المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل العشرون بعد المئة: أمية الجاهليين - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٥

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الخامس عشر

- ‌الفصل السادس عشر بعد المئة: الفن الجاهلي

- ‌العمارة

- ‌الفصل السابع عشر بعد المئة: القصور والمحافد والاطام

- ‌مدخل

- ‌الأعمدة والأسطوانات:

- ‌الفصل الثامن عشر بعد المئة:‌‌ الخزفوالزجاج والبلور

- ‌ الخزف

- ‌الفصل التاسع عشر بعد المئة: الفنون الجميلة

- ‌مدخل

- ‌التصوير:

- ‌الفصل العشرون بعد المئة: أمية الجاهليين

- ‌الفصل الحادي والعشرون بعد المئة: الخط العربي

- ‌مدخل

- ‌الخط العربي:

- ‌الفصل الثاني والعشرون بعد المائة: المسند ومشتقاته

- ‌مدخل

- ‌أصل القلم المسند:

- ‌القلم اللحياني:

- ‌الخط الثمودي:

- ‌الأبجدية الصفوية:

- ‌الترقيم:

- ‌الفصل الثالث والعشرون بعد المائة: الكتابة والتدوين

- ‌الفصل الرابع والعشرون بعد المائة: الدراسة والتدريس

- ‌الكتاتيب:

- ‌مواد الدراسة:

- ‌الكاتب:

- ‌الفصل الخامس والعشرون بعد المائة: الكتاب والعلماء

- ‌مدخل

- ‌الملاحن والألغاز:

- ‌الفصل السادس والعشرون بعد المائة: الفلسفة والحكمة

- ‌مدخل

- ‌الحكمة:

- ‌الفصل السابع والعشرون بعد المائة: الأمثال

- ‌فهرس الجزء الخامس عشر:

الفصل: ‌الفصل العشرون بعد المئة: أمية الجاهليين

‌الفصل العشرون بعد المئة: أمية الجاهليين

الفصل العشرون بعد المائة: أمية الجاهليين

الشائع بين كثير من الناس أن العرب قبل الإسلام كانوا في جهالة عمياء وضلالة، لا يقرءون، ولا يكتبون، وأن الكتابة كانت قليلة بينهم، واستدلوا على رأيهم هذا بإطلاقهم لفظة "الجاهلي" على أيامهم، وبما جاء من أنهم كانوا قومًا "أميين لا يكتبون". واستدلوا على ذلك بحديث ذكر أن الرسول قاله، هو "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"1.

وقد تحدثت في الجزء الأول من هذا الكتاب عن معنى "الجاهلية"، وعن الآراء التي قيلت فيها، حديثًا فيه إفاضة وإحاطة، وقد قلت فيما قلته: إن تفسير الجاهلية بالجهل، الذي هو ضد العلم، تفسير مغلوط، وأن المراد من الجاهلية السفه والحمق والغلظة والغرور، وقد كانت تلك أبرز صفات المجتمع الجاهلي آنئذ، وتحدثت في كتابي:"تأريخ العرب قبل الإسلام" عن معنى الأمية وذلك في أثناء كلامي على أميّة الرسول وآراء العلماء فيها من مسلمين ومستشرقين2، وقلت: إن للأمية معنى آخر غير المعنى المتداول المعروف، وهو الجهل بالكتابة والقراءة. فقد ذكر "الفراء" وهو من علماء العربية المعروفين، أن الأميين هم

1 البيان والتبيين "3/ 28"، الصاحبي "8/ 11"، تفسير القرطبي "2/ 5"، البقرة الآية 87، اللسان "12/ 34"، "أمم"، تاج العروس "8/ 191"، "أمم".

2 الصفحة 136 وما بعدها.

ص: 91

العرب الذين لم يكن لهم كتاب1. ويراد بالكتاب، التوراة والإنجيل. ولذلك نعت اليهود والنصارى في القرآن بـ"أهل الكتاب"، وهذا المعنى يناسب

كل المناسبة لفظة "الأميين" الواردة في القرآن الكريم، وتعني الوثنيين، أي: جماع قريش وبقية العرب، ممن لم يكن من يهود وليس له كتاب.

وللعلماء آراء في الأمية، وذلك لما لها من صلة بالرسول، ولما كان القرآن قد نعت قوم الرسول بالأميين، وجعل الرسول أميًّا مثلهم، فقد ذهبوا إلى أن العرب كانوا قبل الإسلام أميين بمعنى أنهم كانوا لا يقرءون ولا يكتبون إلا من شذّ منهم وندر، وإلا أفرادًا من أهل مكة، زعموا أنهم تعلموا الكتابة من عهد غير بعيد عن الإسلام، ولو أخذنا أقوالهم مأخذ الجد، وجب علينا القول بأنهم: إنما تعلموها في حياة الرسول، أي: قبل الوحي بسنين ليست بكثيرة، وأن مكة كانت المدينة الوحيدة التي عرفت الكتابة في جزيرة العرب، وهو كلام لا يقوم على علم. فقد كان بيثرب كتّاب يكتبون بكتاب مكة، وكان في أماكن أخرى كتّاب يكتبون بكتابهم أيضًا، فضلًا عن انتشار الكتابة بالمسند في العربية الجنوبية وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب.

والرسول أمي، لم يقرأ ولم يكتب، فإذا أراد كتابة رسالة أو عهد أو تدوين للوحي، أمر كتابه بالتدوين. على ذلك أجمع المسلمون. وقد وردت في القرآن آيات: مثل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} 2، وآية:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} 3. أخذها البعض على أن فيها دلالة على أن النبي كان يقرأ ويكتب، واستدل أيضًا ببعض ما ورد في كتب الحديث والسير، وفيه ما يفيد أنه كان ملمًّا بالقراءة والكتابة، كالذي ورد في صلح "الحديبية" أنه "هو الذي كتب الكتاب بيده الشريفة. وهو ما وقع في البخاري"4. وما جاء في السيرة لابن هشام: "فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب

1 المفردات "ص22".

2 سورة اقرأ، الآية الأولى.

3 العنكبوت، الآية 48، تفسير الطبري "4/ 21".

4 الروض الأنف "2/ 230"، الحلبية "3/ 23 وما بعدها".

Nôldeke، Geschichte des Qorâns، I، S. 13.

ص: 92

الكتاب هو وسهيل"1. وما جاء في البخاري: "وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم" الكتاب ليكتب، فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد"2. وقالوا: إن في هذا المذكور وفي غيره من مثل ما ورد من إن الرسول "لما اشتد وجعه، قال: "ائتوني بالدواة والكتب أكتب لكم كتابًا لا تضلون معه بعدي أبداً" 3، ومثل ما ورد "في حديث أبي بكر رضي الله عنه أنه دعا في مرضه بدواة ومزبر فكتب اسم الخليفة بعده.4، دلالة صريحة على قدرته على الكتابة والقراءة5.

وللعلماء كلام في الأدلة المذكورة، ولهم آراء في تفسير الآيات التي تعرضت لموضوع الأمية. في تفسير علماء اللغة من لا يكتب، أو العيي الجلف الجافي القليل الكلام. قيل له: أُمي لأنه على ما ولدته أمه عليه من قلة الكلام وعجمة اللسان6، أو الجهل التام بالقراءة والكتابة. "لأن أمة العرب لم تكن تكب ولا تقرأ المكتوب"7؛ أو لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة أو عديمة8، أو الأمي الذي على خلقة الأمة، لم يتعلم الكتاب، فهو على جبلته. وقد ورد في الحديث:"إنا أمة أمية لا نكتب"9، أو "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"10، أو "بعثت إلى أمة أمية"، فذهبوا إلى أن العرب كانوا على أصل ولادة أمهم، لم يتعلموا الكتابة ولا الحساب، فهم على جبلتهم الأولى. "وكل شيء للعرب، فإنما هو بديهة وارتجال

ثم لا يقيده على نفسه ولا

1 Noldeke، I، S. 13.

2 الروض الأنف "2/ 230"، الطبري "3/ 80"، "السنة السادسة"، "2/ 635""دار المعارف"، الحلبية "1/ 24".

3 البلاذري "1/ 562"، "ائتوني باللوح والدواة –أو بالكتف والدواة –أكتب لكم كتابًا لا تضلون بعده"، "ائتوني أكتب كتابًا لا تضلوا بعدي أبدًا"، الطبري "3/ 192 وما بعدها"، "دار المعارف".

4 تاج العروس "3/ 231"، "زبر".

5 Noldeke، I، S. 12. ff.

6 اللسان "12/ 34"، "أمم".

7 تاج العروس "8/ 191"، "أمم".

8 تاج العروس "8/ 191"، "أمم".

9 اللسان "12/ 34"، "أمم".

10 تاج العروس "8/ 191"، "أمم" المفردات "22".

اللسان "12/34"، "أمم".

ص: 93

يدرسه أحدًا من ولده. وكانوا أميين لا يكتبون"1.

وقد وردت في القرآن الكريم لفظة "الأمي"2، و"أميون"3، و"أميين"4، ونعت الرسول بـ"النبي الأمي"5، وردت في سور مكية وفي سور مدنية. وردت لفظة "الأمي" في سورة الأعراف، وهي من السور المكية، ووردت لفظة "أميون" و"الأميين" في سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة الجمعة، وهي من السور المدنية. ويلاحظ أن الآيتين المكيتين، خاصتان بالرسول، فنعت فيهما بـ"النبي الأمي"، أما الآيات المدنية، فقد قصد بها "الأميين"، الذين ليس لهم كتاب. بمعنى المشركين.

وقد بحث "الراغب الأصبهاني" في معنى "الأمية" فقال: "والأمي: هو الذي لا يكتب ولا يقرأ من كتاب وعليه حمل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: الآية 2] . قال قطرب: الأمية: الغفلة والجهالة. فالأمي منه، وذلك هو قلة المعرفة. ومنه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} ، أي: إلا أن يتلى عليهم. قال الفراء: هم العرب الذين لم يكن لهم كتاب. والنبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، قيل: منسوب إلى الأمة الذين لم يكتبوا لكونهم على عادتهم. كقولك: عامي لكونه على عادة العامة. وقيل: سمي بذلك لأنه لم يكن يكتب ولا يقرأ من كتاب، وذلك فضيلة له لاستغنائه بحفظه واعتماده على ضمان الله منه بقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} . قيل: سمي بذلك لنسبته إلى أم القرى"6.

وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الأميين من لا كتاب لهم من الناس، مثل: الوثنيين والمجوس، قال الطبري في تفسير الآية:{وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} 7: "يعني بذلك جل ثناؤه، وقل

1 البيان والتبيين "3/ 28".

2 الأعراف، الآية 156 وما بعدها.

3 البقرة، الآية 78.

4 آل عمران، الآية 20، 75، الجمعة، الآية2.

5 الأعراف، الآية 156 وما بعدها.

6 المفردات في غريب القرآن "22".

7 آل عمران، الرقم3، الآية20.

ص: 94

يا محمد للذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى والأميين، الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب أأسلمتم

"1. وذهب كثير من المفسرين إلى أن الأميين الذين لا كتاب لهم، أي: الذين ليسوا يهودًا ولا نصارى. وورد: "أن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- كان يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم"2. قال الطبري: "وكان النبي -صلى الله علية وسلم- يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم، ففرح الكفار بمكة وشمتوا، فلقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب"3. فالمسلمون أهل كتاب، والمجوس أميون كمشركي مكة وبقية العرب المشركين، لا لكونهم لا يقرءون ولا يكتبون، بل لأنهم لم يؤمنوا بالتوراة والإنجيل.

ويلاحظ أن الآية: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ} 4، والأية:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} 5؛ والآية: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} 6، وكذلك:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} 7، لا تؤدي معنى الأمية، بمعنى الأمة الجاهلة بالقراءة والكتابة، لعدم انسجام التفسير مع المعنى، وإنما تؤدي معنى وثنية، أي: أمة لم تؤمن بكتاب من الكتب السماوية، أي: في المعنى المتقدم.

"والأمي والأمان –بضمهما –من لا يكتب أو من هو على خلقة الأمة لم يتعلم الكتاب، وهو باقٍ على جبلته. وفي الحديث: "إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب". أراد أنه على أصل ولادة أمهم، لم يتعلموا الكتابة والحساب، فهم على جبلتهم الأولى.

1 تفسير الطبري "3/ 143".

2 روح المعاني "21/ 17 وما بعدها"، "كان المسلمون يحبون أن تغلب الروم أهل الكتاب، وكان المشركون يحبون أن يغلب أهل فارس لأنهم أهل أوثان"، وتفسير الطبري "21/ 12 وما بعدها".

3 تفسير الطبري "21/ 13".

4 آل عمران، الرقم3، الآية 20.

5 آل عمران، الرقم3، الآية 75.

6 البقرة، الرقم2، الآية 78.

7 الجمعة، الرقم62، الآية 2.

ص: 95

وقيل لسيدنا محمد -صلى الله علية وسلم- الأمي؛ لأن أمة العرب لم تكن تكتب ولا تقرأ المكتوب، وبعثه الله رسولًا، وهو لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، وكانت هذه الخلة إحدى آياته المعجزة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تلا عليهم كتاب الله منظومًا تارة بعد أخرى، بالنظم الذي أنزل عليه، فلم يغيره ولم يبدل ألفاظه، ففي ذلك أنزل الله تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} . وقال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي: إن مما حرم عليه، صلى الله عليه وسلم: الخط والشعر، وإنما يتجه التحريم إن قلنا: إنه كان يحسنهما، والأصح أنه كان لا يحسنهما، ولكن يميز بين جيد الشعر ورديئه. وادعى بعضهم أنه صار يعلم الكتابة بعد أن كان لا يعلمها؛ لقوله تعالى من قبله في الآية. فإن عدم معرفته بسبب الإعجاز. فلما اشتهر الإسلام وأمن الارتياب عرف حينئذ الكتابة. وقد روي عن ابن أبي شيبة وغيره: ما مات رسول الله -صلي الله عليه وسلم- حتى كتب وقرأ، وذكره مجالد للشعبي. فقال: ليس في الآية ما ينافيه. قال ابن دحية: وإليه ذهب أبو ذر الفتح النيسابوري والباجي وصنف فيه كتابًا، ووافقه عليه بعض علماء إفريقية وصقلية. وقالوا: إن معرفة الكتابة بعد أميته لا تنافي المعجزة، بل هي معجزة أخرى بعد معرفة أميته وتحقق معجزته، وعليه تتنزل الآية السابقة والحديث، فإن معرفته من غير تقدم تعليم معجزة. وصنف أبو محمد بن مفوز كتابًا رد فيه على الباجي وبيّن فيه خطأه، وقال بعضهم: يحتمل أن يراد أنه كتب مع عدم علمه بالكتابة وتمييز الحروف، كما يكتب بعض الملوك علامتهم وهم أميون، وإلى هذا ذهب القاضي أبو جعفر السمناني"1.

وقد تعرض "الألوسي" لهذا الموضوع في تفسير الآية: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ، بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} 2. فقال: "واختلف في أنه صلى الله عليه وسلم أكان بعد النبوة يقرأ ويكتب أم لا؟ فقيل: إنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يحسن الكتابة، واختاره البغوي في التهذيب، وقال: إنه الأصح. وادعى بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم صار يعلم الكتابة بعد أن كان

1 تاج العروس "8/ 191"، "أمم".

2 العنكبوت، 29، الآية 48، تفسير الطبري "21/ 4"، تفسير الألوسي "21/ 4"

ص: 96

لا يعلمها، وعدم معرفتها بسبب المعجزة لهذه الآية، فلما نزل القرآن واشتهر الإسلام وظهر أمر الارتياب تعرف الكتابة حينئذ. وروى ابن أبي شيبة وغيره: ما مات صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ. ونقل هذا للشعبي فصدقه، وقال: سمعت أقوامًا يقولونه وليس في الآية ما ينافيه. وروى ابن ماجه عن أنس قال: قال، صلى الله عليه وسلم: رأيت ليلة أُسري بي مكتوبًا على الجنة: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر.

ثم قال: ويشهد للكتابة أحاديث في صحيح البخاري وغيره، كما ورد في صلح الحديبية: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب: "هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله" الحديث.

وممن ذهب إلى ذلك أبو ذر عبد بن أحمد الهروي، وأبو الفتح النيسابوري، وأبو الوليد الباجي من المغاربة، وحكاه عن السمناني. وصنف فيه كتابًا، وسبقه إليه ابن منية. ولما قال أبو الوليد: ذلك طعن فيه ورمي بالزندقة وسبّ على المنابر، ثم عقد له مجلس فأقام الحجة على مدّعاه، وكتب به إلى علماء الأطراف، فأجابوا بما يوافقه، ومعرفة الكتابة بعد أميته صلى الله عليه وسلم لا تنافي المعجزة، بل هي معجزة أخرى لكونها من غير تعليم.

