المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الأعمدة والأسطوانات: ومن الرخام أقيمت أعمدة جميلة كسيت تيجانها بالنقوش وبالزخرف - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٥

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الخامس عشر

- ‌الفصل السادس عشر بعد المئة: الفن الجاهلي

- ‌العمارة

- ‌الفصل السابع عشر بعد المئة: القصور والمحافد والاطام

- ‌مدخل

- ‌الأعمدة والأسطوانات:

- ‌الفصل الثامن عشر بعد المئة:‌‌ الخزفوالزجاج والبلور

- ‌ الخزف

- ‌الفصل التاسع عشر بعد المئة: الفنون الجميلة

- ‌مدخل

- ‌التصوير:

- ‌الفصل العشرون بعد المئة: أمية الجاهليين

- ‌الفصل الحادي والعشرون بعد المئة: الخط العربي

- ‌مدخل

- ‌الخط العربي:

- ‌الفصل الثاني والعشرون بعد المائة: المسند ومشتقاته

- ‌مدخل

- ‌أصل القلم المسند:

- ‌القلم اللحياني:

- ‌الخط الثمودي:

- ‌الأبجدية الصفوية:

- ‌الترقيم:

- ‌الفصل الثالث والعشرون بعد المائة: الكتابة والتدوين

- ‌الفصل الرابع والعشرون بعد المائة: الدراسة والتدريس

- ‌الكتاتيب:

- ‌مواد الدراسة:

- ‌الكاتب:

- ‌الفصل الخامس والعشرون بعد المائة: الكتاب والعلماء

- ‌مدخل

- ‌الملاحن والألغاز:

- ‌الفصل السادس والعشرون بعد المائة: الفلسفة والحكمة

- ‌مدخل

- ‌الحكمة:

- ‌الفصل السابع والعشرون بعد المائة: الأمثال

- ‌فهرس الجزء الخامس عشر:

الفصل: ‌ ‌الأعمدة والأسطوانات: ومن الرخام أقيمت أعمدة جميلة كسيت تيجانها بالنقوش وبالزخرف

‌الأعمدة والأسطوانات:

ومن الرخام أقيمت أعمدة جميلة كسيت تيجانها بالنقوش وبالزخرف الأخاذ، وقد تمكن المعماريون من وضع الصخور بعضها فوق بعض وضعًا فنيًّا في غاية الدقة جعلتها تظهر وكأنها قطعة واحدة. فقد صقلوا الصخور صقلًا تامًّا بدقة وعناية. وجعلوا نهايتها متطابقة تمامًا، فإذا جلست بعضها فوق بعض، انطبقت على بعضها، وبدت وكأنها قطعة واحدة يصعب التمييز بين مواضع انطباقها. وقد نقروا أحيانًا في أواسط الرخام نُقرًا عميقة، ثبّتوا في داخلها أوتادًا من الرصاص أو الحديد، لتربط بين قطع الرخام، ولتكون لها سندًا وقوة، فلا تسقط. وقد وجدت مثل هذه الأوتاد بين الصخور المكونة لسد مأرب1، وكذلك في قصر "غمدان"2.

وأقيمت الأعمدة على قواعد تحمل الصخور الثقيلة المؤلفة منها تربط بينها أوتاد مربعة في الغالب، وتكون القواعد أكبر حجمًا من العمود ليستقر ثقل الأعمدة عليها، ولتكون أثبت على سطح الأرض. وتقوى هذه القواعد بصب الرصاص عليها. وقد وجد أن المعماري العربي الجنوبي تعمد في جعل الجدران المرتفعة ميّالة إلى الجدار الداخلي كلما ارتفع البناء، بمعنى أنه يجعل الجدران الخارجية أقرب إلى واجهة الجدران الداخلية في أعالي البناء من القواعد، فتكون المسافة عندئذ بين الجدارين عند السقف أقرب وأقصر منها عند القاعدة3. ويظهر أنه تعمد ذلك لأغراض هندسية واقتصادية، تستدعيها المحافظة على الحجارة من عبث الطبيعة بها وتقوية لها، وتخفيفًا عنها، واقتصادًا في مواد البناء.

وأقيمت بعض الأعمدة على أرض البناء رأسًا من دون قاعدة بارزة يرتكز عليها بمعنى أن المعمار لم يجعل قاعدة العمود أوسع وأعرض من هيكل المجموع، فيظهر العمود وكأنه قد نبت من الأرض.

وقد عثر المنقبون على أنواع متعددة من الأعمدة، تيجان بعضها مربعة أو

1 "Glaser، Reise، S. 60، Hand. Der Alt.، I، S. 146.".

2 "D. H. Müller، Burgen und Schl?sser، I، S. 345.".

3 "Hand-der altar. alter.، I، S. 146.".

ص: 37

ذات زوايا مستقيمة. منها ما هو بسيط بدون زخرفة ولا نقوش، ومنها ما هو مزخرف أو علية بعض النقوش أو بعض الحروف أو الكتابات. ومن جملة الزخرف الذي زين تيجان الأعمدة زخرف يمثل زهرة الزنبق وأنواعًا أخرى من الزهور1.

وتمثل الأعمدة المربعة الشكل أو المستطيلة والخالية من الزخرف أقدم أنواع الأعمدة بالنسبة للفن المعماري العربي الجنوبي. ونجد نماذج منها في خرائب معبد "قرنو" عاصمة معين. وفي "صرواح""الخريبة" وفي "مأرب""حرم بلقيس""محرم بلقيس"2 وقد اقتطع المعمار هذه الأعمدة من الصخور، كتلًا كتلًا، ثم أمر بصقلها وتشذيبها حتى حولّها إلى قطع أكسبها شكلًا هندسيًّا، قواعدها مربعة أو مستطيلة، وضعها بعضها فوق بعض إلى الارتفاع المقصود، مكونًا منها أسطوانة تحمل البناء.

يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر.

ونرى في هذه الصورة تاج أحد الأعمدة، وقد زخرف بحيث ظهر وكأنه كتلة من رءوس خرفان أو حيوانات لها قرنان كالوعل وقد أبدع الفنان في حفره حتى ظهر الحجر كأنه مجموعة حيوانات وقفت بعضها إلى جانب بعض، وزخرفت قاعدة الحجر، كما ترى في الصورة، ويظن بعضهم أنه رمز الإله القمر.

من كتاب: Qataban and Sheba"ص224".

1 "Hand. Der altar. Alter.، I، S. 147، Deutsche Aksum Expedition، II، S. 143. ff.".

2 "A. Grohmann، S.، 209.".

ص: 38

وقد أبدع الفنان في الحفر، وأجاد في الزخرفة وفي إتقان عمله، وأعطى عمله روعة، فترى الحفر على مستوى واحد، وقد عمل بدقة ومهارة. وإتقان العمل والإبداع في الفن من المزايا التي امتاز بها أهل العربية الجنوبية حتى اليوم.

وهناك أنواع من الأعمدة تتكون من ثمانية أضلاع، وأنواع أخرى تتكون من ستة عشر ضلعًا، عثر عليها في مدينة "تلقم"، وتتكون تيجانها من ست درجات: ثلاث منها على هيئة نصف أسطوانة: بطونها إلى الخارج وقاعدتها العمود، وثلاث على هيئة صفائح مستطيلة ذات ستة عشر ضلعًا. وقد نحتت هذه التيجان ورتبت على هذا الشكل: الدرجة السفلى مكونة من مستطيل ذي ستة عشر ضلعًا، وفوقه درجة على هيئة أسطوانة يليها مستطيل ذو ستة عشر ضلعًا، وهكذا إلى أن ينتهي التاج بالدرجة السادسة للتاج1.

وقد عثر على نماذج من الأعمدة المثمنة الأضلاع في معبد "صرواح" بـ"أرحب"، وفي "حقه" وفي "العرين" وفي "بيت غفر" وفي "سوق النعم" وفي "شبام كوكبان" وفي "مأرب"، وفي مواضع أخرى. ويرجع عهد هذا النوع إلى ما قبل الميلاد، ويمتد إلى ما بعده. ويرى بعض الباحثين أن أكثر هذه الأعمدة قد ظهر في فترة من الزمن تقع فيما بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الثاني من بعد الميلاد2.

وقد رأى "كلاسر""Claser" عمودًا مثمنًا ذا تاج "كورنثي" في مسجد "منقط" بالقرب من "يريم"، يرى الباحثون أنه من صنع عامل يوناني. وهم يرون أن أصلة من مدينة "ظفار" التي لا تبعد كثيرًا عن هذا المكان، جيء به من هناك إلى هذا المسجد. وقد كانت "ظفار" مركزًا خطيرًا وعاصمة لحمير، وفيها أسس "ثيوفيلوس" كنيسة حوالي سنة "354" للميلاد. وصارت هذه المدينة مركزًا لأسقفية تشرف على نجران وهرمز وسقطرى. وقد عثر في هذا المسجد على قطع أخرى أثرية، عليها آثار الصلبان وكتابات حبشية وآثار أخرى تشير إلى أصل نصراني، يظهر أنها من أيام استيلاء الحبشة على اليمن، وأنها ترجع إلى ما بين سنة "525" و"570" للميلاد. وفي خلال هذه المدة كان

1 "Hand،der altar. alter.، I، S. 148.".

2 "A. Grohmann، S. 210.".

ص: 39

احتلال الحبشة للعربية الجنوبية1.

ولا أستبعد أن يكون من بين هذه الأعمدة التي نحت الصليب فوقها، أعمدة جاهلية أُخذت من المعابد الوثنية، ثم حفر الصليب عليها، لتتناسب مع الطقوس النصرانية. أو أنها كانت معابد وثنية قديمة، فلما استولى الحبش على اليمن، أو عند اعتناق أهل تلك المواضع للنصرانية حولّوا تلك المعابد إلى كنائس وأحدثوا فيها بعض التكييف والتغيير لتكون في وضع يناسب الكنيسة، فكان في جملة ما أدخلوه عليها حفر الصلبان على أعمدة تلك المعابد.

وتظهر الأعمدة المكونة من ستة عشر ضلعًا، وكأنها أسطوانة، أي: عمودًا ذا شكل دائري؛ لأن الأضلاع صارت ضيقة متقاربة أعطت العمود شكل أسطوانة. وقد عثر على نماذج من هذه الأعمدة في مدينة "تلقم" وفي معبد "صرواح" بأرحب، وفي "صرواح""الخريبة" وفي "الفراس"، وفي جامع المتوكلية بصنعاء2.

ويرى بعض الباحثين أن الأسطوانات، أي: الأعمدة المدوّرة ذات الشكل الأسطواني التام، قد ظهرت بعد الأعمدة المذكورة، وأنها ترجع إلى الأزمنة المتأخرة لذلك من تأريخ اليمن3.

