الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذكر أن "عمر بن الخطاب" قال: "أيها الناس، إنه قد بلغني أنه ظهرت في أيديكم كتب، فأحبّها إلى الله أعدلها وأقومها، فلا يبقين أحدٌ عنده كتاب إلا أتاني به، فأرى فيه رأيي. فظنوا أنه يريد أن ينظر فيها، ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف؛ فأتوه بكتبهم. فأحرقها بالنار"1. ويظهر أن هذه الكتب هي من كتب أهل الكتاب، فعندنا أخبار عديدة تذكر حصول الصحابة على كتب كثيرة وقعت إليهم في الغزوات والحروب التي جرت في بلاد الشأم.
وقد ورد في شعر بعض الشعراء الجاهليين ما يفيد وقوف أصحاب ذلك الشعر على كتب أهل الكتاب. كالزبور و"خط زبور" و"مصاحف الرهبان" و"التوراة" و"المجلة"، أي: الإنجيل وأمثال ذلك، مما يدل على أنهم كانوا قد وقفوا على خبرها وشأنها، وأن اليهود والنصارى وهم عرب على اليهودية والنصرانية كانوا يتداولونها فيما بينهم، باعتبار أنها كتبهم المقدسة2.
وقد وجد المسلمون مصاحف لليهود في مستوطناتهم فيها التوراة وفيها كتبهم الأخرى. فذكر أن المسلمين لما فتحوا "خيبر""وجمعت مصاحف فيها التوراة، ثم ردت على اليهود"3.
وأنا لا أستبعد احتمال ترجمة الكتاب المقدس بقسميه، كلًّا أو جزءًا منه إلى العربية، فقد كان اليهود -كما سبق أن قلت- يفسرون ليهود يثرب ولعربها التوراة وكتبهم الدينية بالعربية، كما كان المبشرون يفسرونه بالعربية، وقد رأيت أن قريشًا اتهموا الرسول بأنه كان يستمع إلى رجل نصراني، ويأخذ منه. وأنهم ذكروا أن الأحناف كانوا يقرءون التوراة والإنجيل، وأن عرب العراق كانوا يدرسون في الكنائس والأديرة بالعربية، فلا أستبعد احتمال وجود ترجمات عربية للكتب الدينية قبل الإسلام، تلفت لأسباب عديدة، منها أنها لم تكن إسلامية، ولأسباب أخرى، فلم تصل إلينا لذلك.
وقد ورد في بيت شعر يُنسب إلى "بشر بن أبي خازم"، ذكر كتاب كان عند بني تميم، إذ جاء فيه.
1 تقييد العلم "52".
2 خزانة الأدب "3/ 11"، ديوان السموأل "12"، اللسان "12/ 113""صادر".
3 إمتاع الأسماع "1/ 323".
وجدنا في كتاب بني تميم
…
أحق الخليل بالركض المعار1
ولو أخذنا بظاهر العبارة، دل البيت على وجود كتاب عند بني تميم، قد يكون صحيفة وقد يكون كتابًا مؤلفًا من صفحات. ولو أخذنا بالتأويل وقلنا معناه: وجدنا هذه اللفظة مكتوبًا، أن أحق الخيل بالركض المعار، انتفى وجود كتاب لديهم2. وقد نسب هذا البيت إلى "الطرماح بن حكيم"، وهو شاعر إسلامي. وإذا صح أن هذا البيت هو من شعر الطرماح، جاز أخذ لفظة "كتاب" بالمعنى الحقيقي، إذ كانت الكتب معروفة في هذا الوقت.
وجاء في كتاب "إمتاع الأسماع"، أن الرسول "كتب هذه السنة المعاقل والديات، وكانت معلقة بسيفه"3. وأشار الطبري إلى هذه الصحيفة بقوله: "وقيل: إن هذه السنة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم المعاقل فكان معلّقًَا بسيفه"4، والسنة المشار إليها هي السنة الثانية من الهجرة. والخبر أشبه ما يكون بخبر "الصحيفة" المنسوبة إلى "علي بن أبي طالب"، فقد ورد في "صحيح البخاري":"عن أبي جحيفة، قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فَهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر". وورد أنها "كانت معلقة بقبضة سيفه. إما احتياطًا أو استحضارًا"، وورد "فأخرج كتابًا من قراب سيفه"5. ويكاد يكون الخبر واحدًا، فالصحيفة صحيفة المعاقل والديات، وموضعها في الخبرين السيف، معلقة به، أو في قرابه. ويظهر من روايات أخرى أن فيها أحاديث عن الرسول: مثل: المدينة حرام ما بين عاثر إلى كذا، فمن أحدث حدثًا أو آوى محدثًا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس
1 المفضليات "98"، الموشح "179"، تاج العروس "3/ 434"، "عبر".
2 "فمعناه وجدنا هذه اللفظة مكتوبة"، المرزباني، الموشح "179".
3 المقريزي، إمتاع الأسماع "1: 107".
4 الطبري "2/ 486".
5 إرشاد الساري "1/ 203 ومابعدها".
أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومن والى قومًا بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل". وورد أنه كان فيها أشياء من الجراحات وأسنان الإبل1.
ولم نجد في الأخبار ما يفيد أن الصحابة كانوا على علم بصحيفة النبي، ولو كانت للرسول صحيفة فيها أحكام المعاقل والديات، كان الرسول قد علقها على سيفه، دلالة على اهتمامه بها، لما سكت عنها الصحابة، مع ما لها من الأهمية بالنسبة لإصدار الأحكام؛ ولأنها يجب أن تكون المرجع المطاع الثاني بعد القرآن. ولذلك فإنا أشك في أمر هذه الصحيفة، وفي صحيفة الإمام كذلك المأخوذة من كلام الرسول، ولو كانت صحيفة الإمام، هي صحيفة الرسول نفسها، صارت إليه بعد وفاته، لما سكتت الأخبار من الإشارة إليها وعن انتقالها إلى "عليّ" لما لها من أهمية، ولا سيما بالنسبة إلى الشيعة الذين يفتشون عن هذه الأمور باعتبارها منقبة تضاف إلى مناقب الإمام، وحجة في إثبات إمامته واعتماد الرسول عليه وحده. ولو كانت الصحيفة صحيفة الإمام، دوّنها بنفسه، معتمدًا على حديث الرسول، وكانت عنده معلقة بسيفه، حرصًا عليها، لتكون معه وتحت متناول يده، يراجعها متى شاء، فلا يعقل أن تكون مقتصرة على المعاقل والديات وأسنان الإبل، وهي أمور يعرفها الإمام، وهو فقيه، ومرجع من مراجع الإفتاء، دون حاجة إلى أن يكتبها في صحيفة يحرص على حملها معه معلقة بسيفه، ثم إنها إذا كانت على هذه الأهمية بالنسبة للإمام، لما تركها أصحابه، فلم ينقلوها بالنص والحرف، وهي أخطر وثيقة، مع أنهم رووا عنه أحاديث كثيرة، حتى نسب الناس له خطبًا وأشياء لا يصح صدورها منه. ومنها صحيفة تسمى:"الصحيفة الكاملة، أو زبور آل محمد وإنجيل أهل البيت"2.
ورأيي: أن ما ورد من أن الخليفة "أبو بكر" كان يمتلك صحيفة فيها حديث الرسول3، هو خبر غير صحيح كذلك، ولو كانت لديه صحيفة، لما خفي أمرها عن الصحابة، فلم يحفظوها ولم ينقلوا عنها. وأما ما ورد من أمر صحيفة
1 الكافي للكليني "85"، الإرشاد "258"، أبو رية، أضواء على السُّنة المحمدية "94 وما بعدها".
2 بروكلمن "1/ 183".
3 الذهبي، تذكرة الحفاظ "1/ 5".
"عبد الله بن عمرو بن العاص"، المسماة بالصحيفة الصادقة، وما كتب فيها من حديث الرسول، ومن إنه قد جمع ألف مثل من أمثال الرسول1، وما ورد من صحيفة "همام بن منبه"، المسماة بالصحيفة الصحيحة، فقد بحث في أمر هذه الصحف العلماء2.
وقد عدّ "الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان" التميمي المجاشعي، في جملة علماء العرب وحكامهم. قال عنه بعض العلماء:"وكان عالم العرب في زمانه"3. كان عالمًا بالنسب وبأخبار الناس، ولهذا كانوا يتنافرون إليه. وكان شريفًا في الجاهلية والإسلام. وقد حكم في المنافرة التي وقعت بين "جرير بن عبد الله" البجلي، وبين "خالد بن أرطاة" الكلبي. وكان "خالد" زعيم "قضاعة" يومئذ، فنفر "الأقرع" جريرًا على خالد، بمضر وربيعة4. وكان من المؤلفة قلوبهم5.