وقد رد بعض الأجلة كتاب الباجي لما في الحديث الصحيح: "إنا أمة أمية نكتب ولا نحسب". وقال: كل ما ورد في الحديث من قوله: كتب، فمعناه أمر بالكتابة، كما يقال: كتب السلطان بكذا لفلان. وتقديم قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِهِ} على قوله سبحانه: {وَلا تَخُطُّهُ} كالصريح في أنه عليه الصلاة والسلام لم يكتب مطلقًا. وكون القيد المتوسط راجعًا لما بعده غير مطرد. وظن بعض الأجلة رجوعه إلى ما قبله وما بعده، فقال: يفهم من ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان قادرًا على التلاوة والخط بعد إنزال الكتاب، ولولا هذا الاعتبار، لكان الكلام خُلوًّا من الفائدة. وأنت تعلم أنه لو سُلّم ما ذكره من الرجوع، لا يتم أمر الإفادة إلا إذا قيل بحجية المفهوم، والظانّ ممن لا يقول بحجيته.

ثم قال الألوسي في تفنيد هذه الردود ما نصه:

ولا يخفى أن قوله، عليه الصلاة والسلام:"إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"، ليس نصًّا في استمرار نفي الكتابة عنه عليه الصلاة والسلام ولعل ذلك باعتبار

ص: 97

أنه بعث عليه -الصلاة والسلام- وهو وأكثر من بعث إليهم وهو بين ظهرانيهم من العرب أميون، لا يكتبون ولا يحسبون، فلا يضر عدم بقاء وصف الأمية في الأكثر بعد. وأما ما ذكر من تأويل كتب بأمر بالمكاتبة، فخلاف الظاهر. وفي شرح صحيح مسلم للنووي عليه الرحمة نقلًا عن القاضي عياض: أن قوله في الرواية التي ذكرناها: ولا يحسن يكتب فكتب، كالنص في أنه صلى الله عليه وسلم كتب بنفسه، فالعدول عنه إلى غيره مجاز لا ضرورة إليه. ثم قال: وقد طال كلام كل فرقة في هذه المسألة وشنعت كل فرقة على الأخرى في هذا"1.

وبحث "القرطبي" في هذا الموضوع أيضًا، فقال: " {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} ، الضمير في قبله عائد إلى الكتاب، وهو القرآن المُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم أي: وما كنت يا محمد تقرأ قبله، ولا تختلف إلى أهل الكتاب، بل أنزلناه إليك في غاية الإعجاز والتضمين للغيوب وغير ذلك، فلو كنت ممن يقرأ كتابًا، ويخط حروفًا لارتاب المبطلون، أي: من أهل الكتاب، وكان لهم في ارتيابهم متعلق، وقالوا: الذي نجده في كتبنا أنه أمي لا يكتب ولا يقرأ وليس به. قال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لا يخط ولا يقرأ، فنزلت هذه الآية؛ قال النحاس: دليلًا على نبوته لقريش؛ لأنه لا يقرأ ولا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب ولم يكن بمكة أهل الكتاب فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم، وزالت الريبة والشك.

الثانية: ذكر النقاش في تفسير الآية عن الشعبي أنه قال: ما مات النبي -صلى الله وعليه وسلم- حتى كتب. وأسند أيضًا حديث أبي كبشة السلولي؛ مضمنه: أنه صلى الله عليه وسلم قرأ صحيفة لعيينة بن حصن، وأخبر بمعناها. قال ابن عطية: وهذا كله ضعيف، وقول الباجي رحمه الله منه.

قلت: وقع في صحيح مسلم من حديث البراء في صلح الحديبية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعليّ: "اكتب الشرط بيننا: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله"، فقال له المشركون: لو نعلم أنك رسول الله تابعناك –وفي رواية بايعناك– ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فأمر عليًّا

1 محمد عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن "ص358 وما بعدها""الطبعة الثانية"، "عيسى البابي الحلبي".

ص: 98

أن يمحوها، فقال علي: والله لا أمحاه. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أرني مكانها، فأراه فمحاها وكتب ابن عبد الله. قال علماؤنا، رضي الله عنهم: وظاهر هذا أنه عليه السلام محا تلك الكلمة التي هي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وكتب مكانها ابن عبد الله. وقد رواه البخاري بأظهر من هذا فقال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتب. وزاد في طريق أخرى: ولا يحسن أن يكتب. فقال جماعة، بجواز هذا الظاهر عليه وأنه كتب بيده، منهم: السمناني وأبو ذر والباجي، ورأوا أن ذلك غير قادح في كونه أميًّا، ولا معارض بقوله:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِك} ، ولا بقوله:"إنا أمه أمية لا نكتب ولا نحسب"، بل رأوه زيادة في معجزاته، واستظهارًا على صدقه وصحة رسالته، وذلك أنه كتب عن غير تعلم لكتابة، ولا تعاط لأسبابها، وإنما أجرى الله تعالى على يده وقلمه حركات كانت عنها خطوط مفهومها: ابن عبد الله لمن قرأها، فكان ذلك خارقًا للعادة، كما أنه عليه السلام عَلِمَ عِلْمَ الأولين والآخرين من غير تعلم ولا اكتساب، فكان ذلك أبلغ معجزاته، وأعظم فضائله. ولا يزول عنه اسم الأمي بذلك، ولذلك قال الراوي عنه في هذه الحالة: ولا يحسن أن يكتب. فبقي عليه اسم الأمي مع كونه قال: كتب. قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر: وقد أنكر هذا كثير من متفقهة الأندلس وغيرهم، وشددوا النكير فيه، ونسبوا قائله إلى الكفر، وذلك دليل على عدم العلوم النظرية، وعدم التوقف في تكفير المسلمين، ولم يتفطنوا؛ لأن تكفير المسلم كقتله على ما جاء عنه عليه السلام في الصحيح، لا سيما رمي من شهد له أهل العصر بالعلم والفضل والإمامة، على أن المسألة ليست قطعية، بل مستندها ظواهر أخبار آحاد صحيحة، غير أن العقل لا يحيلها، وليس في الشريعة قاطع يحيل وقوعها.

قلت: وقال بعض المتأخرين من قال هي آية خارقة، فيقال له: كانت تكون آية لا تنكر لولا أنها مناقضة لآية أخرى، وهي كونه أميًّا لا يكتب، وبكونه أميًّا في أمة أمية قامت الحجة، وأفحم الجاحدون، وانحسمت الشبهة، فكيف يطلق الله تعالى يده فيكتب وتكون آية. وإنما الآية ألا يكتب، والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضًا. وإنما معنى كتب وأخذ القلم، أي: أمر من يكتب به من كتّابه، وكان من كتبة الوحي بين يديه صلى الله عليه وسلم ستة وعشرون كاتبًا.

ص: 99

الثالثة – ذكر القاضي عياض عن معاوية أنه كان يكتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ألق الدواة وحرّف القلم وأقم الباء وفرّق السين، ولا تعوّر الميم، وحسّن الله، ومدّ الرحمن، وجوّد الرحيم. فقال القاضي: وهذا وإن لم تصح الرواية أنه صلى الله عليه وسلم كتب، فلا يبعد أن يُرزق علم هذا، ويُمنع القراءة والكتابة.

قلت: هذا هو الصحيح في الباب أنه ما كتب ولا حرفًا واحدًا، وإنما أمر من يكتب وكذلك ما قرأ ولا تهجى. فإن قيل: فقد تهجى النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر الدجّال، فقال:"مكتوب بين عينيه ك اف ر"، وقلتم: إن المعجزة قائمة في كونه أميًّا، قال الله تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} ، الآية. وقال:"إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب". فكيف هذا؟ فالجواب ما نص صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة، والحديث كالقرآن يفسر بعضه بعضًا. ففي حديث حذيفة: يقرأه كل مؤمن كاتب وغير كاتب، فقد نص في ذلك على غير الكتاب ممن يكون أميًّا. وهذا من أوضح ما يكون جليًا"1.

وقد ذهب "الطبرسي" في تفسيره للآية المذكورة إلى أن الرسول ساوى قومه في المولد والمنشأ، لكنه جاء بما عجز عنه الآخرون من كلام الله والنبوة، فهو أُمي مثلهم. ثم عرض رأي "الشريف المرتضى"، القائل:"هذه الآية تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يحسن الكتابة قبل النبوة، فأما بعد النبوة فالذي نعتقده في ذلك التجويز، لكونه عالمًا بالكتابة والقراءة، والتجويز لكونه غير عالم بهما من غير قطع على أحد الأمرين. وظاهر الآية يقتضي أن النفي قد تعلق بما قبل النبوة دون ما بعدها؛ ولأن التعليل في الآية يقتضي اختصاص النفي بما قبل النبوة؛ لأن المبطلين إنما يرتابون في نبوته صلى الله عليه وسلم لو كان يحسن الكتابة قبل النبوة. فأما بعد النبوة، فلا تعلق له بالريبة والتهمة فيجوز أن يكون قد تعلمها من جبرائيل عليه السلام، بعد النبوة"2.

وتعرض "الجاحظ" لهذا الموضوع أيضًا، فقال نقلًا عن كلام شيخ من

1 الجامع لأحكام القرآن "13/ 351 وما بعدها".

2 الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن "الجزء الثامن من 389".

ص: 100

البصريين: "إن الله إنما جعل نبيه أميًّا لا يكتب ولا يحسب ولا ينسب، ولا يقرض الشعر، ولا يتكلف الخطابة، ولا يتعمد البلاغة، لينفرد الله بتعليمه الفقه وأحكام الشريعة، ويقصره على معرفة مصالح الدين دون ما تتباهى به العرب، من قيافة الأثر والبشر، ومن العلم بالأنواء وبالخيل، وبالأنسان وبالأخبار، وتكلف قول الأشعار، ليكون إذا جاء بالقرآن الكريم، وتكلم بالكلام العجيب، كان ذلك أدل على أنه من الله.

وزعم أن الله تعالى لم يمنعه معرفة آدابهم وأخبارهم وأشعارهم ليكون أنقص حظًّا من الحاسب الكاتب، ومن الخطيب الناسب، ولكن ليجعله نبيًّا، وليتولى من تعليمه ما هو أزكى وأنمى. فإنما نقصه ليزيده، ومنعه ليعطيه، وحجبه عن القبائل ليجلي له الكثير"1.

وقد رد "الجاحظ" على كلامه هذا، بقوله: "وقد أخطأ هذا الشيخ ولم يُرِد إلا الخير. وقال بمبلغ علمه ومنتهى رأيه. ولو زعم أن أداة الحساب والكتابة، وأداة قرض الشعر ورواية جميع النسب، قد كانت فيه تامة وافرة، ومجتمعة كاملة، ولكنه صلى الله عليه وسلم صرف تلك القوى وتلك الاستطاعة إلى ما هو أزكى بالنبوة، وأشبه بمرتبة الرسالة، وكان إذا احتاج إلى البلاغة كان أبلغ البلغاء، وإذا احتاج إلى الخطابة كان أخطب الخطباء، وأنسب من كل ناسب، وأقوف من كل قائف، ولو كان في ظاهره، والمعروف من شأنه أنه كاتب حاسب، وشاعر ناسب، ومتفرس قائف، ثم أعطاه الله برهانات الرسالة وعلامات النبوة، ما كان ذلك بمانعٍ من وجوب تصديقه، ولزوم طاعته، والانقياد لأمره على سخطهم ورضاهم، ومكروههم ومحبوبهم. ولكنه أراد ألا يكون للشاغب متعلق عما دعا إليه حتى لا يكون دون المعرفة بحقه حجاب وإن رق، وليكون ذلك أخف في المئونة، وأسهل في المحنة. فلذلك صرف نفسه عن الأمور التي كانوا يتكلفونها ويتنافسون فيها، فلما طال هجرانه لقرض الشعر وروايته، صار لسانه لا ينطلق به، والعادة توأم الطبيعة. فأما في غير ذلك فإنه إذا شاء كان أنطق من كل منطيق، وأنسب من كل ناسب، وأقوف من كل قائف. وكانت آلته أوفر وأداته أكمل، إلا أنها كانت مصروفة إلى ما هو أرد.

1 البيان والتبيين "4/ 32".

ص: 101

وبين أن نضيف إليه العجز، وبين أن نضيف إلية العادة الحسنة وامتناع الشيء عليه من طول الهجران له، فرق.

ومن العجب أن صاحب هذه المقالة لم يره عليه السلام في حال معجزة قط، بل لم يره إلا وهو إن أطال الكلام قصر عنه كل مُطيل، وإن قصر القول أتي على غابة كل خطيب، وما عدم منه إلا الخط وإقامة الشعر، فكيف ذهب ذلك المذهب، والظاهر من أمره عليه السلام خلاف ما توهم!؟ "1.

فهذا هو رأي الجاحظ في أمية الرسول.

وأما حديث: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"، فيعارض حديث آخر ينسب إلى الرسول هو:"قريش أهل الله، وهم الكتبة الحسبة"2. "ويقال قريش أهل الله؛ لأنهم كتبة حسبة"3. والقرآن الكريم نفسه، يفند أن قريشًا لم يكونوا يحسنون الكتاب أو الحساب، لما فيه من آيات تناقض هذا الرأي. وفي الحديث، أحاديث كثيرة يجب عدم الأخذ لها؛ لأنها ضعيفة، ويشبه أن يكون الحديث المذكور واحد منها. ومن هذه الأحاديث الضعيفة، حديث:"حق الوالد على ولده أن يعلمه الكتابة والسباحة، والرماية، وأن لا يرزقه إلا طيبًا"، وحديث:"حق الوالد على ولده أن يحسن اسمه، ويزوجه إذا أدرك، ويعلمه الكتاب"4. والحديث المذكور من الأحاديث التي يرجع سندها إلى "أبي هريرة" وفي الأحاديث المنسوبة إليه أحاديث كثيرة يجب عدم الأخذ بها.

ولو أخذنا بالحديث على علاته، وقبلناه دون نقد، كما يفعل كثير من الناس، وجب علينا القول: إن الرسول كان يقرأ ويكتب. ورد: "وذكر صاحب الشرعة أيضًا، أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية رضي الله عنه وهو يكتب بين يديه: "ألقِ الدواة، وحرف القلم، وانصب الباء، وفرق السين، ولا تعور الميم، وحسن الله، ومد الرحمن، وجود الرحيم" 5، وأنه قال "لزيد بن ثابت" وهو أحد كتّابه: "إذا كتبت بسم الله الرحمن الرحيم فبيّن

1 البيان والتبيين "4/ 33 وما بعدها".

2 الصولي، أدب الكتاب "28".

3 حكمة الإشراق "67".

4 الجامع الصغير، رقم 3742، و3743، حكمة الإشراق "66 وما بعدها".

5 حكمة الإشراق "67".

ص: 102

السين فيه"1، فهل يعقل صدور هذا الوصف، وهذه التسمية للحروف، وهذه المصطلحات من رجل أمي، لا يقرأ ولا يكتب. وقد روى الرواة هذين الحديثين مع تعارضهما لأقوال العلماء، ورووا أيضًا أن "أبا ذر" الغفاري سأل الرسول: "يا رسول الله، كل نبي مرسل بمَ يُرسل؟ قال: بكتاب منزل. قلت: "يا رسول الله، أي كتاب أنزل على آدم؟ قال: اب ت ث ج إلى آخره. قلت: يا رسول الله، كم حرف؟ قال: تسعة وعشرون. قلت: يا رسول الله، عددت ثمانية وعشرين، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت عيناه، ثم قال: "يا أبا ذر، والذي بعثني بالحق نبيًّا! ما أنزل الله تعالى على آدم إلا تسعة وعشرين حرفاً". قلت: يا رسول الله، فيها ألف ولام. فقال عليه السلام:"لام ألف حرف واحد، أنزله على آدم في صحيفة واحدة، ومعه سبعون ألف ملك. من خالف لام ألف، فقد كفر بما أنزل على آدم! ومن لم يعدّ لام ألف فهو بريء مني وأنا بريء منه! ومن لا يؤمن بالحروف، وهي تسعة وعشرون حرفًا لا يخرج من النار أبدًا"2. وبعد فهل نقبل بحديث من هذا النوع، وكل ما فيه يطعن في صحته!

