المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل الثاني والعشرون بعد المائة: المسند ومشتقاته ‌ ‌مدخل … الفصل الثاني والعشرون بعد - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٥

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الخامس عشر

- ‌الفصل السادس عشر بعد المئة: الفن الجاهلي

- ‌العمارة

- ‌الفصل السابع عشر بعد المئة: القصور والمحافد والاطام

- ‌مدخل

- ‌الأعمدة والأسطوانات:

- ‌الفصل الثامن عشر بعد المئة:‌‌ الخزفوالزجاج والبلور

- ‌ الخزف

- ‌الفصل التاسع عشر بعد المئة: الفنون الجميلة

- ‌مدخل

- ‌التصوير:

- ‌الفصل العشرون بعد المئة: أمية الجاهليين

- ‌الفصل الحادي والعشرون بعد المئة: الخط العربي

- ‌مدخل

- ‌الخط العربي:

- ‌الفصل الثاني والعشرون بعد المائة: المسند ومشتقاته

- ‌مدخل

- ‌أصل القلم المسند:

- ‌القلم اللحياني:

- ‌الخط الثمودي:

- ‌الأبجدية الصفوية:

- ‌الترقيم:

- ‌الفصل الثالث والعشرون بعد المائة: الكتابة والتدوين

- ‌الفصل الرابع والعشرون بعد المائة: الدراسة والتدريس

- ‌الكتاتيب:

- ‌مواد الدراسة:

- ‌الكاتب:

- ‌الفصل الخامس والعشرون بعد المائة: الكتاب والعلماء

- ‌مدخل

- ‌الملاحن والألغاز:

- ‌الفصل السادس والعشرون بعد المائة: الفلسفة والحكمة

- ‌مدخل

- ‌الحكمة:

- ‌الفصل السابع والعشرون بعد المائة: الأمثال

- ‌فهرس الجزء الخامس عشر:

الفصل: ‌ ‌الفصل الثاني والعشرون بعد المائة: المسند ومشتقاته ‌ ‌مدخل … الفصل الثاني والعشرون بعد

‌الفصل الثاني والعشرون بعد المائة: المسند ومشتقاته

‌مدخل

الفصل الثاني والعشرون بعد المائة: المسند ومشتقاته

والمسند من الأقلام العتيقة، وهو أعتق من القلم النبطي المتأخر، وهو أقدم الأقلام التي عرفت في جزيرة العرب حتى الآن. وقد أظهرت الاكتشافات الحديثة أن استعماله لم يكن قاصرًا على اليمن فحسب، بل لقد كان القلم المستعمل في كل أنحاء بلاد العرب. وقد استعمله العرب في خارج بلادهم أيضًا؛ لأنه قلمهم الوطني الذي كانوا به يكتبون فعثر في موضع قصر البنات على طريق "قنا" على كتابات بهذا القلم1، كما عثر على كتابة بهذا القلم كذلك بالجيزة كتبت "في السنة الثانية والعشرين من حكم بطلميوس بن بطلميوس". وهي ليست بعد سنة "261" قبل الميلاد بأي حال من الأحوال2. وعثر على كتابات بالمسند في جزيرة "ديلوس" من جزر اليونان3.

1 Le Muséon، LXII، 1-2، "1949"، p. 56، M. A. S. Tritton. Nous Signale deux Graffites، Publiés par A. E. P.، Weigall، Travels in the upper Egyptian Deserts، London and Edinbourg، 1909، PL. IV. Fig. 13، 14، H.A. Winckler، Rock Drawings of Southern Upper Egypt. I، London، 1928، Site I، p. 4، Ryckmans، in Le Muséon، XLVIII. "1935"، p. 228، J. Leibovich، Les Inscriptions Protosinaitiques، Le Caire، 1934.

2 F. V. Winnett; "The Place of the Minaeans in the History of Pre-Islamic Arabia"; in BOASOOR; Num: 73، February; 1939.

3 المصادر المذكورة.

ص: 202

وذكر السائح الإنكليزي "وليم كنت لوفتس" William Kennett Loftus أنه لاحظ فجوة في "وركاء" Uruk في العراق؛ فبحث فيها فتبين له أنها كانت قبرًا وجد في داخله حجر مكتوب بالمسند، فيه: إن هذا قبر "هنتسر بن عيسو بن هنتسر"1.

