فَقَالَتْ: أَمُحَمَّدٌ هَذَا؟ وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ إِنْ جَاءَ لَخَاطِبًا قَالَ: قُلْتُ عَلَى حَيَاءٍ: أَجَلْ قَالَ: فَلَمْ تُعْصِنَا خَدِيجَةُ وَلَا أُخْتُهَا، فَانْطَلَقَتْ إِلَى أَبِيهَا خُوَيْلِدُ بْنُ أَسَدٍ وَهُوَ ثَمِلٌ مِنَ الشَّرَابِ فَقَالَتْ: هَذَا ابْنُ
⦗ص: 321⦘
أَخِيكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَخْطُبُ خَدِيجَةَ، وَقَدْ رَضِيَتْ خَدِيجَةُ، فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَخَطَبَ إِلَيْهِ فَأَنْكَحَهُ قَالَ: فَخَلَّقَتْ خَدِيجَةُ، وَحَلَّتْ عَلَيْهِ حُلَّةً، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ صَحَا الشَّيْخُ مِنْ سُكْرِهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا الْخَلُوقُ؟ وَمَا هَذِهِ الْحُلَّةُ؟ قَالَتْ أُخْتُ خَدِيجَةَ: هَذِهِ حُلَّةٌ كَسَاكَ ابْنُ أَخِيكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنْكَحْتَهُ خَدِيجَةَ، وَقَدْ بَنَى بِهَا، فَأَنْكَرَ الشَّيْخُ، ثُمَّ صَارَ إِلَى أَنْ سَلَّمَ، وَاسْتَحْيَى وَطَفِقَتْ رُجَّازٌ مِنْ رُجَّازِ قُرَيْشٍ تَقُولُ: لَا تَزْهَدِي خَدِيجُ فِي مُحَمَّدٍ جِلْدٌ يُضِيءُ كَضِيَاءِ الْفَرْقَدِ فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ خَدِيجَةَ حَتَّى وَلَدَتْ لَهُ بَعْضَ بَنَاتِهِ، وَكَانَ لَهَا وَلَهُ الْقَاسِمُ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءَ أَنَّهَا وَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا آخَرَ يُسَمَّى الطَّاهِرُ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا نَعْلَمُهَا وَلَدَتْ لَهُ إِلَّا الْقَاسِمَ، وَوَلَدَتْ لَهُ بَنَاتَهُ الْأَرْبَعَ: زَيْنَبَ، وَفَاطِمَةَ، وَرُقَيَّةَ، وَأُمَّ كُلْثُومٍ، وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا وَلَدَتْ لَهُ بَعْضَ بَنَاتِهِ يَتَحَنَّثُ وَحُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ "
عَبْدُ الرَّزَّاقِ،
9719 -
قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ـ
⦗ص: 322⦘
وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِي ذَوَاتَ الْعَدَدِ ـ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، فَحِينَ مَا جَاءَهُ الْحَقُّ، وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فِيهِ فَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ، يَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ» فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ» فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةُ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] حَتَّى بَلَغَ {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5] فَرَجَعَ بِهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ:«زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي» فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ لِخَدِيجَةَ: «مَا لِي وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ» فَقَالَ: «قَدْ خَشِيتِ عَلَيَّ؟» فَقَالَتْ: كَلَّا، وَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ رَاشِدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ، أَخُو
⦗ص: 323⦘
أَبِيهَا، وَكَانَ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ، فَكَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْإِنْجِيلِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: أَيِ ابْنَ عَمِّي اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ فَقَالَ وَرَقَةُ: ابْنُ أَخِي مَا تَرَى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا رَأَى» فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى عليه السلام، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟» فَقَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ لَمْ يَأتِ أَحَدٌ بِمَا أَتَيْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَأُوذِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتُرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً، حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَلَغَنَا ـ حُزْنًا بَدَا مِنْهُ أَشَدَّ حُزْنًا، غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، فَلَمَّا ارْتَقَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَقًّا فَيَسْكُنْ لِذَلِكَ جَأْشُهُ وَتَقِرَّ نَفْسُهُ، فَرَجَعَ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ عَادَ لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا رَقَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ
⦗ص: 324⦘