ومن العربية الجنوبية انتقلت هذه الأعمدة إلى بلاد الحبشة، حيث نجدها في معابد الحبشة القديمة. وقد أخذ أهل تلك البلاد هذا النوع من الأعمدة في جملة ما أخذوه من حضارة أهل العربية الجنوبية4. وقد رأينا أن أهل سبأ كانوا قد أقاموا حكومة لهم في إفريقية، وقد ترك أهل العربية الجنوبية، ولا سيما أهل سبأ منهم، آثارًا في اليمن في مختلف النواحي، ما تزال ظاهرة للعيان.

وقد استعملت الأعمدة المصنوعة من الخشب لحمل السقوف ولا سيما في البيوت.

1 Philostorgios، Historia Ecclesiastica، III، 4، Handb. Der Altar. Alter، I، S. 148،

2 A. Grohmann، S، 210، Rathjens un Van Wiossmann، Vorislamische Altertumer، 132، 133، Glaser، Geographische Forshungen in Jemen، 1882، 73.

2

3 "A. Grohmann، S. 210.".

4 Deutsche Aksum – Expedition، II، S. 101. F، 154، FF، Hand. Der Altar، Alter، I، S. 148.

ص: 40

وتوجت هذه الأعمدة بتيجان في الغالب، جعلت على هيآت وأشكال مختلفة. ولا يزال الناس يستعملون هذه الأعمدة في بناء البيوت.

وقد نوّع المعمار هندسة تيجان الأعمدة والأساطين، بأن جعلها أشكالًا وأنماطًا، راعى وحرص على أن يجعلها تتناسب مع شكل العمود الذي سيوضع التاج فوقه، أو الأسطوانة التي سيوضع عليها. وقد مرّ هذا التنويع في أدوار وأطوار، كما مرت صناعة الأعمدة والأساطين بهذه الأدوار كذلك. لقد كان التاج في بادئ أمره جزءًا أساسيًّا من أجزاء العمود، أي: قطعة منه. هي القطعة الأخيرة من قطع العمود. وعلى هذا الجزء أقام قواعد السقف من غير أن يميزه عن الأجزاء الباقية من أجزاء العمود بأي شيء. ثم بدا له أن يجعل للقطعة الأخيرة حافة عليا بارزة، وأن يجعل أعلاها أوسع من أسفلها الذي هو قاعدة التاج التي ترتكز على بقية أجزاء العمود. وذلك لأسباب فنية تتعلق بالبناء وبعقد عقود سقوف المعابد. ثم أخذ يجعل التاج قطعة حجر تكون أوسع مساحة من مساحة القطعة من العمود الذي سيوضع فوقها، أي: أوسع من مساحة العمود نفسه، وصار يزخرفه ويتفنن في زخرفته، حتى ظهرت عنده جملة تيجان أقيمت عليها سقوف المعابد والقصور. وقد عثر على تيجان بسيطة هي عبارة عن حجر وضع فوق العمود، ولكي يربط هذا التاج بالعمود ربطًا محكمًا، ويجلس فوقه جلوسًا تامًّا هندسيًّا، فقد ربط بالعمود بوتد يقوم مقام المسمار في ربط أجزاء الخشب بعضها ببعض، يدخل في التاج وفي العمود ليربط بينهما ويجعلهما وكأنهما قطعة واحدة من حجر. وقد توضع بين التاج والعمود مادة بنائية لتشد بين الحجرين وتمسك بينهما، فضلًا عن "المسمار" الذي يدخل في الثقب الموجود في الحجرين، إن كان ذلك "المسمار" متحركًا أي: متنقلًا، أو في الثقب المحفور في الحجر المقابل، إن كان ذلك "المسمار" أو الوتد ثابتًا وقد نحت في أحد الحجرين حتى صار مرتفعًا كقطب الرحى، ليدخل في التجويف المعمول في الحجر الثاني المقابل وبذلك يتماسك الحجران.

وقد وجد "كلاسر" تاج عمود، ظهر أنه كان مؤلفًا من حجرين، حجر مربع الشكل أطرافه قائمة الزوايا، وأضلاعه الخارجية عدلة، ثم حجر آخر أقيم تحته، أي: فوق العمود، أطرافه الخارجية منحوتة نحتًا جعل الأطراف مائلة نحو العمود، أي: إلى الجهة السفلى1. وربما كان هذا النوع من التيجان مرحلة من

1 "A. Grohmann، S. 210.".

ص: 41

مراحل تكبير التاج وتطويله بجعله يتألف من جملة طبقات. كما عثر على تيجان جعلت جملة طبقات، طبقة مصقولة ملساء، وطبقة منحوتة ومزخرفة زخرفة هندسية أو بأشكال أخرى حسب ذوق المهندس المعمار الذي وضع تصميم المكان.

عثر على نماذج أخرى عديدة من التيجان، تفنن في نحتها وفي تكوينها المعمار. وتمثل بعض منها شخصية ذلك المعمار تمام التمثيل. فهي مستقلة تمثل طابع العمارة العربية الجنوبية. ولكننا نجد بعض التيجان وكأنها تقليد ومحاكاة لتيجان أجنبية. فبينها تيجان تشبه تيجان أعمدة بعض معابد مصر التي تعود إلى ما قبل الميلاد، ونجد بعضًا وكأنه محاكاة لتيجان يونانية أو رومانية أو فارسية أو حبشية. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن عددًا من تيجان الأعمدة الموجودة اليوم في بعض دور الحكومة بصنعاء، أو في المساجد أو في بعض البيوت هي من أيام الاحتلال الحبشي أو الساساني لليمن. ولا يستبعد أن يكون من بينها تيجان وأعمدة أخذت من كنيسة "القليس"1.