ولهذه الكتابة المدونة بالمسند، أهمية كبيرة جدًّا؛ لأنها أول كتابة وجدت بهذا الخط في العراق. وهي تشير إلى الروابط الثقافية التي كانت بين اليمن والعراق، وإلى وجود أشخاص في هذا المكان يستعملون المسند، سواء أكانوا عراقيين أم يمانيين.

وقد عثر على كتابات بالمسند في مواضع من الحجاز، ويظهر أنه كان قلم الحجازيين قبل الميلاد. وقد وصل هذا القلم إلى بلاد الشأم. فقد عثرت بعثة علمية قامت بأعمال الحفر في ميناء "عصيون كبر" عصيون جابر" Ezion Geber على جرار عليها كتابات بحروف المسند، رأى بعض العلماء أنها معينية، تفصح عن الأثر العربي في هذا الميناء المهم الذي حاول سليمان أن يجعله ميناء إسرائيل على البحر الأحمر2.

ويظهر من روايات أهل الأخبار أن غير أهل اليمن، لم يكونوا يستعملون المسند في كتابتهم، ولا يتعاطونه، كالذي يستفاد من قصة "قيسبة بن كلثوم السكوني"، وكان ملكًا وقع في أسر بني عامر بن عقيل، فذكر أنه كتب بالسكين على مؤخرة رجل أبي الطمحان حنظلة بن الشرقي أحد بني القين بالمسند، يخبر قومه بوقوعه في الأسر. ولم يكن أحد من غير أهل اليمن يكتب بالمسند،

1 Travels and Researches in Chaldaea and Susiana، by W. K. Loftus، London، MDCCCLVII، p. 233، Corpus Inscriptionum Semiticarum، IV، As NUM:699.".

2 لم يعين موضع المكان بالضبط ولا يبعد كثيرًا عن "أيلة" على خليج العقبة، ومنهم من يظن أنه كان عند موضع "عين الغديان" الذي هو على بعد عشرة أميال من البحر في قعر "وادي العربة". وكان "خليج العقبة" على ما يظن بعض العلماء يمتد قديمًا إلى هذا الموضع، قاموس الكتاب المقدس "2/ 106".

Ency. Bibli.، p. 1472، BOASOOR، NUM: 75، p. 19.

NUM: 71، p. 15، Revue Biblique، XLVIII، 1939، p. 247، Asia، May، 1939. p. 294.".

ص: 203

فلما قرأه القوم، ساروا إلى بني عامر، وفتكوا بهم، وأنقذوا قيسبة منهم1. ورواية أهل الأخبار هذه لا يمكن أن تكون دليلًا على عدم وقوف غير أهل اليمن على المسند في العهود البعيدة عن الإسلام. ولا على عدم استعمالهم لذلك القلم في حياتهم اليومية؛ لأن علم أهل الأخبار بأحوال الجاهليين لا يرتقي كما سبق أن قلت إلى عهود بعيدة عن الإسلام، ولأن في أكثر الذي ذكروه عنهم، قصص ونسج خيال، يستوي في ذلك حتى ما ذكروه عن الجاهلية الملاصقة للإسلام، ثم إن في الذي عثر عليه السيّاح من كتابات مدوّنة بالثمودية أو بأقلام أخرى مشتقة من قلم المسند ما يفند الرواية المذكورة في عدم استعمال غير أهل اليمن للمسند وفي عدم وقوفهم عليه. ويمكن حمل كلامهم في عدم استعمال أهل الحجاز أو غيرهم للمسند على أيام الجاهلية القريبة من الإسلام. حيث ظهر القلم العربي الشمالي.

والرواية لا يمكن أن ترتقي إلى زمن بعيد عن الإسلام. فنحن نعلم أن "حنظلة بن شرقى" المعروف بالطمحان، وهو من "بني القين بن جسر"2 كان شاعرًا فاسقًا من المخضرمين، وكان نديمًا للزبير بن عبد المطلب في الجاهلية، ثم أدرك الإسلام3، ولو صدقنا الرواية المذكورة وأخذنا بها، وجب أن تكون الكتابة قد وقعت قبيل الإسلام، ومعنى ذلك أن "قيسبة" وهو من "بني السكون" كان يكتب بها، أي إن المسند كان معروفًا ويكتب به خارج اليمن في هذا العهد، ولهذا يكون قول "الأصبهاني":"وليس يكتب به غير أهل اليمن"، مغلوطًا؛ لأن "قيسبة" لم يكن من أهل اليمن، حتى يصح قوله.