والنسب هو من أهم المعارف التي عرف بها أهل الجاهلية. وهو علم يرتقي إلى عهد بعيد عن الإسلام من دون شك، لما له من تماس مباشر بحياتهم الاجتماعية وبنظمهم السياسية؛ ولأنه الحماية بالنسبة إلى الجاهلي في تلك الأيام. وأستطيع أن أدخل في علم النسب، العلم بأنساب الخيل، فقد عنوا بالخيل عناية كبيرة، وحفظوا أنسابها، ووضعوا شجرات أنساب لها. كما عنوا بأنساب الإبل، لما هذا النسب من صلة بالأصالة وبسعر بيعها وشرائها. ونجد في الأخبار ما يشير إلى وجود أناس تخصصوا بحفظ نسبها.
والنسّاب: العالم بالنسب، وهو النسّابة. أدخلوا الهاء للمبالغة والمدح. "وفي حديث أبي بكر، رضي الله عنه: وكان رجلًا نسّابة، النسّابة: البليغ العالم بالأنساب"6.
1 الإصابة "2/ 343"، "رقم 4847"، الاستيعاب "2/ 338 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
2 مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، المجلد الثامن والعشرين "1953".
3 الخزانة "3/ 296"، "بولاق".
4 الخزانة "3/ 296 وما بعدها"، "بولاق".
5 الإصابة "1/ 72"، "رقم 231".
6 اللسان "1/ 756"، "نسب".
والنسب: نسب القرابات. يكون بالآباء، ويكون بالقبائل، ويكون إلى البلاد، ويكون في الحرف والصناعة1.
وقد نبغ بين القبائل والقرى أناس تخصصوا بحفظ النسب، منهم من برع في حفظ نسب قبيلته، ومنهم من برع في حفظ أنساب جملة قبائل، وممن اشتهر وعرف من قريش بحفظ النسب وبالعلم به، "أبو بكر". وكان علمه بعلم الأنساب، ثم بأمور الناس، ثم الشعر. قيل: إنه "كان أنسب قريش لقريش وأعلمهم بما كان منها من خير أو شر"، وقيل: إنه كان أنسب العرب، وأعلم قريش بأنسابها، وأنسب هذه الأمة2. و"كانت قريش تألف منزل أبي بكر رضي الله عنه لخصلتين: العلم والطعام"3. ولما أمر الرسول حسّان بن ثابت بالردّ على شعراء قريش قال له: "إئت أبا بكر، فإنه أعلم بأنساب القوم منك". فكان يمضي إلى أبي بكر ليقفه على أنسابهم". فلما سمعت قريش شعر "حسّان"، قالت:"إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة"4. ولما مرّ بالناس في معسكرهم بالجرف، جعل ينسب القبائل5.
وكان "جبير بن مطعم بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف"، وهو أحد أشراف قريش وحلمائها من علماء النسب في قريش، وكان ممن أخذ النسب من أبي بكر. وكان ممن يؤخذ عنه النسب لقريش وللعرب عامة6.
وعرف "أبو جهم بن حذيفة" القرشي العدوي بعلمه بالنسب، وكان من المعمرين في قريش. عاش في الجاهلية وأدرك الإسلام. وكان من مشيخة قريش وصحب النبي7. وكان أحد الأربعة الذين كانت قريش تأخذ عنهم النسب8.
1 اللسان "1/ 755"، "نسب" تاج العروس "1/ 483"، "نسب".
2 الإصابة "2/ 334"، "رقم 4817"، البيان والتبيين "1/ 318".
3 البيان والتبيين "4/ 76".
4 الاستيعاب "1/ 335"، "حاشية على الإصابة".
5 الفائق في غريب الحديث "1/ 184".
6 الإصابة "1/ 277"، "رقم 1091"، الاستيعاب "1/ 232"، "حاشية على الإصابة"، كتاب نسب قريش "201"، البيان والتبيين "1/ 318"، تاج العروس "6/ 44"، "ألف".
7 نسب قريش "369".
8 الإصابة "4/ 35"، "رقم 207".
ومنهم: "مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف". وقد أخذ عنه النسب. وكان عالمًا بأنصاب الحرم1. قال عنه "أبو عبد الله المصعب بن عبد الله الزبيري": "وكان له سر وعلم، وكان يؤخذ عنه النسب"2، وقد أرسله "عمر" مع "سعيد بن يربوع"، و"أزهر بن عبد عوف"، و"حويطب بن عبد العزى" لتجديد أنصاب الحرم، فجددوها، ويقال: إن "عثمان" بعثهم كذلك. وهو راوي خبر قصة استسقاء "عبد المطلب"، وما ورد فيه من الشعر3.
قال "الجاحظ": "أربعة من قريش كانوا رواة الناس للأشعار، وعلماؤهم بالأنساب والأخبار: مخرمة بن نوفل بن وهب بن عبد مناف بن زُهرة، وأبو الجهم بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عوف، وحويطب بن عبد العزى، وعقيل بن أبي طالب. وكان عقيل أكثرهم ذكرًا لمثالب الناس، فعادوه لذلك، وقالوا فيه وحمقوه"4. و"حويطب" من مسلمة الفتح ومن المؤلفة قلوبهم5. ومات زمان معاوية، وهو ابن عشرين ومائة سنة وباع من معاوية دارًا بالمدينة بأربعين ألف دينار6. وتوفي سنة "54هـ"7.
وروي أن غنائم الحيرة لما وصلت الحيرة وفيها سيف النعمان بن المنذر، استدعى "عمر""جبيرًا"، فسأله عن نسب "النعمان" فقال له: إنه أشلاء قنص بن معد. فأعطاه سيفه، وذكر أنه كان أنسب العرب، وعنه أخذ "سعيد بن المسيب" النسب8.
ومن نسابي قريش "عقيل بن أبي طالب". ولما وضع "عمر" الديوان، استعان بعقيل ومخرمة، وجبير في ترتيب عطاء الناس على منازلهم، فبدءوا ببني هاشم9. وعقيل هو أخ "علي بن أبي طالب"، ذكر أنه "كان عالمًا بأنساب
1 الإصابة "3/ 370"، "رقم 7842".
2 نسب قريش "262".
3 الإصابة "3/ 370"، نكث الهميان "287".
4 البيان والتبيين "2/ 323".
5 البيان والتبيين "2/ 323".
6 نسب قريش "425 وما بعدها".
7 الإصابة "1/ 363"، "رقم 1882".
8 الإصابة "1/ 227"، "رقم 1091"، الاستيعاب "1/ 232 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، الفائق "1/ 608 وما بعدها"، البيان والتبيين "1/ 303".
9 ابن سعد، المجلد الثالث، الجزء الأول "212".
قريش ومآثرها ومثالبها، وكان الناس يأخذون ذلك عنه بمسجد المدينة"، فهو من شيوخ العلم الذين نصبوا أنفسهم لتعليم الأنساب والمآثر والمثالب. قيل: "كان في قريش أربعة يتحاكم الناس إليهم في المنافرات: عقيل، ومخرمة، وحويطب، وأبو جهم. وكان عقيل يعد المساوي، فمن كانت مساويه أكثر يقر صاحبه عليه، ومن كانت محاسنه أكثر يقره على صاحبه"1، ونظرًا لتكلمه مع الناس وتحدثه عن مساويهم فقد عودي وحمق2.
وقد صار مسجد الرسول في المدينة موضع دراسة للمسلمين، فقد رأينا "حسان بن ثابت"، هو ينشد الشعر فيه، وهذا "عقيل" يعلم الناس الأنساب فيه، وهناك غيرهما من كان يعلم الناس في هذا المسجد.
وممن عرف واشتهر بعلم النسب، وأخذ النسب عن الجاهليين، دغفل السدوسي من بني شيبان، وعميرة أبو ضمضم، وابن لسان الحمرة من بني تيم اللات، وزيد بن الكيس النمري، والنخار بن أوس القضاعي، وصعصعة بن صوحان، وعبد الله بن عبد الحجر بن عبد المدان، وعبيد بن شريه وغيرهم3.
