المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السابع والعشرون بعد المائة: الأمثال - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٥

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الخامس عشر

- ‌الفصل السادس عشر بعد المئة: الفن الجاهلي

- ‌العمارة

- ‌الفصل السابع عشر بعد المئة: القصور والمحافد والاطام

- ‌مدخل

- ‌الأعمدة والأسطوانات:

- ‌الفصل الثامن عشر بعد المئة:‌‌ الخزفوالزجاج والبلور

- ‌ الخزف

- ‌الفصل التاسع عشر بعد المئة: الفنون الجميلة

- ‌مدخل

- ‌التصوير:

- ‌الفصل العشرون بعد المئة: أمية الجاهليين

- ‌الفصل الحادي والعشرون بعد المئة: الخط العربي

- ‌مدخل

- ‌الخط العربي:

- ‌الفصل الثاني والعشرون بعد المائة: المسند ومشتقاته

- ‌مدخل

- ‌أصل القلم المسند:

- ‌القلم اللحياني:

- ‌الخط الثمودي:

- ‌الأبجدية الصفوية:

- ‌الترقيم:

- ‌الفصل الثالث والعشرون بعد المائة: الكتابة والتدوين

- ‌الفصل الرابع والعشرون بعد المائة: الدراسة والتدريس

- ‌الكتاتيب:

- ‌مواد الدراسة:

- ‌الكاتب:

- ‌الفصل الخامس والعشرون بعد المائة: الكتاب والعلماء

- ‌مدخل

- ‌الملاحن والألغاز:

- ‌الفصل السادس والعشرون بعد المائة: الفلسفة والحكمة

- ‌مدخل

- ‌الحكمة:

- ‌الفصل السابع والعشرون بعد المائة: الأمثال

- ‌فهرس الجزء الخامس عشر:

الفصل: ‌الفصل السابع والعشرون بعد المائة: الأمثال

‌الفصل السابع والعشرون بعد المائة: الأمثال

و"المثل" لون من ألوان الحكمة. وهو يقابل "مشل" في العبرانية، ومعنى آخر هو الحكمة والأساطير والقصص ذو المغزى. ولا يشترط في المثل أن يكون نثرًا، فقد يكون شعرًا. وفي الموارد الإسلامية أمثلة جاهلية كثيرة من النوعين، لم يصل أي مَثَلٍ منه مدونًا في نص جاهلي1.

وللحكماء المذكورين أمثلة كثيرة ترد في كتب الأدب والمواعظ والأمثال. وقد شرح غرضها أصحاب الموارد التي ذكرتها، وتعرض الرواة للقصص المروي عنها. غير أن من الصعب التثبت من صحة نسبة تلك الأمثال إلى أولئك الحكماء والتثبت من صحة هذا القصص المروي عنها.

وكلمة المثل من المماثلة. وهو الشيء المثيل لشيء يشابهه، والشيء الذي يضرب لشيء مثلًا، فيجعل مثله2، والأصل فيه التشبيه، ويقابله "مشل""مشال" Mashal في العبرانية، و Parabole في اليونانية، ومعناها المماثلة والمشابهة، أي: المعنى الوارد للفظة في العربية. والغاية من الاهتداء بما فيه من حكمة ومن

1 "والمثل: الشيء يضرب لشيء مثلًا فيجعل مثله"، اللسان "11/ 610 وما بعدها""صادر"، نهاية الأرب "3/ 2 وما بعدها"، كتاب جمهرة الأمثال، لأبي هلال العسكري، "القاهرة 1964م"، "1/ 7".

2 اللسان "11/ 610 وما بعدها"، "مثل".

ص: 354

حسن توجيه، ومثل أخلاقية للسير على هديها في الحياة1. وقد ضربت التوراة الأمثال للناس للاتعاظ بها والأخذ بما فيها من عبر. ورد في سفر "حزقيال":"هو ذا كل ضارب مثل يضرب مثلًا عليك قائلًا: مثل الأم بنتها"2، وجاءت الأمثال في الأناجيل فورد:"في هذا يصدق القول: إن واحدًا يزرع وآخر يحصده"3.

وقد لخص الإصحاح الأول من سفر "الأمثال" الغاية من ضرب الأمثال بقوله: "لمعرفة حكمةٍ وأدبٍ، لإدراك أقوال الفهم، لقبول تأديب المعرفة والعدل والحق والاستقامة، لتعطي الجهال ذكاء والشاب معرفة وتدبرًا، لفهم المثل واللغز وأقوال الحكماء وغوامضهم: مخافة الرب رأس المعرفة. أما الجاهلون فيحتقرون الحكمة والأدب"4. فالأمور المذكورة، تمثل الغاية التي يتوخاها ضراب الأمثال من الأمثال: وقد جعلت أسفار الأمثال المثل: مخافة الرب رأس المعرفة أول أمثالها: وهو في العربية: رأس الحكمة مخافة الله.

ونجد في سفر "أمثال" كلامًا للحكماء، هو مزيج من أمثلة وحكم وألغاز، دون أن يشير إلى أسماء أصحابه5، ونجد مثل ذلك في الأدب العربي. وقد اشتهر أبناء الشرق بالحكمة عند العبرانيين.