وكشفت العروض ونجد وأماكن أخرى عن سر كان العلماء يبحثون عنه في شوق، فقدّمت للعلماء عددًا من الكتابات المدونة بالمسند، وبذلك ثبت علميًّا أن "المسند" كان معروفًا قبل الإسلام في كل جزيرة العرب، وربما كان القلم العام للعرب قبل المسيح، أي: قبل ظهور أقلام أخرى ولدت على ما يظن بعد الميلاد، ففي سنة 1911 للميلاد عثر "الكابتن شكسبير4""Capt. W. H. Shakespear" على

1 "وليس يكتب به "أي بالمسند" غير أهل اليمن"، الأغاني "11/ 125".

2 الاشتقاق "317".

3 الخزانة "3/ 426"، الشعر والشعراء "1/ 304"، المؤتلف "149"، الأغاني "11/ 125"، السرط "332".

4 BOASOOR، Nub. 102، "1946"، p. 4.

ص: 204

كتابتين بالمسند في موضع "حنا""الحنأة"1 وفي خرائب "ثج""ثأج" التي تبعد خمسين ميلًا تقريبًا عن ساحل الخليج وزهاء مائة ميل من شمال غربي القطيف2. وقد نشر ترجمة الكتابتين "ماركليوث"3. وعثر بعد ذلك على كتابة أخرى في موضع "ثج""ثأج" دخلت في ملك أمير الكويت، وقد نشر ترجمتها "ركمنس"4. وهي حجر قبر لشخص من قبيلة "شذب". وعثر على كتابة أخرى في هذا الموضع، وقد بلغ عدد ما عثر عليه في هذا المكان أربع كتابات5.

وعثر عُمال البترول العربية السعودية الأمريكية "أرامكو" في أثناء الحفر على مقبرة من "عين جوان""جون""جاوان"6 عام 1945 للميلاد على حجر مكتوب تكسرت بعض أطرافه بالمعاول قبل معرفته، اتضح بعد أنه حجر قبر لامرأة يقال لها "جشم بنت عمرت""عمرت" بن تحيو من أسرة "عور"

1 حنا: لعل صوابها الحنأة، واحدة الحنأة بتسهيل الهمزة كما هي عادة عرب هذا الزمان في الكلمات المهموزة. والحنأة: موضع يقع غرب بلدة الجبيل – المعروفة قديمًا باسم "عينين" الواقعة على البحر الشرقي "الخليج الفارسي". وتبعد الحنأة عن الجبيل 83 كيلومترًا، وتقع على ممر الطريق منه ومن الظهران والأحساء ولمن يقصد الكويت أو العراق أو نجدًا"، كتاب من السيد حمد الجاسر، تأريخه 13 نوفمبر 1950م، "عينين"، البلدان "6/ 258".

2 "ثأج بالجيم: قال الغوري: يهمز ولا يهمز عين من البحرين على ليال. وقال محمد بن إدريس اليمامي: تاج قرية بالبحرين"، البلدان "3/ 2"، "ثج"، وهي التي وردت في الشعر العربي القديم. وفي ياقوت مهموزة. ولكن العرب في هذا العهد لا يهمزونها. وثأج: موضع فيه سكان وزروع قليلة، يقع بقرب الحنأة في الجنوب الغربي منها بمسافة لا تتجاوز عشرة كيلومترات"، كتاب من السيد حمد الجاسر، تأريخه 13 نوفمبر 1950، البكري، معجم "1/ 333".

3 Douglas Crruthers، "Captin Shakespear's Last Journy"، in the Geographical Journal، LIX، "1922"، 321 -323، Corpus Inscriptionum Semiticarum، Nos. 984 -985.

4 Ryckmans، in Le Muséon، L، p. 239، Ryckmans 155.

5 Le Muséon، L، p. 237، Ryckmans 155.

6 "عين جوان - الصواب: جاوان". ويقع موضع جاوان في داخل الرأس المعروف حديثًا باسم "رأس تنورة" في الجهة الشمالية منه على ساحل البحر، بعد مدخل الرأس ببضعة كيلومترات، وكانت عينه تسقي نخيلًا وزروعًا ولكن ماءها قل، حتى زالت مزروعاتها. كتاب من السيد حمد الجاسر، تأريخه 13 نوفمبر 1950م.

ص: 205

"آل عور" من قبيلة شذب1.