وذكر عن "دغفل بن حنظلة" النسّابة السدوسي الشيباني، أنه كان عالمًا بالعربية والأنساب والنجوم، وقد اغتلبه النسب. وقد أعجب به "معاوية" لما سأله أمورًا كثيرة في هذه العلوم4. ولا بد وأن يكون قد أخذ علمه ممن أدرك الجاهلية من رجال، وممن عاصر الرسول. وذكر أنه و"زيد بن الكيس" النمري، كانا ممن أثارا أحاديث عاد وجرهم، ولذلك قال فيهما الشاعر:
أحاديث عن أبناء عادٍ وجرهم
…
يثورها العضان زيد ودغفل5
وروي أن معاوية "قال لدغفل بن حنظلة النسّابة. بمَ ضبطت ما أرى؟
1 الإصابة "2/ 487"، "رقم 5630".
2 البيان والتبيين "2/ 324"، نكث الهميان "200".
3 الإصابة "1/ 464"، "رقم 2399"، البيان والتبيين "1/ 118"، بلوغ الأرب "3/ 196"، التمدن الإسلامي "3/ 40 وما بعدها"، الفهرست "137 وما بعدها"، البيان والتبيين "1/ 322 وما بعدها".
4 الإصابة "1/ 464"، "رقم 2399"، الاستيعاب "1/ 467".
5 العسكري، جمهرة "2/ 113"، "رقم 1358"، الميداني "2/ 24".
قال: بمفاوضة العلماء. قال: وما مفاوضة العلماء؟ قال: كنت إذا لقيت عالمًا أخذت ما عنده، وأعطيته ما عندي"1. وذكر أن "أبا بكر"، سأل قومًا من "ربيعة" عن نسبهم، وفيهم "دغفل"، وكان غلامًا إذ ذاك، فلما انتهى أبو بكر من استجوابهم، سأله "دغفل" عن نسبه، فأفحمه2.
وقد اشتهر "دغفل" في النسب، حتى ضرب به المثل في النثر وفي الشعر بسعة علمه به، وقد ذكره "الفرزدق" بقوله:
أوصى عشية حين فارق رهطه
…
عند الشهادة في الصحيفة دغفل
أن ابن ضبّة كان خير والدًا
…
وأتم في حسب الكرام وأفضل3
ونجد اسمه في شعر شعراء آخرين4.
وكان ممن أدرك النبي، ولم يسمع منه. واسمه "الحجر بن الحارث" الكناني، ودغفل لقب له5.
وكان "صحار" العبدي من النسابين البلغاء، وله مع "دغفل" محاورات. وكان من المقربين إلى معاوية ومن المطالبين بدم "عثمان"6.
و"صعصعة بن صوحان" العبدي، وكان مسلمًا في عهد رسول الله ولم يره. وشهد صفين مع "علي"، وكان خطيبًا فصيحًا، له مع معاوية مواقف. "قال الشعبي: كنت أتعلم منه الخطب"7. وله إخوة، منهم "سيحان بن صوحان" العبدي، كان أحد الأمراء في قتال في أهل الردة8 ومنهم "زيد بن صوحان" وكان سيدًا في قومه، وقد شهد الجمل مع "علي"9.
1 الفائق "2/ 304".
2 الفائق "3/ 84".
3 النقائض "1/ 198".
4 ديوان القطامي "31"، البيان والتبيين "1/ 322 وما بعدها".
5 الفهرست "137"، "المقالة الثالثة".
6 الإصابة "1/ 170"، "رقم 4041".
7 الإصابة "2/ 192"، "رقم 4130".
8 الإصابة "2/ 102"، "رقم 3630".
9 الإصابة "1/ 565 وما بعدها"، "رقم 2997".
ومن نسابي "كلب": "محمد بن السائب" الكلبي، وابنه "هشام بن محمد بن السائب"، و"شرقي بن القطامي"1، و"الشرقي بن القطامي"، اسمه "الوليد بن الحصين"، وقد اتهم بالكذب2. وقد ذكر "الجاحظ" و"ابن النديم" أسماء عدد ممن عرفوا باشتغالهم بالأنساب.
وقد برز بعض النسابين في ذكر مثالب الناس، وقد كان "عقيل بن أبي طالب" منهم، كما ذكرت. ويذكر أن "زياد بن أبيه" كان أول من ألّف كتابًا في المثالب، ودفعه إلى ولده، قائلًا لهم: استظهروا به على العرب فإنهم يكفون عنكم3. ومن طلاب المثالب وناشرها بين الناس "أبو عبيدة معمر بن المثنى" التيمي، من تيم قريش. وكان مكروهًا فلما مات لم يحضر جنازته أحد؛ لأنه لم يكن يسلم منه شريف ولا غيره4.
وعدّ الشعر عند أهل الجاهلية علمًا من علومهم، يقوم عندهم "مقام الحكمة وكثير العلم"، "ولم يكن لهم شيء يرجعون إليه من أحكامهم وأفعالهم إلا الشعر. فيه كانوا يختصمون وبه يتمثلون، وبه يتفاضلون ويتقاسمون، وبه يتناضلون، وبه يمدحون ويعابون"5. وقد أوردوا أسماء أشخاص عرفوا بسعة علمهم وبتبحرهم بالشعر.
1 البيان والتبيين "1/ 322".
2 الفهرست "138".
3 الفهرست "137"، "المقالة الثالثة"، تهذيب الأسماء واللغات للنووي "1/ 259" كتاب المعارف لابن قتيبة "176"، بروكلمن "250".
4 الفهرست "85".
5 اليعقوبي "2/ 230"، "النجف 1964م".
الملاحن والألغاز:
ومما أثر عن أهل الجاهلية مما يتعلق باستعمال الذكاء والفطنة واختبار العلم، الملاحن والألغاز. واللحن عند العرب الفطنة. وقد وضع "ابن دريد" كتابًا في الملاحن، سماه:"كتاب الملاحن"1 وقد كانت العرب تتعمد الملاحن وتقصدها، إذا أرادت التورية أو "التعمية"2. وقد ذكر أهل الأخبار أنهم
1 المزهر "1/ 567 وما بعدها".
2 المصدر نفسه.
استعملوها استعمال "الشفرة"، أو الرسائل السرية المعماة في نقل الأخبار، كالذي رووه من أن طيئًا أسرت رجلًا شابًّا من العرب، فقدم أبوه وعمه ليفدياه، فاشتطوا عليهما في الفداء، فأعطيا لهم به عطيّة لم يرضوها، فقال أبوه: لا والذي جعل الفرقدين يمسيان ويصبحان على جبلي طيء لا أزيدكم على ما أعطيتكم، ثم انصرفا.
فقال الأب للعم: لقد ألقيتُ إلى ابني كليمة، لئن كان فيه خير لينجون. فما لبث أن نجا وأطرد قطعة من إبلهم، فكأن أباه قال له: إلزم الفرقدين على جبلي طيء فإنهما طالعان عليهما لا يبغيان عنه1.
ورووا قصصًا أخرى من هذا القبيل2، تحلل تحايل الناس إذ ذاك في كيفية إبلاغ خبر، أو إيصال رسالة من أسير وقع في أسر، أو من شخص اعتدى عليه. أو من رجل طعن، فأراد إبلاغ قومه باسم طاعنه. فيعمد الشخص إلى الكلام المعمى الدال على سذاجة، لإيصاله إلى أهله، لعلمه بأن في وسع أهله استنباط ألغازه وحل معماه.
وأما الألغاز، فهي لامتحان الذكاء في الغالب، ولتمضية الوقت والتسلية. وتكون شعرًا كما تكون نثرًا3. و"الأُلغوزة" ما يعمى به من الكلام4.
1 المزهر "1/ 567".
2 المزهر "1/ 568 وما بعدها".
3 المزهر "1/ 578 وما بعدها".
4 تاج العروس "4/ 78"، "اللغز".
الفصل السادس والعشرون بعد المائة: الفلسفة والحكمة
مدخل
…
الفصل السادس والعشرون بعد المائة: الفلسفة والحكمة
أما مؤلفات في العلوم والفلسفة، منقولة عن اليونانية أو اللاتينية إلى العربية، فلا أدري أن أحدًا من أهل الأخبار ذكر وجودها عندهم بلغة بني إرم، أو بلغة اليونان، ذلك لأن المثقفين وأصحاب الرأي والعزم كانوا على اتصال بالعالم الخارجي، وكانوا يدارسون الأعاجم ويأخذون عنهم، وقد درس بعضهم في مدارس الفرس والعراق وبلاد الشأم، ولغة الدراسة في تلك البلاد السريانية واليونانية والفارسية، فلا يستغرب أن يكون مِنْ هؤلاء مَنْ درس بلغة من هذه اللغات في الحجاز أو في اليمن. أما في بلاد العراق وبلاد الشأم، فالأمر لا يحتاج فيها إلى نظر، فقد رأينا أن عربهما أسهموا في الحركة العلمية قبل الإسلام لكنهم أسهموا بلغة السريان، لا باللغة العربية؛ لأن العربية لم تكن عربية واحدة يومئذ، إنما كانت جملة لهجات، ثم إنها كلها، لم تكن قد وصلت إلى درجة من الاستعمال والانتشار تجعلها لغة للترجمة والتأليف.
