الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلما شرف بإشاراتهِ النّطاف، وأطرفَ بتنبيهاتهِ اللطافِ، وأفادَ أسماعَنا وفادَ، وأستادَ عقائلَ انتقادنا وسادَ، أُفرغ لديهِ من الولاءِ أصفاهُ، وأحضِرَ إليه من الحِباءِ أضفاهُ واعتبرتْ حروفهما اعتبارَ إتقان، فكانتا كفرسيْ رهان، ما نقص حرف ولا زاد، ولا أخطأ المرادَ، فقالوا له: إنك ومستحقّ التبجيلِ والتمجيدِ، لكالأنفحةِ في التحليل والتجميد، فحينَ حقّقَ إقبالهم عليه، وتحقَّقَ انثيالُهم لنصاعةِ صناعتيه، قال لهم - وقد تأثّفوهُ واستوكفوه، وفاض بالدررِ فوه -: يا مطارف الهوف وصياصي الملهوفِ، اخلعوا الخز، واترعوا البزَّ، وارفعوا العزَّ والبَزّ فمن عزّ بزَّ فأحضروا لحكمهِ المِحضيرَ، واستحضروا لهُ النضيرَ، وشكروا لفظَه المشتارَ، وجاءوا إليه بما أشارَ ليشتار فبادرَ إلى إنهائه، وغادرَ كلاً بإهابهِ والتهابه، وانثنى يستصحبُ الحقّ، وامتطى الطِّرفَ الأحقَّ وانتهز الفرصةَ بسكرِ مواتٍ، وأحرز من العسجدِ جذر تسع مئاتٍ، قال القاسم بن جريال: وكنتُ حينَ كفتَ خروقَ أطمارهِ، وانكفَتَ إلى شُموس المجلس وأقماره، أمعنُ لمعرفتهِ، لأعرفَ نكرةَ نُكرهِ من معرفتهِ، إلى أن ظهرتْ ظواهرُ ألفاظِه، واستظهرتْ جواهرُ استيقاظهِ فعلمتُ أنهُ أبو المصريّ، غوّاُص اللآلئ، وقنّاص أبناء الليالي، فهممتُ عندَ ذلكَ بمجازاته، واسترجاع إجازاته، لأرحضَ عني الونيم، وأنتهبَ النهدَ والنيمَ وأدركَ منه الثأرَ المُنيمَ، بَيْدَ أني كرهتُ انطفاءَ ضَوءِ قمرِ قدرهِ، والانكفاءَ لاستردادِ ما وقعَ في قدره، وعفْتُ انتشار فواحشه في الأحشاء، وادكَرت ما ورد في إفشاء الفحشاء، ولمَا حصلَ على زُييته وحَوْصَلَ لحواصل بيُتْه، وتوشَّح بوشاح النجاح، وترنح ترنحَ الجحفل الجحجاح ملْتُ إلى إيثاره، وتتبُّع آثاره، وجعلتُ أنحُوهُ كاللصِّ المحصور، والصلِّ المصحور بعد أنْ هوَى هويَّ الصقور، بين القصور، وصافحتْ أكفُّ لحَاظنا يد ققائه الممدود المقصور، فحين قَرُب من عرينه، وكادَ ينقلبُ إلى قرينه، نظَر إلى نظر الصِّيد، أو الموالي بالغَصب إلى العبيدِ، وأقبَل يتمزَّعُ منَ الحَرَدِ، ويتوقع فري إفساد ذلك البرد، وجعل يتعامس علي، ويثب ويثيب أبي وثاب إلي فقلت له أقسم بمن خصك بخصال القليب إنّك لصاحب يوم القليب، فقهقه لارتجال قوافيه، وعجاج سوافيه، واختصرت على تلافيه لما تلافيه فقال لي: يا بن جريال، لا تقنط لدفع ما هر، ولو اسمهر، ولا تسخط لشرب ما أمر، وقد مر، فأعرفك السليم السليم، الشارب بيد الحميم الحميم، فقلت له: انتصف من اعترف بما اقترف، عفا الله عما سلف، فأغمد لصحفي النصال، وضارع القصال، وقصد الانفصال، ومال لجذم الصخب وصال، وأنشد بعدما سكنت ألوية بطشه وعصائبه، وبركت ركائب طيشه ونجائبه: البسيط
واحفظ وصية من أوصاك معترفاً
…