والمثل بعد، هو عقل ضاربه، وثقافة البيئة التي ظهر فيها. ولهذا نجد الأمثال متباينة مختلفة حسب تنوع القوم الذين ظهر بينهم. ففي البيئة التجارية يكون المثل من هذه البيئة في الأغلب، وفي البيئة الزراعية يكون المثل مشربًا بروح المزارعين، وفي البادية تكون الأمثال ذات طبيعة بدوية. ومن هنا اختلفت أمثال قريش عن أمثال الأعراب، وأمثال عرب العراق عن أمثال أهل العربية الجنوبية، وهكذا. ولهذا فإن للمثل في نظر المؤرخ قيمة كبيرة من حيث إنه يرشده إلى مظاهر تفكير من ضرب بينهم، ويعرفه بمبلغ ثقافة قائليه.

ولما كانت الأمثال مرآة لعقلية زمانها ولعقلية من ينسب قول المثل إليه، أو من

1 Hastings، p. 767.

2 حزقيال، الإصحاح السادس عشر، الآية 44.

3 إنجيل يوحنا 4، الآية 37.

4 أمثال، الإصحاح الأول، الآية الأولى وما بعدها.

5 أمثال، الإصحاح الثاني والعشرون، والإصحاح الرابع والعشرون.

ص: 355

ضرب به المثل. تباينت في البلاغة وفي قوة التعبير وعمق المعنى، وفي الفكرة، فصار بعضها آية في الحكمة وفي قوة البيان وفي عمق المغزى والمعنى، وصار بعض منها بسيطًا تافهًا. ونجد هذه الحالة في أمثال كل الأمم. إذ إن المثل لا يصدر عن طبقة معينة، بل قد يأتي من رجل جاهل بسيط، وقد ينسب إلى غبي بليد أو إلى شخص من سواد الناس اتخذ رمزًا للتعبير عن ناحية من نواحي الحياة، أو نموذجًا يعبر عن طبقة من الطبقات. وإنما المهم في رواج المثل وفي بقائه، أن يكون منبعثًا عن واقع حال، معبرًا عن رأي سديد، قصير قدر الإمكان مركزًا له وقع حسن على السمع، يصلح أن يكون مثلًا لكل زمان ومكان. فيروج ويدوم، وقد يتخذ مثلًا من أمثلة الحكمة، وهو كلما قصر، سهل حفظه وطال عمره.

وأفضل المثل السائر: أوجزه، وأحكمه: أصدقه، وقولهم: مثل شرود، وشارد، أي: سائر لا يرد كالجمل الصعب الشارد الذي لا يكاد يعرض له ولا يرد. وقد تأتي الأمثال محكمة إذا تولاها الفصحاء من الناس، وإذا جاءت في الشعر، سهل حفظها1.

والأمثال مادة مهمة غنية في الأدب الجاهلي والإسلامي. وفي القرآن الكريم أمثلة كثيرة ضربت للناس للتفكر والتعقل، وهي تدل على ما لها من أهمية تعليمية في العقل العربي. والأمثال المضروبة مرجع لمن يريد الوقوف على بعض الأمثلة التي استعملها الجاهليون. وفي الحديث النبوي مادة مهمة تمدّ هذا الباحث بمادة غزيرة عن المثل عند الجاهليين2.

و"الأمثال من حكمة العرب في الجاهلية والإسلام، وبها كانت تعارض كلامها، فتبلغ بها ما حاولت من حاجاتها في النطق بكناية بغير تصريح، فيجتمع لها بذلك ثلاث خلال: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه"3. فالأمثال إذن عند الجاهليين نوع من أنواع الحكمة السائرة بين الناس. يقولها السيد والمسود، البارز والخامل، وهي تحفظ بسهولة ولا يحتاج المرء لتعلمها إلى

1 العمدة "1/ 280 وما بعدها".

2 المستطرف في كل فن مستظرف "1/ 27 وما بعدها".

3 المزهر "1/ 234".

ص: 356

مهارة وذكاء. وكان لحفّاظ الأمثال مقام عندهم؛ لأنهم ممن وهبوا بيانًا ناصعًا وقوة في اللسان، تمكن صاحبه من ضرب المثل في موضعه، ومن قوله في مكانه. والعادة أن يكثر الحكيم من الأمثال في كلامه؛ لأنها المادة التي يستعين بها في إظهار حكمته وعقله، يضيف عليها أمثالًا من عنده، هي من وحي تجاربه وقوة ملاحظته.

وقد وردت كلمة "مثل" و"أمثال" في مواضع كثيرة من القرآن، وفي ورود الكلمتين بهذه الكثرة دلالة بالطبع على ما كان للمثل من أهمية كبيرة عند الجاهليين. وفيه أمثلة كثيرة ضربت للعبرة والتذكر، لتكون درسًا يتعظ به أولو الألباب. ويلاحظ أن العرب يضعون لفظة "ضرب" قبل كلمة المثل في الغالب، ورد في القرآن الكريم {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} 1، و {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} 2، وورد {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} 3، و {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَال} 4، و {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} 5، وفي مواضع أخرى منه. وضرب المثل إيراده ليتمثل به ويتصور ما أراد المتكلم بيانه للمخاطب. يقال: ضرب الشيء مثلًا وضرب به وتمثله وتمثل به. وضرب المثل اعتبار الشيء بغيره وتمثيله به6.

وقد أشاد العلماء بما للأمثال من أهمية في الحث على إصلاح النفس، فقال بعضهم:"إنما ضرب الله الأمثال في القرآن تذكيرًا ووعظًا"، وقال بعض آخر: "ضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور كثيرة: التذكير، والوعظ، والحث، والزجر، والاعتبار، والتقرير، وتقريب المراد من العقل، وتصويره بصورة المحسوس

إلخ". وروي أن الرسول قال: "إن القرآن نزل على خمسة أوجه: حلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. فاعملوا بالحلال، واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال" 7.

وجعل "الماوردي" الأمثال من أعظم علم القرآن8.