واستخرج "كورنول" P. B. Cornwall لوحًا مكتوبًا بالمسند كان مدفونًا في أحد بساتين القطيف، دفنه أصحاب البستان، وقد ذكر أنه نقل من جزيرة "ثاروت" أو من موضع لا يبعد كثيرًا عن القطيف، وقد وجد أن هذا اللوح هو مثل الألواح التي عثر عليها قبلاً، شاهد قبر، وضع على قبر رجل يقال له:"إيليا بن عيي بن شصر من أسرة سمم من عشيرة ذال من قبيلة شذب"2. ويرى بعض الباحثين أن صاحب القبر كان نصرانيًّا، عاش في القرن الخامس أو السادس للميلاد.

وعثر على شاهد قبر آخر مدّون بالمسند، هو شاهد قبر "شبام بنت صحار بن عنهل بن صامت" من قبيلة "يدعب"، وجد على مقربة من القطيف3. و"يدعب" بطن من بطون قبيلة "شذب". ويظهر أن قبيلة "شذب" كانت من القبائل المعروفة في العروض، وكانت ذات عدد من البطون، ولا تحمل الكتابة تأريخًا، ويرى الذين درسوها أنها تعود إلى القرن السادس للميلاد. وأما الرقم الذي ذكر في نهاية النص وهو رقم "90"، فالظاهر أنه يشير إلى عمر صاحبة القبر4.

هذا ما عثر عليه من كتابات بالمسند في العروض. وأما في أواسط جزيرة العرب وفي باطنها وفي الأماكن التي لم يكن يتصور العثور فيها على أثر لحضارة، فقد عثر فيها على كتابات بهذا القلم كذلك، ولهذه الكتابات أهمية كبيرة؛ لأنها أول وثيقة تأريخية لا يتطرق إليها الشك، ترد إلينا عن هذه المناطق التي لم يرد لها ذكر مفصل عند المؤرخين السابقين؛ لأنها أول دليل عملي يثبت انتشار هذا الخط في أواسط جزيرة العرب. عثر "فلبي" في هذه المناطق على فخار وآثار

1 BOASOOR، NUM: 102، April 1946، p. 4، "A Himjaritic Inscription from the Persian Gulf Region"، by F.V. Winnett. BOASOOR، Supplementary Studies Nos. 7-9، "The Early Arabian Necropolis of-Ain Jawan"، by Richard Lebron، 1950.

2 Geographical Journal، Vol. CVII. 1-2، 1946، "Ancient Arabia: Explorations in Hasa، 1940- 1941"، by P.B. Cornwall، p. 44.

3 المصدر نفسه "ص45".

4 المصدر نفسه.

ص: 206

أرسلها إلى المتحف البريطاني ظهر أنها تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد. ويظن من فحصها أنها من آثار السبئيين1. كما عثر على كتابات وصور، وبقايا مقابر وعظام.

وقد صور "فلبي" بعض الكتابات، وصور بعضًا آخر رجال شركة البترول العربية السعودية الذين وصلوا إلى هذه المواضع للبحث عن البترول. وقد وصلت تصاوير عدد منها إلى العلماء فنشروا نصوصها وترجماتها. مثل كتابات "القرية" أو "قرية الفأو" التي سبق أن تحدثت عنها. وقد وجد اسم الصنم "ودّ" مكتوبًا بحروف كبيرة بين تلك الكتابات2، وحيث إن هذه الكنوز الثمينة إنما عثر عليها ظاهرة على سطح الأرض، وحيث إن الباحثين لم يفحصوا الكهوف فحصًا دقيقًا، ولم ينظفوها من الأتربة والرمال التي في داخلها، فإننا نأمل العثور على أشياء ثمينة ذات بال بالنسبة للتأريخ الجاهلي إذا اهتمت الحكومة العربية السعودية بهذا الأمر، وقامت بتجهيز بعثة علمية من المتخصصين بالأثريات العربية، أو سهلت للعلماء وللبعثات سبل الوصول إليها، وحافظت على تلك الآثار من التلف وعبث العابثين.

ووجد "فلبي" كهوفًا ومقابر في مواضع أخرى من "وادي الفأو"، وقد وجدت حيطان بعض الكهوف "سردب""سرداب" مكسوة بالكتابات "والوسم" والتصاوير المحفورة. ويظهر أن أبنية ضخمة كانت في هذه الأماكن3.