أن الزمان جزيلات عجائبه
لا تفرحن بما أوتيت من نعم
…
فربما عاد في الموهوب واهبه
واصبر إذا نزلت كرهاً نوازله
…
إن الصبور عزيز عز جانبه
واركب مع العفو طرفاً لا يعارضه
…
يوماً عثار فإن الحر راكبه
والبسْ ثيابَ الحجى والحِلْمُ مُدَّرِعاً
…
دِرْعاً تجولُ على العَليا مساحبُه
وَخُذْ مِن الورد ما يكفيك من ظمإ
…
وخَلِّ بعدكَ كي تَصفُو مشاربُه
وارحلْ إذا كنتَ في الأقوام مطّرحاً
…
واترك حِجاك بلا شَوق يجاذبهُ
وعدِّ نفسَكَ عن باب اللئيم فما
…
يدنو إليكَ بما ترضاه حاجبهُ
واخفض عدوّك لا تنصب مصادرَه
…
لا انْجَرَّ جازمه، واعتل ناصبُه
قال: فلما فَرَغَ من مفيدته المُزهرةِ، وخريدته الخيّرة المبهرة، قبضَ يدي قبضَ البازِ وتملّق تملّقَ الخازبازِ، ثمَ إنّه اعتذرَ لفراقي، وابتدرَ إلى عناقي وأمطرَ حيَّ شؤونهِ، وأظهرَ خبيّ شُجونهِ، بعدَ أن تململَ تململَ الحَبْر، وتذلَّلَ تذللَ الجَبْرِ، ومسخَ صورةَ الغَدْرِ، ونسخَ سُورةْْ الغَضَبِ، منْ مْصحَفِ الصَّدْرِ.
المقامة الثالثة اللاذقية
أخبر القاسمُ بن جريال، قال: نويتُ مفارقةَ اللاذقيةِ والأقرانِ المُماذِقيَّةِ، لغَلبة غلباء، وسَنَةٍ شَهباءَ، ما لمعَتْ لها بروق، ولا لمعتْ بها لاقحٌ ولا بَروق، وكنتُ في تلكَ المجاعاتِ، وتهافتِ الجماعاتِ صاحبَ صِبيةِ، ومصاحبَ صَبْوةٍ وصَبيةٍ، أربحُ من لَببِ اللُبابِ، وأبرحُ عن سَبَب السِّبابِ وأرمحُ لِعُبابِ العيابِ، وامرحُ في ثيابِ الثوابِ، ما عُرِفَ لي تُفُوه، وأنا مشفوه المشارب مشفوهٌ، فحينَ نجِمَ دخان خضرائها، وأنجمَ دخانُ غبرائها، وانجزمَ نسلُ نسائها، وانجرمَ النسلُ بأرجائها، وصهَرَ حَرورُ يوحِها، وهصَر بفودي الإفادة ماء طوفان نوحِها، منحتها مُرَّ الطلاقِ، ونفحتُها بانطلاق المطلاق، واحتلست مطية فاحمة الأطمارِ، متزاحمة الاختمار، مائلة عن النفارِ، عادلةً عن العثار، مبرّأة من البُرى، مفدّأة في السُّرى، لا يناهزُها الإرزام، ولا يُجزّ حَيزومَها الحزامُ، تَزْفِنُ لشدّةِ الاضطرابِ، زَفْنَ الشاربِ لنشوة الإطراب فأبرز الرايسُ شُرُعاً كان أنشأها، وأحكمَ إتقانها وأنساهَا، وأصبحَ مَصافحَ مجراها ومرساها، وقال: اركبوا فيها، باسم اللهِ مُجراها ومُرساها فلم تزل تنازل فوارسَ الأهوالِ، وتغازلُ عوائس الأوهال، وتجانبُ جحافلَ الإجبالِ وهي تجري بهم في موج كالجبالِ، حتى شرِبنا كؤوسَ السعادةِ الكِسرويّةِ، بأكفِ معالم الإسكندرية فولجتها وأنا من الميدِ كالمجنونِ، والقيظِ كالمفتون، فأقبلتُ أتقلقلُ لمفارقةِ الرفاقِ، ومرافقةِ الفِراق، إلى أن وقفتُ بالجامع ذي السوائر، وقفةَ الحرونِ الحائر، فألفيتُ غِلمةً واكفةَ الشؤونِ، ونسوةً منشورةَ القُرونِ، وعتاقاً مقلوبَة السروج، ونياقاً مكبوبة الحُدوج فقلت لمنحبٍ واقفٍ، ومكتئب لحنظلِ التحرق ناقفٍ: ما هذا الفَرْيُ الفظيعُ الواقعُ، والشَّرْيُ الشنيعُ الناقعُ، الذي ميطتْ له البراقعُ، وعجزَ عن إصلاح. خَرْقهِ الراقعُ؟ فقال: إنَّه قد دَرجَ صاحبُ دِيوانِ الوزارةِ، المشهورُ بحسنِ الإشارةِ، ذو الضيفِ والقِراع، والسيفِ واليراع، والخلّةِ والخوان، والجِلَّةِ والجفانِ، فقلت: تاللهِ لا أزالُ أو أذوقَ بعدَ حُور محاوراته، مُرّ مُرار مواراته، فإنَّ استماعَ العِظةِ مصقلة للقلوب، واتّباعَ الجنائز مَرقلةٌ عن الزلل والحوب، ثم إنِّي ولَجتهُ وعلوتُ بعيرَ العِبَر، وحدجتهُ فوجدتُه مغموراً من الغاشيةِ، مسجوراً من الغاشيةِ والماشية وبين تيكَ الحِزَق، وهاتيك الخِرَق، وُعّاظ تلبوا للعَصَبْصب الشديدِ، وترتبوا ترتيبَ أسماءِ التأكيد، فابتدرَ واعظٌ أفصحُ من قُسِّ المقالِ، وَأرجحَ بالارتجال في ذلك المجال، فدنوتُ لقبض عقاص تلك الخِلاص، وفضِّ عِفاص ذلكَ الإخلاص، فكان مِمّا رعيتُه بالاختصاص ووعيتُه من خَصاص الخِصاص: ابنَ آدمَ إلامَ تعومُ في بحارِ هفواتِكَ، وتقومُ لقطفِ ثمارِ خَلواتِك، وتكرع من فراتِ الآثم، ولَا تركع لردع زفراتِ المآثم، وتُنْظِرُ إصلاحَ حالِكَ، ولا تنظِرُ سوادَ ذنبِكَ الحالِك، وتحكي نفيسَ مالِكَ، ولا تبكي لخسيس آمالِكَ، وتمنعُ من فضولِ غَمرِكَ، ولا يُطمعُ في أفولِ غِمْرِك، وتركبُ وتصيدُ، ويُلثمُ لكَ الوصيدُ، ويجبى بك الحَصيدُ، وقد انقرضَ آباؤك الصِّيدُ، فلا يردعُك الواعظ، ولا تخدعُك المواعظ، ولا يرفعُكَ فعلُ مَليحةٍ فتغنمَ، ولا ينصُبك تمييزُ قريحةٍ فتعلم ولا يخفِضُكَ خافِضُ فضيحةٍ فتندمَ، ولا يجزمكَ جازمُ قبيحةٍ فتسلم، وَيْكَ أما تفزعُ من ركاب حَيْنِكَ، وتجزعُ من ارتكابِ مَينِك وتَقلعُ شجراتِ شَيْنِكَ، وتُقلع عن شهواتِ عَيْنك، تاللهِ إنَّ الموتَ ليشذِّبَ موادَّ سعيكَ، ويقرّب نُوادَّ نعيكَ، ويبلقعُ خَدور مغانيكَ، ويقطِّعُ صدور غوانيكَ، ويقلِّم قدودَ أعوانك
ويكلّم خدودَ إخوانكَ، أتخال أن تمنعَكَ حصونُكَ إذا آنَ منونكَ، أو ينفعَكَ مخزونُكَ، إذا استعبَرَ محزونك، أو يرحمَك آلُك، إذا حان سؤالُكَ، أو تعصمُك أقيالُك، إذا أدبَر إقبالُكَ، أو ينصُرَك سُوْرُكَ، إذا اخْتُطِفَ مَيسوركَ أو تسترّك ستورُك، إذا انكشفَ مستورُك، أم تحسِبُ أن سيسعدُك أودّاؤك، إذا فُقِدَ دواؤك، أو يعضدُك عبَّداؤك إذا أعضلَ داؤك، أو تجبرُك وعودُك وعودُك إذا انحسمَ وجودُك وجودكَ، أو يذكرُك وصفاؤك وصفاؤك، إذا انقطحَ وسناؤك وسناؤك، فأنَّى تفوزُ وأنتَ عن منهج الحقّ جانحٌ، أم كيفَ تجوزُ مفازةَ فوز ما سنحَ لك بها سانح، تطفحُ بخلٍّ من هناتِكَ، ولا ترشَحُ لّخلٍ من هباتِكَ، وتفرَحُ بربيع ظابَك ولا تترحُ لخريفِ انقضابِك، ففي غدٍ تُلدَمُ بكفِّ مساورة تُرابك، وتَسْدَمُ لسَورةِ مسامرة ما تُرابكَ، فحتَام تخلوِ بمخازي خلائكَ، وتجلو بدائعَ البدَع لمُختالةِ أخلائكَ، وأنتم أيها الغافلون بلباس الدنس رافلونَ، فسوقَ الفُسوقِ تفتحون، وسَوْق الفَسوقِ تربحون، ومنهاجَ الكسلِ تَطُون، وأثباجَ المَلَلِ تمتطون، وقَعودَ القُعودِ تركبون، وجَمودَ الجمودِ تصحبونَ، فآلَ الاحتراثِ أما تشبعون، وإلى الأجداثِ ما تشبعون، أفلا مِنَ الموتِ تجزعونَ؟ ولا لخبَبِ خيولهِ تَخشعون، فعن قريب تَزارُ ليوثُ الوَجَل فتجأرونَ وتمطرُ غيوثُ الإغاثة، فلا: تُمطَرون، وتطلعُ شُموسُ المكاشفةِ فتأفلونَ، وتطفو سَفينُ المحاسبةِ فترسبون، ويُبرقُ برْقُ الموافقةِ فتبرقون وترشَقُ قُذَذُ المناقشةِ فتُصْعقُون، أتظنون أنكم تَسلموِنَ، إذ تُسلَمون أم تَطمعون أنكم تُمْهَلونَ حينَ تُهملون، أو يرقأ دمُ الندم يوم تهلعون، أو يدرأ الحُطمة الحُطامُ الذي تجمعون أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ثم إنهُ أنشدَ أهلَ مُصابِه بعد نَصِّ لِيته وانتصابِه: الكامل:
لا تحزنَنَّ مدى الزمان وصَابه
…
واصبر لما أولاكَ من أوصابهِ
وتدَّرعَ الصبرَ الجميلَ فإنَّه
…
دِرْعٌ تقدَّسَ ربُنا أوصى بهِ
وتيقنن أن الزمان لجهله
…
سكران فاجيءْ حربَهُ أو صابِه
واعلمْ بأنَّ حِمامَ نفسِكَ واردٌ
…
في شهد مَشربِكَ الجني أو صابِه
قال الراوي: فلمّا سًدّ أدعيةَ عظاته، وشدَّ أوعية مبكياتِه، أتحفَ بهبةِ جميلة، وأسعفَ بجُبة جليلية، فَجَعل يَتَخَنْدَفُ للمَع فُصوله، ويتغطرفُ لمنتَخب محصولهِ، ويتطلّسُ لمفصَّلهِ، ويتغترس باقتناص مُحصَّلهِ، ثم أخذَ بعدَ جزالةِ جزائِه في شُعَبِ لُغيزائه حتى خرجَ منَ القوم خروج السقْب من سَلاهُ، والنَّدْبُ عمنْ قربَه وسلاه، وأنا خلفَه أخضب مشيب مشيتي، بَكَتم كَتْم حِسِّ وطأتي، إلى أن طرقَ بابَ حديقةِ بعيدةِ الأرجاءِ رغيدة الأفياء فبرزَ إليه فتى ألطفُ من اللفظِ اللطيف، وأقضفُ خصْراً من القُصْنِ القضيفِ، وقال له: ما الذي عافاك، وباعدَ قفولكَ وملقاك، وأنهلك عُقار التقاعس وساقاك، حتى توَّقفَتْ قدماً قدومك وساقاك، فقال له: تأخّرُ وقيص احتيالي، وبطءُ دخولِ قنيص حِبالةِ محالى وبعدَ ما استبعدَ الغلامُ الأجلَ، اطرَّح الشيخُ الخجَلَ، وأغلقَ حُرْجُولَه وارتجل: الطويل
خليليَّ لولا حيلتي ونخيُّلي
…
على الناس لم أبصرْ مدى الدهرِ واهبا
ولكنّني أسعى بكل فضيلةٍ
…
وأضربُ شرقاً في الورى ومغاربا
وأنصُب نصب النصب في كلِّ مَنْصب
…
وأجعلُ خيلَ الختل فيه مخالبَا
وأطردُ طِرْفَ الطّرفِ فيَ كلِّ طُرْفَة
…
وأعطف عطفي للمكاسبِ كاسبا
فطوراً تراني في المجالس واعظاً
…
وطوراً تراني في المنابر خاطبا
وطوراً تراني في المحافلِ شاعراً
…
وطوراً تراني في الجحافلِ راكبا
وطوراً تراني في الجوامع قارئاً
…
وطوراً تراني في الصوامع راهبا
وطوراً تراني في النوائبِ واهباً
…
وطوراً تراني في الكتائب ناهبا
فهذا شِعاري ما حِيَيْتُ لأَنَّني
…
وجدتُ بياضَ الفضلِ في الجهلِ راسبا