1 إبراهيم، الرقم 14، الآية 24.

2 النحل، الرقم 16، الآية 75 وما بعدها، ومواضع أخرى.

3 إبراهيم، الرقم 14، الآية 45.

4 النحل، الرقم 16، الآية 74.

5 الحشر، الرقم 59، الآية 21.

6 تاج العروس "1/ 347"، "ضرب".

7 السيوطي، الإتقان "4/ 38".

8 المصدر نفسه.

ص: 357

وللرسول أمثال كثيرة، وذكر عن "عمرو بن العاص"، أنه حفظ عن النبي ألف مثل1. ونجد في كتب الأمثال أمثالًا نسبت إلى الرسول. منها:"إن من البيان لسحرًا"2، و"إن مما ينبت الربيعُ لما يقتل حبطًا أو يلم"3. و"إياكم وخضراء الدمن"4، و"من كثر كلامه كثر سقطه"5، و"انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، ويروى أنه من أمثلة أهل الجاهلية6. وقد نسبت أمثلة جاهلية أخرى إلى الرسول.

والأمثال أقوال مختصرة، يراعى في وضعها الإيجاز والبلاغة والتأثير. وقد يكون المثل كلمتين، وقد يكون أكثر من ذلك. ولكن العادة ألا يكون طويلًا؛ لأن طول المثل يفقده روعته وتأثيره، فلا يكون مثلًا، ولا يمكن حفظه عندئذ فيضيع. ويراعى أن يكون سجعًا أو طباقًا. وأن يرتب في جمل متوازية بسيطة العبارة، أو مزدوجة أو أكثر من ذلك قليلًا. وأن تكون هنالك مناسبة بين الجمل حتى يبدو المثل جميلًَا متناسقًا.

والقاعدة في الأمثال ألا تغيّر، بل تجري كما جاءت. وقد جاء الكلام بالمثل وأخذ به وإن كان ملحونًا؛ لأن العرب تجري الأمثال على ما جاءت، ولا تستعمل فيها الإعراب7. والأمثال قد تخرج عن القياس، فتُحكى كما سُمعت، ولا يطرد فيها القياس، فتخرج عن طريقة الأمثال. "قال المرزوقي: من شرط المثل ألا يغيّر عما يقع في الأصل عليه"8.

وقال المرزوقي "في شرح الفصيح: المثلُ جملة من القول مقتضبة من أصلها أو مرسلة بذاتها، فتتسم بالقبول، وتشتهر بالتداول، فتنقل عما وردت فيه إلى كل ما يصح قصده بها من غير تغيير يلحقها في لفظها، وعما يوجبه الظاهر إلى

1 الاستيعاب "2/ 339"، "حاشية على الإصابة".

2 العسكري، جمهرة الأمثال "1/ 13".

3 المصدر نفسه "1/ 16".

4 العسكري، جمهرة "1/ 17"، الميداني "1/ 21"، المستقصي "180".

5 العسكري، جمهرة "1/ 19".

6 العسكري، جمهرة "1/ 58"، الميداني "2/ 194"، الفاخر "147"، السيوطي، الجامع الصغير "1/ 188".

7 المزهر "1/ 487"، "النوع الخامس والثلاثون. معرفة الأمثال".

8 المزهر "1/ 487 وما بعدها".

ص: 358

أشباهه من المعاني، فلذلك تُضرب وإن جُهلت أسبابها التي خرجت عليها، واستجيز من الحذف ومُضارع ضرورات الشعر فيها ما لا يستجاز في سائر الكلام"1.

ويلاحظ أن العرب قد أجازت لضارب المثل الخروج فيه على قواعد اللغة، كما أجازت ذلك للشاعر بدعوى ضرورات الشعر، ليستقيم الشعر مع القوافي والوزن. أجازته في المثل لأنه قد يصدر شعرًا، وقد يصدر سجعًا، وقد يصدر من أفواه أناس جهلة لا يبالون بالقواعد، أو ليس لهم علم بها، وقد يصدر من قبيلة لا تتبع في لغتها قواعد الإعراب.

ونجد في كتب الأمثال وفي كتب الأدب أمثالًا وضعت لأغراض مختلفة، يغلب عليها الطابع التعليمي، أي: تعليم من يقرأها حكمة الحياة، وتجارب الماضين حتى يُستفاد ويُتعظ. بعض منها نابع من محيط البداوة ومن الطبيعة الأعرابية، وبعض منها تجارب عملية عامة تنطبق على كل الناس وتصلح لكل الأوقات2.

والأمثال عند بعض الشعوب صنف من أصناف الشعر، لما فيها من الخصائص المتوفرة في الشعر عندهم. وقد روعي في المثل بصورة عامة أن يكون قصيرًا موجزًا وبليغًا معبرًا عن حكمة، فيه نغمة وترنيم. ليؤثر في النفوس. ويحمل الطبع قائل المثل على مراعاة هذه الأمور من غير تفكير ولا تصنع، وهو إذا كان صادرًا من قلب وسجية، ومعبرًا عن نفس جياشة وعن حس بشري عام، يشعر به كل إنسان تقبله الناس بسرعة، ووجد له مجالًا من الانتشار، وعمر عمرًا طويلًا.

والأمثال، هي في صدر المؤلفات التي وضعها المسلمون، فقد روي: أن عبيدًا بن شَرْيَةَ الجُرهُمي، وهو من أهل "صنعاء" باليمن، من أوائل المؤلفين في الأخبار وملوك العرب والعجم، ألّف كتاب "الأمثال" وقد رآه "ابن النديم" في نحو خمسين ورقة. كذلك ألّف صحار بن العباس العبدي، وهو من بني عبد القيس، وممن أدرك الرسول، "كتاب الأمثال"3. وذكروا

1 المزهر "1/ 486 وما بعدها".