ولما كانت العربية الجنوبية على اتصال بالعالم الخارجي، منذ عصور ما قبل الميلاد، وقد شهدت فتوحًا أجنبية، كما كانت لها صلات تجارية مع الروم والإفريقيين والهنود والفرس، فلا يستبعد استخدام العرب الجنوبيين للأعاجم في أعمال البناء، وتأثرهم بالأساليب المعمارية الأجنبية، ولا سيما في أثناء الفتح الحبشي لليمن، فقد ذكر أهل الأخبار أن الحبش استعانوا بفعلة من الروم في بناء "القليس"، كما أن الروم كانوا قد شيدوا كنائس في عدن وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب، وقد بنيت هذه الكنائس وفقًا لأسلوب الفن البيزنطي النصراني ولا شك. وقد كان بين الفرس من يحسن البناء ويتقنه، كما كان لأهل العربية الجنوبية اتصال بالفرس قبل هذا الفتح، وكانت فيها جاليات منهم ولا سيما في الأقسام الجنوبية الشرقية، فأثروا بذلك في طراز البناء.

وما قلته من تفنن المعمار العربي الجنوبي في تنويع الأعمدة وتيجانها ينطبق أيضًا على القواعد التي أقيمت الأعمدة عليها. فبعد أن كانت قاعدة العمود أو الأسطوانة بسيطة، لا تمتاز عن العمود بأي شيء، بل كانت قطعة واحدة منه، ليست لها عن بقية الأقسام أية ميزة، رأى المعمار تمييزها عن بقية الأقسام، فجعلها أوسع

1 "A. Grohmann، S. 119، Sabaeica، I، 119.ff.".

ص: 42

من العمود، وأعطاها أشكالًا هندسية وزخرفية ميزتها عن العمود وعن تاجه. فنجد قواعد أعمدة على شكل مربع أو على شكل مستطيل أو على شكل دائري. ثم نجدها بسيطة تمامًا، ونجدها مزخرفة ومزوقة. ونجدها وقد نحتت على شكل تظهر وكأنها من طبقات مختلفة.

وعلى هذه الأعمدة والتيجان والأسطوانات أقيمت سقوف المعابد والقصور وبيوت السادات عقدت عقدًا على نحو ما نراه في الوقت الحاضر من بناء المساجد وبعض الأسواق القديمة والأبنية الأثرية. ولا يستبعد استعمال أهل اليمن للقباب في معابدهم وفي قصورهم، فمادة البناء متوفرة عندهم، والإمكانيات الفنية موجودة عند المعمار العربي الجنوبي. عقدت على عقود وأقواس ينتهي مركز ثقلها بتيجان الأعمدة أو برءوس الأعمدة على طريقة بناءهم للمساجد في هذه الأيام.

ولم تجر حتى الآن حفريات علمية واسعة في اليمن وفي بقية أنحاء العربية الجنوبية، كما أن دراسات المتخصصين الضليعين بعلوم العربيات الجنوبية قليلة، ولهذا كان علمنا بالآثار العربية الجنوبية ضحلًا لا يعين على تكوين رأي علمي واضح صحيح في آثار تلك الأرضين وفي صلة الحضارة العربية الجنوبية بغيرها من الحضارات.

لقد وضع "كلاسر" مخططات تقريبية لبعض المعابد والأبنية القديمة في اليمن، مثل معبد صرواح ومعبد "محرم بلقيس" حرم بلقيس، وهو معبد إله سبأ الرئيس "المقه" وأماكن أخرى، كما وضع غيره مخططات أخرى. ولكن هذه الدراسات تقريبية وغير كاملة. ولا بد من وقت للبحث في هندسة هذه الأماكن بحثًا علميًّا دقيقاً. ومثل هذه البحوث لا تقوم إلا بحفريات عميقة منتظمة، توصلنا إلى أسس تلك الأبنية وما طمر في الأرض من آثار تتعلق بتلك الأماكن.

وقد تمكن المنقبون في هذا اليوم من تثبيت معالم بعض المعابد ولا سيما معبد "المقه" بمأرب، حيث شخصوا بعض معالمه، إلّا أن تحديده بصورة مضبوطة واضحة، وتعيين مواضع العبادة فيه، تحتاج إلى دراسات أثرية واسعة وبمقياس كبير. فقد أمكن مثلًا تنظيف بعض مواضع معبد "اوم""اوام" بمدينة "مأرب" من الأتربة، لتظهر معالمه، وأمكن بذلك من الحصول على معلومات أثرية لا بأس بها عنه، غير أن معارفنا عنه لا تزال قليلة؛ لأن البحث العلمي لم يتم على هذا المعبد حتى الآن. وترى في الصورة بقايا الأعمدة التي كانت تحمل

ص: 43

سقوف المعبد، كما تشاهد بعض بقايا جداره، وهو من المعابد المهمة التي كانت في "مأرب".

1يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر.

معبد أوام بمدينة مأرب

من كتاب "Qataban and Sheba""ص257"

وقد نُسي اسم هذا المعبد القديم، الذي كان يسميه السبئيون معبد "اوم""أوّام". وكانوا يتقربون إليه بالهدايا والنذور، تقدم باسم رب هذا المعبد:"بعل اوم". وهو "المقه" إله سبأ الأكبر، إله القبيلة القديم. وهو القمر ويسمى معبده في هذا اليوم بـ"حرم بلقيس" وبـ"محرم بلقيس"، ويقع على مسافة ميلين تقريبًا من قرية "مأرب" الحديثة. وتقع معظم ساحة المعبد وجدره وأبنيته تحت الرمال. وما لم ترفع هذه الكثبان الرملية عنه، فإنه من المستحيل التحدث عنه حديثًا علميًّا. وقد سرق الناس أحجار السقوف وأعالي جدار المعبد، لاستعمالها في البناء، ولما زار "كلاسر" المعبد ووصفه، رأى سقف

ص: 44

المعبد، أي: البيت الذي يتعبد فيه، وكذلك أعالي سوره، وكانت زيارته له سنة "1888م"، ولا نجد اليوم من آثار السقف وأعالي الجدران شيئًا، بسبب سرقة الأحجار، ولولا الرمال التي غطت الأرض والجدران وساحة المعبد، وحفظت في باطنها أحجارها وبعض الأعمدة الضخمة التي صعب على الناس قلعها، لما تبقى من حجارة هذا المعبد شيئًا.

يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر

جانب من معبد –أوام – وترى أبوابًا ونوافذ لقاعة من قاعات هذا المعبد.

ويظن أنها ليست من أصل المعبد بل أضيفت إليه من كتاب

"Qataban and Sheba""ص272"

ص: 45

وقد بني هذا المعبد في أيام "المكربين"، وقد وجدت فيه كتابة تعود إلى أيام المكرب "يدع ايل ذرح بن سمهعلي" مكرب سبأ. ويرى "البرايت" أنه حكم في منتصف القرن السابع قبل الميلاد. وربما كان هذا المكرب قد جدد بناء هذا المعبد الذي أقامه مكربون سبقوه في الحكم1.

وتجد في هذه الصورة بقايا جدار معبد "اوم"، وبقايا نوافذ حجرية، وقد تخللتها ثقوب لدخول الهواء والنور منها، وقد نقشت وزخرفت. وقد جدد ورمم بناء المعبد مرارًا، وأضيفت عليه جملة زيادات، كما يتبين ذلك من الكتابات التي عثر عليها المنقبون داخل المعبد، وقد دوّنت لمناسبات التجديد وإدخال الإضافات، ثم من طراز الهندسة الذي نراه في البناء ومن تنوع الأحجار ومادة البناء.

وهذه صورة أخرى، أخذت أثناء قيام بعثة "وندل فيلبس" بأعمال الحفر في معبد "اوام" وترى الأعمدة قائمة، والعمال يشتغلون في إزاحة الأتربة التي طمرت ذلك المعبد القديم.

يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر

من كتاب "Qataban and Sheba""ص256".

1 راجع الصفحة "215 وما بعدها" من كتاب:

Archaeological Discoveries in South Arabia، 1958، by John Hopkins Press.

للوقوف على وصف هذا المعبد.

ص: 46

وهذه صورة أخرى لمعبد "اوم""اوام"، في أثناء قيام بعثة "وندل فيلبس" بالحفر فيه.

يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر

ونرى في هذه الصورة أعمال الحفر لبعثة "وندل فيلبس" وهي تجري في معبد "عثتر" بمدينة "تمنع" عاصمة قتبان. ويعود عهده إلى القرن الأول قبل الميلاد.

ص: 47

وتوجد في خرائب "مأرب" آثار معبد آخر خصص لعبادة "المقه" كذلك، هو معبد "برن""بران". ويعرف موضعه بـ"العمايد" عند أهل مأرب الحاليين. وذلك لوجود أعمدة من أعمدته القديمة ظاهرة على سطح الأرض. ولم يقم العلماء بالتنقيب عن هذا المعبد المهم1.

وقد بقيت في العربية الجنوبية بقية من أصول الهندسة المعمارية الجاهلية، تظهر معالمها في المباني الضخمة التي تكوّن بيوت الحكام والأسر الغنية، والتي تضم في الغالب أحجارًا قديمة مكتوبة وغير مكتوبة، وتراثًا قديمًا موروثًا ورثه المعمارون من عرب ما قبل الإسلام. وترى في الصورة نموذجًا من الريازة القديمة المتمثلة في مسجد "الأشرفية" بمدينة تعز، وهي ريازة أخذت من الفن الجاهلي. وترى الضريح، وقد أقيم

يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر

ضريح أحد الأئمة في مسجد الأشرفية بمدينة تعز

من كتاب: "Gûnther Pawelke Jemen""ص64".

1 Archaeological Discoveries in South Arabia، pp. 238، A. Jamme، Inscriptions de Al Amyid a Mareb، in Le Museon، LXVIII، 1955، pp. 317، Jamme 534.

ص: 48

على طراز عربي قديم، لا يشبه الأضرحة التي توجد في البلدان العربية الأخرى، لاستمداده هندسته من هندسة الأضرحة القديمة في العربية الجنوبية.

ونرى في هذه الصورة المأخوذة لجامع "الجندية" فنًّا، يختلف عن فن بناء المساجد في العراق أو في بلاد الشأم، فلعقود هذا الجامع ولأعمدته وأسطواناته صلة بالأبنية العربية الجنوبية القديمة. وأنت إذا دققت في هذه الصورة ترى طراز بناء القسم الأيمن منها يختلف عن طراز بناء الجزء الأيسر منها، ومع ذلك فإن للطرازين صلة بالفن العربي الجنوبي. وترى سطح السقف، وقد زين بأفاريز لها صلة بالأفاريز التي كان يعملها العرب الجنوبيون على مثل هذه المواضع من أسوار مدنهم، وأبنيتهم الضخمة من دور وقصور.

يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر.

جامع الجندية

من كتاب: "Jamen، das Verbotene land" لمؤلفه "Gûnther Pawelke""ص96".