ويظهر صراحة من الآية: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 3، أن مرادها من الأميين، ليس الجهل بالكتابة والقراءة، وإنما العرب الذين لم يكن عندهم كتاب منزل من السماء. ودليل ذلك ما أورده "الطبري" في تفسيرها من أقوال وروايات. فقد قال:"والأميون هم العرب"، قال "قتادة":" {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} . قال: كان هذا الحي من العرب أمة أمية ليس فيها كتاب يقرءونه فبعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة وهدى يهديهم به"، وقال:"كانت هذه الأمة أمية لا يقرءون كتابًا"، وقال:"إنما سميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأميين؛ لأنه لم ينزل عليهم كتابًا"، وقوله: " {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} . يقول ويعلمهم

الجامع الصغير "835"، حكمة الإشراق "67".

2 صبح الأعشى "3/ 7".

3 الجمعة، الآية 2.

ص: 103

كتاب الله وما فيه من أمر الله ونهيه وشرائع دينه، {وَالْحِكْمَة} يعني بالحكمة السنن". وقال:"ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة أيضًا، كما علم هؤلاء. يزكيهم بالكتاب والأعمال الصالحة ويعلمهم الكتاب والحكمة كما صنع بالأولين"، وقال في تفسير "وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. يقول تعالى ذكره، وقد كان هؤلاء الأميون من قبل أن يبعث الله فيهم رسولًا منهم في جور عن قصد السبيل وأخذ على غير هدى مبين. يقول: يبين لمن تأمله أنه ضلال وجور عن الحق وطريق الرشد"1. وقال "ابن كثير في تفسيرها: "وذلك أن العرب كانوا قديمًا متمسكين بدين إبراهيم الخليل عليه السلام فبدلوه وغيروه وقلبوه وخالفوه، واستبدلوا بالتوحيد شركًا وباليقين شكًّا

فبعث الله محمدًا -صلوات الله وسلامه عليه- بشرع عظيم كامل لجميع الخلق، فيه هدايته والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم"2. وقال "القرطبي": قال ابن عباس: الأميون العرب كلهم، من كتب منهم ومن لم يكتب؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب"3. فالأميون إذن هم العرب؛ لأنهم كانوا أهل شرك، وليس لهم كتاب، وليس للفظة صلة بالأمية التي تعني الجهل بالقراءة والكتابة.

وأما حديث: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. الشهر هكذا وهكذا: مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين"4. وقد نسب سنده إلى "ابن عمر"، فحكمه حكم الحديث السابق، وقد فسر الحساب، بأنه حساب النجوم وتسييرها، لا الجهل بالحساب.

وقد ذهب "شبرنكر" إلى أن الرسول كان يقرأ ويكتب، وأنه قرأ "أساطير الأولين"5، و "شبرنكر" من المستشرقين العاطفيين، الذين يأخذون بالخبر، مهما كان شأنه فيبني حكمًا عليه.

وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن المقصود من الأميين هنا الوثنيون. وأن الأمية هذه أخذت من اليهود الذين كانوا يطلقون لفظة "امت" و"اميم"

1 تفسير الطبري "28/ 61 وما بعدها".

2 تفسير ابن كثير "4/ 363".

3 الجامع لأحكام القرآن "18/ 91".

4 إرشاد الساري "3/ 359".

5 "Noldeke، I، s. 16، Ency of Islam، Vol. IV، p. 1016.".

ص: 104

على غيرهم، يريدون بها الوثنيين. كما في جملة:"امت ها عالولام1""Ummot ha Olam". وقد أطلق اليهود على الغرباء وعلى كل من هو غير يهودي، "كوي""Goy" للواحد، و "كويم""Goyim" للجمع. وتقابل هذه اللفظة لفظة "Gentile" في اللاتينية. ويقال للغريب عنهم "اخريم""Ahrim" و"Nochrim"، كذلك تمييزًا لهم عن العبرانيين الذين يذهبون إلى أنهم أمة مقدسة مفضلة على العالمين2.

وذهب بعض المستشرقين اليهود إلى أن لفظة "الأميين" معربة من أصل "كوى" و"كوييم" المذكور3.

والذي أراه أن لفظة "أمي" و"أمية" لم تكن تعني عند الجاهليين معنى عدم القراءة والكتابة والجهل بهما. وإنما كانت تعني عندهم: مشركين ووثنيين، وهو المعنى الذي ورد في القرآن الكريم. والذي نعت الرسول فيه بالأمي؛ لأنه من العرب، ومن قوم ليس لهم كتاب، عرفوا بذلك من قبل أهل الكتاب اليهود. أما تفسيرها بالجهل بالكتابة والقراءة، فقد وقع في الإسلام، أخذوه من ظاهر معنى لفظة "الكتاب" الواردة في القرآن، فظنوا أنها تعني "الكتابة" بينما المراد منها الكتاب المُنزل، لعدم انسجام تفسيرها بالكتابة مع معنى الآية، ودليل ذلك أنهم لما فسروا "الأمية" بمعنى عدم القراءة والكتابة حاروا في إيجاد مخرج لهذا التفسير، فقالوا ما قالوه في تفسيرها من أنها سميت بالأمية؛ لأنها على خلقة الأمة؛ أو لأنها على الجبلة والفطرة، وأصل ولادة الأمهات وما شاكل ذلك من تفاسير مضطربة باردة، تخبر أن علماء اللغة لم يجدوا لها أصلًا ووجودًا عند الجاهليين فلجئوا إلى هذه التعليلات4. ولو كانت الأمية معروفة عند أهل الجاهلية بهذا المعنى لاستشهدوا عليها بشعر من أشعار الجاهليين أو المخضرمين، ولما لجئوا إلى هذه التفاسير المتكلفة؛ لأن من عادتهم الاستشهاد بالشعر في تفسير

1 Shorter Ency. P. 74، Horovitz، Koranische Utersuchungen، 1926، S. 51، Buhl-Shaeder، Das Leben Muhammeds، Leipzig، 1930، s. 56، Noldeke، Geschichte des Qorans، I، S. 14.

2 The Universe. Jewish Ency، vol. 4، p. 533.

3 Torrey، The Jewish foundation of Islam، New York، 1933، p. 38، Abram I. Katsh، Judaism in Islam، New York، 1934، p. 75.

4 تاج العروس "8/ 191"، "أمم".

ص: 105

الألفاظ، ولا سيما الألفاظ الغريبة، فعدم استشهادهم بشاهد من شعر أو نثر في تفسير الأمية هو دليل على أن اللفظة بهذا التفسير من الألفاظ التي ولدت في الإسلام، وأنها لم تكن عربية خالصة، وإنما سمعوها من أهل الكتاب.

وعندي أن يهود يثرب هم الذين أطلقوا لفظة "الأميين" على العرب المشركين، على عادتهم حتى هذا اليوم في نعت الغرباء عنهم بألفاظ خاصة مثل "كوييم"، لتمييزهم عن أنفسهم، باعتبارهم "شعب الله المختار" المؤمن بإله إسرائيل.

ومما يؤيد هذا الرأي، أننا نطلق في عربيتنا لفظة "الأمي" على من لا يعرف القراءة والكتابة معًا، بينما نطلق على الشخص الذي يحسن القراءة ولا يحسن الكتابة قارئ، أو قارئة، وذلك لوجود جماعة كانوا يحسنون القراءة، ولكنهم لا يكتبون. ونجد اليوم من النساء من يحسنَّ القراءة ولا يكتبن، ولما نزل الوحي على الرسول: باقرأ، قال الرسول: ما أنا بقارئ، أو لست بقارئ1، ولم يقل: أنا أمي، مما يدل على أن الأمية إنما صارت تعبر عن معنى عدم القراءة والكتابة فيما بعد.

ثم إننا لا نجد في اللغات القديمة لفظة واحدة في معنى "الأمية" التي نستعملها في عربيتنا في الوقت الحاضر، أي: في معنى الجهل بالقراءة والكتابة معًا، وإنما يقال: لا يقرأ أو لا يكتب، أو يجهل القراءة والكتابة، فلا يعقل خروج العربية على هذه القاعدة. واستعمالها الأمية قبل الإسلام مصطلحًا للتعبير عن الجهل بالكتابة والقراءة معًا. ولم أعثر في النصوص الجاهلية على هذه اللفظة أو على لفظة أخرى تؤدي هذا المعنى.

ولا يعقل أن يكون اليهود أو غيرهم قد أطلقوا الأمية على العرب، بسبب جهل العرب الكتابة والقراءة. فقد كان سواد يهود ونصارى جزيرة العرب أميًّا أيضًا، لا يقرأ ولا يكتب، إلا أن القرآن الكريم أخرجهم من الأميين، واستثناهم، وأطلق عليهم "أهل الكتاب"، وذلك يدل دلالة واضحة على أن المراد من "الأميين" العرب الذين لهم كتاب، أي: العرب الذين لم يكونوا يهودًا ولا نصارى لا من لا يحسن الكتابة والقراءة. والقرآن الكريم هو الذي هدانا إلى لفظة "الأميين" فلم ترد اللفظة في نص من نصوص الجاهلية وبفضله أيضًا عرفنا مصطلح "أهل الكتاب" دلالة على أهل الديانتين.

1 إمتاع الأسماع "1/ 13"، "ثم قال اقرأ: قلت ما اقرأ"، تفسير الطبري "30/ 161"، تفسير النيسابوري "30/ 125"، "حاشية على تفسير الطبري".

ص: 106

وأنا لا أريد أن أثبت هنا أن العرب قاطبة كانت أمة قارئة كاتبة، جماعها يقرأ ويكتب، وأنها كانت ذات مدارس منتشرة في كل مكان من جزيرتهم، تعلم الناس القراءة والكتابة والعلوم الشائعة في ذلك الزمن، فقول مثل هذا هو هراء، ما في ذلك شك، ولا يمكن أن يدعيه أحد ثم إن شيوع القراءة والكتابة بالمعني المفهوم عندنا، لم يكن معروفًا حتى عند أرقى الشعوب إذ ذاك مثل: اليونان والرومان والساسانيين في عالم ذلك العهد. فسواد كل الأمم كان جاهلًا لا يحسن قراءة ولا كتابة، وإنما كانت القراءة والكتابة في الخاصة وفي أصحاب المواهب والقابليات الذين تدفعهم مواهبهم ونفوسهم على التعلم والتثقف وتزعّم الحركة الفكرية بين أبناء جنسهم، ومن هنا كانت كل الأمم أمية من حيث الأكثرية والغالبية، إنما اختلفت في نسبة المتعلمين والمتخصصين والمجتهدين ودرجتهم فيها. وفي هذا تتباين وتختلف أيضًا، فقد كان اليونان والرومان والعالم النصراني في الدرجة الأولى في العهد الذي قارب الإسلام، يليهم الفرس واليهود والهنود. أما العرب، فقد كانوا يتباينون في ذلك أيضًا تباينًا يختلف باختلاف أماكنهم كما سأبين ذلك.

فأهل البوادي، ولا سيما البوادي النائية عن الحواضر، هم أميون ما في ذلك من شك؛ لأن طبيعة البادية في ظروفها المعلومة لا تساعد على تعلم القراءة والكتابة، ولا على ظهور العلوم وتطويرها فيها، غير أننا لا نعني أنهم كانوا جميعًا أميين، لا قارئ بينهم ولا كاتب. فقد كان بينهم من يقرأ ويكتب، بدليل هذه النصوص الجاهلية التي عثر عليها مبعثرة في مواضع متناثرة من البوادي، وفي أماكن نائية عن الحضارة. وهي كتابات أعراب ورعاة إبل وبقر وأغنام، دوّنوها تسجيلًا لخاطر، أو للذكرى، أو رسالة لمن قد يأتي بينهم، فيقف على أمرهم، ومن هنا نستطيع أن نقول: إن أعراب الجاهلية، كانوا أحسن حالًا من أعراب هذا اليوم، فقد كان فيهم الكاتب القارئ، الذي يهتم بتسجيل خواطره، وبإثبات وجوده بتدوينه هذه الكتابات، وأن الأمية المذكورة لم تكن أمية عامة جامعة، بل أمية نسبية، على نحو ما نشاهده اليوم في مجتمعاتنا من غلبة نسبة الأمية على نسبة المتعلمين.

وأما أهل الحواضر، فقد كان بينهم من يقرأ ويكتب، كما كان بينهم الأمي، أي: الجاهل بالقراءة والكتابة. كان منهم من يقرأ ويكتب بالقلم المسند، وكان

ص: 107

بينهم من يقرأ ويكتب بالقلم الذي دوّن به القرآن الكريم، فصار القلم الرسمي للإسلام، بفضل تدوين الوحي به، كما كان بينهم من يكتب بقلم النبط وبقلم بني إرم. وكان بينهم من يكتب ويقرأ بقلمين أو أكثر.

وقد سبق أن ذكرنا أن الأحناف كانوا يكتبون ويقرءون، ورأينا بعضًا منهم كان يكتب بأقلام أعجمية، وكان قد وقف على كتب أهل الكتاب، وكانوا أصحاب رأي ومقالة في الدين وفي أحوال قومهم. وذكرت أنهم قالوا عن بعضهم، مثل "ورقة بن نوفل"، أنه كان "يكتب الكتاب العبراني، فيكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب"1.

وقد ذكر "الهمداني" أن العرب كانت "تسمى كل من قرأ الكتب أو كتب: صابئًا، وكانت قريش تسمي النبي صلى الله عليه وسلم أيام كان يدعو الناس بمكة ويتلو القرآن صابئًا"2. فالصباة على تفسير "الهمداني"، هم الكتبة وكل من قرأ الكتب، وعلى ذلك يكون الحنفاء في جملة الصباة.

وقد ذكر أهل الأخبار أنه كان لدى "الأكاسرة" ديوان خاص يدون فيه كل ما يخص عرب الحيرة وسائر العرب بالعربي، ويتولى أيضًا ترجمة كل ما يرد إلى الدولة بالعربية إلى الفارسية، ويترجم ما يصدر بالفارسية من الحكومة إلى العرب بالعربية، وأن في جملة من اشتغل في هذا الديوان وقام بالترجمة فيه "زيد العبادي"، أبو الشاعر الشهير "عدي بن زيد العبادي"، وزعم "ابن الكلبي" أن ملوك الحيرة كانوا يملكون دواوين فيها أخبارهم ومقدار مدد حكمهم وما قيل في مدحهم من شعر، وفي خبر صحيفة المتلمس وقراءة أحد غلمان الحيرة للصحيفة التي كان يحملها ما يشير إلى معرفة غلمان أهل الحيرة القراءة والكتابة3. وفي كل هذه الروايات والأخبار تفنيد لزعم من ذهب إلى أن العرب قبل الإسلام كانوا جميعًا في جهالة وأمية.

1 الأغاني "3/ 120".

2 الإكليل "1/ 44".

3 الفهرست "ص12 وما بعدها"، بلوغ الأرب "3/ 368 وما بعدها""فأعطى المتلمس كتابه بعض الغلمان فقرأه"، "فإذا أنا بغلام من أهل الحيرة يسقي غنيمة له من نهر الحيرة، فقلت: ياغلام. أتقرأ؟ قال: نعم. قلت: اقرأ" مجمع الأمثال "1/ 412 وما بعدها"، بلوغ الأرب "3/ 374"، النصرانية وآدابها "1/ 157".

ص: 108

بل ورد في روايات أهل الأخبار في ترجمة عدي بن زيد العبادي المذكور: أن كان في الحيرة معلمون، يعلمون الأطفال القراءة والكتابة، يذهبون إلى بيوت الأطفال يعلمونهم إن شاء أهلهم، أو يعلمونهم في الكتاتيب. وقد ورد أيضًا: أن من الكتاتيب ما كانت تعلم بالعربية ومنها ما كانت تعلم بالفارسية. فكان جد عدي بن زيد العبادي مثلًا ممن تعلم في دار أبيه، وخرج من أكتب الناس في يومه "وطلب حتى صار كاتب ملك النعمان الأكبر. وكان أبوه زيد ممن حذق الكتابة والعربية، ثم علم الفارسية. ولما تحرك عدي، وأيفع، طرحه أبوه في الكتاب، حتى إذا حذق أرسله المرزبان مع ابنه شاهان مرد إلى كتاب الفارسية، فكان يختلف مع ابنه، ويتعلم الكتابة والكلام بالفارسية، حتى خرج من أفهم الناس بها، وأفصحهم بالعربية، وقال الشعر وتعلم الرمي بالنشاب، فخرج مع الأساورة الرماة، وتعلم لعب العجم على الخيل بالصوالجة وغيرها"1.

وذكر أهل الأخبار أن "لقيط بن يعمر الإيادي" الشاعر كتب صحيفة إلى قومه إياد، يحذرهم من كسرى2. وكان كاتبًا ومترجمًا في قصر كسرى، يكتب من الفارسية إلى العربية ومن العربية إلى الفارسية3، فلما أراد كسرى الانتقام من قومه، كتب إليهم قصيدة في صحيفة، فيها:

سلام في الصحيفة من لقيط

إلى من بالجزيرة من إياد

وذكر أن "سعد بن ملك" أرسل ابنه "المرقش" الشاعر المعروف وأخاه إلى رجل من أهل الحيرة، فعلمهما الكتابة، فكانا يكتبان أشعارهما4، وذكر أنه كان يكتب بالحميرية، وأنه كتب أبياتًا بها على خشب رحل "الغفيلي الذي تركه وحده لما مرض، فلما قرءوا الكتابة ضربوا "الغفيلي" حتى أقر5.