بعض ما نسب إليهم سجع قصير، وبعضه كلام منظوم وبعضه مثلٌ زعم أنهم ضربوه فسار بين الناس.
وقد اشتهر الشرق بالحكمة، وهو ما زال على حبه لها باعتبارها أداة للتعليم والتثقيف. والحكيم، هو "حكيمو" Hakimo في الإرمية، بمعنى عالم1. ونرى في التوراة إصحاحات مثل: الأمثال وأيوب ونشيد الأنشاد وغيرها، ملئت حكمة. والحكيم هو "حكميم" عند العبرانيين. وأما الحكمة، فهي:"حوكماه""حوكمه2" Hokhmah.
و"الحكيم" في تعريف علماء اللغة: العالم وصاحب الحكمة، المصيب برأيه، الذي يقضي على شيء بشيء، فيقول: هو كذا وليس بكذا. وهو الذي يحسن دقائق الصناعات ويتقنها. وقد ورد في الحديث: إن من الشعر لحكمًا، أي: إن في الشعر كلامًا نافعًا يمنع من الجهل والسفه وينهى عنهما، قيل: أراد به المواعظ والأمثال التي ينتفع بها الناس. ويروى إن من الشعر لحكمة. وقد سُمي الأعشى قصيدته المحكمة حكيمة، أي ذات حكمة، فقال:
وغريبة تأتي الملوك حكيمة
…
قد قلتها ليقال من ذا قالها3
وقالوا إن من معاني: الحكيم الحاكم، وهو القاضي، أو هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها، وإن الحكمة: العدل ورجل حكيم، عدل حكيم. وإن "المُحكّم" هو الشيخ المجرب المنسوب إلى الحكمة، ولذلك يقال للرجل إذا كان حكيمًا: قد أحكمته التجارب. والحكيم: المتقن للأمور4. وفي هذه التعاريف دلالة على أنهم كانوا يسمون الحكمة بالتبصر في الأمور، وباستقراء الحوادث ودراستها لاستخراج التجارب منها، والحكم بموجبها، ومن هنا أدخلوا الحكم بين الناس، والنظر في الأحكام في جملة أمور الحكمة.
وليس هذا الرأي، هو رأي العرب وحدهم، فقد كان هذا الرأي معروفًا
1 غرائب اللغة "ص179".
2 Hastings، Diction، I، p. 64، A. Dictionary of Christ، and the Gospels، vol، II، p. 825. ff، B.W Ardeon، understanding the old Testament، p. 467.
3 تاج العروس "8/ 255"، "حكم".
4 اللسان "12/ 140 وما بعدها".
عند غيرهم أيضًا. فنجد الحكماء عندهم حكامًا يحكمون في الخصومات وفي المنازعات: بفضل ما أوتوا من فطنة وصبر وذكاء وعلم، وهي من أهم صفات الحكم. ونجد في أدب الشرق الأدنى القديم أشخاصًا مثل "أحيقار" الشهير، يجمعون بين الحكم والحكمة، وقد ضرب بهم المثل في نجاحهم في إصدار الأحكام.
والحكيم في الشرق بمنزلة الفيلسوف عند اليونان. وما "أرسطو" الفيلسوف اليوناني الشهير وكذلك أفلاطون، غير حكماء في نظر الشرقيين. ولذلك أدخلوا في "الحكماء". والحكيم هو مؤدب ومرشد وواعظ يعظ الناس ويرشدهم في هذه الحياة، وهو خير مستشار في كل شيء؛ لأنه بفضل ما يملكه من عقل ومن تجربة يستطيع أن يفصل بين الحق والباطل وبين الصواب والخطأ. ولذلك كان الحكماء هداة قومهم وأساتذتهم وفلاسفتهم، أقوالهم حكمة للناس ودرس في كيفية السير في العالم.
ولكننا لا نستطيع أن نرادف بين "الحكمة" وبين "الفلسفة". فبين الاثنين فرق كبير في المفهوم. ولا يمكن أن نقول: إن الفلسفة بالمعنى اليوناني، هي في مفهوم "الحكمة" عند شعوب الشرق الأدنى؛ لأن بين الفيلسوف وبين "الحكيم" تباين كبير في أسلوب البحث وفي كيفية التوصل إلى النتائج والمعرفة وفي مفهوم كل واحد منهما لهدف الآخر، وفي الغاية المقصودة من كل منهما. فالغاية من الحكمة العبرة والاتعاظ والأخذ بما جاء فيها من حكم، أي: غايات عملية وتأديبية، بينما الغاية من الفلسفة البحث عن معنى الحكمة وعما يكون وراء الطبيعة من خفايا غير مكتشفة وأسرار1.
وقد وردت لفظة "الحكمة" في القرآن الكريم2. وقد ذكر العلماء أن الحكمة اسم للعقل، وإنما سُمي حكمة لأنه يمنع صاحبه من الجهل3. فالحكمة إذن، هي بمعنى العلم والتفقه. وهي بذلك ذات حدود واسعة، بل لا نكاد نجد لها حدودًا معينة فاصلة، فقد شملت أمورًا كثيرة، أطلقت على رجال اشتهروا بالحكم بين الناس. أي: بالبت فيما ينشأ بينهم من شجار وخصومة. وأطلقت على أناس ذكر
1 Hastings، p. 975.
2 وردت في مواضع متعددة من القرآن الكريم، راجع المعجم المفهرس "ص213 وما بعدها".
3 غريب القرآن، للسجستاني "ص118"، "سنة 1924".
أنهم كانوا كهانًا، وأطلقت على جماعة عرفت بأن لها رأيًا في الدين، وأطلقت على نفر كان لهم رأي في المعالجة والتطبيب، وأطلقت على نفر عرفوا بقراءة الكتب القديمة، أي: الكتب السماوية وغيرها مما كان عند يهود والنصارى وعند الروم والفرس، وأطلقت على غير ذلك، فهي إذن كما ترى ذات معان واسعة شاملة.
ويلاحظ أن القرآن الكريم، قد أورد لفظة "الحكمة" بعد لفظة "الكتاب" وفي حالة العطف، أي: على هذه الصورة: "الكتاب والحكمة"، واستعملها بعد لفظة "الملك" في الآية:{وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} 1. واستعملها مفردة كما في {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} 2. وفي مواضع أخرى. وقد ذهب المفسرون إلى أن المراد من الكتاب القرآن، ثم اختلفوا في معنى الحكمة، فمنهم من قال: إنها السُّنة، ومنهم من قال المعرفة بالدين والفقه، ومنهم من قال: الحكمة العقل في الدين أو الإصابة في القول والفعل، إلى غير ذلك من أقوال3، تدل على أن تفسيرها بمعنى السُّنة والتفقه في الدين من التفسيرات التي ظهرت في الإسلام. أما معناها عند الجاهليين، فكان بمعنى الخبرة المكتسبة من الملاحظات العميقة إلى الأشياء، أو المستخلصة من التجارب، وبمعنى العلم والرأي الصائب. وبهذا المعنى جاءت الحكمة عند الساميين. فقد كان الحكيم عندهم العالم الذكي الفطن الذي ينظر بعين البصيرة إلى أعماق الأمور بتؤدة وتبصر وأناة، فيبدي رأيه في كل شيء في هذه الحياة، من سياسة واقتصاد، ومن أمور تخص السلم أو الحرب، أو الخدع، والحكم بين الناس. ولهذا كان الحكماء في أعلى الدرجات في مجتمعهم من ناحية الثقافة والرأي.
ويظهر من دراسة ما ورد في المؤلفات الإسلامية عن الحكمة والحكماء أن الجاهليين أرادوا بالحكمة حكايات وأمثلة فيها تعليم ووعظ للإنسان، يقولونها ليتعظ بها في حياته وليسير على وفق هدى هذه الحكم. وهي حكم حصلت من تجارب عملية، ومن ملاحظات وتأملات في هذه الحياة. ولهذا نسبوا الحكمة إلى
1 البقرة، الرقم2، الآية 251.
2 البقرة، الآية 269.
3 تفسير الطبري "1/ 436".