وعثرت شركة "أرامكو" على رأس نحت من الحجر في "القرية" كتب عليه بالمسند أنه "ثار ونفسي علزن بن قلزن غلونين"4، أي:"أثر وقبر علزان بن قلزان الغلوني". كما وجدت كتابات بهذا القلم عند جبل عبيد وفي حصن ناطق وفي شمال موضع "خشم كمدة" على مسافة "100" كيلومتر من شمال قرية

1 A Further Journey across the Empty Quarter"، by W. Thesiger، in Geographical Journal، CXIII، "1949". P. 21.

2 Geographical Journal، CXIII، "149"، p. 91.

3 Geographical Journal، CXIII، "1949"، p. 90، Le Muséon، LXII، 1-2، "1949"، p. 87.

4 Le Muséon، LXII، 1-2، "1949"، p. 87، Qariya، I، Philby 221a.".

ص: 207

الفاو في وادي الدواسر1، وفي "وادي هبن""حبن"2 على "120" ميلًا شمال شرقي عدن3. وفي "عين قرية" على "30" ميلًا تقريبًا من شمال "زفر" وفي "منخلى" في جنوب خشم العرض حيث يعتقد البدو أن هذا الموضع هو بئر من آبار عاد4.

ولم يفسر علماء العربية سبب تسمية "المسند" مسندًا، وقد قرأت لإسرائيل ولفنسون تعليلًا لتسمية هذا القلم مسندًا، فقال: "والخط المسند يميل إلى رسم الحروف رسمًا دقيقًا مستقيمًا على هيئة الأعمدة. فالحروف عندهم على شكل العمارة التي تستند إلى أعمدة. وعلى العموم فإن لحضارة جنوب بلاد العرب عقلية تنحو نحو الأعمدة في عمارة القصور والمعابد والأسوار والسدود وأبواب المدن.

ومن أجل ذلك يوجد عندهم ميل شديد لإيجاد حروف على هيئة الأعمدة، أي إن الحروف كلها عبارة عن خطوط تستند إلى أعمدة.

وقد تنبه علماء المسلمين إلى شكل هذه الكتابات وأطلقوا عليها لفظة المسند؛ لأن حروفها ترسم على هيئة خطوط مستندة إلى أعمدة"5.

وهو رأي سبقه إليه "ليدزبارسكي" Lidzbarski إذ أشار إلى أثر العمارة والأعمدة في شكل هندسة حروف الخط المسند6 وهو تفسير يشبه تفاسير الأخباريين واللغويين للأسماء والأعلام التي لا يعرفون من أمرها شيئًا، فيلجئون إلى الخيال ليبتكر لهم سببًا وتعليلًا يناسب الكلمة، ويتصورون عندئذ أنهم قد أوجدوا السبب، وأن من يأتي بعدهم سيكتفي بذلك ويأخذ به.

وكذلك كوّنت كلمة "المسند" في مخيلة "إسرائيل ولفنسون" ولدى "ليدزبارسكي" فكرة استناد خطوط الحروف وقيامها بعضها إلى بعض استناد المباني،

1 Le Muséon، LXII، 1-2، "1949"، p. 99، Philby، Wadi Dewasir، I،.

2 هكذا ورد في مجلة "Le Muséon""هبن""Haban" بدون نقطة أو علامة تحت حرف H تدل على أنه "حاء". ولعل الكلمة "الحبن"، وهو موضع ذكره الهمداني في صفة جزيرة العرب "ص68".

3 Le Muséon، LXII، 1-2، "1949"، p. 103.

4 Geographical Journal، CXIII، "1949"، p. 31، 34.

5 تأريخ اللغات السامية "243 وما بعدها".

6 Lidzbarski، Ephemeris، I، S. 114، Hommel، Grundriss، Erste Halfte، S. 146.

ص: 208

وقد وجدا من مباني اليمن وقصورها ما قوّى هذا الخيال عندهما، مع أن كلمة "المسند" التي تطلق في المؤلفات العربية الإسلامية على خط أهل اليمن قبل الإسلام لا علاقة لها بالقصور والمباني، واستناد أجزاء الحرف الواحد بعضها إلى بعض. وإنما تعني شيئًا آخر، تعني خط أهل اليمن القديم لا أكثر ولا أقل. وكلمة "مسند""مزند"1 في العربية الجنوبية تعني "الكتابة" مطلقًا، وقد وردت في مواضع متعددة من الكتابات والنقوش، فورد في نص أبرهة مثلًا "سطرو ذن مزندن"، وترجمتها:"سطروا هذه الكتابة"، وتؤدي كلمة "سطرو" المعنى نفسه الذي يرد في لغتنا، وهو:"سطروا"، أي: كتبوا ودوّنوا، فكلمة "مزندن" التي صارت "المسند" في عربيتنا تعني في العربية الجنوبية ما تعنيه كلمة الخط أو الكتابة في لغة القرآن، ولم تكن مخصصة عند اليمانيين بخط حمير، أو غير حمير، وإنما حدث هذا التخصيص في المؤلفات الإسلامية فصار فيها "المسند" اسم علم لخط حمير وحده. ولا ندري متى حدث ذلك: أحدث في الجاهلية المتصلة بالإسلام أم في الإسلام؟

وإذا كان هذا التخصيص قد وقع في الإسلام، فإننا لا نستطيع أيضًا التكهن عن الوقت الذي ظهر فيه هذا التخصيص؛ لأننا لا نملك مصادر إسلامية تشير إلى هذا ولا مؤلفات من صدر الإسلام يمكن أن نجد فيها ما نبحث عنه.