وكان جفينة العبادي، وهو من نصارى الحيرة، وظئرًا لسعد بن أبي وقاص،

1 الأغاني "2/ 18 وما بعدها، 101".

2 الأغاني "20/ 23 وما بعدها"، الشعر والشعراء "97 وما بعدها"، بروكلمن، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 112"، "المترجم"، "2/ 101 وما بعدها".

3 البكري، معجم "1/ 52".

4 المفضليات "459 وما بعدها"، الأغاني "6/ 130".

5 الشعر والشعراء "1/ 139".

ص: 109

كاتباً، قدم المدينة في عهد عمر، وصار يعلم الكتابة فيها. وقد اتهمه "عبيد الله بن عمر" بمشايعة أبي لؤلؤة على قتل أبيه، فقتله وقتل ابنيه1.

ولما نزل "خالد بن الوليد" الأنبار، رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم: ما أنتم؟ فقالوا: قوم من العرب، نزلنا إلى قوم من العرب قبلنا -فكانت أوائلهم نزلوها أيام بختنصر حين أباح العرب، ثم لم تزل عنها– فقال: ممن تعلمتم الكتاب؟ فقالوا: تعلمنا الخط من إياد، وأنشدوه قول الشاعر:

قومي إياد لو أنهم أمم

أولو أقاموا فتهزل النعم

قوم لهم باحةُ العراق إذا

ساروا جميعًا والخط والقلم2

ووجد "خالد بن الوليد" أهل "النقيرة" يعلّمون أولادهم الكتاب في كنيستها. وهي قرية من قرى "عين التمر". ومنها كان "حمران" مولى "عثمان بن عفان"3. ولما فتح "خالد" حصن عين التمر، وغنم ما فيه، "وجد في بيعتهم أربعين غلامًا يتعلمون الإنجيل، عليهم باب مغلق، فكسره عنهم"4، ثم أخرجهم، فقسّمهم في أهل البلاء، فكان منهم نصير، أبو موسى بن نصير، وسيرين أبو محمد بن سيرين، وحمران مولى عثمان وغيرهم.

فنحن في العراق أمام مدارس تعلم العربية في القرى وفي الأماكن التي تكون غالبية سكانها من العرب، وتعلمهم أمور دينهم من نظر في الأناجيل وفي الكتب الدينية النصرانية والعلوم اللسانية المعروفة إلى غير ذلك من علوم ومعرفة وثقافة.

وورد في روايات أهل الأخبار أن عددًا من الشعراء الجاهليين كانوا يكتبون ويقرءون. وكان منهم من إذا نظم شعرًا دوّنه ثم ظل يعمل في إصلاحه وتنقيحه وتحكيك ما نظمه إلى أن يرضى عنه. فينشده الناس. وممن كان يكتب ويقرأ

1 الطبري "5/ 42"، ابن سعد، طبقات "3/ 1 ص258"، "ليدن"، البلاذري، فتوح البلدان "460".

2 الطبري "، "3/ 375".

3 البلدان "4/ 807 وما بعدها".

4 الطبري "3/ 377"، "خبر عين التمر".

ص: 110

سويد بن الصامت الأوسي، صاحب مجلة لقمان، والزبرقان بن بدر1، وكعب بن زهير2، وكعب بن مالك الأنصاري3، والربيع بن زياد العبسي، وكان هو وإخوته من الكملة. وقد كتب إلى "النعمان بن المنذر" شعرًا يعتذر إليه فيه4.

وذكر أن أهل "دومة الجندل" كانوا يكتبون ويقرءون، وأن أهل مكة إنما تعلموا الكتابة من أحدهم. وورد أن قومًا من "طيء" تعلموا الكتابة والقراءة من كاتب الوحي لهود. وذكر أن "بشر بن عبد الملك" السكوني، أخو "أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن" السكوني الكندي صاحب دومة الجندل، وكان نصرانيًّا، يأتي الحيرة فيقيم بها الحين، تعلم الخط العربي من أهل الحيرة، ثم أتى مكة في بعض شأنه، فرآه "سفيان بن أمية بن عبد شمس" و"أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب" يكتب فسألاه أن يعلمهما الخط، فعلمهما الهجاء، ثم أراهما الخط، فكتبا. ثم إن بشرًا وسفيان وأبا قيس أتوا الطائف في تجارة فصحبهم "غيلان بن سلمة الثقفي"، فتعلم الخط منهم، وفارقهم بشر ومضى إلى ديار مضر، فتعلم الخط منه "عمرو بن زرارة بن عدس" فسمي عمرو الكاتب. ثم أتي بشر الشأم، فتعلم الخط منه ناس هناك5.

وتعلم الخط من الثلاثة الطائيين: "مرامر بن مرة"، و "أسلم بن سدرة"، و "عامر بن جدرة"، الذين وضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية، فتعلمه منهم أهل الأنبار –رجل من طابخة كلب، فعلمه رجلًا من أهل وادي القرى، فأتي الوادي يتردد، فأقام بها، وعلم الخط قومًا من أهلها6.

وقد وصف الشاعر "أبو ذؤيب" الهذلي كاتبًا من اليمن وهو يكتب كتابًا، ولم يكن خط هذا الكاتب بالقلم العربي، قلم أهل مكة، وإنما كان بقلم أهل اليمن وهو المسند. وذلك كما يظهر من تعابير هذا الشاعر الواردة في شعره إذ يقول:

1 الأغاني "2/ 180".

2 الشعر والشعراء "1/ 91".

3 ابن هشام "2/ 87 وما بعدها".

4 الأغاني "16/ 22 وما بعدها"، المرتضى، أمالي "1/ 136".

5 فتوح البلدان "456"، "أمر الخط".

6 فتوح البلدان "457"، "أمر الخط".

ص: 111

عرفتُ الديار كرَقْم الدوا

ة يزبره الكاتب الحميري

برقم ووشي كما زخرفت

بميشمها المزدهاة الهدي

أدان وأنبأه الأولو

ن أن المدان المليُّ الوفيّ

فنمنم في صحف كالريا

ط فيهن إرث كتاب محيّ1

وهي قصيدة عدتها أربعة عشر بيتًا، ذكر في أولها دروس الديار وطموسها إلى أن رثى ابن عمه "نشيبة" بخمس أبيات من آخرها2.

ويظهر من هذه الأبيات أن ذلك الكاتب الحميري كان يكتب بالحبر الموجود في دواة على شيء يصلح للكتابة عليه كأديم أو قرطاس، ولم يكن يستعمل المزبر المعمول من حديد لنقش الحروف على الحجر. وهذا مما يدل على أن أهل العربية الجنوبية كانوا يكتبون على مواد الكتابة الأخرى بالحبر والقلم، فِعْل أهل مكة وأهل الحيرة ودومة الجندل.

وذكر أهل الأخبار أيضًا، أن رجلين من "بني نهد بن زيد" يقال لهما:"حزن" و"سهل" كانا يكتبان ويقرآن. وكانا قد زارا "الحارث بن مارية" الغساني، وكانا عندهما حديث من أحاديث العرب، ولهما ظرافة وأدب وصحبة، فنزلا منزلًا طيبًا من قلب الحارث، فحسدهما "زهير بن جناب الكلبي" وكان من ندماء الملك، فأراد إفساد مكانهما عنده، فقال له:"هما يكتبان إليه بعورتك وخلل ما يريان منك"3. يريد إخباره أنهما كانا يتجسسان عليه فيكتبان بأخباره إلى خصمه "المنذر" الأكبر، ملك الحيرة، جدّ النعمان بن المنذر.

وأما عرب بلاد الشأم، فلم يذكر أهل الأخبار شيئًا عن علمهم بالكتابة والقراءة، ولكن ذلك لايمكن أن يكون دليلًا على جهلهم بها. ولا سيما أنهم كانوا على اتصال ببني إرم في بلاد الشأم وبعرب بلاد العراق، ثم إنه يجوز أنهم كانوا يكتبون بقلم بني إرم، على عادة معظم شعوب الشرق الأدنى إذ ذاك،

1 ديوان الهذليين "1/ 64".

2 الخزانة "3/ 291"، "بولاق".

3 الأغاني "5/ 118"، "دار الكتب".

ص: 112

في الكتابة به؛ لأنه كان قلم العلم والثقافة والأدب في ذلك الحين. ثم إننا سمعنا أن ملوكهم المتنصرين كانوا يرأسون مجالس المناظرات في أمور الدين، ويبحثون مع رجال الدين في موضوعات دينية، ويدافعون عن مذهب اليعاقبة في طبيعة المسيح، ومثل هؤلاء الملوك لا يعقل أن يكونوا جهلة أميين لا يقرءون ولا يكتبون.

وقد سبق أن تحدثت عن الكتابات الصفوية وعن كتابات عربية شمالية أخرى، عثر عليها السياح والمستشرقون في مواضع متعددة من "الصفاة" وفي البوادي، كتبت على صخور وهشيم صخور منثور، دل البحث فيها على أنها كتابات أعراب، كان أصحابها يتنقلون من مكان إلى مكان طلبًا للمرعى والصيد.

وتدل تلك الكتابات الصفوية على أن أعراب الجاهلية كانوا في أيام الجاهلية أحسن حالًا من حيث علمهم بالكتابة والقراءة من أعراب هذا اليوم. فالكتابات الصفوية الكثيرة المبعثرة في البوداي، هي كتابات أعراب، متجولين، كانوا يرعون الإبل وبقية الماشية، فكانوا يسلّون أنفسهم بالكتابة والتصوير على الحجارة، بينما لا نكاد نجد بين أعراب هذا اليوم من يكاد يقرأ ويكتب.

كما تحدثت عن كتابات ثمودية، وثمود قوم من لبّ العرب ومادة العرب البائدة الأولى في عرف النسابين، وتحدثت أيضًا عن القلم المسند بلهجاته ولغاته، فهل يصدق بعد هذا قول من زعم أن العرب قبل الإسلام كانوا في جهالة عمياء، لا يقرءون ولا يكتبون.

ولا يعقل أن يكون المذكورون أميين كتبوا للتسلية والتلهية، وأن الأوامر والقوانين التي دوّنها ملوك اليمن قبل الإسلام وأعلنوها للناس بوضعها في المحلات العامة وفي الأماكن البارزة كانت مجرد تدوين أو تزويق وتزيين، لا للإعلان ولإفهام المواطنين بمحتوياتها. إن تدوين تلك الكتابات ووضع الحجارة الفخمة المكتوبة للإعلان، دليل على أن في الناس قومًا يقرءون ويكتبون ويفهمون، وأن الحكومات إنما أمرت بتدوينها لإعلام الناس بمحتوياتها للعمل بها، كما تفعل الحكومات في الوقت الحاضر عند إصدارها أمرًا أو قانونًا بإذاعته بالوسائل المعروفة على الناس للوقوف عليها، وأن من بين الحجارة الصفوية واللحيانية والثمودية المكتوبة، ما هو رسائل وكتب وجهت إلى أشخاص معروفين، كما نفعل اليوم في توجيه الرسائل إلى الأقرباء والأصدقاء.

ص: 113

ووجد عند ظهور الإسلام قوم كانوا يكتبون ويقرءون ويطالعون الكتب بمكة ولهم إلمام بكتب أعجمية، ومن هؤلاء "الأحناف" وقد ذكر عن بعض أنهم كانوا يجيدون بعض اللغات الأعجمية، وأنهم وقفوا على كتب اليهود والنصارى وعلى كتب أخرى. وفي معركة "بدر" اشترط الرسول على من أراد فداء نفسه ولم يكن موسرًا من أهل مكة، أن يعلم عشرة نفر من المسلمين القراءة والكتابة، كما كان من عادة أهل مكة تدوين ما يجمعون عليه وما يلزمون أنفسهم به في صحف يختمونها بخواتمهم وبأسمائهم لتكون شواهد على عزمهم كالذي فعلوه في الصحيفة. وذكر أن أمية بن أبي الصلت كان فيمن قرأ الكتب ووقف عليها1، وذكروا غيره أيضًا.

وذكر أهل الأخبار أن قومًا من أهل يثرب من الأوس والخزرج، كانوا يكتبون ويقرءون عند ظهور الإسلام، ذكروا فيهم: سعد بن زرارة، والمنذر بن عمرو، وأُبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وكان يكتب بالكتابين العربية والعبرية أو السريانية، ورافع بن مالك وأُسيد بن حُضير، ومعنى "معن" بن عدي البلوي، وأبو عبس بن كثير، وأوس بن خولي، وبشير بن سعيد، وسعد بن عُبادة، والربيع بن زياد العبسي، وعبد الرحمن بن جبر، وعبد الله بن أُبي، وسعد بن الربيع، وقد رجعوا أصل علمهم بالكتابة والقراءة إلى قوم من يهود يثرب، مارسوا تعليم الصبيان القراءة والكتابة، دعوهم "بني ماسكة"2. ويظهر -إن صحت هذه الرواية- أن يهود يثرب كانوا يكتبون بالعربية أيضًا، وأنهم كانوا يعلمونها للعرب. وتعرض البلاذري لهذا الموضوع فقال: "كان الكتاب في الأوس والخزرج قليلًا، وكان بعض اليهود قد علم كتاب العربية، وكان تعلمه الصبيان بالمدينة في الزمن الأول، فجاء الإسلام وفي الأوس والخزرج عدة يكتبون"3. ونجد هذا الخبر في موارد أخرى، أخذته دون أن تشير إلى السند، فظهر وكأنه حقيقة مسلمة وخبر متواتر، حتى جاز على المحدثين، فبنوا عليه حكمًا، هو أن الكتاب كان في يثرب قليلًا، حتى جاء الإسلام،

1 المغارف، لابن قتيبة "ص28".

2 صبح الأعشى "3/ 15".

3 البلاذري، فتوح "479".

ص: 114

فانتشر بها، وأنه لو كانت الكتابة منتشرة عندهم، لما كلف الرسول القارئين الكاتبين من أسرى بدر، بأن يعلم كل واحد منهم عشرة من صبيان المدينة القراءة والكتابة، فداء لنفسه من الأسر1.

ويظهر أن يهود يثرب، وربما بقية يهود، مثل يهود خيبر، وتيماء وفدك ووادي القرى، كانوا يكتبون بقلمهم، كما كانوا يكتبون بالعربية، ويظهر من استعمال "البلاذري" جملة:"وكان بعض اليهود قد علم كتاب العربية، وكان تعلمه الصبيان في بالمدينة في الزمن الأول"2، أن يهود يثرب كانوا يكتبون بالعربية، كما كان يكتب بها صبيان المدينة، وكانوا يعلمون الكتابة لصبيان يثرب في مدارسهم. وفي هذا الخبر وأمثاله دلالة على أن الكتابة كانت معروفة بين أهل يثرب أيضًا قبل الإسلام، وأنها كانت قديمة فيهم، ولهذا فلا معنى لزعم من قال: إنها انتشرب بيثرب في الإسلام، وإن الكتابة كانت قليلة بها قبل هذا العهد.

وقصد أهل الأخبار بجملة "وكان بعض اليهود قد علم كتاب العربية، الكتابة بالخط العربي الشمالي، لا بالقلم المسند؛ لأن هذا هو مرادهم من "الكتاب العربي" و"كتاب العربية"، ويظهر أن اليهود قد تعلموا الخط العربي من عرب العراق وبلاد الشأم، أو من التجار والمبشرين الذين كانوا يفدون إلى الحجاز، وأما القلم المسند، الذي هو قلم العرب الجنوبيين، فلم يكن مستعملًا في يثرب، وإلا لأشير إليه، مع أنها من القواعد المتعصبة للقحطانية، وحاملة الدعوة إلى اليمن قبل الإسلام وفي الإسلام، وأن سلطانه كان قد تقلص كثيرًا خارج العربية الجنوبية قبل نزول الوحي على الرسول، وربما كان القلم العربي الشمالي قد دخل العربية الجنوبية أيضًا قبل الإسلام، فأخذ ينافس المسند فيها، ولا سيما في المناطق التي تركزت فيها النصرانية وتحكمت في أهلها، فأخذ النصارى يقاومون ذلك القلم؛ لأنه قلم الوثنية، ويعلّمون أولاد النصارى القلم العربي الشمالي؛ لأنه قلمهم الذي كانوا يعلمون به في كنائس العرب في العراق وفي دومة الجندل وبلاد الشأم.