2 الأمالي "2/ 11، 28، 51، 77 ومواضع أخرى"، المستطرف "1/ 27 وما بعدها"، المزهر "1/ 488 وما بعدها".

3 الفهرست" ص138"، ابن الأثير "1/ 149".

ص: 359

أن "عِلّاقة الكلابي" جمع الأمثال في عهد يزيد بن معاوية1، وأن "المفضل الضبي" "168هـ" من مشاهير علماء الكوفة في الشعر واللغة ألّف كتابًا في الأمثال دعاه: كتاب الأمثال2، وأن أبا عبيد القاسم بن سلام "223هـ""224"هـ"، ألّف كتابًا في الأمثال كذلك3.

وألّف "يونس بن حبيب""183هـ" كتابًا دعاه "كتاب الأمثال"4، وألف "أبو المنهال" كتابًا في الأمثال، عرف بـ "كتاب الأمثال السائرة" وقف عليه "ابن النديم"5، ولأبي عبيدة "209هـ""210هـ""211هـ" كتاب في الأمثال، عرف بكتاب الأمثال6، وللأصمعي "217هـ" كتاب في الأمثال كذلك7، وللشورى، وهو ممن أخذ عن الأصمعي كتاب في الأمثال8. ولأبي إسحاق إبراهيم بن سفيان، من تلامذة الأصمعي، كتاب في الأمثال9. وألّف غير هؤلاء من العلماء كتبًا في هذا الموضوع طبع بعض منها فنال شهرة، مثل كتاب جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري "395هـ"، وكتاب مجمع الأمثال للميداني "518هـ"10، وقد أخذ "أبو هلال العسكري" أمثالًا وردت في كتاب لحمزة الأصبهاني في الأمثال، وهو كتاب توجد نسخة خطية منه في القاهرة11.

وبين المؤلفات في الأمثال رسالة لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي

1 الفهرست "90"، بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 261"، فجر الإسلام "ص61""الأمثال"، "الطبعة العاشرة".

Wustenfeld، Geschichtschr.، ll، Goldziher، Muh. Stud، ll، 204.

2 الفهرست "108".

3 الفهرست "112".

4 الفهرست "69"

5 الفهرست "78".

6 الفهرست "85".

7 الفهرست "88".

8 الفهرست "91".

9 الفهرست "92".

10 كارلو نلينو، تأريخ الآداب العربية "96".

11 العسكري، جمهرة "1/ 6"، "حاشية رقم 5".

ص: 360

"395 هـ"، طبعت بعنوان:"كتاب أبيات الاستشهاد"1، دوّن فيها بعض الشعر الذي استشهد به الناس في أمثالهم. ورسالة أخرى ألّفها "أبو العباس محمد بن يزيد المبرد" الأزدي "285هـ"، بعنوان:"رسالة في أعجاز أبيات تغني في التمثيل عن صدورها"2.

وهنالك مؤلفات عديدة أخرى، وضعت في الأمثال. وفي إقبال المؤلفين على التأليف بها بهذه الكثرة، دلالة على ما كان للمثل من أهمية، وعلى ما كان له من قيمة في نظر أهل الجاهلية. حفظوه حفظهم للشعر، بل أكثر من الشعر؛ لأنه يرد على كل لسان، يرد على لسان الحكيم البليغ كما يرد على لسان الغبي والجاهل، ثم إنه توجيه وتربية وتعليم، فلا نستغرب إذن إذا ما وجدنا كتب الأمثال في صدر الكتب التي ظهرت في الإسلام. وقد رأيت أنها ظهرت في عهد "معاوية" وبأمره، فهي بحق من أوائل المؤلفات التي وصلت إلينا بالعربية. وكان معاوية مولعًا بسماع الأمثال والقصص وأخبار الماضين والشعر.

والأمثال، هي أيضًا مادة مهمة لفهم التأريخ الجاهلي. فقد تعرض جامعوها لأصل المثل وللأسباب مضربه، وجاءوا بشروحهم هذه بمادة تأريخية استعنا بها على فهم مواضع من ذلك التأريخ. ولكنا يجب أن نأخذ هذه الأمثال وشروحها بحذر. ففي أكثر الشروح تكلف وضعف، يدلان على عدم إمكان الاعتماد عليها في تكوين حكم علمي.

ونجد في الأمثال الجاهلية أمثالًا ضربت بالناس، مثل: أسخى من حاتم، وأشجع من ربيعة بن مكدم، وأدهى من قيس بن زهير، وأعز من كليب وائل، وأوفى من السموأل، وحجام ساباط، وقوس حاجب، وغيرها. ونجد أمثالًا تمثل فيها بالبهائم، وغير ذلك. ولكل مثل قصة تروي منشأ ضرب ذلك المثل وما وراءه من خبر. وهي تعبير عن روح الزمان الذي قيل فيه وعن نفسية المتمثلين به. وكثير من الأمثال الجاهلية ما زالت دائرة على ألسنة الناس. وفي وجودها دلالة على أن الأحوال التي قيلت فيها لا تزال قائمة، ودليل ذلك اعتبار الناس بها والاستشهاد بها في المناسبات.

1 سلسلة نوادر المخطوطات "المجموعة الثانية"، "137 وما بعدها"، "تحقيق عبد السلام هارون"، "القاهرة 1951م".