ونرى في الصورة التالية التي هي صورة مسجد بمدينة "تعز"، فنًّا، له جذور وأصول قديمة، استمد روحه من الفن العربي الجنوبي الذي يعود إلى

ص: 49

أيام ما قبل الإسلام. وهو فن له استقلال في الشخصية، ومزايا تميزه عن الفن في المواضع الأخرى من جزيرة العرب. ونرى بعض قباب مساجد اليمن لها شخصية مستقلة، ترشدنا إلى أنها من أصل ذلك الفن اليماني العريق في القدم.

يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر

مسجد في تعز

من كتاب: "Jamen، das Verbotene land" لمؤلفه "Gûnther Pawelke""ص48"

وعندي أن من الواجب في هذا اليوم دراسة الفن المعماري القائم حاليًا في العربية الجنوبية، المتجلي في الأبنية القائمة الباقية التي لها طابع عربي جنوبي خاص، من قصور ودور ومساجد وأضرحة، ودراسة فن الزخرفة المتمثلة في النقش على الحجر، من زخرف قديم وزخرفة حديثة، ودراسة الأعمال الفنية السائدة اليوم، مثل: النجارة والحفر والنقش والرسم وما شاكل ذلك؛ لأن مثل هذه الدراسة تساعدنا كثيرًا في الوقوف على الفن العربي الجنوبي.

وقد أبدع أهل العربية الجنوبية في فن الزخرفة، و"الزُخرف" في تفسير علماء العربية: الذهب في الأصل، ثم سميت كل زينة زخرفًا، ثم شبه كل مموه مزوّر به. وفي حديث يوم الفتح أنه لم يدخل الكعبة حتى أمر بالزخرف فنحّي وأمر بالأصنام فكسرت. الزخرف هنا نقوش وتصاوير1. ومن النقوش التي عثر

1 تاج العروس "6/ 126"، "زخرف".

ص: 50

عليها في العربية الجنوبية نقوش حيوانات وأشجار وصور بشر حفرت على الأحجار أو المعادن أو الأخشاب، وعلى ألواح من الجبس، استعملت في أغراض مختلفة للزينة. ومنها أحجار منقوشة، نقشت عليها عناقيد عنب وأغصان وأوراق، وما شاكل ذلك. وجد علماء الآثار أن بعضًا منها يعود عهده إلى القرون الأولى من الميلاد1.

وإذا كانت المعابد شاهدًا على الفن وعلى التفكير الديني لقوم من الأقوام، فإن المقابر هي شاهد كذلك على وجهة نظر القوم إلى العالم الآخر، عالم ما بعد الحياة. فما في القبر من أدوات وأشربة وطعام وآنية، أو من بساطة وسذاجة، تشير إلى تفكير القوم في شكل الحياة الآخرة وفي كيفيتها وفي درجة تعلقهم وتمسكهم بالآلهة وبالدين.

وخير مثال على ذلك، أهرامُ مصر وآثارها، فإنها آثار قبورية، تمثل مبلغ تغلغل الدين في نفوس الحاكمين وفي الشعب، ووجهة نظرهم إلى عالم ما بعد الحياة. لقد أنفق الحاكمون على قبورهم أكثر مما أنفقوه على قصورهم في الدنيا. إن بهم –بعد الموت– حاجة إلى كل ما يحتاج إليه الإنسان في الحياة. ولهذا ادخروه في هذه المقابر، ليستفيد منها الميت بعد انتقاله إلى العالم الآخر ورجوع الحياة إليه. أما العربي، فلم يهتم بقبره اهتمام المصري به، فلم يترك "المكربون" ولا الملوك ولا الأمراء ما تركه الفراعنة والكهان والأمراء في قبورهم، لا كله ولا بعضه. إنه لم يكن يحفل بالحياة الآخرة احتفال أهل مصر بها، لذلك نجد قبره ساذجًا، ثم هو لم يدخل فيه طعامًا ولا شرابًا ولا أثاثًا، ولم يدخل فيه كذلك خدمًا وحشمًا من بقايا الحاشية المسكينة التي أدخلت إلى القبر قسرًا لتخدم سيدها في العالم الآخر، كما خدمته في العالم الأول.

وقد يقال: إن لفقر بلاد العرب دخلًا في ذلك، ولكن ما بال أهل اليمن، وقد كانوا في سعة وخير، لا يفعلون في قبورهم بعض ما فعله أهل مصر. وما بال قبور ملوكهم ساذجة، لا تحتوي ذهبًا ولا حجارة كريمة ولا تصاوير وتماثيل وتوابيت وجثثًا للضحايا التي تدفن مع الميت؟ إن ذلك، إن دلّ على شيء، فإنما يدل على اختلاف في وجهة نظر القوم عن وجهة نظر المصريين مثلًا

1 "Beitr?ge، S. 18.".

ص: 51

عن الحياة الآخرة. ونحن لا نتكهن في الزمن الحاضر عن وجهة نظرهم في ذلك الزمن، لعدم وجود كتابات جاهلية أو آثار تتحدث عن تلك الحياة.

وإذا قلنا: إن تلك القبور كانت ساذجة خالية من الكنوز التي يجدها الناس في أهرامات مصر، فإن ذلك لا يعني أن قبور الجاهليين، كانت كلها خالية من النفائس تمامًا. فقد عثر في بعض منها على أساور من ذهب وخواتم وتماثيل وجرار بل وعلى سيوف وخناجر وسكاكين، وضعت مع الميت في قبره، كما يروي أهل الأخبار أن بعض الجاهليين كانوا يتعقبون المقابر القديمة، فينبشونها لاستخراج ما فيها من أشياء نفيسة، حتى ذكروا أن ثراء "عبد الله بن جدعان" إنما كان من المقابر القديمة التي كانت بمكة1، ورووا قصصًا عن قبور زعم أن الناس عثروا فيها على كنوز، وقد سبب هذا القصص إقدام الناس على نبش المقابر الجاهلية لاستخراج ما قد يكون في جوفها من ذهب وكنوز، مما أفسدها وأزال معالمها وأضاع علينا تراث الجاهليين.