وقد أطلق العرب على الذي يكتب بالعربية ويحسن العوم والرمي، وقيل الحساب

1 ابن سعد، طبقات "الجزء الثاني، القسم الأول"، "14".

2 البلاذري، فتوح "459"، "المكتبة التجارية".

ص: 115

أيضاً، والجَلَد أي: الشجاعة، وقول الشعر، وأصحاب الشرف والنسب: الكملة. وجمع بعض أهل الأخبار إلى ذلك استواء القامة وكمال الإنسان1. ومن هؤلاء الكلمة: "سعد بن عبادة بن دليم" سيد الخزرج، وهو من أسرة غنية تطعم الفقراء، ولها أطم يأوي إليه الفقراء للأكل. ولما نزل النبي يثرب، كانت جفنة "سعد" تدور مع النبي، وكان يعشي كل ليلة أهل الصفة2.

ومن الكملة: الربيع بن زياد العبسي. وكان هو وإخوته من الكملة3. و "رافع بن مالك"، و"أسيد بن حضير"، و"عبد الله بن أبي"، و"أوس بن خولى"، و"سويد بن الصامت"، و"حضير الكتائب"4.

ويظهر من النظر إلى قائمة أسماء من أدخلهم أهل الأخبار في الكملة، أن الكتابة والرماية والعوم، لم تكن الشروط الأساسية الكافية، لكي يعد الإنسان كاملًا، فقد توفرت هذه الشروط في أناس آخرين، لم يدخلوا مع ذلك في الكملة، وإنما هنالك أشياء أخرى بالإضافة إلى الأمور المذكورة، هي الشرف وكمال الجسم والعقل والامتناع عن الهجر في الكلام، والتحلي بالحكمة وبالفطانة واللب وقول الشعر المحكم الحكيم.

وكان "عبد الرحمن بن جبر"، أبو عبس الأنصاري، يكتب بالعربية قبل الإسلام. ومات سنة أربع وثلاثين5.

وكان "المنذر"، "منذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة بن لوذان" الخزرجي من الكتبة. وكان أحد السبعين الذين بايعوا الرسول، وأحد النقباء

1 المعارف "259"، الأغاني "3/ 25"، "دار الكتب"، ابن سعد، طبقات "3/ 542".

2 ابن سعد طبقات "3/ 613"، الإصابة "2/ 27"، "رقم 3173"، الاستيعاب "2/ 32 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، أسد الغابة "2/ 378"، ابن الأثير، الكامل، "2/ 378"، ابن هشام "2/ 89".

3 أمالي المرتضى "1/ 136، 190"، الأغاني "16/ 22 وما بعدها".

4 فتوح البلدان "459 وما بعدها"، ابن سعد، طبقات "3/ 542"، الإصابة "1/ 98 وما بعدها"، "رقم334"، تفسير الطبري "4/ 23"، الروض الأنف "1/ 265 وما بعدها"، الأغاني "2/ 164"، ابن هشام، سيرة "1/ 265"، "حاشية على الروض".

5 المعارف "326"، "أبو عيسى"، الإصابة "2/ 386"، "رقم 5097"، "4/ 150"، "رقم880".

ص: 116

الاثني عشر. "وكان يكتب في الجاهلية بالعربية"1. قتل يوم بئر معونة.

وكان "أبو جبيرة بن الضحاك" الأنصاري، ممن يكتب. وقد تولى الكتابة للخليفة "عمر"2.

وكان "قيس بن نشبة" عم الشاعر "العباس بن مرداس" السلمي، أو ابن عمه من الكتبة. ذكر أنه كان ممن قرأ الكتب وتأله في الجاهلية. والعباس بن مرداس نفسه كان كاتبًا، ذكر أنه لما سمع أن رجلًا من أهل مكة اشترى إبلًا لقيس بن نشبة فلواه حقه، وأن "قيسًا" قام بمكة يقول:

يا آل فهرٍ كنت في هذا الحرم

في حرمة البيت وأخلاق الكرم

أظلم لا يمنع مني من ظلم

بلغ ذلك "عباس بن مرداس" فكتب إليه أبياتًا منها:

وائتِ البيوت وكن من أهلها مددًا

تلق ابن حرب وتلق المرء عبّاسًا

فقام العباس بن عبد المطلب وأخذ له بحقه، وقال: أنا لك جار ما دخلت مكة، فكانت بينه وبين بني هاشم مودة3.

وفي جملة من كان يكتب ويقرأ من أهل مكة "حرب بن أمية". وإليه ينسب قوم من أهل الأخبار إدخال الكتابة بين قريش. وهو أبو "أبي سفيان بن حرب"، فهو جدّ "معاوية بن أبي سفيان". وورد أن الذي حمل الكتابة إلى قريش بمكة "أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة". فهو ناشر الكتابة على هذه الرواية بين أهل مكة4. والاثنان على رأي أهل الأخبار من أقدم كتّاب مكة إذن، بل هما ناشرا الكتابة بها. وقد ذهب "ابن قتيبة" أن "بشر بن عبد الملك العبادي" علم "أبا سفيان بن أمية"، و"أبا قيس بن عبد مناف بن زُهرة"

1 الاستيعاب "3/ 438 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، الإصابة "3/ 440"، "رقم 8226".

2 الجهشياري "16"، الإصابة "4/ 31"، "رقم 188".

3 الإصابة "3/ 249 وما بعدها"، "7244".

4 الفهرست "ص13"، المعارف "73".

ص: 117

الكتاب، فعلّما أهل "مكة"1. وقد ذكر "السيوطي" عن "أبي طاهر" السلفي في "الطيوريات" بسنده عن "الشعبي"، أنه "قال: أول العرب الذي كتب بالعربية حرب بن أمية بن عبد شمس". تعلم من أهل الحيرة، وتعلم أهل الحيرة من أهل الأنبار2.

ولو أخذنا برأي من قال: إن "حرب بن أمية" أو "أبو سفيان بن أمية"، هما أول من علم أهل مكة الكتابة، نكون قد جعلنا "بني أمية" أول من أدخل القلم إلى مكة، بفضل تعليم "بشر" لهم هذا القلم. ومنهم انتشر بين أهل مكة في عهد غير بعيد عن أيام النبي.

وذكر أن في جملة من كان يكتب قبل الإسلام "عمرو بن عمرو بن عدس"3.

وذكر "ابن النديم" أن "أسيد بن أبي العيص" كان من كتّاب العرب. وذكر أنه كان في خزانة "المأمون" كتاب بخط "عبد المطلب بن هاشم" في جلد أدم، فيه ذكر حق "عبد المطلب بن هاشم" من أهل مكة على فلان بن فلان الحميري، من أهل وزل صنعا عليه ألف درهم فضة كيلًا بالحديدة ومتى دعاه بها أجابه. وكان الخط شبه خط النساء4.

وكان "حنظلة بن أبي سفيان" ممن يحسن الكتابة والقراءة بمكة. فقد ورد في الأخبار أنه كتب من مكة إلى والده "أبو سفيان"، وكان إذ ذاك مع العباس بن عبد المطلب بنجران، يخبره خبر الرسول5. وكان والده يكنى به. وقد قتله "علي بن أبي طالب" يوم "بدر"6.

وكان "بغيض بن عامر بن هاشم" من كتّاب قريش قبل الإسلام. وهو الذي كتب الصحيفة على بني هاشم7. وورد أن "أبا الروم بن عبد شرحبيل" واسمه "منصور بن عكرمة" هو الذي كتب الصحيفة8.

1 المعارف "553".

2 المزهر "2/ 342".

3 المزهر "2/ 351"، "النوع الثاني والأربعون: معرفة الكتابة".

4 الفهرست "13 وما بعدها".

5 الأغاني "6/ 250"، "دار الكتب".

6 نسب قريش "123".

7 كتاب نسب قريش "254".

8 كتاب نسب قريش "255"، الروض الأنف "1/ 219".

ص: 118

وكان "الوليد بن الوليد" وهو أخو "خالد بن الوليد" ممن يكتب ويقرأ، وكان "خالد" ممن يقرأ ويكتب كذلك. وكان الوليد سبب إسلام "خالد". فقد كان قد فر من مكة ولحق بالرسول عمرة القضيّة، وكتب إلى أخيه خالد، أن الرسول قال له:"لو أتانا، لأكرمناه، وما مثله سقط عليه الإسلام في عقله"، فوقع الإسلام في قلب خالد. وكان سبب هجرته1.

وكان "نافع بن ظريب بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف بن قصي" القرشي ممن يكتب. أسلم يوم الفتح. وهو الذي كتب المصاحف لعمر بن الخطاب2، أو المصحف له. وذكر أنه كان يكتب المصاحف، وأنه كتب المصاحف لعثمان3، فيظهر أنه كان من نسّاخ المصاحف، ينسخها للناس.

وكان "حاطب بن أبي بلتعة" من الكتّاب. وكان حليفًا لبني أسد بن عبد العُزى، ويقال: حالف الزبير، وقيل: مولى "عبيد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد". وهو الذي كتب كتابًا إلى أهل مكة يخبرهم بتجهيز رسول الله إليهم، فنزلت فيه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} 4.

وقد شهد مع علي بن أبي طالب على كتاب رسول الله لسلمة بن مالك السلمي، الذي كتب الرسول به إقطاعه ما بين ذات الحناظى إلى ذات الأساود5.

وكان الحكم بن أبي أحيحة سعيد بن العاصي، وهو الذي سمّاه رسول الله "عبد الله" من أولئك الذين أمرهم الرسول أن يعلم الكتاب بالمدينة. وكان كاتبًا قتل يوم "مؤتة"6.

يقول أهل الأخبار: ولما نزل الوحي كان "في قريش سبعة عشر رجلًا كلهم يكتب: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجرّاح، وطلحة، ويزيد بن أبي سفيان، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وحاطب بن عمرو، أخو سهيل بن عمرو العامري من قريش،

1 نسب قريش "324".

2 الاستيعاب "3/ 510"، "حاشية على الإصابة".

3 الإصابة "3/ 515"، "رقم 8658".

4 الإصابة "1/ 299"، "رقم 1538"، المقريزي، إمتاع "1/ 362".

5 ابن سعد، طبقات "1/ 285".

6 نسب قريش "174".

ص: 119

وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وأبان بن سعيد بن العاص بن أمية، وخالد بن سعيد أخوه، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح العامري، وحويطب بن عبد العزى العامري، وأبو سفيان بن حرب بن أمية، ومعاوية بن أبي سفيان، وجهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، ومن حلفاء قريش: العلاء الحضرمي"1.

ولكننا لو أحصينا أسماء من كان يكتب من أهل مكة، ممن نص أهل الأخبار على أسمائهم، وممن لم ينصوا على اسمهم، وإنما ذكروهم عرضًا في أثناء كلامهم عنهم فذكروا أنهم كانوا يكتبون ويقرءون، لوجدنا أن عددهم أكثر بكثير من هذا الرقم المذكور، رقم سبعة عشر كاتبًا، أو بضعة عشر نفرًا2، وهو عدد ورد إليهم على ما يظهر من خبر آحاد، انتشر في الكتب، فصار متواترًا منتشرًا حتى في كتب المؤلفين في هذا اليوم، اتخذوه دليلًا على أمية العرب قبل الإسلام.

وقد استعان الرسول بقوم كتبوا له، أشار العلماء إلى أسمائهم. منهم من كتب له الوحي، فعرفوا من ثم بـ"كتّاب الوحي". ومنهم من كتب له بريده ورسائله، ومنهم من تولى له تدوين المغانم وأمور الزكاة والخرص والصدقة وما إلى ذلك من أمور اقتضاها تطور الظروف والأحوال، ومنهم مثل "زيد بن ثابت" من كتب له بالعربية وبالعبرانية أو السريانية. وذكر أن بعضهم كان مثل زيد يكتب بغير العربية أيضًا. وكان ممن كتب له:"على بن أبى طالب"، و"عثمان بن عفان"، و"معاوية بن أبى سفيان"، و"حنظلة الأسيدي"، و"خالد بن سعيد بن العاص"، و"أبان بن سعيد"، و "العلاء بن الحضرمي"، و"عبد الله بن أبي سرح3".

وروي أن "أول من كتب له أُبي بن كعب، وكان إذا غاب أُبى كتب له زيد بن ثابت"، وكان يكتب في الجاهلية4.

1 فتوح البلدان "457"، "أمر الخط".

2 فتوح البلدان "457"، "أمر الخط"، العقد الفريد "4/ 242".

3 الطبري "3/ 173""ذكر من كان يكتب لرسول الله، صلى الله عليه وسلم"، التنبيه والإشراف" 245 وما بعدها "، الوزراء والكتاب "12 وما بعدها"، العقد الفريد "4/ 246".

4 الطبري "3/ 173"، "دار المعارف"، المعارف "112 وما بعدها".

ص: 120

وجاء في ترجمة أنس بن مالك: أن أمه جاءت به يوم قدم الرسول يثرب وقالت له: "يا رسول الله، هذا ابني وهو غلام كاتب"1. ومعنى هذا أن غلمان يثرب كانوا يقرءون ويكتبون.

وقد ورد في أخبار "بدر" أنه كان في أسرى قريش قوم يقرءون ويكتبون، وقد أمر رسول الله بفك رقاب هؤلاء الأسرى على أن يكون فداؤهم تعليم كل واحد منهم عشرة من صبيان المسلمين الكتابة والقراءة2. وقد علم كل واحد منهم صبيان يثرب الكتابة فانتشرت الكتابة بينهم3.

وذكر أن ممن كتب لرسول الله: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير بن العوام، وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص، وحنظلة الأسيدي، والعلاء بن الحضرمي، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن رواحة، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبى سفيان، وجهيم بن الصلت، ومعيقيب بن أبي فاطمة، وشرحبيل بن حسنة، وعبد الله بن الأرقم الزهري. وذكر أن عدد من كتب للرسول ثلاثة وأربعون كتابًا4.

وأول من كتب للنبي من قريش "عبد الله بن سعد بن أبي سرح"، وأول من كتب له مقدمه المدينة "أُبي بن كعب" وهو أول من كتب في آخر الكتاب: وكتب فلان بن فلان. وهو من كتاب الوحي والرسائل. وقد كان "عبد الله بن الأرقم الزهري" من كتاب الرسائل للرسول، وأما الكاتب لعهوده إذا عهد وصلحه إذا صالح، فعلي بن أبى طالب5. وقد وردت في أواخر بعض كتب الرسول أسماء كتاب تلك الكتب.

وفي طبقات "ابن سعد" صورة كتاب أمر بتدوينه رسول الله لنهشل بن مالك الوائلي من باهلة، كتبه "عثمان بن عفان".

1 ابن سعد، الطبقات الكبرى "7/ 10".

2 طبقات "2/ 1 ص14 ".

3 إمتاع الأسماع "1/ 101 ".

4 الاستيعاب "1/ 30 "، "حاشية علىالإصابة "، الجهشياري، كتاب الوزراء والكتاب "12 وما بعدها "، العقد الفريد "4/ 246".

5 الاستيعاب "1/ 30"، الجهشياري، "13".

6 ابن سعد، طبقات "1/ 284".

ص: 121

وكان "علي بن أبي طالب" من كتّاب الوحي، والكاتب لعهود الرسول إذا عهد، وصلحه إذا صالح1. ذكر أنه تعلم الكتابة وهو صغير، ابن أربع عشرة سنة، تعلمها في "الكتاب"2.

وكان من كتّاب رسول الله الذين كتبوا له الرسائل إلى سادات القبائل يدعوهم فيها إلى الإسلام: خالد بن سعيد بن العاص3، والمغيرة بن شعبة4، ومعاوية5، وعبد الله بن زيد6، وأُبي بن كعب7، وعلي8. وجهيم بن الصلت9، والأرقم بن أبي الأرقم المخزومي10، والزبير بن العوام11، والعلاء بن الحضرمي12، وعقبة13، والعلاء بن عقبة14، وعثمان بن عفّان15، ومحمد بن مسلمة الأنصاري16، وثابت بن قيس بن شماس17.

وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، من كتاب الرسول، وقد كان أول مرتد في الإسلام. ارتد وكان قد خالف في كتابه إملاءه، فأنزل الله فيه آيات من القرآن نهى فيه عن اتخاذه كاتبًا، فهرب، فلما كان يوم "الفتح" التجأ18 إلى "عثمان" أخوه من الرضاعة فأجاره، واستجار له "عثمان" عند النبي فأجاره له. وقد عينه "عثمان" عاملًا على مصر، وافتتح إفريقية، ومات سنة ست وثلاثين،

1 الاستيعاب "1/ 30"، "حاشية على الإصابة".

2 الفصول المختارة، للمفيد "2/ 66"، "النجف".