ويتألف المسند من تسعة وعشرين حرفًا. وأبجديته مثل الأبجديات السامية الأخرى من حيث إنها تتألف من الحروف الصامتة ولا حركة في الكتابة فيها ولا ضبط في أواخر الكلمات ولا علاقة للسكون أو للتشديد. ويفصل بين الكلمة والكلمة التي تليها فاصل هو خط مستقيم عمودي. وقد يكتب الحرف المشدّد مرتين كما في اللغات الأوروبية.

ومما يلاحظ على الكتابات المعينية أنه لم يطرأ عليها تغيير كبير في العهود التي مرت بها. أما الكتابات السبئية، فيمكن التمييز بين القديم منها والمتأخر في الأسلوب، وفي شكل الكتابة2.

1 بحرف الزاي في لغة أهل اليمن لا السين.

2 غويدي: المختصر في علوم اللغة العربية الجنوبية القديمة، القاهرة، 1930، "ص3".

Hofner، Altsudarabische Grammatik، Leipzig، 1943، Weber، S. 12، Pfannmuller. S. 86. Mordtmann. Beitrage zur Minaischen Epigraphik، Weimar، 1896.".

ص: 209

وللمسند ميزات امتاز بها عن القلم العربي، فحروفه منفصلة، وهي بشكل واحد لا يتغير بتغير مكان الحرف من الكلمة. فإذا جاء الحرف في أول الكلمة أو في وسطها أو في آخرها، كتب بشكل واحد. وقد جعلت هذه الخاصية لهذا القلم ميزة أخرى، هي ميزة الكتابة به من أي جهة شاء الكاتب أن يبدأ بها. فله أن يكتب من اليمين إلى اليسار وله أن يكتب من اليسار إلى اليمن، وله أن يمزج بين الطريقتين، بأن يكتب على الطريقة الحلزونية، من اليمن إلى اليسار، ثم من اليسار إلى اليمن، ثم من اليمين الي اليسار، أو العكس، وله أن يكتب من أعلى إلى أسفل أو العكس وهكذا، ثم إن حروفه غير متشابهة لذلك لم يعرف المسند الإعجام، ولو كتب له أن يكون قلم المسلمين ليسر لنا اليوم وقتًا ومالًا في موضوع الطباعة به. ولكنه أبطأ في الكتابة نوعًا ما من الخط العربي لشكل حروفه الضخمة بالنسبة إلى الحروف العربية المختزلة، فالخط العربي يمتاز عليه بهذه الناحية فقط. أما موضوع الشكل، فالمسند غير مشكول، بل يكتب بحروف صامتة فقط.

وفي القرن التاسع عشر وما بعده كشف المستشرقون النقاب عن أقلام أخرى لم يعرفها علماء العربية، هي: القلم الثمودي، والصفوي، واللحياني. وكتابات أخرى كتبت بلهجات محلية عثر عليها في الجوف، وفي الحجر وفي العلا، وفي مناطق أخرى كجبل شيحان، وكوكبان، وجبل شمر، لها بعض الخصائص والمميزات اللغوية. والظاهر أن خط هذه الكتابات كان مستعملًا بين السواد في الأمور الشخصية1.

أما القلم الثمودي، فقد عثر على كتاباته في العربية الغربية، وفي الجمهورية العربية السورية وفي المملكة الأردنية الهاشمية وفي الحجاز، فقد عثر على كتاباته في مواضع متعددة من الحجاز، فيما بين المدينة ومكة وعلى مقربة من الوجه والطائف، وفي "ريع الزلالة" عند السيل الكبير على طريق الطائف

1 Grundriss، I، S. 147، Transaction of the 9th Inter. Congr. of Orientalists، Vol. I، p. 86، "London"، 1893، Uber die Protoarabischen Inschriften، in Aufs und Abh.، S. 41، 161، Saudarabische Chrestom.، S. 6، Lady A. Blunt، A Pilgrimage to Nejd، London، 1881، Vol. 2.