أناس مجربين أذكياء لهم صفاء ذهن وقوة ملاحظة مثل: "أكثم بن صيفي" و"قس بن ساعدة الإيادي" وغيرهما ممن سيأتي الكلام عليهم. روي أن "عمر بن الخطاب" قال لكعب الأحبار وقد ذكر الشعر: "يا كعب، هل تجد للشعراء ذكرًا في التوراة؟ فقال كعب: أجد في التوراة قومًا من ولد إسماعيل، أناجيلهم في صدورهم، ينطقون بالحكمة، ويضربون الأمثال، لا نعلمهم إلا العرب"1. فالعرب هم أصحاب حكمة وأمثال على رأي "كعب الأحبار" إن صح أن هذا القول المنسوب إليه هو من أقواله حقًّا، والأمثال باب من أبواب الحكمة. بل تكاد تؤدي معناها عند الجاهليين، فالحكيم عندهم هو الذي ينطق بالحكم يقرنها بالأمثال، وبالقصص والنوادر.
وإذا بحثت عن الحكمة في العهد القديم تجدها في الأمثال، وفي سفر أيوب، وفي نشيد الأنشاد، وفي سفر الجامعة والحكمة وفي "سيراخ"، وفي حكمة "سليمان" التي هي في المزامير2. وهي أمثال في الغالب نبعت من تجاربٍ أَخَذَ العبرانيون بعضها من غيرهم، ونبع بعض آخر من تجاربهم الخاصة، وظهرت عندهم أمثال إنسانية عامة تخطر على بال كل إنسان، فهي عامة مشتركة، لم يأخذها قوم من قوم، وإنما هي خاطرات وتجارب تظهر لكل إنسان، فضرب بها المثل في كل لسان.
ونحن لا نملك في هذا اليوم كتابة جاهلية، فيها حكم من حكم الجاهليين. وكل ما ورد إلينا من حكمهم مأخوذ من موارد إسلامية. ولذلك صار كلامنا على الحكمة في الجاهلية مثل كلامنا على سائر معارف الجاهليين، ضيقًا محدودًا، منبعه ما ورد عنها عند المسلمين.
ويظهر من بعض الحكم المنسوبة إلى الجاهليين، أنها ترجع إلى أصل يوناني، حيث نجدها مدوّنة في كتب فلاسفتهم مثل: سقراط وأفلاطون وأرسطو، مما يدل على أنها دخلت إلى العربية عن طريق الترجمة من اليونانية أو من السريانية، وعن طريق بلاد الشأم في الأغلب، حيث كانت الثقافة اليونانية قد وجدت لها سبيلًا هناك، بحكم خضوعها لليونانيين قبل الميلاد وبعد الميلاد، وبحكم وجود جاليات يونانية كبيرة هناك.
1 العمدة "ص25"، القاهرة 1963م.
2 Hastings، p. 975.
ويظهر من دراسة بعض آخر من الحكم المنسوبة إلى الجاهليين أنها من أصل فارسي. ولا يستبعد أن تكون قد دخلت من الأدب الفارسي القديم إلى عرب العراق، وقد عاشوا قبل الإسلام في اتصال وثيق مع الفرس. وكان بعض العرب قد أتقنوا الفارسية وأجادوا فيها، كما أن من الفرس من كان قد تعلم العربية وبرع فيها. ثم إن بين ذوقي العرب والفرس تشابه في نواح من الأدب، ولهذا كان أثر الأدب الفارسي في الأدب العربي أكبر وأظهر من أثر الأدب اليوناني فيه.
ونجد في الحكم المنسوبة إلى "أحيقار"، شبهًا لها في الحكم العربية القديمة، وترجمة أصيلة لبعض حكمه أحيانًا. خذ قوله:"يا بني إذا أرسلت الحكيم في حاجة، فلا توصه كثيرًا؛ لأنه يقضي حاجتك كما تريد. ولا ترسل الأحمق، بل امض أنت واقض حاجتك"1. ولو درست بقية حكمه، وما ورد في الحكم المنسوبة إلى الجاهليين، ترى شبهًا كبيرًا في المعنى بل وفي اللفظ في الغالب، مما يدل على أنها ترجمة أخذت من السريانية فعربت ونسبت إلى الجاهليين، أو أن الجاهليين وقفوا عليها فصاغوها بلسانهم، فنسبت إليهم. وأكثر حكمه موجهة إلى ابن أخته "نادان"، حيث يعظه فيقول: "يا بني
…
".
غير أن علينا ألا ننسى، بأن من الحكم، ما هو عام، يرد على خاطر أغلب الشعوب، وعلى لب أكثر الناس، حتى وإن لم يكونوا من المثقفين الدارسين؛ لأنه مما يتشارك فيه العقل الإنساني، فيكون عالميًّا إنسانيًّا. ولهذا، فنحن لا نستطيع أن نردّه إلى أحد، ولا أن نرجعه إلى مرجع معين. ولا نستطيع أن نقول: إن العرب أخذوه من غيرهم، أو إن الأعاجم أخذوه من العرب. بسبب ما ذكرته من كونه من نتاج عقل واحد، هو القاسم المشترك بين عقول الإنسان.
وإذا صح ما روي من أن "سويدًا بن الصامت" المعروف بـ"الكامل"، كان يملك "مجلة لقمان"، وقد أراها الرسول مقدمة عليه بمكة، وما ذكر من أنها كانت في الحكمة2. فتكون هذه المجلة، أو الكتاب، أقدم شيء يصل اسمه إلينا من الكتب التي تداولها أهل الجاهلية. ولم يذكر الرواة -ويا للأسف-
1 أغناطيوس إفرام الأول برصوم، اللؤلؤ المنثور في تأريخ العلوم والآداب السريانية "67"، "حمص 1943"، تأريخ كلدو وآثور "1/ 113 وما بعدها"، "2/ 40".
2 الروض الأنف "1/ 265".
محتويات تلك المجلة ونوع الحكم التي احتوتها.
فقد روي "أن سويد بن صامت قدم مكة حاجًّا أو معتمرًا، وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشرفه ونسبه
…
فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به، فدعاه إلى الله والإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وما الذي معك؟ " قال: مجلة لقمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أعرضها عليَّ"، فعرضها عليه، فقال له: إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله عليَّ، هو هدًى ونور. فتلا عليه رسول الله القرآن، ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه. وقال: إن هذا لقول حسن. ثم انصرف عنه، فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتلته الخزرج" وكان قتله قبل يوم بعاث1.
والمجلة: الصحيفة فيها الحكمة، وكل كتاب عند العرب مجلة2، وقيل:"كل كتاب حكمة عند العرب مجلة". قال النابغة:
مجلتهم ذات الإله ودينهم
…
قويم فما يرجون غير العواقب3
وبالنظر إلى اشتهار لقمان في الأدب العربي بالحكمة عن طريق ضرب الأمثال، ونظرًا لظهور أمثال كثيرة في الإسلام نسبت إليه، فإن من المحتمل أن تكون تلك المجلة التي زعم أنها كانت عند "سويد" مجموعة من حكم وأمثال. لا ندري من جمعها فنسبها إليه، لعدم إشارة أهل الأخبار إلى ذلك، ولا يستبعد أن تكون هذه الأمثال من الأمثال المنتزعة من التوراة أو من الإنجيل أو من كليهما، فدوّنت في مجلة، أي: في كراسة أو كتاب فنسبها أهل الأخبار إليه. نظرًا لما جاء في القرآن الكريم من نسبة الحكمة إليه. وقد تكون تلك المجلة من حكم الحكيم "أحيقار"، الحكيم الشهير صاحب الأمثال الذي كان مقربًا إلى الملك "سنحاريب" ومستشارًا له. فله في أدب "بني إرم" ذكر خاص، وله أمثال في الإرمية طبعت وترجمت إلى جملة لغات. وعرفت أمثاله في العربية كذلك. في أيام
1 ابن هشام، سيرة "1/ 265 وما بعدها"، "حاشية على الروض"، الفائق "1/ 206".
2 تاج العروس "7/ 261"، "جلل".
3 الفائق "1/ 206".
الجاهلية، فأشار "عدي بن زيد العبادي" إليه وإلى قصته1.
ولقمان: شخصية ذكرت في القرآن، وفي القرآن الكريم سورة سميت باسمه. ووروده في كتاب الله، دليل على وقوف الجاهليين بقصصه وشيوع خبره وأمره بينهم. ونجد في كتب التفسير والأدب والأخبار وكتب المعمرين قصصًا عنه2. وقد عرف بـ"لقمان الحكيم" وقد بحث عنه المستشرقون، وحاولوا تحليل القصص الوارد عنه وإرجاعه إلى أصوله. وقد بحث في ذلك المحدثون في مصر وفي غير مصر من البلاد العربية3.