3 ابن سعد، الطبقات "1/ 265، 271".

4 ابن سعد، الطبقات "1/ 266، 268".

5 ابن سعد، الطبقات "1/ 266، 267".

6 ابن سعد، الطبقات "1/ 267".

7 ابن سعد، الطبقات "1/ 267، 278".

8 ابن سعد، الطبقات "1/ 267".

9 ابن سعد، الطبقات "1/ 268"، الإصابة "1/ 257"، "1256".

10 ابن سعد، الطبقات "1/ 268، 269".

11 ابن سعد، الطبقات "1/ 269".

12 ابن سعد، الطبقات "1/ 269، 271".

13 ابن سعد، الطبقات "1/ 271".

14 ابن سعد، الطبقات "1/ 271، 273".

15 ابن سعد، الطبقات "1/ 284".

16 ابن سعد، الطبقات "1/ 286".

17 ابن سعد، الطبقات "1/ 286".

18 رسائل الجاحظ "2/ 188".

ص: 122

أو سبع وخمسين، أو تسع وخمسين1. وروي أنه كان أول من كتب له من قريش2.

وهناك رواية يرجع سندها إلى "أنس بن مالك"، تذكر أن "رجلًا كان يكتب لرسول -الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا أملى عليه سميعًا عليمًا، كتب سميعًا بصيرًا. وكان قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان من قرأهما قرأ قرآنًا كثيراً، فتنصر الرجل، وقال إنما كنت أكتب ما شئت عند محمد.. قال: فمات"3. ولا نعرف كاتبًا ينطبق عليه هذا الوصف سوى "عبد الله بن سعد بن أبى سرح". فهو المراد بهذه القصة. وهي قصة لا يمكن أن تكون صحيحة؛ لأن ارتداد "عبد الله" إنما كان بمكة، فدليل النص عليه في سورة الأنعام4، وهي سورة مكية، فكيف يكون قد قرأ سورة البقرة وآل عمران، ثم تنصر، وهما سورتان مدنيتان.

وفي "عبد الله" نزلت الآية: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} ، أو قال: أوحي إلي ولم يوح إليه شيء. ومن قال: سأنزل مثل الذي أنزل الله"5، على رأي أكثر المفسرين. "كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم وكان فيما يملي عزيز حكيم، فيكتب غفور رحيم، فيغيره، ثم يقرأ عليه كذا وكذا لما حوّل، فيقول نعم سواء. فرجع عن الإسلام، ولحق بقريش. وقال لهم: لقد كان ينزل عليه عزيز حكيم، فأحوّله ثم أقول لما أكتب، فيقول: نعم سواء. ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة". وورد في رواية أخرى: "وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا أملى عليه سميعًا عليمًا، كتب هو عليمًا حكيمًا، وإذا قال عليمًا حكيمًا، كتب سميعًا عليمًا، فشك وكفر. وقال: إن كان محمد يوحى إليه، فقد أوحي إلي وإن كان الله ينزله، فقد أنزلت مثل ما أنزل الله. قال محمد: سميعًا عليمًا. فقلت أنا: عليمًا حكيمًا.

1 الإصابة "2/ 309"، "رقم 4711".

2 الاستيعاب "1/ 30"، "حاشية على الإصابة"، البلاذري، أنساب "1/ 358"، الجهشياري "13".

3 السجستاني، المصاحف "3".

4 أسباب النزول "165".

5 الأنعام، الآية 93.

ص: 123

فلحق بالمشركين، ووشى بعمّار وجبير عند ابن الحضرمي، أو لبني عبد الدار، فأخذوهم فعذّبوا"1.

وورد في رواية أخرى: "كان قد تكلم بالإسلام فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم يكتب له شيئًا، فلما نزلت الآية التي فى المؤمنين: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} . أملاها عليه، فلما انتهى إلى قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًاآخَرَ} ، عجب عبد الله في تفصيل الإنسان، فقال: تبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت عليّ، فشك عبد الله حينئذ، وقال: لئن كان محمد صادقًا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه، ولئن كان كاذبًا، لقد قلت كما قال. وذلك قوله: ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله. وارتد عن الإسلام"2.

وورد أنه كان يقول: كنت أصرف محمدًا حيث أريد. كان يملي عليّ. عزيز حكيم، فأقول: أو عليم حكيم، فيقول: نعم كلٌّ صواب. فهدر النبي دمه3. وذكر أنه "قال لقريش: أنا آتي بمثل ما يأتي به محمد. وكان يملي عليه الظالمين، فيكتب: الكافرين، يملي عليه سميع عليم، فيكتب: غفور رحيم وأشباه ذلك. فأنزل الله: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا، أو قال أوحي إليّ، ولم يوح إليه شيء. ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله. فلما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله بقتله، فكلمه فيه عثمان بن عفان، فأمر رسول الله بتركه4.

وقد ذكر "الجاحظ" أنه "كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فخالف في كتابة إملائه. فأنزل الله فيه آيات من القرآن نهى فيه عن اتخاذه كاتبًا، فهرب حتى مات بجزيرة العرب كافرًا5". والصحيح أنه هرب، فلما كان يوم الفتح أمن النبى الناس إلا أربعة نفر وامرأتين. عكرمة، وابن خطل، ومقيس بن صبابة، وابن أبى سرح، فأما عبد الله فاختبأ عند عثمان، فجاء به حتى

1 تفسير الطبري "7/ 180 وما بعدها".

2 أسباب النزول "165".

3 المعارف "130 وما بعدها"، إمتاع الأسماع "1/ 393".

4 فتوح البلدان "459"، "أمر الخط"، المعارف "300 وما بعدها".

5 ذم أخلاق الكتاب، رسائل الجاحظ "2/ 188".

ص: 124

أوقفه على النبي، وهو يبايع الناس، فاستجار له عثمان، فأجاره. وعاش وشهد فتح مصر مع "عمرو بن العاص"، وأمَّره "عثمان" على مصر. واختلف في وفاته، فقيل مات سنة "36هـ" وقيل عاش إلى سنة تسع وخمسين. وكان أخًا لعثمان في الرضاعة1.

وكان "جهيم بن الصلت بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي"، ممن تعلم الخط في الجاهلية، فجاء الإسلام وهو يكتب، وقد كان كتب لرسول الله2. ذكر أنه كان هو و"الزبير بن العوّام" يكتبان أموال الصدقات3. وهو الذي كتب كتاب الرسول إلى "يحنة بن رؤبة" بتبوك، وكتابه ليزيد بن الطفيل الحارثي4.

وذكر اسم "الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي" في جملة من كتب للرسول. ففي طبقات ابن سعد، أنه كتب له كتابه لعبد يغوث بن وعلة الحارثي5، وكتابه لعاصم بن الحارث الحارثي6، وكتابه للأجب، رجل من "بني سُليم"7. وكان اسمه "عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم"، ويكنى "أبا عبد الله". كان من السابقين الأولين، قيل أسلم بعد عشرة، وقيل قبل ذلك. وكان رسول الله يجلس في داره التي على "الصفا"، حتى تكاملوا أربعين رجلًا، وكان آخرهم إسلامًا "عمر" فلما تكاملوا أربعين رجلًا خرجوا، وأقطعه النبي دارًا بالمدينة8.

و"عبد الله بن الأرقم بن أبي الأرقم" من كتاب الرسول كذلك. كان يجيب عنه الملوك، وبلغ من أمانته عنده أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك

1 الإصابة "2/ 309"، "رقم4711"، أسد الغابة "3/ 173"، الاستيعاب "1/ 381".

2 الإصابة "1/ 257"، "رقم1256"، فتوح البلدان "459"، "أمر الخط". الاستيعاب "1/ 249"، "حاشية على الإصابة".

3 المسعودي، التنبية "245"، "كتاب من حضر من الكتاب".

4 ابن سعد، طبقات "1/ 268".

5 ابن سعد، طبقات "1/ 268".

6 ابن سعد، طبقات "1/ 269".

7 ابن سعد، طبقات "1/ 273 وما بعدها".

8 الإصابة "1/ 42 وما بعدها"، "رقم 73".

ص: 125

فيكتب ويختم ولا يقرأه لأمانته عنده. "قال عمر: كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتاب. فقال لعبد الله بن الأرقم الزهري: أجب هؤلاء عني. فأخذ عبد الله الكتاب فأجابهم، ثم جاء به، فعرضه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصبت. قال عمر: فقلت: رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم- بما كتبت، فما زالت في نفسي يعني حتى جعلته على بيت المال"1. وكتب لأبي بكر وعمر، وكان على بيت المال أيام عمر، وكان أميرًا عنده. وذكر أنه كان إذا غاب عن الرسول، وغاب زيد بن ثابت، واحتاج الرسول أن يكتب إلى أحد أمر من حضر أن يكتب. فمن هؤلاء عمر وعلي وخالد بن سعيد والمغيرة2.

وكان عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث الزهري، والعلاء بن عقبة، يكتبان بين الناس المداينات وسائر العقود والمعاملات3. وذكر أن "عبد الله بن الأرقم" الزهري، كان من المواظبين على كتابة الرسائل عن النبي4.

وكان "حنظلة بن الربيع بن صيفي" الأسيدي، من كتاب الرسول، وقد نعته الطبري بـ"كاتب النبي"5. وعرف بـ"الكاتب". وهو من "بني أسيد"، وبنو أسيد من أشراف تميم. وهو ابن أخي "أكثم بن صيفي"حكيم العرب6. وقد عرف بـ"حنظلة الكاتب"7. وذكر أنه كان "خليفة كل كاتب من كتّاب النبي، إذا غاب عن عمله، فغلب عليه اسم الكاتب. وكان يضع عنده خاتمه، وقال له: الزمني، وأذكرني بكل شيء لثالثة. فكان لا يأتي على مال ولا طعام ثلاثة أيام إلا أذكره، فلا يبيت رسول الله وعنده شيء منه". ومات بمدينة الرها8.

1 الإصابة "2/ 265"، "رقم 4525"، نزهة الجليس "2/ 65".

2 الإصابة "2/ 265"، "رقم 4525".

3 المسعودي، التنبيه "245".

4 الاستيعاب "1/ 30"، "حاشية على الإصابة".

5 الطبري "3/ 570""دار المعارف"، المعارف "299 وما بعدها".

6 الاستيعاب "1/ 278"، "حاشية على الإصابة".

7 فتوح البلدان "459"،الإصابة "1/ 359"، "رقم 1859".

8 الجهشياري "13".

ص: 126

ومن كتّاب الرسول: "شرحبيل بن حسنة" الطابخي. ويقال الكندي1، ويقال التميمي2. وهو ممن سيره "أبو بكر" في فتوح الشأم. وكان أميرًا على ربع من أرباع الشأم لعمر بن الخطاب، وقد مات في طاعون "عمواس".

وكان "خالد بن سعيد بن العاص""خالد بن سعيد بن العاصي" ممن كتب للرسول. كتب له كتابه إلى "بني عمرو بن حمير"3. وهو من السابقين الأولين. وقد استعمله الرسول على صدقات مذحج4 وعلى صنعاء، فلم يزل عليها إلى أن مات رسول الله5. وكان له إخوة هما: أبان وعمرو بن سعيد بن العاص، وكانا ممن عملا للرسول. فلما توفي الرسول، رجعا مع خالد عن أعمالهم، فخرجوا إلى الشأم6، وفي جملة ما كتبه خالد، كتاب الرسول لبني أسد7، وكتابه للعدّاء بن خالد بن هوذة ومن تبعه من عامر بن عكرمة8، وكتابه لراشد بن عبد السلمي، وكتابه لحرام بن عبد عوف من "بني سُليم"9، وكتابه لبني غاديا، وهم قوم من يهود، وكتابه لبني عريض، قوم من يهود10، وكتابه لثقيف11، وكتابه لسعيد بن سفيان الرعليّ12.

وكان "أبان بن سعيد بن العاص""العاصي"، وهو أخو خالد، ممن أسلم بعد هجرة الرسول إلى يثرب. ويقال أيام خيبر. وكان هو الذي تولى إملاء مصحف عثمان على زيد بن ثابت، يوم جمعه في خلافة عثمان، أمرهما بذلك عثمان. وذلك في رواية من جعله حيًّا إلى أيام الخليفة "عثمان". وزعم في

1 فتوح البلدان "459"، "أمر الخط".

2 الإصابة "2/ 141"، "رقم 3869"، الاستيعاب "2/ 138 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 265"، الجهشياري "12".

4 الإصابة "1/ 406"، "رقم 2167"، الاستيعاب "1/ 398 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".

5 الاستيعاب "1/ 400"، "حاشية على الإصابة".

6 الإصابة "2/ 532"، "رقم 5848"، الاستيعاب "1/ 400".

7 ابن سعد، طبقات "1/ 270".

8 ابن سعد، طبقات "1/ 273".

9 ابن سعد، طبقات "1/ 274".

10 ابن سعد، طبقات "1/ 279".

11 ابن سعد، طبقات "1/ 284".

12 ابن سعد، طبقات "1/ 285".

ص: 127

روايات أخرى أنه قتل يوم أجنادين سنة ثلاث عشرة، أو يوم اليرموك. وقيل قتل يوم مرج الصفر. وذكر في رواية أنه توفي سنة سبع وعشرين في خلافة عثمان1.

وكان "طلحة" من الكتبة2. وهو أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الستة أصحاب الشورى. وكان تاجرًا، وكان عند وقعة بدر في تجارة في الشأم. ولما قدم المدينة آخى النبي بينه والزبير3. وذكر أنه آخى بينه وبين "كعب بن مالك" حين آخى بين المهاجرين والأنصار. وكان من الأغنياء، كانت غلته ألفًا وافيًا كل يوم. والوافي وزنه وزن الدينار، وعلى ذلك وزن دراهم فارس التي تعرف بالبغلية4.

والزبير بن العوّام في جملة من كتب للرسول. كتب له كتابه لبني معاوية بن جرول الطائيين5.

و"أبو عبيدة بن الجراح"، من هذه الجماعة الكاتبة القارئة. وهو من الأوائل الذين دخلوا في الإسلام، كان إسلامه قبل دخول النبي دار "الأرقم"، وقد آخى الرسول بينه وبين "سعيد بن معاذ"6.

و"العلاء بن الحضرمي"، وهو "عبد الله بن عماد"، وكان أبوه قد سكن مكة وحالف حرب بن أمية، وكان للعلاء عدة إخوة منهم:"عمرو بن الحضرمي"، وهو أول قتيل من المشركين وماله أول مال خمس في المسلمين، وبسببه كانت وقعة بدر. وقد استعمل النبي "العلاء" على البحرين7. وهو الذي كتب للرسول كتابه لبني معن الطائيين8، وكتابه لأسلم من خزاعة9. وكان

1 الإصابة "1/ 24"، "رقم2".

2 المزهر "2/ 351".

3 الإصابة "2/ 220"، "رقم 4266".

4 الاستيعاب "2/ 210 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".

5 ابن سعد، طبقات "1/ 269".

6 الإصابة "2/ 243"، "رقم 4400"، الاستيعاب "3/ 2"، "حاشية على الإصابة".

7 الإصابة "2/ 491"، "رقم 5644".

8 ابن سعد، طبقات "1/ 269"، "صادر".

9 ابن سعد، طبقات "1/ 271".

ص: 128

أخوه "ميمون بن الحضرمي" صاحب بئر "ميمون" التي بأبطح مكة، احتفرها في الجاهلية. وذكر "المسعودي" أن العلاء ربما كتب بين يدي النبي مع "أبان بن سعيد"1.

و"يزيد بن أبي سفيان" أخو "معاوية" من الكتاب كذلك توفي سنة "18" أو "19" للهجرة2. وهو ممن أسلم يوم الفتح. وقد كان عمر قد استخلفه على "الشأم" بعد وفاة "معاذ"، فلما مات استخلف أخاه "معاوية"3.

وكان "معاوية بن أبي سفيان" من كتبة الرسول. وذكر أنه كان "من الكتبة الحسبة الفصحاء"4. ومعنى هذا أنه كان يتقن الكتابة والحساب. ولم يذكر من ذكر سيرته متى تعلم الكتابة. ولا أستبعد أن يكون قد تعلمها بمكة قبل دخوله في الإسلام. وهو ممن ولد قبل الإسلام وأسلم عام الفتح. فتكون كتابته للرسول إذن بعد هذا العام. ومن كتبه التي كتبها للرسول كتابه لربيعة بن ذي مرحب الحضرمي5، وكتابه لبني قرة بن عبد الله بن أبي نجيح النبهانيين6، وكتابه لعتبة بن فرقد7، وكتابه لوائل بن حجر لما أراد الشخوص إلى بلاده8.