ص: 210

مكة1. وعثر على كتابات ثمودية في "حائل" وأماكن أخرى من نجد وفي اليمن. وفي هضبات شبه جزيرة سيناء2.

هذا وقد عثر على كتابات ثمودية كثيرة في "ريع الزلالة""سيل الغربان"، إلى الشمال من الطائف على مسافة أربعين كيلومترًا منها3. وفي وادي "ألاب"4، وفي مواضع أخرى من الحجاز ونجد، مما يدل على انتشار الثموديين في مواضع واسعة من جزيرة العرب.

وأما القلم الصفوي، فقد عثر عليه في منطقة الصفاة شرقي الشأم، وفي بادية الشأم، ولا يعني هذا أن هنالك قبائل كانت تُسمى قبائل صفوية، بل هو اصطلاح أطلقه المستشرقون على الخطوط التي وجدت في ناحية الصفاة، وهي تشتمل على كتابات قريبة من كتابة لحيان وثمود. كما عثر على كتابات صفوية في مواضع من بادية العراق، ويوجد عدد منها في ملك مديرية الآثار القديمة العامة في العراق5. كما عثر على عدد كبير منها في المملكة الأردنية الهاشمية. وقد نشرت نصوص بعض منها في جريدة الآثار للمملكة الأردنية الهاشمية6.

والمواطن الرئيسي للكتابات اللحيانية هو منطقة العلا، ولا سيما موضع "الخريبة" والصخور الواقعة إلى شرقه، حيث عثر فيها على مئات من الكتابات التي تعود

1 "عقبة الزلالة، الواقعة بين مكة وبين الطائف، وهي تنية ينحدر منها القادم من الطائف على السيل الكبير"، الموضع المعروف قديمًا باسم "قرن المنازل" وتبعد عن هذا الموضع خمسة كيلومترات تقريبًا وتقع في شرقه، وتسمى الآن "الريع الصغير". وقد شاهدت بقربها بينها وبين السيل الكبير جبلًا فيه كتابات كوفية قديمة. وحدثت بأن "فلبي" رأى في تلك الجهة تمثالًا من الصخر منحوتًا في الجبل يمثل رجلًا واقفًا، وأنه اطلع على كتابات قديمة في تلك الجهة"، كتاب من السيد حمد الجاسر، تأريخه 13 نوفمبر 1950م.

2 نقوش سامية قديمة من جنوب بلاد العرب، القاهرة، 1943م، "ص109"، E. Littmann. Entzifferung der Thamudenischen Inschriften، 1904، Hubert Grimme، Die Losung des Sinaischriftproblems، Die Altthamudischische Schrift. Munster، 1926.".

3 A. Grohmann، Arabic Inscriptions. Louvain. 1962، p. 2.

4 كتابات من الأدب، للدكتور عبد الرحمن الأنصاري، مجلة كلية الآداب بجامعة الرياض، المجلد الأول، السنة الأولى "1970"، "ص 113 وما بعدها".

5 راجع نشرات مديرية الآثار القديمة في العراق ومجلة سومر.

6 Annual of the Department of Antiquities of Jordan.".

ص: 211

إلى شعب لحيان1.

والأقلام الصفوية والثمودية واللحيانية، مثل المسند، ليس لها علامات لا للفتح ولا للكسر ولا للضم ولا للإشباع ولا لاتحاد الفتحة والواو والباء "أي الإمالة Diphthong" إلخ

كما أن حروفها تأخذ صورًا متعددة، فيرد الحرف الواحد في كل قلم من الأقلام المذكورة بصور مختلفة، ولذلك تجابهنا صعوبات كبيرة في محاولتنا قراءة الكلمات والجمل قراءة صحيحة. ويحتاج القارئ إلى مران طويل ودراسات للهجات العربية الأخرى لضبط الكلمات في هذه اللهجات، ومعرفة معانيها.

وقد لاحظ المستشرقون مشابهة كبيرة بين الأقلام المذكورة وبين المسند، كما وجدوا هذه المشابهة بين عدد من الأقلام التي استعملت في غير جزيرة العرب والمسند، وبعد مقابلات بينها ودراسات ذهبوا إلى تفرعها من المسند. وهذه الأقلام المذكورة كلها متأخرة عن المسند، وتعود تواريخ قسم منها إلى ما قبل الميلاد، ومنها ما يعود تأريخه إلى ما بعد الميلاد.