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: " بَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجُئِثْتُ مِنْهُ رُعْبًا، ثُمَّ رَجَعْتُ فَقُلْتُ:«زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، وَدَثِّرُونِي» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إِلَى {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5] قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ، وَهِيَ الْأَوْثَانُ. قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي أَنَّ خَدِيجَةَ تُوُفِّيَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُرِيتُ فِي الْجَنَّةِ بَيْتًا لِخَدِيجَةَ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ، وَهُوَ قَصَبُ اللُّؤْلُؤِ» قَالَ: وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ كَمَا بَلَغَنَا فَقَالَ: «رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بَيَاضٌ، وَقَدْ أَظُنُّ أَنْ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَ عَلَيْهِ الْبَيَاضَ» قَالَ: ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْإِسْلَامِ سِرًّا وَجَهْرًا، وَتَرْكِ الْأَوْثَانِ
⦗ص: 325⦘
قَالَ مَعْمَرٌ: وَأَخْبَرَنَا قَتَادَةُ، عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ فَقَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ أَوْ سِتَّ عَشْرَةَ. قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عُثْمَانُ الْجَزَرِيُّ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: عَلِيٌّ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ. قَالَ: فَسَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ، فَقَالَ: مَا عَلِمْنَا أَحَدًا أَسْلَمَ قَبْلَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. قَالَ مَعْمَرٌ: فَسَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ قَالَ: فَاسْتَجَابَ لَهُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَحْدَاثِ الرِّجَالِ، وَضُعَفَاءِ النَّاسِ، حَتَّى كَثُرَ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَكُفَّارُ قُرَيْشٍ مُنْكِرِينَ لِمَا يَقُولُ يَقُولُونَ إِذَا مَرَّ عَلَيْهِمْ فِي مَجَالِسِهِمْ فَيُشِيرُونَ إِلَيْهِ: إِنَّ غُلَامَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ هَذَا لَيُكَلَّمُ ـ زَعَمُوا ـ مِنَ السَّمَاءِ. قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلَمْ يَتَّبِعْهُ مِنْ أَشْرَافِ قَوْمِهِ غَيْرُ رَجُلَيْنِ ـ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ـ وَكَانَ عُمَرُ شَدِيدًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُمَّ أَيِّدْ دِينَكَ بِابْنِ الْخَطَّابِ، فَكَانَ أَوَّلُ إِسْلَامِ عُمَرَ ـ بَعْدَمَا أَسْلَمَ قَبْلَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ ـ أَنْ حُدِّثَ أَنَّ أُخْتَهُ أُمَّ
⦗ص: 326⦘
جَمِيلِ ابْنَةَ الْخَطَّابِ أَسْلَمَتْ، وَإِنَّ عِنْدَهَا كَتِفًا اكْتَتَبَتْهَا مِنَ الْقُرْآنِ، تَقْرَأُهُ سِرًّا وَحُدِّثَ أَنَّهَا لَا تَأْكُلُ مِنَ الْمَيْتَةِ الَّتِي يَأْكُلُ مِنْهَا عُمَرُ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ: مَا الْكَتِفُ الَّذِي ذُكِرَ لِي عِنْدَكِ، تَقْرَئِينَ فِيهَا مَا يَقُولُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ؟ يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: مَا عِنْدِي كَتِفٌ فَصَكَّهَا ـ أَوْ قَالَ فَضَرَبَهَا عُمَرُ، ثُمَّ قَامَ فَالْتَمَسَ الْكَتِفَ فِي الْبَيْتِ، حَتَّى وَجَدَهَا فَقَالَ حِينَ وَجَدَهَا: أَمَا إِنِّي قَدْ حُدِّثْتُ أَنَّكِ لَا تَأْكُلِينَ طَعَامِي الَّذِي آكُلُ مِنْهُ، ثُمَّ ضَرَبَهَا بِالْكَتِفِ فَشَجَّهَا شَجَّتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ بِالْكَتِفِ حَتَّى دَعَا قَارِئًا، فَقَرَأَ عَلَيْهِ وَكَانَ عُمَرُ لَا يَكْتُبُ فَلَمَّا قَرَأَتْ عَلَيْهِ تَحَرَّكَ قَلْبُهُ حِينَ سَمِعَ الْقُرْآنَ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ الْإِسْلَامُ فَلَمَّا أَمْسَى انْطَلَقَ حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ، فَسَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] حَتَّى بَلَغَ {الظَّالِمُونَ} [العنكبوت: 49] وَسَمِعَهُ يَقْرَأُهَا {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا} [الرعد: 43] حَتَّى بَلَغَ {عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] قَالَ: فَانْتَظَرَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِهِ فَأَسْرَعَ عُمَرُ الْمَشْيَ فِي أَثَرِهِ حِينَ رَآهُ فَقَالَ: انْظُرْنِي يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ» فَقَالَ عُمَرُ: انْظُرْنِي يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَانْتَظَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَ بِهِ عُمَرُ وَصَدَّقَهُ، فَلَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ
⦗ص: 327⦘
رضي الله عنه انْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ: أَيْ خَالِي اشْهَدْ أَنِّي أُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبِرْ بِذَلِكَ قَوْمَكَ فَقَالَ الْوَلِيدُ: ابْنُ أُخْتِي تَثَبَّتْ فِي أَمْرِكَ، فَأَنْتَ عَلَى حَالٍ تُعْرَفُ بِالنَّاسِ يُصْبِحُ الْمَرْءُ فِيهَا عَلَى حَالٍ، وَيُمْسِي عَلَى حَالٍ فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ قَدْ تَبَيَّنَ لِي الْأَمْرُ، فَأَخْبِرْ قَوْمَكَ بِإِسْلَامِي، فَقَالَ الْوَلِيدُ: لَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْكَ، فَدَخَلَ عُمَرُ فَاسْتَالْنَالْيَا، فَلَمَّا عَلِمَ عُمَرُ أَنَّ الْوَلِيدَ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ شَأْنِهِ، دَخَلَ عَلَى جَمِيلِ بْنِ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيِّ، فَقَالَ: أَخْبِرْ أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَالَ: فَقَامَ جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ يَجُرُّ رِدَاءَهُ مِنَ الْعَجَلَةِ جَرًّا، حَتَّى تَتَبَّعَ مَجَالِسَ قُرَيْشٍ يَقُولُ: صَبَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَلَمْ تُرْجِعْ إِلَيْهِ قُرَيْشُ شَيْئًا، وَكَانَ عُمَرُ سَيِّدَ قَوْمِهِ، فَهَابُوا الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُمْ لَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَشَى، حَتَّى أَتَى مَجَالِسَهُمْ أَكْمَلَ مَا كَانَتْ فَدَخَلَ الْحِجْرَ فَأَسْنَدَ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَثَارُوا فَقَاتَلَهُ رِجَالٌ مِنْهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا وَضَرَبَهُمْ عَامَّةَ يَوْمِهِ حَتَّى تَرَكُوهُ، وَاسْتَعْلَنَ بِإِسْلَامِهِ وَجَعَلَ يَغْدُو عَلَيْهِمْ وَيَرُوحُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَتَرَكُوهُ، فَلَمْ يَتْرُكُوهُ بَعْدَ
⦗ص: 328⦘
ثَوْرَتِهِمُ الْأُولَى، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ أَسْلَمَ فَعَذَّبُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَفَرًا قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَكَرَ هِلَالٌ آبَاءَهُمُ الَّذِينَ مَاتُوا كُفَّارًا فَشَقُّوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَادَوْهُ فَلَمَّا أُسْرِيَ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَصْبَحَ النَّاسُ يُخْبِرُ أَنَّهُ قَدْ أُسْرِيَ بِهِ فَارْتَدَّ أُنَاسٌ مِمَّنْ كَانَ قَدْ صَدَّقَهُ وَآمَنَ بِهِ، وَفُتِنُوا وَكَذَّبُوهُ بِهِ، وَسَعَى رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: هَذَا صَاحِبُكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ رَجَعَ مِنْ لَيْلَتِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَشْهَدُ إِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ فَقَالُوا: أَتُصَدِّقَهُ بِأَنَّهُ جَاءَ الشَّامَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَرَجَعَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: نَعَمْ إِنِّي أُصَدِّقُهُ بِأَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا فَلِذَلِكَ سُمَيَّ أَبُو بَكْرٍ بِالصِّدِّيقِ قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ خَمْسِينَ، ثُمَّ نَقَصَتْ إِلَى خَمْسٍ، ثُمَّ نُودِيَ يَا مُحَمَّدُ {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] وَإِنَّ لَكَ بِالْخَمْسِ خَمْسِينَ
⦗ص: 329⦘
قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «قُمْتُ فِي الْحِجْرِ حِينَ كَذَّبَنِي قَوْمِي فَرُفِعَ لِي بَيْتُ الْمَقْدِسِ حَتَّى جَعَلْتُ أَنْعَتُ لَهُمْ» . قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " حِينَ أُسْرِيَ بِهِ لَقِيتُ مُوسَى قَالَ: فَنَعَتَهُ فَإِذَا رَجُلٌ حَسِبْتَهُ قَالَ مُضْطَرِبٌ رَجْلُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةٍ قَالَ: وَلَقِيتُ عِيسَى عليه السلام فَنَعَتَهُ فَقَالَ رَبْعَةُ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسَ قَالَ: وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدَهُ بِهِ قَالَ: «وَأُتِيَ بِإِنَاءَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا لَبَنٌ وَفِي الْآخَرِ خَمْرٌ» فَقَالَ: خُذْ أَيُّهُمَا شِئْتُ فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ، فَشَرِبْتُهُ فَقِيلَ لِي: هُدِيتَ لِلْفِطْرَةِ أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، أَمَا أَنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ
⦗ص: 330⦘
الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