وذكر "المسعودي" أن "معاوية" كتب للرسول قبل وفاته بأشهر9.

و"المغيرة بن شعبة" من دهاة العرب وشياطينهم. أسلم قبل عمرة الحديبية. وكان يقال له "مغيرة الرأي". وكان رسول "سعد" إلى "رستم"، أصيبت عينه باليرموك، وروي أنه كان أول من وضع ديوان البصرة، وأول من سلم

1 التنبيه "246".

2 الإصابة "3/ 619"، "رقم 9267".

3 الاستيعاب "3/ 612"، "حاشية على الإصابة".

4 الإصابة "3/ 412 وما بعدها"، "رقم 8070" الاستيعاب "3/ 375 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، الجهشياري "12".

5 ابن سعد، طبقات "1/ 266".

6 ابن سعد، طبقات "1/ 267".

7 ابن سعد، طبقات "1/ 285".

8 ابن سعد، طبقات "1/ 287".

9 المسعودي، التنبيه "246".

ص: 129

عليه بالإمرة1. وهو الذي كتب كتاب رسول الله إلى أهل نجران2. وكتابه ليزيد بن المحجل الحارثي. وكتابه لبني قنان بن ثعلبة من بني الحارث3، وكتابه لبني جُوين الطائيين، وكتابه لعامر بن الأسود بن عامر بن جوين الطائي4، وكتابه لبني الجُرمز بن ربيعة، وهم من جهينة5. وذكر أنه والحصين بن نمير كانا يكتبان ما بين الناس6.

و"معيقيب" ابن أبي فاطمة، من "ذي أصبح" وقيل من "بني سدوس". وكان حليفًا لبني عبد شمس. أسلم بمكة. وقد ولاه "عمر" بيت المال، ثم كان على خاتم "عثمان"7. وورد أنه كان حليف بني أسد، وكان يكتب مغانم رسول الله8.

وكان "عقبة بن عامر بن عبس" الجهني الصحابي المشهور من الكتاب. وصف بأنه "كان قارئًا عالمًا بالفرائض والفقه، فصيح اللسان، شاعرًا كاتبًا، وهو أحد من جمع القرآن". وعثر على مصحفه بمصر على غير تأليف مصحف "عثمان""وفي آخره: كتبه عقبة بن عامر بيده"9. ونجد في طبقات "ابن سعد" صورة كتاب أمر الرسول بكتابته لعوسجة بن حرملة الجهني في آخره: "وكتب عقبة وشهد"10.

وجاء في خبر ضعيف أنه كان للرسول كاتب يقال له "السجل"، وكاتبًا يقال له: "ابن خطل، يكتب قدام النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا نزل: غفور رحيم، كتب رحيم غفور، وإذا نزل: سميع عليم، كتب عليم سميع. وفيه: فقال ابن خطل: ما كنت أكتب إلا ما أريد، ثم كفر ولحق بمكة.

1 الإصابة "3/ 432"، "رقم 8181".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 266"، "صادر".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 268"، "صادر".

4 الطبقات "1/ 269"، "صادر".

5 ابن سعد، طبقات "1/ 271".

6 الجهشياري "12".

7 الإصابة "3/ 430"، "رقم 8166".

8 الجهشياري "12".

9 الإصابة "2/ 482"، "رقم 5603".

10 ابن سعد، طبقات "1/ 271".

ص: 130

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قتل ابن خطل، فهو في الجنة". فقتل يوم الفتح وهو متعلق بأستار الكعبة"1. وهذا وهم، وقد خلط صاحب هذا الخبر بين "عبد الله بن أبي سرح" وبين "ابن خطل" الذي لم يرد في الأخبار أنه كتب للرسول.

وذكر "ابن دحية" أن في "بني النجار" كاتبًا كان يكتب الوحي للرسول ثم تنصر2. وهو خبر لا نجده في الموارد الأخرى، ولم ينص على اسم الكاتب، والأغلب في نظري أنه من الأخبار الموضوعة، وضع على بني النجار للإساءة إليهم، وضعه من كان يتحامل عليهم.

ويظهر أن كتّاب الرسول قد وزعوا الأعمال الكتابية فيما بينهم، أو أن الرسول هو الذي وزع تلك الأعمال عليهم، بحيث خصص كل واحد منهم بعمل من الأعمال. فقد روي أن عليًّا وعثمان كانا يكتبان الوحي فإن غابا كتب أُبي بن كعب وزيد بن ثابت. وأن خالد بن سعيد بن العاص ومعاوية يكتبان بين يديه في حوائجه، وأن المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير يكتبان ما بين الناس. وأن عبد الله بن الأرقم والعلاء بن عقبة يكتبان بين القوم في قبائلهم ومياههم وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء. وأن زيد بن ثابت يكتب إلى الملوك مع ما كان يكتبه من الوحي. وأن معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي يكتب مغانم رسول الله. وأن حنظلة بن الربيع "ربيعة" بن المدقع بن أخي أكثم بن صيفي الأسدي "الأسيدي"، خليفة كل كاتب من كتّاب النبي، إذا غاب عن عمله فغلب عليه اسم الكاتب. وكان يضع عنده خاتمه. وقال له: الزمني وأذكرني بكل شيء لثالثة. فكان لا يأتي على مال ولا طعام ثلاثة أيام أذكره، فلا يبيت رسول الله وعنده شيء منه3. فهو كاتب عام يكتب للرسول في كل أموره، وهو خليفة كل الكتّاب. ولهذا غلبت عليه لفظة "الكاتب". وقد كانت وفاته في خلافة "عمر"، ومات في "الرها" من بلاد مضر4.

1 ابن سيد الناس، عيون الأثر "2/ 316".

2 ابن سيد الناس، عيون الأثر "2/ 316".

3 الجهشياري "12 وما بعدها"، المسعودي، التنبيه "245"، المعارف "130".

4 المسعودي، التنبيه "246"، المعارف "130".

ص: 131

وذكر أن "المغيرة بن شعبة" و"الحصين بن نمير" يكتبان أيضًا فيما يعرض من حوائجه1.

و"حذيفة بن اليمان""توفي سنة 36هـ" ممن يكتب خرص النخل2. وخصص "المسعودي" عمله بخرص الحجاز3.

وذكر "عبد الله بن زيد" الضمري في جملة كتّاب رسول الله إلى الملوك4. ونجد في طبقات "ابن سعد" صورة كتاب أرسله رسول الله "لمن أسلم من حدَسٍ من لحم"، كتبه له "عبد الله بن زيد"5.

وكان "العلاء بن عقبة" فيمن كتب للنبي. وذكر أن الرسول كان يبعثه والأرقم في دور الأنصار. وكانا يكتبان بين الناس المداينات والعهود والمعاملات6. وفي جملة ما كتبه للرسول كتابه لبني شَنْخ من جهينة7، وكتابه للعباس بن مرداس السلمي، أنه أعطاه "مدفوًا"8. وذكر أنهما كانا يكتبان بين القوم في قبائلهم ومياههم، وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء9.

و"أُبي بن كعب بن قيس" من كتّاب الوحي، وهو من يثرب من "بني النجار" من الخزرج. وقد عرف بـ"سيد القراء"، وكان أقرأ الناس للقرآن. وكان أحد فقهاء الصحابة وأقرأهم لكتاب الله. وكان ممن كتب للنبي قبل "زيد بن ثابت" ومعه أيضًا. وذكر أنه كان أول من كتب لرسول الله مقدمه المدينة، وأول من كتب في آخر الكتاب:"وكتب فلان" وكان إذا لم يحضر دعا رسول الله "زيد بن ثابت" فكتب. وكان وزيد يكتبان الوحي

1 المسعودي، التنبيه "245"، نهاية الأرب "18/ 236 وما بعدها".

2 المعارف "114"، نهاية الأرب "18/ 236".

3 المسعودي، التنبيه "245".

4 الإصابة "2/ 305"، "رقم 4690".

5 الطبقات "1/ 266 وما بعدها".

6 الإصابة "2/ 491 وما بعدها"، "رقم 5649".

7 ابن سعد، طبقات "1/ 271".

8 ابن سعد، طبقات "1/ 273".

9 الجهشياري "12".

ص: 132

بين يدي الرسول، ويكتبان كتبه إلى الناس وما يقطع وغير ذلك1. ونجد في طبقات ابن سعد، صور كتب دوّنها أُبي للرسول، منها كتابه لخالد بن ضماد الأزدي، وكتابه لعمرو بن حزم، وهو عهد يعلمه فيه شرائع الإسلام وفرائضه وحدوده، حيث بعثه إلى اليمن2، ومنها كتابه لجنادة الأزدي3، وكتابه للمنذر ابن ساوى، وكتابه إلى "العلاء بن الحضرمي"، بشأن إرسال ما تجمع عنده من الصدقة والعشور4، وكتابه لجمّاع في جبل تهامة، كانوا قد غصبوا المارة من كنانة والحكم والقارة ومن اتبعهم من العبيد5، وكتابه لبارق من الأزد. وقد شهد على صحته أبو عبيدة بن الجراح وحذيفة بن اليمان6.

وزيد بن ثابت من الأنصار، من "بني النجار". ولما قدم الرسول المدينة استكتبه، فكتب له الوحي، كما تولى له أمر كتابة الرسائل. ذكر أنه تعلم الكتابة على أسرى "بدر" في جماعة من غلمان الأنصار. فقد "كان فداء الأسرى من أهل بدر أربعين أوقية أربعين أوقية، فمن لم يكن عنده علّم عشرة من المسلمين، فكان زيد بن ثابت ممن عُلّم". وذكر أنه جاء إلى أبيه وهو يبكي، فقال: ما شأنك؟ قال: ضربني معلمي، قال: الخبيث يطلب بذحل بدر، والله لا تأتيه أبدًا7.

وروي أنه في السنة الرابعة من الهجرة أمر الرسول زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود، وقال: لا آمن أن يبدّلوا كتابي8. فتعلم كتابهم، وتولى أمر كتابة رسائل الرسول إليهم، والرد على رسائلهم9. ونسب إليه إتقانه الكتابة بلغات أخرى. ذكر المسعودي منها: الفارسية والرومية والقبطية والحبشية. وأنه تعلم

1 الاستيعاب "1/ 27 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، الإصابة "1/ 31". "رقم 32"، فتوح البلدان "458"، "أمر الخط".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 267"، المعارف "261".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 270".

4 ابن سعد، طبقات "1/ 276".

5 ابن سعد، طبقات "1/ 278".

6 ابن سعد، طبقات "1/ 286 وما بعدها".

7 إمتاع الأسماع "1/ 101"، الطبقات "2/ 14"، الجهشياري "12".

8 إمتاع الأسماع "1/ 187، 194"، السجستاني، المصاحف "3".

9 فتوح البلدان "473 وما بعدها".

ص: 133

ذلك بالمدينة من أهل هذه الألسن، وكان يكتب إلى الملوك ويجيب بحضرة النبي ويترجم له1 وقيل: إنه كان من أعلم الصحابة بالفرائض2. وكان هو الذي تولى قسم غنائم اليرموك. وتولى جمع القرآن في أيام أبي بكر، بتكليف من الخليفة. وذكر أنه كان "رأسًا بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض"3. وقد عرض زيد القرآن على رسول الله، "وكان آخر عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم_ القرآن على مصحفه، وهو أقرب المصاحف إلى مصحفنا"4.

وكان حين قدم رسول الله المدينة ابن إحدى عشرة سنة. وكان يوم "بعاث" ابن ست سنين وفيه قتل أبوه. ويظهر أنه كان قد تعلم الكتابة وهو صغير. ذكر أنه أتي بزيد النبي مقدمه المدينة، فقيل: هذا من بني النجار وقد قرأ سبع عشرة سورة، فقرأ عليه فأعجبه ذلك فقال: تعلم كتاب يهود، فإني ما آمنهم على كتابي. فتعلمها، وتولى الكتابة بالعبرانية أو السيريانية بين الرسول واليهود، فضلًا عن كتابة رسائله وما ينزل عليه من الوحي حين يكون عنده. لذلك عدّ من البارزين في قراءة القرآن. وبرز في القضاء والفتوى والفرائض، وعدّ من أصحاب الفتوى، وهم ستة: عمر وعليّ وابن مسعود وأُبي وأبو موسى، وزيد بن ثابت. وهو الذي جمع القرآن5.

وهو الذي جمع القرآن في عهد "أبي بكر"، وقد اختلف في سنة وفاته، فقيل مات سنة اثنتين أو ثلاث أو

خمس وأربعين، وقيل سنة إحدى أو اثنتين، أو خمس وخمسين. وفي خمس وأربعين قول الأكثر. وذكر أن حسان رثاه بقوله:

1 التنبيه "246"، فتوح البلدان "479"، السجستاني، المصاحف.

تقييد العلم "51".

2 الاستيعاب "1/ 29"، "حاشية على الإصابة".

3 الإصابة "1/ 543 وما بعدها"، "رقم 2880"، الاستيعاب "1/ 532"، "حاشية على الإصابة".

4 المعارف "260".

5 الإصابة "1/ 543"، "رقم 2880"، "الاستيعاب "1/ 532"، "حاشية على الإصابة"، نزهة الجليس "2/ 65"، أسد الغابة "2/ 221 وما بعدها".

ص: 134

فمن للقوافي بعد حسان وابنه

ومن للمعاني بعد زيد بن ثابت1

وعهد رسول الله إلى "زيد" إحصاء الناس والغنائم، وتقسيمها عليهم حسب حصصهم2.

وكان "ثابت بن قيس بن شماس" الأنصاري ممن كتب للرسول. كتب له كتابه لوفد ثُمالة والحدّان. وقد شهد على الكتاب ووقع عليه "سعد بن عبادة"، و"محمد بن مسلمة"3. وكان خطيب الأنصار. وقد قتل يوم اليمامة4. وهو الذي أمره الرسول أن يجيب على خطاب خطيب "تميم" ولسانها الناطق "عُطارد بن حاجب". فكان خطيب المسلمين5.

و"محمد بن مسلمة"، هو من الأوس. ولد قبل البعثة، وهو أول من سُمي في الجاهلية محمدًا. أسلم قديمًا على يدي "مصعب بن عمير"، وآخى الرسول بينه وبين "أبي عبيدة". واستخلفه الرسول على المدينة في بعض غزواته. وقد كتب للرسول كتابه لمهري بن الأبيض. توفي سنة "43" أو "46هـ"6.

وكان "أوس بن خولي" من كتّاب يثرب، ولما كان صلح "الحديبية" وأراد الرسول تدوين الصلح "دعا أوس بن خولي يكتب، فقال سهيل: لا يكتب إلا ابن عمك عليّ، أو عثمان بن عفان، فأمر عليًّا فكتب"7. وهو من الخزرج. ولما آخى الرسول بين الأنصار والمهاجرين آخى بينه وبين شجاع بن وهب8. وكان من "الكملة"، ولما قبض الرسول وأرادوا غسله، حضرت

1 الإصابة "1/ 544"، "رقم 2880"، الطبري "2/ 421"، "مطبعة الاستقامة بالقاهرة"، تهذيب الأسماء واللغات، للنووي "1/ 200 وما بعدها"، تهذيب التهذيب، للعسقلاني "3/ 399"، "حيدر آباد 1325هـ"، اليعقوبي "2/ 157، 195"، "هوتسما"، ابن هشام، سيرة "3/ 11"، "مطبعة حجازي بالقاهرة".

2 إمتاع الأسماع "1/ 426".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 286"، "1/ 354"، "صادر".

4 الإصابة "1/ 197"، "رقم 904".

5 الطبري "3/ 116"، "قدوم وفد تميم ونزول سورة الحجرات".

6 الإصابة "3/ 363 وما بعدها"، "رقم 7808"، ابن سعد، طبقات "1/ 286"، "1/ 355"، "صادر".

7 إمتاع الأسماع "1/ 296".

8 الإصابة "1/ 95 وما بعدها"، "رقم 334".

ص: 135

الأنصار، وأبت على المهاجرين إلا أن يحضر منها أحد، فقيل لهم: اجتمعوا على رجل منكم، فاجتمعوا على أوس بن خولي، فحضر غسل رسول الله ودفنه مع أهل بيته. وتوفي في خلافة عثمان1.