قال "الجاحظ": "وكانت العرب تعظم شأن لقمان بن عاد الأكبر والأصغر لقيم بن لقمان في النباهة والقدر، وفي العلم والحكم، وفي اللسان والحلم. وهذان غير لقمان الحكيم المذكور في القرآن على ما يقوله المفسرون. ولارتفاع قدره وعظيم شأنه، قال النمر بن تولب:
لُقيم بن لقمان من أخته
…
فكان ابن أخت له وابنما
ليالي حمق فاستحضنت
…
عليه فغُرّ بها مظلمًا
فغرّ بها رجل محكم
…
فجاءت به رجلًا محكمًا4
وقد أشار "المسيب بن علس" إلى "لقمان" في شعره5، كما ذكره "لبيد بن ربيعة" الجعفري في شعره كذلك6، وأشار إليه "يزيد بن الصعق" الكلابي في شعر هو:
1 الحماسة، للبحتري، "86"، "بيروت 1910م".
2 "لقمان بن عاد"، مجمع الأمثال "1/ 303".
3 فجر الإسلام "1/ 78 وما بعدها"، الدكتور عبد المجيد عابدين، الأمثال في النثر العربي القديم مع مقارنتها في الآداب السامية الأخرى "ص43 وما بعدها"، مجمع الأمثال، للميداني "1/ 37".
4 البيان والتبيين "1/ 184".
5 البيان والتبيين "1/ 188".
6 البيان والتبيين "1/ 189".
إذا ما مات ميت من تميم
…
فسرّك أن يعيش فجيء بزادِ
بخبز أو بلحم أو بتمرٍ
…
أو الشيء الملفّف في البجادِ
تراه يطوف الآفاق حرصًا
…
ليأكل رأس لقمان بن عادِ
وقيل: إن هذا الشعر هو لأبي مهوش الفقعسي1.
وورد ذكر "لقمان" في شعر "أفنون" التغلبي2، وفي شعر "سليمان بن ربيعة بن دباب بن عامر بن ثعلبة"3، وفي شعر شعراء آخرين.
وعرف لقمان عند الجاهليين كذلك بالنباهة والذكاء وبالعلم وبقوة اللسان والحلم وبخلال أخرى يرون أنها من سجايا الحكماء، حتى زعم أن أختًا له، وكانت مُحَمَّقة، تحايلت عليه، فاتصلت به اتصال الزوجات، طمعًا في الحصول على ولد ذكي حكيم منه يكون على شاكلته، فأحبلها بولد عرف بـ"لقيم"، ذكر في شعر ينسب إلى النمر بن تولب. ولأهل الأخبار قصص عنه وعن أخت لقمان4.
وذكر "الجاحظ" أن "لقمان" قتل ابنته، وهي صحر أخت لقيم، وقال حين قتلها: ألست امرأة! وذلك أنه كان قد تزوّج عدّة نساء، كلهن خنّه في أنفسهن، فلما قتل أخراهن ونزل من الجبل، كان أول من تلقاه صحر ابنته، فوثب عليها فقتلها5 وقال: وأنت أيضًا امرأة! وللجاحظ قصص عنه6.
وفي سورة "لقمان"، {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 7. فلقمان إذن حكيم من الحكماء، وُهِب الحكمة وصواب الرأي. له ولد وعظه ونصحه.
1 المرزباني، معجم "480"، البيان والتبيين "1/ 190"، الخزانة "3/ 129"، الاقتضاب "388"، العقد الفريد "3/ 142".
2 البيان والتبيين "1/ 190".
3 المصدر نفسه "1/ 190".
4 بلوغ الأرب "3/ 212 وما بعدها".
5 الحيوان "1/ 21".
6 المحاسن والأضداد "133".
7 الآية 13 وما بعدها.
وفي كتب قصص الأنبياء وكتب الأخبار والأدب وصايا للقمان وعظ بها ابنه، وأدبه، هي قطع في التأديب وفي قواعد السلوك1.
وفي جملة ما رواه أهل الأخبار من حكمه أن مولاه قال له يومًا: "اذبح لنا هذه الشاة، فذبحها. قال: أخرِج أطيب مضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب. ثم مكث ما شاء الله، ثم قال: اذبح لنا هذه الشاة، فذبحها. فقال: أخرج أخبث مضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب. فقال له مولاه: أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها، فأخرجتهما، وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخرجتهما. فقال له لقمان: إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا"2.
وقد ذكر أهل الأخبار امرأة يقال لها: "صحر بنت لقمان"، قالوا: إنها اشتهرت بالعقل والكمال والفصاحة والحكمة، وإن العرب كانت تتحاكم عندها فيما ينوبهم من المشاجرات في الأنساب وغيرها. وقالوا: إنها كانت ابنة لقمان، ومنهم من زعم أنها أخته لا ابنته3.
وذكر أهل الأخبار أن "لقمان" هو ممن آمن بـ"هود"، وأما لقمان المذكور في القرآن، فهو غيره. وكان لقمان القرآن ابن أخت أيوب، أو ابن خالته، وقيل: كان من ولد "آزر"، وأدرك داوود وأخذ منه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داوود، فلما بُعث قطع الفتوى، وكان قاضيًا في بني إسرائيل، وكان حكيمًا ولم يكن نبيًّا. وورد أنه كان راعيًا أسود، فرزقه الله العتق، وقيل: كان أسود من سودان مصر خيّاطًا، وقيل: كان نجارًا4. وذكر "الجاحظ": أن "لقمان" من السودان، وهو الذي يقول: ثلاثة لا تعرفهم إلا عند ثلاثة: الحليم عند الغضب، والشجاع عند الخوف، والأخ عند حاجتك.
وقال لابنه: إذا أردت أن تخالط رجلًا فأغضبه قبل ذلك، فإن أنصفك وإلا فأحذره.
1 العقد الفريد "3/ 152".
2 تفسير الطبري "21/ 43 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "1/ 342".
4 الخزانة "2/ 78"، "بولاق".
ولم يرووا ذلك عنه إلا وله أشياء كثيرة. وأكثر من هذا مدح الله إياه وتسميته الحكيم، وما أوصى به ابنه"1.
ويشبه قصص "لقمان" وما يضرب على لسانه من أمثال، قصص "أيسوب" عند الأوروبيين. وهو الباحث عن الحكمة عن طريق ضرب الأمثال وقول الألغاز والقصص2. وقد رأى بعض الباحثين أن لأمثال لقمان وحكمه صلة بـ"أحيقار". وذهب بعض المستشرقين إلى وجود صلة بين لقمان وبين بعض الشخصيات القديمة التي يرد اسمها في الأدب القديم مثل Prometheus و Alkmaion و Lucian و"سليمان"، وبلعام.
وقد ضرب "أبو الطّمحان حنظلة بن الشرقي القيني" المثل بتشتت حي لقمان، وبتفوقهم أفراقًا إذ يقول:
أمست بنو القين أفراقًا موزعة
…
كأنهم من بقايا حي لقمان3
وقد اشتهر "سليمان" عند العرب بالحكمة أيضًا، فعرف عندهم بـ"سليمان الحكيم"، وقد أشير إليه في القرآن الكريم. وكان اليهود والنصارى هم نقلة أخبار هذه الحكمة إلى الوثنيين. وكان يهود المدينة مصدر هذه الأخبار بالدرجة الأولى، فقد كانوا بحكم اختلاطهم بأهل يثرب قد أذاعوا بينهم قصصًا إسرائيليًّا، ومنه قصص داود وسليمان.
و"سليمان" أحكم الحكماء عند اليهود. يذكرون "أن حكمته فاقت حكمة جميع العلماء في عصره. وكان أحكم من جميع الناس"4. ويذكرون أنه ألّف الأمثال. ونطق بثلاثة آلاف مثل، وألف خمس نشائد5. ووضع نشيد الأنشاد والجامعة. وذاعت حكمة سليمان وانتشر خبرها في كل الأنحاء بحيث أتى الناس من الأباعد ليشاهدوها وكانوا يمتحنونه بمسائل عسرة6، في جملتهم ملكة سبأ
1 رسائل الجاحظ "1/ 179"، "فخر السودان على البيضان".
2 Shorter Ency.، p. 290.
3 البيان "1/ 887 وما بعدها"، الخزانة "3/ 426".
4 قاموس الكتاب المقدس "1/ 579"، "سليمان".
5 الملوك الأول، الإصحاح الرابع، الآية 32.
6 الأيام الثاني، الإصحاح التاسع، الآية 6، قاموس الكتاب المقدس "1/ 579"، "سليمان".
التي سمعت بحكمته فجاءت تمتحنه كما جاء ذلك في التوراة.