2 نوادر المخطوطات "المجموعة الثانية"، "63 وما بعدها".

ص: 361

وبين أمثال العرب أشعار جاهلية الأصل صارت مثلًا، ولا يزال بعض منها حي يضرب به مثل، لما فيه من حكمة ومن ملاءمة لكل وقت وزمان1. وضرب المثل بعجز البيت أحيانًا أو بجزء منه، كما في المثل: "بعض الشر أهون من بعض". فهو من بيت ينسب لطرفة هو:

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا

حنانيك بعض الشر أهون من بعض2

ومن الأمثلة القديمة المشهورة حتى اليوم: "آخر الدواء الكي"، و"آخر الطب الكي"، زعم أنه من أمثلة "لقمان بن عاد". وقد ذكر "الزمخشري" سبب ضرب "لقمان" له، وأورد له كلامًا مع امرأة خانت زوجها، وكلامًا مع زوجها وكيف عرفه فأرشده إلى خيانتها له3. وأورد مثلًا ضرب بكثرة أكل "لقمان"، هو: آكل من لقمان. وكانوا يزعمون أنه كان يتغدى بجزور، ويتعشى بأخرى، ويتخلل بحوار. وأنه ضاجع امرأته يومًا، وقد أكل جزورًا، وأكلت فصيلًا، فما قدر على الإفضاء إليها، فقال: كيف أفضي إليك وبيني وبينك بعيران4.

ويظهر من القصص المنسوب إليه، أنه قد انتزع من قصص قديم، كان معروفًا عند الجاهليين، مرويًّا بينهم. فإذا أعدنا قصته المذكورة مع المرأة، وقد رواها "ابن الكلبي" عن "عوانة"5 نجدها وقد غصت بالأمثلة، وبطريقة الجاهليين في التفسير والتعليل، مما يجعل الإنسان يرى أنها من القصص الجاهلي القديم، الذي احتفظ بمعناه ومضمونه، وإن صيغ بلغة حاكيه.

ورووا لقس بن ساعدة الإيادي، أمثالًا، منها: إذا خاصمت فاعدل، وإذا قلت فاصدق، ولا تستودعن سرك أحدًا، فإنك إن فعلت لم تزل وجلًا، وكان بالجيار، إن جنى عليك كنت أهلًا لذلك، وإن وفى لك كان الممدوح

1 المستطرف "1/ 30 وما بعدها".

2 العسكري، جمهرة "1/ 67".

3 الزمخشري، المستقصى في أمثال العرب "1/ 3"، "حيدر آباد الدكن 1962م"، العسكري، جمهرة "1/ 97، 426".

4 المصدر نفسه "ص7".

5 العسكري، جمهرة "1/ 424 وما بعدها".

ص: 362

دونك. وكن عف العيلة، مشترك الغنى تسد قومك. إلى غير ذلك من أمثال نسبوها إليه1.

وفي "كتاب الجوهرة في الأمثال" من "العقد الفريد"، باب خاص عنوانه:"أمثال أكثم بن صيفي وبزرجمهر الفارسي"2. وهي تستحق الدرس والنقد، لمعرفة أصولها وعلاقة هذه الأمثال بالأدبين العربي والفارسي.

ونجد في كتب الأدب طائفة من الأمثال في الأدب والحكمة، نسبت إلى "أكثم بن صيفي"، منها: ربّ عجلة تهب ريثًا، وادرعوا الليل فإن الليل أخفى للويل، والمرء يعجز لا المحالة، ولا جماعة لمن اختلف، ولكل امرئ سلطان على أخيه حتى يأخذ السلاح فإنه كفى بالمشرفية واعظًا، وأسرع العقوبات عقوبة البغي، وشر النصرة التعدي، ورب قول أنفذ من صول، والحر حر وإن مسه الضر، والعبد عبد وإن ساعده الجد، وإذا فزع الفؤاد ذهب الرقاد، وربّ كلام ليس فيه اكتتام، وحافظ على الصديق ولو في الحريق، وليس من العدل سرعة العذل، وليس بيسير تقويم العسير، وإذا بالغت في النصيحة هجمت بك على الفضيحة، ولو أنصف المظلوم لم يبق فينا ملوم3.

وليس في إمكان أحد إثبات أن هذه الأمثال وغيرها هي لأكثم بن صيفي حقًّا، وبينها أمثال إنسانية عامة نجدها عند مختلف الأمم، وبينها أمثال قيلت في اليونانية وفي بعض اللغات الأخرى قبل أيام "أكثم" بزمان طويل. إلا أن نسبة هذه الأمثال إليه، تشير إلى أنه كان من حكماء الجاهلية البارزين ومن ذوي الرأي والحكمة عند قومه.

والأمثال النابعة من صميم الحياة الإنسانية ومن التجارب العملية، والاختبارات الطويلة، تكون ذات طبيعة حكيمة عامة، فتظهر لذلك عند كل الناس، وتخرج على كل لسان، فلا يمكن أن يقال: إنها من مخترعات الأمة الفلانية، ومن مبتكرات العقل الفلاني؛ لأنها كما قلت خواطر إنسانية، تخطر على بال كل

1 العسكري، جمهرة "1/ 249"، الميداني "1/ 73".

2 العقد الفريد "3/ 63 وما بعدها"، ومن أمثاله:"مقتل الرجل بين فكيه"، و"ربما أعلم فأذر"، يريد أنه يدع ذكر الشيء وهو به عالم لم يحذر من عاقبته، العقد الفريد "3/ 81".

3 المزهر "1/ 50 وما بعدها".