ومما يلاحظ على هذه الأقلام اختلاف صور أكثر الحروف فيها، فقد تكون للحرف صورتان، وأحيانًا ثلاث صور أو أكثر، غير أن هذا الاختلاف ليس كبيرًا في الغالب بحيث يتعذر معه تمييز أشكال الحرف الواحد، ولا نجد فيها الوضوح والبساطة التي نجدها في المسند، كما لا نجد فيها هذه الخطوط المستقيمة المنقوشة بدقة وعناية في الكتابات المعينية أو السبئية أو الحضرمية أو القتبانية أو الحميرية. فكأن كتّابهم كانوا يرون العجلة في الكتابة والإسراع في التسطير لضيق الوقت. لذلك لم تكن حروفهم دقيقة واضحة.

وأما الأقلام التي تشبه حروفها المسند. واستعملت عند أقوام عاشوا في أقطار لم تكن من جزيرة العرب، فمنها القلم الحبشي القديم، وقد عثر على كتابات به في منطقة "يحا""بها" Jeha، وهي تمثل أقدم نماذج الكتابات الحبشية، وقلمها هو القلم السبئي القديم. وفي "أكسوم" وتعود إلى القرن الرابع للميلاد2،

1 Ency. Vol. 3، p. 26، Muller، Epigraphic Denkmaler aus Arabien، XXXVII، 1889، Jaussen and Savignae ،Mission Archeologique en Arabie، I، Paris، 1909، p. 263، Vol. II، p. VIII-XIV، 27-77، 361-534، Lidzbarski، Ephemeris fur Semit. Epigraphic، II، 23-48، 345-361، III، 214-217، F.V. Winnet، A Study of Lihyanite and Thamudic Inscriptions، Toronto، 1937.

2 السامية "257"، Grundriss، I، S. 148.

ص: 212

وكتابات نصرانية كتبت باللهجة "الجعزية" وتعود إلى القرن الخامس للميلاد1.

وقد استعملت في هذه الكتابات الجعزية الأصوات مع الحروف، وبذلك اختلفت عن الأبجديات السامية التي استخدمت الحروف الصامتة فحسب، وذلك بإضافة شيء يشبه الحركات في صلب الحروف يقرأ معها ولا تفهم هي بدونها2. ومع ذلك احتفظت بالأشكال الأصلية للحروف العربية الجنوبية، ولم تبتعد عنها كثيرًا. ويمكن إدراك أثر المسند في الكتابة الحبشية المستعملة في الوقت الحاضر دون كبير عناء.

وذهب كثير من المستشرقين إلى أثر المسند نفسه أو بالواسطة في عدد من الأقلام الأخرى، منها كتابات عثر عليها في إفريقيا Meroitische Schrift في إحدى اللهجات الكوشية أو النوبية3. والخط البربري القديم الذي يعود إلى أيام قياصرة روما. والقلم البراهمي "Brahma Script –Devanagari Alphbet"، حيث نلاحظ شبهًا كبيرًا بين حروف هذا القلم والمسند ولا يستبعد أثر المسند فيه؛ لأن العلاقات بين العربية الجنوبية والهند كانت قديمة جدًّا4.

يظهر أن المسند كان القلم الرئيسي في جزيرة العرب قبل الاسلام، وأن جزيرة العرب كانت تكتب به قبل المسيح. وأن أقلامًا تفرعت منه قبل المسيح وبعد المسيح، لأسباب لا تزال غير واضحة، وقد تكون لأشكال الحروف التي تتطلب دقة في الرسم علاقة بذلك، فمال الكتّاب إلى ابتكار أشكال مرنة لا تحتاج إلى عناية في الرسم، فاستخدموها في الكتابة لسهولتها. فتولدت منه الكتابات المذكورة.

1 Grundriss، I، S. 148، D.H. Muller، Epigr. Denkmaler aus Abessinien، Wien، 1894، Tafel، II، IV.

2 السامية "256"،

Grundriss، I، S. 148، Glaser، Die Altabess. Inschr. von Marib، in ZDMG.، Bd.،50، "1896"، S. 468. Die Abessinier In Arabien und Afrika. Munchen، 1895، S. 168.

3 R. Lepsius، Denkmaler aus Aegypten und Aethiopien، VI، Bd.، I-II in Bd.، XI، Grundriss، I، S. 149.

4 Grundriss، I، S. 149، Isaac Taylor، The Alphabet، Vol. 2، p. 314،

Georg Buhlets، Indian Brahma Alphabet، Wien، 1895، p. 2، Ency. Brit. I، p. 683.

ص: 213