وتقترن لفظة "مجلة" عادة بالحكمة. قال علماء العربية: "والمجلة، بفتح الميم، الصحيفة فيها الحكمة"1، وقد تتألف من "صحف". و"الصحيفة" الكتاب. وذكر علماء اللغة أن "الوضيعة: كتاب تكتب فيه الحكمة.. وفي الحديث أنه نبي وأن اسمه وصورته في الوضائع"2.
وقد ذكر أهل الأخبار أن "قيس بن نشبة"، كان منجمًا متفلسفًا في الجاهلية. وهو ممن أدرك أيام الرسول3. وذكر أنه من "بني سُلَيم"، وأنه كان يعرف الرومية والفارسية ويقول الشعر4. وأنه جاء إلى الرسول "بعد الخندق فقال: إني رسول من ورائي من قومي، وهم لي مطيعون وإني سائلك عن مسائل لا يعلمها إلا من يُوحى إليه! فسأله عن السموات السبع وسكانها وما طعامهم وما شرابهم، فذكر له السموات السبع والملائكة وعبادتهم، وذكر له الأرض وما فيها فأسلم ورجع إلى قومه، فقال: يا بني سليم! قد سمعت ترجمة الروم وفارس وأشعار العرب والكهان ومقاول حمير، وما كلام محمد يشبه شيئًا من كلامهم فأطيعوني في محمد فإنكم أخواله فإن ظفر تنتفعوا به وتسعدوا وإن تكن الأخرى، فإن العرب لا تقدم عليكم. فقد دخلت عليه وقلبي عليه أقسى من الحجر، فما برحت حتى لان بكلامه. وقيل عنه: إنه كان يتأله في الجاهلية وينظر في الكتب، فجاء إلى الرسول لما سمع به، وسأله، فآمن به. ولعلمه سماه رسول الله: "حبر بني سُلَيم"، وكان إذا افتقده يقول: يا بني سُلَيم أين حبركم. وهو عم الشاعر العباس بن مرداس، أو ابن عمه. ولما أسلم قال هذه الأبيات:
تابعت دين محمد ورضيته
…
كل الرضا لأمانتي ولديني
ذاك امرؤ نازعته قول العدا
…
وعقدت فيه يمينه بيميني
قد كنت آمله وانظر دهره
…
فالله قدر أنه يهديني
أعني ابن آمنة الأمين ومن به
…
أرجو السلامة من عذاب الهون
1 تاج العروس "7/ 261"، "جلل".
2 تاج العروس "5/ 545"، "وضع".
3 تاج العروس "8/ 95"، "كحل".
4 البلدان "2/ 250".
وذكر أنه كان قد قدم مكة في الجاهلية فباع إبلًا له فلواه المشتري حقه، فكان يقوم فيقول:
يا آل فهر كنت في هذا الحرم
…
في حرمة البيت وأخلاق الكرم
أظلم لا يمنع مني من ظلم
فسمع به عباس بن مرداس، فكتب إليه أبياتًا منها:
وائت البيوت وكن من أهلها وددًا
…
تلق ابن حرب وتلق المرء عباسًا
فقام العباس بن عبد المطلب وأخذ له بحقه. وقال: أنا لك جار ما دخلت مكة، فكانت بينه وبين بني هاشم مودة1.
وذكر أن "أبا العاصي بن أمية بن عبد شمس"، كان حكيمًا. وقد عدّ من حكماء قريش وشعرائهم2. كما ذكر أن "الحكم بن سعيد بن العاص بن أمية" الأموي، وكان من الكتّاب بمكة في الجاهلية، والذي علّم الكتابة بالمدينة بأمر الرسول، كان يعلم الحكمة3. وذكر "ابن حبيب"، أن "الحكم بن سعيد" كان من أمراء الرسول "على قرى عربية"4، وذكر أيضًا أن الرسول سمّاه "عبد الله وجعله يعلّم الحكمة"، وقد استشهد يوم مؤتة5.
ويظهر أن الحكمة المنسوبة إلى "قيس بن نشبة"، أو إلى "الحكم بن سعيد" كانت نوعًا من العلوم التي يدرسها الفلاسفة والحكماء في ذلك الوقت، أي: علومًا يونانية، وتأملات وملاحظات عن هذا العالم، فهي دراسة منظمة تختلف في طرازها عن الحكمة القائمة على القصص وضرب الأمثال. وقد تكون قد أخذت من الكتب اليونانية أو السريانية، أو الفارسية، فقد رأينا أهل الأخبار يذكرون أن "قيس بن نشبة" كان يعرف الرومية والفارسية، كما ذكروا مثل ذلك عن النضر بن حارث بن كلدة وعن الأحناف، وأنا لا أستبعد احتمال ذلك؛ لأن
1 الإصابة "3/ 249 وما بعدها"، "رقم 7244".
2 كتاب نسب قريش "99"، المعارف "73".
3 الإصابة "1/ 343 وما بعدها"، "رقم 1777".
4 المحبر "126".
5 المحبر "460".
بعضهم كان قد وصل العراق وبلاد الشأم وخالط الأعاجم، كما كان من الأعاجم من سكن مكة والقرى العربية الأخرى لأغراض مختلفة، ومنهم من كان على فقه بعلوم قومه، ومعرفة علمية بلغتهم، فلا يستبعد إذن تعلم من كان فيه ميل من العرب إلى العلم والثقافة، العلم والفلسفة والنظر من تلك البلاد التي زاروها، ومن هؤلاء.
وذكر أن "النضير بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف" العبدري القرشي كان من حكماء قريش. وقد استشهد يوم اليرموك في رجب سنة خمس عشرة. وكان أخوه "النضر بن الحارث"، شديد العداوة للرسول، فقتله عليٌّ يوم بدر كافرًا، قتله بالصفراء1.
وروى "عُمران بن حصين"، "عمران بن الحصين"، حديثًا عن رسول الله، هو:"الحياء لا يأتي إلا بخير"، فقال "بشير بن كعب، وكان قد قرأ الكتب: إن في الحكمة: أن منه ضعفًا. فغضب عمران، وقال: أحدثك بما سمعت من النبي، وتحدثني عن صحفك هذه الخبيثة"2. ويظهر أن "بشيرًا" هذا كان ممن طالع كتب أهل الكتاب ووقف على الحكمة.
وقد ذكر الأخباريون أسماء أناس آخرين عرفوا بالحكمة كذلك، مثل: أكثم بن صيفي التميمي، من رؤساء تميم ومن "حكام العرب"3. ويلاحظ أن الأخباريين يخلطون في الغالب بين الحكيم والحاكم، فيجعلون "حكّام العرب" من "حكماء العرب" ويذكرون أحكامهم في باب الحكم. كذلك نسبوا معظم خطباء الجاهلية إلى الحكمة كذلك، مما يدل على أن للحكمة عند الأخباريين معنًى واسعًا، يشمل كل ما فيه عظة وتعليم. وقد كان العبرانيون وبقية الساميين يجعلون الحكام من طبقة الحكماء؛ لأن الحاكم لا بد وأن يكون حكيمًا، أي: مدركًا فطنًا نافذًا إلى بواطن الأمور، يحكم عن عقل ناضج وعن رأي مصيب، فهم أولى وأقدر على إبداء الأحكام الصحيحة من غيرهم، ولهذا نجد ارتباطًا كبيرًا في المعنى وفي اللفظ بين لفظتي حاكم وحكيم.
1 الاستيعاب "3/ 535 وما بعدها"، الإصابة "3/ 525"، "رقم 8713".
2 مصادر الشعر الجاهلي "168 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "3/ 172 وما بعدها".
ومن حكام العرب الذين ذكرهم أهل الأخبار، ونسبوا إليهم الحكم والإصابة في الرأي وصدق الأحكام "عامر بن الظرب العدواني" حكيم قيس، وقد عدوه "من حكماء العرب، لا تعدل بفهمه فهمًا ولا بحكمه حكمًا". وقالوا: إنه هو المراد في قول العرب: "إن العصا قُرعت لذي الحلم". أما "ربيعة"، فتقول: إنه "قيس بن خالد بن ذي الجدّين". وأما تميم، فتنسب هذا الفخر إلى رجل منها هو "ربيعة بن مخاشن أحد بني أسيد بن عمرو بن تميم". وأما اليمن، فتقول: إنه "عمرو بن حممة الدوسي"، ويذكر بعض آخر أنه "عمرو بن مالك بن ضبيعة، أخو سعد بن مالك الكناني"1.