وقد ذكر "أبو علي لغدة" الأصفهاني، أن "بجلدان هضبة سوداء، يقال لها: بتعة، ومنها نُقُبٌ، كل نقب قدر ساعة، كانت تلتقط فيه السيوف العادية، والخرز، يزعمون أن فيه قبورًا لعاد، وكانوا يعظمون ذلك الجبل"2.

وقد عثر على بعض المقابر الجاهلية في العربية الجنوبية، ظهر منها أن القبور ساذجة لا تكلف فيها ولا تعقيد في الغالب. ولكنها مختلفة باختلاف الأرضين والقبائل وطبيعة الأرض. فقد عثر على قبور اتضح منها أن الجاهليين في بعض أماكن من اليمن، وضعوا الميت في تابوت قائم الزوايا، مصنوع من الحجر، وقد غطي بغطاء من الحجر كذلك. ومثل هذه القبور لا تكون في العادة إلا في الأماكن التي تتوفر فيها الحجارة. أما في الأماكن الصحراوية والترابية التي لا تتوافر فيها مثل هذه الحجارة، فلم يكن من الممكن وضع الميت في مثل هذا التابوت، ولهذا كانوا يدفنونه في الأرض في لحد، ثم يهال على الميت التراب. وقد عثر على جملة قبور تكوّن مجموعة واحدة يحيط بها حائط معقود بالحجارة يتراوح ارتفاعه من متر إلى خمسة أمتار. وهي مدافن أسرة واحدة في الغالب. وقد أشير إلى

1 الروض الأنف "2/ 92 وما بعدها".

2 بلاد العرب "13، 30".

ص: 52

أمثال هذه المقابر في الكتابات. كما عثر على قبور هي غرف نحتت في الصخور، وقد كُتب على باب الغرفة، أي: القبر، اسم صاحب القبر أو أسماء المدفونين في الغرفة1. وقد وصف "هريس" بعض هذه القبور2.

وعثر على بقايا مقبرة خارج سور مأرب من ناحية الشمال والغرب، تبين من فحصها ودراستها أن بعض الموتى قد دفنوا وقوفًَا، وبعضهم قد دفنوا على الطريقة المألوفة، أي: اضطجاعًا على الأرض. ومن هذه المقبرة العامة الجاهلية حصر "كلاسر" على عدد كبير من شواهد القبور، التي وضعت فوق قبور أصحابها لتدل عليهم، ولتشير إلى صورة صاحب القبر واسمه3.

وقد عثر في معبد "اوم""اوام"، المعروف بمحرم "بلقيس"، على مقابر، لها أبواب تؤدي إليها. ذات غرف، اتخذت مواضع لوضع الجثث بها. وجد أن بعضها كانت مقابر للمكربين وللملوك، فقد عثر على اسم "سمه علي ينف""سمهعلي ينف""سمه علي ينوف"، مكتوبًا على حجر في أحد القبور، وعثر على اسم آخر هو:"يثع امر بين بن يكرب ملك وتر" وهما من الملوك الذين اعتنوا بهذا المعبد، فأضافوا إليه إضافات، ولعلّ الحفريات المقبلة ستكشف عن أسماء ملوك آخرين قبروا في هذا المعبد الكبير، الذي كان المعبد الرئيسي لشعب سبأ في عاصمته مدينة مأرب "هجرن مربن"، "هجرن مرب".

وقد عثر في هذه المقابر على مباخر، يظهر أنها استخدمت لتبخير القبر عند دفن الموتى، وفقًا لطقوسهم الدينية، كما عثر على قطع من الأحجار الكريمة وبعض المصوغات المعمولة من الذهب، ونظرًا لوجودها مبعثرة، يظن أن الأيدي قد عبثت بها، فنهبت ما كان أهل الموتى قد دفنوه مع الميت من أشياء ثمينة4.

ووصف "فون ريده" نوعًا من الأضرحة وجده في "صهوة" بحضرموت. وقد وصفه بأنه بناء على هيئة مكعب، طول كل ضلع منه زهاء 25 قدماً، وبارتفاع مماثل. وقد شيد من حجارة مربعة كبيرة، ويبلغ سمك حائطه قدمين.

1 "Handb.der altar. alter.، I، S. 162.".

2 "W. B. Harris، A Journey through The Yemen، London، 1893، p. 273.".

3 "Wissmann – H?fner، S. 28.".

4 "Archaeological Discoveries in South Arabia، p. 235.".

ص: 53

وهو مقسم في الداخل إلى قسمين. يكون القسم الواحد غرفة يفصل بينهما حائط يبلغ ارتفاعه ستة أقدام من مدخل البناء. ويتكون السقف من حجارة عرضها قدمان. ونجد جوانبه ثلاثة أهرام للزخرفة. وعلى البناء كتابة قبورية تشير إلى القبر1.

ولتخليد ذكرى صاحب القبر، ولوقوف الناس عليه، استخدم العرب الجنوبيون كغيرهم شواخص قبور، هي عبارة عن أعمدة من الحجر رباعية أو غير رباعية يكتب في أعلاها اسم المتوفى. وقد يصور تحت الكتابة صورة تمثل الميت، أو ترمز إلى شيء ديني. وقد عثر "كلاسر" على عدد من هذه الشواهد القبورية في مأرب2.