ص: 363

شخص، له رأي سديد، وفكر صائب. وإن نسبت إلى شخص معين، لذلك يصعب علينا إرجاع الأمثال الإنسانية العامة إلى جماعة معينة. قال "الجاحظ": وقد كان الرجلُ من العرب يقف الموقف فيرسل عدة أمثلة سائرة، ولم يكن الناس جميعًا ليتمثلوا بها إلا لما فيها من المرفق والانتفاع، ومدار العلم على الشاهد والمثل"1.

ومن أمثال أهل الجاهلية: إن من البيان لسحرًا، وإن الجواد قد يعثر، وإن البلاء موكل بالمنطق، وإن أخا الهيجاء من يسعى معك ومن يضر نفسه لينفعك. وأنف في السماء وأنف في الماء. وأَجِع كلبك يتبعك، واشتدى أزمة تنفرجي، وربّ رمية من غير رام، وربّ أكلة تمنع أكلات، واستراح من لا عقل له، وسبق السيف العذل، إلى غير ذلك من أمثلة2.

ومن الأمثال الجاهلية الباقية حتى اليوم المثل: مواعيد عرقوب، مثل يضرب لمن يعد ولا يفي. فقد ورد في شعر المتلمس، إذ قال:

الغدر والآفات شيمته

فافهم فعرقوبٌ له مثل

وورد في شعر كعب بن زهير:

كانت مواعيد عرقوب لها مثلًا

وما مواعيدها إلا الأباطيل

قيل: عرقوب رجل من خيبر، كان يهوديًّا وكان يعد ولا يفي، فضربت به العرب المثل. وقيل: رجل من العماليق أتاه أخ له يسأله فقال له عرقوب: إذا أطلعت هذه النخلة فلك طلعها. فلما أطلعت أتاه للعدة، فقال: دعها حتى تصير بلحًا، فلما أبلحت قال: دعها حتى تصير زهوًا، فلما أزهت قال: دعها حتى تصير رُطبًا، فلما أرطبت قال: دعها حتى تصير تمرًا، فلما أتمرت عمد إليها عرقوب من الليل فجذّها، ولم يعطِ أخاه منه شيئًا، فصار مثلًا، وفيه يقول الأشجعي:

وعدتَ وكان الحلف منك سجيةً

مواعيد عُرقُوب أخاه بيثرب

1 البيان والتبيين "1/ 271".

2 المستطرف "1/ 28 وما بعدها".

ص: 364

وقال آخر:

وأكذب من عرقوب يثرب لهجةً

وأبين شؤمًا في الحوائج من زُحل1

وذكر أن اسمه "عرقوب بن صخر"، أو "عرقوب بن معبد "معيد" بن أسد"، رجل من العمالقة على القول الأول. قاله ابن الكلبي، وعلى القول الثاني، فهو رجل من "بني عبد شمس بن سعد"، وقيل: إنه كان من الأوس. كان أكذب أهل زمانه، ضربت به العرب المثل في الخلف، فقالوا: مواعيد عرقوب2.

ومن الأمثال القديمة: صحيفة المتلمس، روي أن الرسول كتب كتابًا لعيينة بن حصن، فلما أخذه، قال:"يا محمد أتراني حاملًا إلى قومي كتابًا كصحيفة المتلمس". هي إحدى الصحيفتين اللتين كتبهما "عمرو بن هند" لطرفة والمتلمس، إلى عامله بالبحرين في إهلاكهما، وخيّلهما أنهما كتابا جائزة، فنجّى المتلمس عملُه على الخرم وهربُه إلى الشأم، وسارت صحيفته مثلًا في كل كتاب يحمله صاحبه يرجو منه خيرًا وفيه ما يسوءه3.

ومن الأمثلة القديمة "عنقاء مغرب"، والمثل به، "طارت به عنقاء مُغرِبٌ" زعموا أنه طائر كان على عهد "حنظلة بن صفوان الحميري" نبي أهل الرس عظيم العنق، وقيل: كان في عنقه بياض ولذلك سُمي عنقاء، اختطف غلامًا فأغرب به، ولذلك سُمي المغرب، فدعا عليه حنظلة فرمي بصاعقة. وقد ذكر المثل في الشعر4.

ومن الأمثال الجاهلية الحية التي لا تزال ترزق، المثل:"تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه". يضرب مثلًا لمن خبره خير من مرآه. ذكر "ابن الكلبي" أن هذا المثل ضُرب "للصقعب بن عمرو" النهدي. قاله له النعمان بن المنذر وقال "المفضل": المثل للمنذر بن ماء السماء، قاله لشقة بن ضمرة سمع بذكره، فلما رآه اقتحمته عينه فقال: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فأرسلها مثلًا

1 المزهر "1/ 494 وما بعدها".

2 تاج العروس "1/ 378"، "عرقب".

3 الفائق "2/ 13".

4 الزمخشري، المستقصي "2/ 150".

ص: 365

فقال: له شقة: أبيت اللعن! إن الرجال ليسوا بجُزر يراد منهم الأجسام، وإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه فذهب مثلًا، وأعجب المنذر بما رأى من عقله وبيانه، ثم سمّاه باسم أبيه فقال: أنت ضمرة بن ضمرة. وقيل: إن المثل للنعمان بن المنذر، قاله لشقة بن ضمرة1.

