الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جعلَ صلى الله عليه وسلم يُردِّدها ويقول: "وَهنَّ شَرُّ غالبٍ لمن غَلَبْ"
(1)
. وقال لأمهات المؤمنين: "إنكنَّ لأنْتُنَّ
(2)
صَوَاحِبُ يُوْسُفَ"
(3)
يريد: أن النساء من شأنهنَّ مراجعة ذي اللب.
وامتنَّ -سبحانه- على زكريا بقوله: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90]، قال بعض العلماء: ينبغي للرجل أن يبتهل
(4)
إلى الله في إصلاح زوجِه.
فصلٌ
(5)
أعياد
(6)
الكفَّار كثيرة
مختلفة، وليس على المسلم أن يبحث عنها، ولا يعرفها، بل يكفيه أن يعرف في فعل من الأفعال، أو يوم [من]
(7)
الأيام، أو مكان = أنَّ سببَ هذا الفعل، وتعظيمَ هذا المكان أو الزمان من جهتهم، ولو لم يعرف أن سببه من جِهَتهم، فيكفيه أن يعلم أن لا أصل له في دين الإسلام، أقل أحواله أن يكون من البدع
(8)
.
(1)
أخرجه أحمد: (11/ 477 رقم 6885) من حديث الأعشى، وفي سنده ضَعْف.
(2)
غير بيِّنة في "الأصل".
(3)
أخرجه البخاري رقم (3384) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4)
كذا، وفي "الاقتضاء":"يجتهد".
(5)
"الاقتضاء": (2/ 9).
(6)
في "الأصل": "اعتقادات" وفي الهامش أُصلحت إلى "أعياد" وهو كذلك في "الاقتضاء".
(7)
زيادة لا بد منها.
(8)
لأنه إما أن يكون أحدثه بعض الناس، أو يكون مأخوذًا عنهم.
ونحن نُنَبِّه على ما رأينا كثيرًا من الناس قد وقعوا فيه:
فمن ذلك: "الخميس الحقير" الذي في آخر صومهم، يزعمون أنه عيد المائدة، هو عيدهم الأكبر، فجميع ما يحدثه الإنسان فيه هو من المنكرات القبيحة.
فمنه: خروج النساء، وتبخير القبور، ووضع الثياب على السطح، وكتابة الورق وإلصاقها بالأبواب، واتخاذه موسمًا
(1)
لبيع البخور وشرائه، وكذلك شراء البخور في ذلك الوقت إذ
(2)
اتُّخِذَ وقتًا للبيع، ورُقي البخور مُطْلقًا فيه وفي غيره، أو قصد شراء البخور المَرْقِيّ، فإن رقي البخور واتخاذ البخور قربانًا هو دين النصارى، وإنما البخور طِيْبٌ يُتطيَّب بدخانه، ويُستحب التبحُّر حيث يُستحب التطيُّب.
وكذلك اختصاصه بطبخ رُز بلبن أو بَسِيْسة
(3)
أو عدس أو صَبْغِ بيضٍ ونحوه، أما القمار بالبيض أو بيعه لمن يُقامر فيه، وشراؤه من المتقامرين؛ فحكمه ظاهر.
ومن ذلك: ما يفعله الأكَّارون
(4)
من نَكْت البقر بالنُّقَط الحُمْر، أو الشجر، أو جمع أنواع النباتات والتبرُّك بها، أو الاغتسال بمائها. ومن ذلك: ما قد يفعله النساء من أخذ ورق الزيتون والاغتسال بمائه، أو قصد الاغتسال في شيء من ذلك. ومن ذلك: ترك الوظائف الراتبة من
(1)
في "الأصل": "موسومًا" سبق قلم.
(2)
في "الأصل": "إذا" والمثبت من "الاقتضاء".
(3)
البَسِيْسَة: هو أن يُلَتّ السويق أو الدقيق أو الإقط المطحون بالسمن أو الزيت ثم يؤكل ولا يطبخ "مختار الصحاح: 52".
(4)
هم الفلاحون.
الصنائع والتجارات، أو حِلَق العلم أو غير ذلك، واتخاذه يوم راحةٍ وفَرَح، واللعب فيه بالخيل أو غيرها على وجهٍ يخالف ما قبله وما بعده من الأيام.
والضابط لذلك: أنه لا يُحْدَث فيه أمر
(1)
أصلًا، بل يُجعل يومًا كسائر الأيام.
ومن ذلك: ما يفعله كثير من الناس في أثناء "كانون الثاني" لأربعٍ وعشرين خلت منه، يزعمون أنه ميلاد عيسي عليه السلام فجميع ما يحدث فيه هو من المنكرات، مثل: إيقاد النيران، وإحداث طعامٍ، واصطناع شَمْعٍ، وغير ذلك، فإن اتخاذ هذا الميلاد عيدًا هو من دين النصارى، ليس لذلك أصلٌ في دين الإسلام، ولم يكن له أصل على عهد السلف الماضين، وانضمَّ إليه سبب طبيعي، وهو كونه في الشتاء المناسب لإيقاد النيران.
ثم إن النصارى تزعم أنه بعد الميلاد بأيام -أظنُّها أحد عشر- عمَّد يحيى لعيسى في ماء المعموديَّة، فيتعمَّدون في هذا الوقت ويسمونه:"عيد الغَطَّاس"، وقد صار كثير من جُهَّال النساء يُدْخِلون أولادهنَّ إلى الحمام في هذا الوقت، ويزعمون أن هذا ينفع الولد، وهذا من دين النصارى، وهو من أقبح المنكرات المحرَّمة.
وكذلك أعياد الفُرْس، مثل النيروز والمِهْرَجان، وأعياد اليهود أو غيرهم من أنواع الكفار أو الأعاجم أو الأعراب، حكمها كلها ما ذكرناه من قبلُ.