وقد تكون الشواخص على هيئة صخور مستطيلة، يكتب عليها اسم صاحب القبر. وقد تزخرف هذه الصخور. وتنتهي الكتابة بلفظة "صلم" في بعض الأحيان، بمعنى صنم، أي: صورة، ويراد بها صورة المتوفى، أو الرمز الدال على شيء مقدس. وقد تدوّن الكتابة في القسم الأسفل من الشاهد، وتحفر الصورة في القسم الأعلى منه. وعثركلاسر أيضًا على نوع آخر ساذج من الشواهد، هو عبارة عن نصب يشتمل على الكتابة وتحتها عينان فقط3. وتثبت هذه الشواهد في الأرض. وقد وجد لبعضها حافة رقيقة كحد السكين، وذلك لتسهيل تثبيتها في الأرض، ومقاومتها لعبث الهواء والآفات الأخرى فيها4.

ويقال للقبر "مثبر" و"هقبر""القبر" في اللحيانية5. وقد عثر المنقبون على أحجار قبور، كتبت عليها أسماء الموتى، وصورت عليها صور تشير إلى الميت، وحفرت عليها بعض الرموز والإشارات المستعملة في طقوسهم الدينية.

وقد وجدت في المقبرة الملكية لملوك أوسان تماثيل لبعض ملوك هذه الأسرة الصغيرة التي حكمت مملكة أوسان، وقد كتبت على قاعدة التماثيل أسماء الملوك، ويتبين من وجودها في هذه المقبرة، أن آل الميت دفنوا مع الملك المتوفى تمثالًا

1 "A. von wrede، Reise in Hadhramaut، S. 245.".

2 "Handb-der altar. alter.، I، S. 163.Wissmann –H?fner، S. 28.".

3 "D. H. Müller، Südarrabische Altertuner، S. 50.".

4 "Handb-der altar. alter.، I، S. 164.".

5 النص رقم 45 و46 و47 من كتاب: "W. Caskel، S. 99، 133.".

ص: 54

له، ربما ليدل على قبره. وكتب لذلك عليه اسمه ليعرف، ولم يعثر على مواد أخرى ثمينة، ويظهر أنها كانت موجودة غير أن السرّاق سرقوها، فلم يبق فيها غير ما فات عنهم، فلم يصلوا إليه. وقد موّنت المقابر الأخرى التي سلمت علماء الآثار والباحثين بألواح من الحجر، نحتت عليها صور المتوفين، فوضعت شواخص على القبور، ليعرف بالشاخص صاحب القبر، كما عثر على مثل هذه الشواخص في باطن القبر، مما يدل على أنها دفنت مع الميت في القبر.

يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر.

شواخص قبور حاول صانعوها إبراز معالم أصحابها وقد أبدعوا في بعضها وخابوا في البعض الآخر.

من كتاب: "Qataban and Sheba""ص224"

ونرى في الصورة التالية تماثيل صغيرة استخرجت من مقبرة قديمة، ويلاحظ أن الأنف دقيق، وقد حفرت العيون حفرًا، وجعلت واسعة نوعًا ما في بعض التماثيل. وقد نقرت بعض هذه القبور نقرًا في الصخور، وهي صغيرة لا تتسع إلا لميت واحد، ولكن المنقبين وجدوا مقابر جماعية، تضم أفراد العائلة الواحدة.

ص: 55

يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر

تماثيل عثر عليها في مقبرة قديمة

من كتاب "Qataban and Sheba""ص117".

وعثر في المقابر التي ضمت جدث نساء على أقراط وحلي نسائية، وعلى أشياء أخرى تستعملها المرأة. وقد أمكن بواسطتها من تشخيص صاحبة القبر، ومن الوقوف على مكانة أسرتها ومنزلتها. وتوجد بعض الحلي في المتاحف، وهي

يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر

قلادة من الذهب الخالص تعود إلى القتبانيين، عثر عليها في مقبرة قديمة عند "تمنع" من كتاب:"Qataban and Sheba""ص116".

ص: 56

جميلة تدل على مهارة "الصائغ" العربي الجنوبي. وفي جملة ما عثر عليه قلادة، عمل القسم الرئيسي منها على شكل هلال، بداخله زخارف، كما ترى في الصورة السابقة التي عثر على أصلها في مقبرة قديمة من مقابر "تمنع" عاصمة قتبان.

ووجدت مصوغات أخرى من ذهب، لا يزال الصاغة يصوغون من أمثالها في العربية الجنوبية وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب. منها ما يعلق على الرأس، ومنها ما يعلق على الرقبة، ومنها ما يوضع على الزند أو المرفق أو الأرجل، ويلاحظ أن لفن الصاغة في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية طابع خاص يميزه عن فن الصاغة في البلاد الأخرى. وقد وضع الصاغة شعارات دينية على بعض المصوغات تيمنًا وتبركًّا بها. ولهذا فمن المستحسن مقارنة المصوغات الحالية مع المصوغات الجاهلية التي عثر وسيعثر عليها، للتوصل بهذه المقارنة إلى معرفة تأريخ هذه الحرفة عند العرب.

وقد وجدت مجامر قديمة في مواضع متعددة من اليمن. وقد استعمل بعضها في المعابد، واستعمل بعض آخر في البيوت حيث يحرق فيها البخور أو بعض الأخشاب ذوات الروائح الطيبة العطرة لتطييب القادم. ولا تزال هذه العادة المعروفة قبل الإسلام مستعملة في اليمن، وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب، كما في "بيشة" مثلًا، وذلك على سبيل التقدير والتكريم والاحترام1.

1 في بلاد عسير: "ص62".

ص: 57