وقد أورد "ابن الكلبي" قصة تأريخ المثل على هذا النحو: قال: وفد "الصقعب بن عمرو" النهدي في عشرة من "بني نهد" على "النعمان بن المنذر" وكان "الصقعب" رجلًا قصيرًا دميمًا تقتحمه العين، شريفًا بعيد الصوت، وكان قد بلغ النعمان حديثه، فلما أخبر النعمان بهم قال للآذن: إئذن للصقعب، فنظر الآذن إلى أعظمهم وأجملهم، فقال: أنت أنت الصقعب؟ قال: لا. فقال: الذي يليه في العظم والهيئة: أأنت هو: فقال: لا. فاستحيا فقال: أيكم الصقعب؟ فقال الصقعب: هأنذا! فأدخله إلى النعمان، فلما رآه قال: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه! فقال الصقعب: أبيت اللعن! إن الرجال ليسوا بالمسوك يستقى فيها، إنما الرجل بأصغريه بلسانه وقلبه، إن قاتل قاتل بجنان، وإن نطق نطق ببيان. فقال له النعمان: فلله أبوك! ثم سأله أسئلة امتحنه بها، ليرى عقله، فكان يجيبه أحسن جواب. فقال له النعمان: أنت أنت! فأحسن صلته وصلة أصحابه2.

وينسب المثل: "ألوى بَعيد المستمر"، إلى "النعمان بن المنذر"، وأخوه "طُفيل الغنوي" فأدخله شعره3. ومن الأمثلة الشهيرة القديمة قولهم:"على أهلها جنت براقش"، يضرب مثلًا للرجل يهلك قومه بسببه4.

وينسب المثل: "إن الشقي وافد البراجم" لعمرو بن هند، ملك الحيرة، حلف ليقتلن مائة من تميم، فقتل تسعة وتسعين رجلًا منهم إحراقًا بالنار، وبقي واحد، فلما دنا رجل من البراجم من الملك، وسأله عن أهله، فقال: من

1 الخزانة "1/ 151"، "بولاق".

2 المزهر "1/ 495 وما بعدها"، العمدة "1/ 285".

3

ألفيتني ألوى بعيد المستمر

أحمل ما حملت من خير وشر

العسكري، جمهرة "1/ 32 وما بعدها".

4 العمدة "1/ 285".

ص: 366

البراجم، قال: إن الشقي وافد البراجم، وأمر به فألقي في النار1.

ومن الأمثال المشهورة قولهم: "عند جهينة الخبر اليقين". وقيل: "عند جفينة الخبر اليقين""حُفينة". وكان من حديثه أن "حصين بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن كلاب" خرج، ومعه رجل من "جهينة" يقال له:"الأخنس" فنزلا منزلًا، فقام الجهني إلى الكلابي فقتله، وأخذ ماله، وكانت أخته "صخرة" بنت "عمرو" تبكيه في المواسم، وتسأل عنه فلا تجد من يُخبرها، فقال الأخنس فيها:

كصخرة إذ تسائل في مِراح

وفي جَرْمٍ وعلمهما ظنونُ

تسائل عن حصينٍ كل ركب

وعند جهينة الخبر اليقين2

ومن أمثالهم المشهورة قولهم: بمثل جارية فلتزن الزانية، وذلك أن "جارية بنت سليط بن الحرث بن يربوع بن حنظلة" كان أحسن الناس وجهًا وأمدهم قامة، وأتى سوق عُكاظ فأبصرته فتاةٌ من خثعم فأعجبها فتلطفت له، حتى وقع عليها، فعلقت منه، فلما ولدت أقبلت هي وأمها وخالتها تلتمسه بعكاظ، فلما رأته الفتاةُ قالت: هذا جارية! فقالت أمها: بمثل جارية فلتزن الزانية سرًّا أو علانية، فذهب مثلًا3.

ونسب المثل: "أرسل حكيمًا ولا توصه" إلى "الزبير بن عبد المطلب"4، ونسب المثل "استنوق الجمل" لطرفة بن العبد5. ومن الأمثلة القديمة:"على أهلها دلت براقش"، و"عش رجبًا تر عجبًا"6، و"العصا من العصية" و"أعز من كليب وائل"، و"أعزّ من بيض الأنوق" و"أعز من

1 العسكري، جمهرة "1/ 121"، "يذكر 98 شخصًا، ثم يتم العدد، بذكر هذا الرجل، ثم أكمله بالحمراء بنت خمرة، حيث أحرقها، وتحلل من يمينه، وتذكر الموارد الأخرى خلافه. وقد تحدثت عن هذا المثل".

2 المزهر "1/ 498 وما بعدها"، العسكري، جمهرة "2/ 44".

3 المزهر "1/ 499".

4 العسكري، جمهرة "1/ 98".

5 العسكري، جمهرة "1/ 54"، الأغاني "1/ 132"، الشعر والشعراء "1/ 135".

6 العسكري، جمهرة "2/ 52 وما بعدها"، الميداني "1/ 310"، الحيوان "1/ 260"، العقد الفريد "3/ 54".

ص: 367

الغراب الأعصم"، و"أنصف القارة من راماها". والمثل: "أرسل حكيمًا ولا توصه"، هو في الواقع مَثَل قديم، لا بد وأن يكون قد وضع في العربية، قبل أيام "الزبير"، إذ ينسب إلى الحكيم "أحيقار"، وربما نقل من السريان إلى العرب.