وكان "عبد الله بن رواحة" الخزرجي من كتّاب الرسول ومن الشعراء المعروفين بيثرب ومن السابقين الأولين من الأنصار وأحد النقباء ليلة العقبة. وكان الرسول يقول له: "عليك بالمشركين"، فينظم الشعر فيهم. وكان يناقض "قيس بن الخطيم" في حروبهم، ولما دخل الرسول مكة في عمرة القضاء كان ابن رواحة بين يديه، وهو يقول:

خلّوا بني الكفار عن سبيله

اليوم نضربكم على تأويله

ضربًا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

ومدح الرسول، وكان من جيد مدحه له قوله:

لو لم تكن فيه آيات مبينة

كانت بديهته تنبيك بالخبر2

وذكر بعض أهل الأخبار أنه لم نزلت: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} . قال عبد الله بن رواحة: قد علم الله أني منهم، فأنزل الله:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا 3 وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 4. وسورة الشعراء التي فيها آية: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} وما بعدها، من السور التي نزلت بمكة إلا هذه الآية وما بعدها، وهي أربع آيات في آخرها، نزلت بالمدينة في شعراء الجاهلية، ثم استثنى منهم شعراء المسلمين منهم: حسان بن ثابت وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، فقال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} ، فصار الاستثناء ناسخًا له من قوله والشعراء يتبعهم الغاوون5.

1 الاستيعاب "1/ 49"، "حاشية على الإصابة".

2 الإصابة "2/ 298 وما بعدها".

3 في الإصابة "أن الذين"، وهو غلط مطبعي.

4 الشعراء، الآية 224 وما بعدها.

5 الناسخ والمنسوخ لابن سلامة "ص151 وما بعدها"، "حاشية على أسباب النزول"، "القاهرة 1315هـ".

ص: 136

وهناك كتبة آخرون كتبوا الكتاب والكتابين والثلاثة للرسول، ذكر "المسعودي" أنه لم يثبت أسماءهم في جملة أسماء من كتب للرسول؛ لأنه لم يكتب من أسماء كتاب الرسول إلا من ثبت على كتابته واتصلت أيامه وطالت مدته وصحت الرواية على ذلك من أمره دون من كتب الكتاب والكتابين والثلاثة إذ كان لا يستحق بذلك أن يسمى كاتبًا ويضاف إلى جملة كتابه1.

وذكر أن كتّاب النبي كانوا يكتبون بالخط المقور، وهو النسخي. أما الخط "المبسوط" ويُسمى باليابس، فقد استعمل في النقش على الأحجار وأبواب المساجد وجدران المباني، وفي كتابة المصاحف الكبيرة، وما يقصد به الزينة والزخرف، وغلب عليه إطلاق لفظ "الكوفي"2.

وكان بشير بن كعب العدوي ممن قرأ الكتب3. وذكر أنه كان من التابعين4. وكان "عبد الله بن عمرو بن العاص" ممن قرأ الكتب، وكان يكتب الحديث بين يدي رسول الله، ويقرأ بالسريانية5.

وذكر أهل الأخبار أن رجلًا من أهل اليمن كان يقرأ الكتب، وأن امرأة اسمها "فاطمة بنت مرّ"، كانت قد قرأت الكتب كذلك6.

وكان من النساء من يحسن القراءة والكتابة. منهن: "الشّفاء بنت عبد الله بن عبد شمس" القرشية العدوية. من رهط "عمر"7. أسلمت قبل الهجرة، وهي من المهاجرات الأول. وكانت من عقلاء النساء، وكان "عمر" يقدمها في الرأي. وكان رسول الله يزورها ويقيّل عندها في بيتها، وكانت قد اتخذت له فراشًا وإزارًا ينام فيه. وقد أمرها الرسول أن تعلم "حفصة" الكتابة، فعلمتها،

1 المسعودي، التنبيه "246".

2 حفني بك ناصف "61 وما بعدها".

3 بضم أوله مصغرًا، الإصابة "1/ 183"، "رقم 822".

4 الإصابة "1/ 177"، "رقم 778".

5 المعارف "287"، الإصابة "2/ 343"، "4847"، الاستيعاب "2/ 338 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".

6 الروض الأنف "1/ 104".

7 فتوح البلدان "477 وما بعدها"، "458"، "المكتبة التجارية".

ص: 137

كما علمتها "رقية" تسمى "رقية النملة"1. وقد تعلمت الكتابة في الجاهلية2. وكانت "حفصة" زوج النبي وابنة "عمر" تكتب3. وكانت "أم كلثوم" بنت "عقبة" تكتب4. وكذلك كانت "عائشة بنت سعد"، و"كريمة بنت المقداد"5، و"شميلة"6.

وورد أن "عائشة" زوج الرسول، أنها كانت تقرأ المصحف ولا تكتب7. ولا شك في أنهما تعلمتا القراءة في الإسلام.

وورد في بعض الأخبار أن العرب كانت تسمي كل من قرأ الكتب أو كتب: صابئًا. وكانت قريش تسمى النبي أيام كان يدعو الناس بمكة ويتلو القرآن صابئًا8.

وقد اشتهر أهل اليمن بشيوع الكتابة والقراءة فيهم، فكان غلمانهم يتعلمونها ويرددون قراءة ما يكتبون ويقرءون وقد أشير إلى ذلك في شعر "لبيد" فورد:

فنعاف صارة فالقنان كأنها

زبر برجعها وليد يمان

متعود لحنٌ يعيد بكفه

قلمًا على عُسب ذبلن وبان9

والزبر: الكتب، فقال: كأن تلك المنازل، كتب يرددها وليد يمان، أي: غلام يمانٍ؛ لأن الكتاب فيهم؛ لأنهم أهل ريف. متعود لذلك: فهِمٌ، ولحِنٌ: بمعنى فهم، يعيد بكفه قلمًا، يكتب في العسب والبان. وكانوا يكتبون في العسب والبان والعرعر10. فيظهر من ذلك أن أهل اليمن، حتى غلمانهم، كانوا يكتبون، ويردد الأطفال الكتب، لحفظها ولتعلمها، على نحو ما يفعلون في الكتاتيب هذا اليوم.

1 الإصابة "4/ 333"، "رقم 622".

2 فتوح البلدان "458"، "أمر الخط".

3 فتوح البلدان "458"، "أمر الخط".

4 فتوح البلدان "458"، "أمر الخط".

5 فتوح البلدان "458"، "أمر الخط".

6 البلاذري، أنساب "1/ 137"، الإصابة "4/ 335"، "رقم 632".

7 فتوح البلدان "458"، "أمر الخط".

8 الإكليل "1/ 44".

9 شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري، "تحقيق الدكتور إحسان عباس"، "ص138"، "طبعة الكويت 1962".

10 المصدر نفسه.

ص: 138

ويظهر أن ثقيفًا كانت قد حذقت الكتابة وبرزت بها. فقد ورد أن عمر بن الخطاب قال: "لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف"، وأن عثمان بن عفان قال:"اجعلوا المملي من هذيل والكاتب من ثقيف"1. وذكر أن "غيلان بن سلمة بن معتب"، وهو ممن أسلم يوم الطائف، كان كاتبًا كما كان معلمًا2.

وورد في الأخبار أن الجاهليين كانوا يضعون الكتب التي ترسل إلى الملوك من الآفاق، على لوح ضمت إلية ألواح من جوانبه، فلا تمسها إلا يد الملك، يأخذ ما يشاء ويترك ما يشاء ويجيب على ما فيها. وفي هذا الخبر دلالة على شيوع الكتابة والمراسلات عند الجاهليين، وعلى وجود ديوان خاص لدى الملوك، يتولى النظر في المراسلات. وفي هذا المعنى ورد في شعر لبيد:

أو مذهبٌ جدد على ألواحـ

هن الناطق المبروز والمختوم3

ويظهر أن قومًا من الشعراء كانوا يكتبون ويقرءون. ومنهم من كان على ثقافة وعلم. ورد في شعر للشاعر "لبيد" قوله:

وجلا السيولُ عن الطلول كأنها

زُبر تجدّ متونها أقلامها4

ولا يمكن صدور هذا البيت، إلا من رجل كاتب له ذكاء حاد، وربما كان ذلك الشاعر كاتبًا يدوّن شعره ويحفظه عنده، فوصفه مثل هذا للطلول، لا يمكن أن يقال إلا من رجل له علم بالكتابة، وحذق ودراية.

وفي البيت الآتي:

فمدافع الريّان عُرّي رسمها

خلقًا كما ضمن الوحي سِلامها

إشارة إلى الكتابة كذلك، فالوحي هو الكتابة، والسِّلام الحجارة، أي: كان

1 ابن فارس، الصاحبي "28".

2 المحبر "475".

3 شرح ديوان لبيد "ص119".

4 شرح ديوان لبيد "ص299"، بلوغ الأرب "3/ 367 وما بعدها".

ص: 139

ما بقي من رسمها بعد أن عريت، مثل ما يبقى من الكتابة في الأحجار1. ويؤخذ من ذلك أن الحجارة كانت –كما ذكرت في مواضع من هذا الكتاب– مادة من مواد الكتابة عند الجاهليين.

وفي شعر لبيد:

فنعاف صارة فالقنان كأنها

زُبر يرجعها وليد يمان

مُتعود لحنٌ يعيد بكفّه

قلمًا على عُسب، ذبلن وبان2

دلالة واضحة على إلمامه بالكتابة والقراءة، وعلى وقوفه على خط أهل اليمن، "على دراسة غلمان اليمن للزبر، وهي الكتب.

بل ورد: أن لبيدًا كان يدوّن شعره، ويهذبه بعد كتابته، وأنه كان يكتب. روي:"أن عمر بعث إلى المغيرة بن شعبة، وهو على الكوفة، يطلب إليه أن يستنشد من قبله من شعراء الكوفة ما قالوه في الإسلام. فأجابه الأغلب، ورد عليه لبيد قائلًا: إن شئت ما عفى عنه –يعني الجاهلية -فقال: لا، أنشدني ما قلت في الإسلام. فانطلق، فكتب سورة البقرة في صحيفة، ثم أتى بها، وقال: أبدلني اللهُ هذه في الإسلام مكان الشعر. فكتب المغيرة بذلك إلى عمر، فنقص عطاء الأغلب خمس مئة، وجعلها في عطاء لبيد"3.

وكان الشاعر "المرقش"، وهو من شعراء الحيرة، كاتبًا قارئًا، تعلم الكتابة والقراءة في "الحيرة" مع أخيه "حرملة" عند رجل من أهل الحيرة4. وكذلك كان الشاعر "لقيط بن يعمر الإيادي" كاتبًا قارئًا. وقد عرف بين أهل الأخبار بـ"صحيفته" التي أرسلها إلى قومه "إياد"، ينذرهم فيها بعزم "كسرى" على غزوهم، وهي قصيدة افتتحت بهذا البيت:

1 شرح ديوان لبيد "ص297".

2 شرح ديوان لبيد "ص138".

3 شرح ديوان لبيد "ص28، 36"، الأغاني "15/ 131".

4 الأغاني "6/ 130"، المفضليات "459 وما بعدها".

ص: 140

سلام في الصحيفة من لقيط

إلى من بالجزيرة من إياد1

ويجب ألا ننسى الشاعر: "أمية بن أبي الصلت" الذي لم يكن كاتبًا قارئًا فحسب، بل كان واقفًا على كتب أهل الكتاب كذلك، وكان يقرأها، ويقتبس منها، وقد استخدم في شعره ألفاظًا ذكر أنه أخذها من كتب أهل الكتاب2.

ونضيف إلى من تقدم: "الزبرقان بن بدر"3، و"النابغة الذبياني"4 و"الربيع بن زياد العبسي"5، و"لبيد بن ربيعة العامري"6، و"كعب بن زهير بن أبي سلمى"7.

ودعوى أن الجاهليين كانوا أميين وعلى الفطرة والبديهة، لا يحسنون كتابة وقراءة خلا نفر بمكة وأشخاص بيثرب، دعوى باردة سخيفة، لا يمكن لمن له إلمام بأحوال الجاهلية أن يصدق بها. فأهل الأخبار الذين يروون هذه الرواية، يعودون فيخطئون أنفسهم، بسرد أسماء رجال من جزيرة العرب ومن العراق وبلاد الشأم، ذكروا أنهم كانوا يقرءون ويكتبون، بل ذكروا أكثر من ذلك، ذكروا أن منهم من كان يقرأ العبرانية أو السريانية، كالأحناف، ثم إنهم يذكرون أخبار مراسلات سادات القبائل في مختلف مواضع جزيرة العرب مع الرسول، ومكاتبة مسيلمة مع النبي وتأليفه كتابًا زعم أنه وحي نزل عليه من السماء مثل ما نزل على الرسول، فهل يعقل بعد ذلك، قول قائل: إن العرب كانوا أميين، خلا نفر. وقد رأينا أنهم تركوا آلاف الكتابات باللهجات العربية

1 ابن قتيبة، الشعر والشعراء "1/ 152"، الأغاني "20/ 24"، مختارات ابن الشجري "2 وما بعدها".

2 ابن هشام، سيرة "1/ 48"، الأغاني "3/ 123"، "3/ 121 وما بعدها"، "4/ 129"، ابن قتيبة، المعارف "28"، ابن سعد، الطبقات "5/ 376"، المزهر "2/ 309".

3 الأغاني "3/ 180".

4 البغدادي، الخزانة "2/ 392 وما بعدها".

5 الأغاني "16/ 22 وما بعدها"، أمالي المرتضى "1/ 136".

6 ابن قتيبة، الشعر "233 وما بعدها"، الخزانة "2/ 215".

7 ابن قتيبة، الشعر "1/ 91"، جمهرة أشعار العرب "24".

ص: 141

الجنوبية وبالثمودية واللحيانية والصفوية، بل قد نجد الكتابة في بعض قبائل الجاهلية مثل قبائل الصفاة، أكثر اتساعًا وانتشارًا مما عليه الحال بين قبائل هذا اليوم.

وبعد، فالأمية الجماعية التي فرضها أهل الأخبار على الجاهليين، فجعلوهم أميين مائة بالمائة، لم تكن أمية صحيحة، وإنما جاءت من وهم في فهم المراد من المواضع التي أشرت إليها من القرآن، بدليل مناقضة أهل الأخبار أنفسهم، بذكر أسماء من ذكرناهم وممن لم نذكرهم ممن كان يقرأ ويكتب بهذا القلم العربي الذي دوّن به القرآن. وبدليل ما أوردته من أقوال المفسرين في الأمية، من أنها الوثنية، لا الأمية بمعنى الجهل بالكتابة والقراءة حتمًا، لعدم انسجام هذا المعنى مع تفسير الآيات، ثم إن القرآن الكريم حين تعرض للأمية، بمعنى عدم القراءة والكتابة، قال:{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ، وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} 1. فعبر بذلك تعبيرًا مبينًا عن معنى عدم القراءة والكتابة، بأفصح عبارة، فقال: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} ، ولو كانت الأمية بهذا المعنى لما أهمل ذكرها في هذا المكان. ومن ذلك الوهم جاءت الأحاديث الضعيفة من أنه كان من أمة أمية لا تحسب ولا تكتب، ولعاطفة دينية، شددوا في أمية العرب، فجعلوها جميعًا أميين، لإظهار معجزة للرسول –هو في غنى عنها –في أنه ظهر بالنبوة في أمة أمية، وجاء من الله بأحسن بيان، وهي حجة له على أهل الكتاب والمشركين.

وبعد، فقد فهمنا من روايات أهل الأخبار، أن أهل مكة إنما تعلموا الكتابة في عهد غير بعيد عن الإسلام. فهل يعني هذا أنهم لم يكونوا يحسنون الكتابة والقراءة قبل هذا العهد أبدًا؟ والذي أراه أن ذلك شيء غير معقول، وأن أهل مكة كانوا يكتبون ويقرءون، كانوا يكتبون بالمسند، القلم الذي كتب به أكثر أهل جزيرة العرب قبل الإسلام، بدليل ما نقرأه في كتب أهل الأخبار من زعمهم أن أهل مكة كانوا يجدون بين الحين والحين كتابات مدونة بالمسند في مقبرة

1 العنكبوت، الآية "46 وما بعدها".

ص: 142

مكة القديمة وفي مواضع أخرى منها، وفي عثور الناس على هذه الكتابات دلالة على أن سكان مكة كانوا يكتبون بالمسند أو بأقلام مشتقة منه، ولا يعقل عدم استعمال أهل الحجاز لهذا القلم، وقد وجدنا أنه والأقلام المشتقة منه، قد كونت قلم أهل هذه البلاد قبل الإسلام، والظاهر أنهم وجدوا أن القلم الذي كان يكتب به النبط وبقية العرب، مثل عرب الحيرة، كان أسهل استعمالًا ومرونة من القلم المسند البطيء الحركة، وأنه لا يأخذ حجمًا كبيرًا بالقياس إلى الخط العربي الجنوبي، لذلك فضلوه على هذا القلم، واستعملوه عوضًا عنه، دون أن يجروا عليه تحويرًا أو تغييرًا، لإصلاح ما فيه من خلل، فلما جاء الإسلام، أجرى عليه ما أجرى من تحوير وتغيير وتطوير.

ص: 143