وفي كتاب "العقد الفريد"، قصة اجتماع وقع بين عامر بن الظرب العدواني وحممة بن رافع الدوسي وبين ملك من ملوك حمير، ورد فيها: أن الملك قال لهما: تساءلا، حتى أسمع ما تقولان؟ ودوّن رواة هذه القصة ما جرى في الاجتماع من أسئلة وأجوبة. ومدارها خاطرات عن الحياة وعن الناس وعن الأدب، بالسجع المألوف2. ومما جاء فيها أن أحكم الناس "من صمت فاذّكر، ونظر فاعتبر، ووعظ فازدجر"، وأن أجهل الناس من رأى الخُرق مغنمًا، والتجاوز مغرمًا"3.
وذكر أنه كان قد جمع قومه "عدوان"، فنصحهم بقوله:"يا معشر عدوان: الخير ألوف عروف، وإنه لن يفارق صاحبه حتى يفارقه، وإني لم أكن حكيمًا حتى صاحبت الحكماء، ولم أكن سيدكم حتى تعبدت لكم4. وكان كما يقول "ابن حبيب"، آخر حكام العرب وقضاتهم وأئمتهم قبل انتقال الحكومة إلى "بني تميم" بعكاظ5، وروي له حكم في "الخنثى"، وأيد الإسلام حكمه6. ورووا له شعرًا في الخمر، يقول فيه:
1 "إن العصا قرعت لذي الحلم"، مجمع الأمثال "1/ 39 وما بعدها"، الآمدي، المؤتلف "ص154".
2 العقد الفريد "2/ 255 وما بعدها".
3 الأمالي "2/ 276 وما بعدها".
4 الأمالي "2/ 157"، البيان والتبيين "1/ 401"، "2/ 199".
5 المحبر "181".
6 المحبر "236".
إن أشرب الخمر أشربها للذتها
…
وإن أدعها فإني ماقت قال
لولا اللذاذة والفتيان لم أرها
…
ولا رأتني إلا من مدى الغال
سئّاله للفتى ما ليس يملكه
…
ذهّابة بعقول القوم والمال
مورثة القوم أضغاثًا بلا احنٍ
…
مزرية بالفتى ذي النجدة الحال
أقسمت بالله أسقيها وأشربها
…
حتى يفرق ترب القبر أوصالي1
وفيه يقول ذو الأصبع العدواني:
ومنّا حكم يقضي
…
فلا ينقضي ما يقضى2
ومن حكمه: "الرأي نائم، والهوى يقظان، فمن هنالك يغلب الهوى الرأي"3. وله جواب على خطاب "صعدة بن معاوية" حين جاء إليه يخطب ابنته4.
وكانت له بنت عدت من حكيمات العرب، حتى جاوزت في ذلك مقدار "صحر بنت لقمان"، و"هند بنت الخس"، و"جمعة بنت حابس بن مُليل" الإياديين5.
وذكر أهل الأخبار أن من حكام تميم في الجاهلية: أكثم بن صيفي، وحاجب ابن زرارة، والأقرع بن حابس، وربيعة بن مخاشن، وضمرة بن ضمرة. ويذكرون أن "ضمرة" حكم، فأخذ رشوة، فغدر. والغدر عيب كبير، ومن أذم الصفات عند الجاهليين6.
وقد نسب أهل الأخبار حكمًا وأمثلة لأكثم بن صيفي، منها المثل:"مقتل الرجل بين فكّيه" يعني لسانه7، ومن الأقوال المنسوبة إليه، قوله:"تناءوا في الديار، وتواصلوا في المزار"8، وقوله: "تباعدوا في الديار تقاربوا في
1 المحبر "239".
2 البيان والتبيين "1/ 264"، "حاشية 3".
3 البيان والتبيين "1/ 264".
4 البيان "2/ 77".
5 البيان والتبيين "3/ 38".
6 مجمع الأمثال "1/ 41".
7 خلق الإنسان "ص195".
8 البيان والتبيين "3/ 255".
المودة"1. وقد عدّ أسلوب كلامه من أرشق أساليب الفصحاء، ومن أحكم كلام، فيه نصائح وحكم مع بلاغة متناهية وفصاحة. ونسبوا له خطبًا منمقة2، هو في نظري من هذا النثر المصنوع، الذي وضع على لسانه في الإسلام.
وقد اشتهرت "تميم" بكثرة حكمائها3، ونلاحظ أن هؤلاء الحكماء كانوا حكامًا كذلك، يحكمون بين الناس فيما يقع بينهم من شجار. ومعنى هذا أن بين الحكمة والحُكم عند العرب الجاهليين صلة متينة. وقد رأيت أن تميمًا كانت قد احتكرت لنفسها الحكومة في سوق عكاظ على ما يذكره أهل الأخبار. وهم من القبائل المتقدمة بالنسبة إلى القبائل الأخرى التي كانت عند ظهور الإسلام، انتقلت إليها هذه الحكومة من "بني عدوان"، الذين كان آخر حكامهم "عامر بن الظرب" العدواني.
وقد كان لاتصال أهل الأخبار بتميم، دخل ولا شك في كثرة أسماء حكمائها التي وصلت إلينا من خلال دراستنا لكتبهم، فقد كان اتصالهم بها أكثر من اتصالهم بأية قبيلة أخرى، لوجودها على مقربة من الكوفة والبصرة، ولذلك أكثروا اللغة عنها، حتى صرنا نعرف نعرف من أمور نحوها ولغتها ما لا نكاد نعرفه عن نحو ولغة أية قبيلة أخرى. ولرجال تميم خطب طويلة، في الحكم، هي تأملات وخاطرات وضعت على ألسنتهم في الإسلام، إذ لا يعقل كما سبق أن قلت في مواضع متعددة من هذا الكتاب وصول نصوص نثر، بهذا النوع من الضبط والتحري عن أهل الجاهلية حتى نحكم بصحة نصوص ما نسب إلى حكماء تميم. نعم قد يقول قائل: إن الشاعر "بشر بن أبي خازم" كان قد أشار إلى "كتاب بني تميم"4، فلا يستبعد أن يكون "بنو تميم" قد سجلوا خطب وأشعار سادتهم فيه، ولكني أقول: إن من العلماء من نسب هذا العشر إلى "الطرماح بن حكيم" وهو شاعر إسلامي، توفي في حوالي السنة "105"، وإننا حتى لو فرضنا أن ذلك الشعر هو للطرماح، وأنه يدل على وجود كتاب قديم عند
1 البيان "2/ 70".
2 بلوغ الأرب "3/ 172".
3 Goldziher، History of classical Arabic Literature، p. 7.
4 المفضليات "98"، الأمثال، للميداني "1/ 137"، العسكري، جمهرة الأمثال "289".
"بني تميم"، فإننا لا نستطيع أن نأخذ بالظن، ونقول بصحة مثل هذه الخطب المنسوبة إلى خطباء وحكماء تميم لمجرد وجود إشارة إلى كتاب عندهم لا نعرف من أمره شيئًا، غير إشارة إلى اسمه وردت في شعر، لا ندري مبلغ درجته من الصحة والأصالة.
وممن نسبت إليه الحكمة "الأفوه الأودي"، وهو شاعر اسمه "صلاءة بن عمرو" من "أود". وله قصيدة دالية، فيها رأيه في الحكم وفي الناس وفي الخير والشر1. وذكر أنه هو القائل:
ملكنا ملك لقاح أول
…
وأبونا من بني أود خيار2
والعادة أن تنسب الحكم إلى المسنين، وقلما نجد حكمًا صادرة من شبان وأحداث وذلك أن العقل لا يكتمل إلا بتكامل العمر وبتقدم الإنسان في السن، وبتقدمه في السن تزيد تجاربه واختباراته في هذه الحياة، فيكون عندئذ أهلًا للنطق بالحكمة. ولم يكتف أهل الأخبار ببلوغ الحكماء سن الشيخوخة الطبيعية، بل صيروا عمر معظم المعمرين فوق المائة، بل جعلوها مئات. وعمر مثل هذا كفيل بأن يكون مصدرًا للحكم والأمثال. ونجد في "كتاب المعمرين من العرب" للسجستاني أمثلة من عمر هؤلاء الحكماء.
1 الأغاني "11/ 44"، الشعر والشعراء "110"، ديوانه، الأمالي، للقالي "2/ 228"، تأريخ آداب اللغة العربية، لزيدان "1/ 134 وما بعدها".
2 تاج العروس "2/ 292"، "أود".
الحكمة:
وأما "الحكمة"، فقد ذكر أهل الأخبار أمثلة عديدة منها زعموا أنها لحكماء جاهليين، أوردوا أسماءهم، ولكنهم لم يفيضوا في بيان سيرهم وتراجم حياتهم،