وقد ضرب المثل بشخصيات جاهلية، تركت أثرًا في أيامها، فضرب بها المثل. مثل:"أبلغ من قس"، ويراد به قس بن ساعدة الخطيب الشهير، وأعيا من باقل. وهو رجل من إياد، وقيل: من ربيعة. اشترى ظبيًا بأحد عشر درهمًا، فمرّ بقوم فقالوا له: بكم اشتريت الظبي؟ فمدّ يديه وأخرج لسانه يريد أحد عشر، فشرد الظبي حين مد يديه، وكان تحت إبطيه1. وضرب المثل ببخل مادر، فقيل: أبخل من مادر، وبفصاحة سحبان، فقيل: أخطب من سحبان، وهو القائل:

لقد علم الحي اليمانون أنني

إذا قلت أمّا بعد أني خطيبها2

وضرب الجاهليون الأمثال بكل ما وجدوه حولهم من حيوان ومن نبات وصخور. ولذا نجد على أمثالهم طابع محيطهم، فالحيوان الذي ضربوا به المثل، هو من حيوان جزيرة العرب، ومن النوع المألوف عندهم، مثل الضب والحية والعنز والإبل وما إلى ذلك. ومن هنا اختلفت أمثلة الأعراب أهل البادية عن أمثلة الحضر، أهل المدر، لاختلاف طبيعة البادية عن طبيعة الريف، ولوجود أشياء في أحدهما يندر وجودهما في المحيط الآخر.

وفي شعر "عدي بن زيد" العبادي أمثلة كثيرة، تميز شعره عن شعر بقية الشعراء الجاهليين. ولو درسنا شعره، نجد أن فيه ما يشير إلى مواعظ ترد في النصرانية كما ترد على خاطر كل إنسان يصاب بنكبة، فتهز مشاعره فتجعله ينظر إلى الدنيا نظرة زاهد فيها، ولا أستبعد احتمال تأثره بالكتب التي كان قد وقف عليها، فقد كان نصرانيًّا "وقد قرأ كتب العرب والفرس"3. ولم يذكر أهل

1 المزهر "1/ 503".

2 المزهر "1/ 504".

3 الطبري "2/ 193"، "دار المعارف".

ص: 368

الأخبار شيئًا عن "كتب العرب"، هل أريد بها كتب دينية وضعت في العربية، أم قصد بها كتب في القصص والأمثال وفي الشعر والأخبار وما شابه ذلك، ولعلهم أرادوا بكتب الفرس، الكتب التي تبحث عن قصص ملوكهم. وقد ترجم قسم منها في الإسلام، وقصص الأساطير. وقد رأينا أنها كانت معروفة عند العرب وأن "النضر" كان يقص منها لأهل مكة، وكانوا يسمونها الأساطير.

ونجد في شعر الشعراء الآخرين أمثلة عديدة دخلت شعرهم، أخذوها من المثل السائر، ومن الحكم التي كانت شائعة في أيامهم، أو من القصص، أو من مبتكراتهم ومخترعاتهم، ولا تزال بعض الأمثال الشعرية حية ترزق، يضرب بها الناس المثل فيما يريدون التمثيل به.

ومن الموارد التي أمدّت الأدب الجاهلي بالمثل، الكهان، وكلام الكهان قصير مسجع يميل إلى الرمز والألغاز، يتجنب الصراحة، لتكون فيه قابلية التفسير والتأويل وإعطاء كثير من الاحتمالات، وذلك لما تقتضيه طبيعة الكهانة من تأويل التكهن حسب الأحوال والمناسبات. ونجد في كتب الأدب أمثلة عديدة منسوبة إلى هؤلاء الكهان. ولما كان كلامهم مسجوعًا، قيل له:"سجع الكهان". وقد جاء في الحديث النبوي: "هذا من سجع الكهان"1. وفي الكهان جماعة من الكاهنات، عرفن بالتكهن، مثل: الشعثاء الكاهنة، وطريفة، ويذكرون أنها هي التي أنذرت عمرو بن عامر أحد ملوك اليمن بزوال ملكه، وأخبرته بخراب سد مأرب2، وزبراء الكاهنة3، وسلمى الهمدانية الحميرية4، وعفيراء الكاهنة الحميرية5، وفاطمة بنت مر الخثعمية، وقد ذكروا أنها كانت قد قرأت الكتب6.

ومن الأمثلة الواردة في كتب الأدب: "إن العصا من العُصية"، وهو مثل ينسب إلى "الأفعى الجرهمي"، وهو من الكهّان. قاله لما احتكم إليه أولاد "نزار" بمدينة النجران7. و"الصيف ضيعت اللبن"، وأول من قاله "عمرو

1 بلوغ الأرب "3/ 272".

2 بلوغ الأرب "3/ 283 وما بعدها".

3 بلوغ الأرب "3/ 288 وما بعدها".

4 بلوغ الأرب "3/ 295 وما بعدها".

5 بلوغ الأرب "3/ 296 وما بعدها".

6 بلوغ الأرب "3/ 305 وما بعدها".

7 نهاية الأرب "3/ 7 وما بعدها".

ص: 369

ابن عدس"1، والمثل "أوسعتهم سبًّا وأودوا بالإبل" وينسب إلى "كعب بن زهير بن أبي سلمى"2، والمثل "أن الشقي وافد البراجم"3. إلى غير ذلك من أمثلة تجدها في كتب الأمثال والأدب. ولا يزال بعضها حيًّا يتمثل الناس به، وبعض منه يرد على لسان كل إنسان. أي: أمثلة تنطبق على كل البشر؛ لأنها صادرة من نفس إنسانية عامة، فلا تعدّ من الأمثلة المحلية أو القومية، أي: أمثلة نبعت من محيط أمة معينة. لذلك نجد لها شبهًا عند أمم أخرى. ولا نستطيع أن نقول: إن الأمة أخذتها من تلك.

1 نهاية الأرب "3/ 13 وما بعدها".

2 نهاية الأرب "3/ 17".

3 نهاية الأرب "3/ 18".

ص: 370