(1)
في "الأصل": "أمرًا" ويصح إذا بُني الفعل "يحدث" للمعلوم ولكن الأصح بناؤه للمجهول كما في "أصله".
فصلٌ
(1)
وكما لا يُتَشَبَّه بهم في الأعياد، فلا يُعَان المسلم المتشبِّه بهم في ذلك، بل يُنهى عن ذلك، فمن صنع دعوةً مخالفة للعادة في أعيادهم لم يُجَب، ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعياد مخالفةً للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تُقبل هديتُه، خصوصًا إن كانت الهدية مما يُسْتَعانُ بها على التشبُّه بهم، مثل إهداء الشمع ونحوه في الميلاد، والبيض واللبن والغنم في الخميس الذي في آخر صومهم.
وكذلك لا يُهدي لأحدٍ من المسلمين في هذه الأعياد هدية لأجل العيد، لا سيما إذا كان مما يُستعان به على التشبُّه بهم كما ذكرنا.
ولا يُبايع
(2)
المسلم ما يستعين به المسلمون على مشابهتهم في العيد من الطعام واللِّباس ونحوه؛ لأنه إعانة على المنكر. أما مبايعتهم ما يستعينون هم به على عيدهم للشراء فيها؛ فقد قدَّمنا أنه قيل لأحمد: هذه الأعياد التي تكون عندنا بالشام مثل: طور بابور
(3)
ودير أيوب يشهده المسلمون، يشهدون الأسواق ويجلبون فيه الغنمَ والبقرَ والدقيقَ والبُرَّ، إلا أنه إنما يكون في الأسواق ولا يدخلون عليهم بِيَعهم وإنما يشهدون السوق؟ [قال: إذا لم يدخلوا عليهم بِيَعَهم وإنما يشهدون السوق]
(4)
فلا بأس
(5)
.
(1)
"فصل" ليست في "الاقتضاء": (2/ 12).
(2)
كذا بالأصل وبعض نسخ "الاقتضاء"، وفي بعضها "يبيع".
(3)
تقدم ص/ 92 ما في الكلمة من إشكال.
(4)
ما بين المعكوفين من "الجامع" للخلال و "الاقتضاء".
(5)
أخرجه الخلال في "الجامع - أهل الملل": (1/ 123).
وقال أبو الحسن الآمديُّ: فأما ما يبيعون في الأسواق في أعيادهم؛ فلا بأس بحضوره، نصَّ عليه أحمد في رواية مُهنَّا، قال: إنما يُمنعون أن يدخلوا عليهم بِيَعَهم وكنائِسَهم، وإن قصدوا إلى توفير ذلك وتحسينه لأجلهم
(1)
، فأما ما يُباع في الأسواق فلا.
فهذا الكلام محتمل أنه أجاز شهود السوق مطلقًا بائعًا ومشتريًا؛ لأنه قال: "إذا لم يدخلوا عليهم بِيَعهم وإنما يشهدون السوق فلا بأس"، وهذا يعم لا سيما إن كان الضمير في قوله "يجلبون" عائدًا إلى المسلمين.
ويُحْتَمل -وهو أقوى- أنه إنما أرخص في شهود السوق فقط، ورخَّص في الشراء منهم
(2)
ولم يتعرَّض للبيع منهم؛ لأن السائل هو مُهنَّا وهو فقيه عالم، وكأنه قد سمعَ النهيَ عن شهود أعيادهم، فسأل أحمد: شهودُ أسواقِهم مثل شهود أعيادهم؟ فأجابه أحمد بالرخصة في شهود السوق، ولم يسأله عن بيع المسلم لهم، إما لظهوره عنده، وإما لعدم الحاجة إليه حينئذٍ.
وكلام الآمدي يحتمل الوجهين، لكن الأظهر فيه الرُّخصة في البيع أيضًا، لقوله: "إنما يمنعون أن يدخلوا عليهم بِيَعهم وكنائسهم
…
" إلى آخره.
فما أشار إليه أحمد من جواز شهود السوق فقط للشرَّاء فيجوز؛
(1)
من قوله: "وإن قصدوا
…
" لحق في هامش النسخة، ومكانه في "الاقتضاء" بعد قوله: "فأما ما يباع في الأسواق فلا".
(2)
في "الأصل": "منه" والتصويب من "الاقتضاء".
لأن ذلك ليس فيه شهود المنكر ولا إعانة على معصية؛ لأن نفس الابتياع منهم جائز، بل فيه صرف لما قد يبتاعونه لعيدهم عنهم، فيكون فيه تقليل الشرِّ، وقد كانت أسواق في الجاهلية يشهدها المسلمون، وشهد بعضَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
وهذا كما لو سافر الرجلُ إلى دار الحرب ليشتري منها جاز عندنا، كما دلَّ عليه حديث تجارة أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه في حياة رسولِ الله إلى أرض الشام وهي دارُ حربٍ
(1)
، وأحاديثُ أُخَر.
وأما بيع المسلم لهم في أعيادهم ما يستعينون به على عيدهم من الطعام واللباس والريحان ونحوه، وإهداء ذلك لهم؛ فهذا فيه نوع إعانةٍ على إقامة دينهم وعيدهم المحرَّم، وهو مبنيٌّ على أصلٍ وهو: أن بيع الكفار عنبًا أو عصيرًا يتخذونه خمرًا لا يجوز، وكذلك لا يجوز بيعهم سلاحًا يقاتلون به مسلمًا.
وقد دلَّ حديث عمر في إهداء الحُلَّة السيراء إلى أخٍ له بمكة مشرك
(2)
، على جواز بيعهم الحرير، لكن الحرير مباحٌ في الجملة، وإنما يحرم الكثير منه على بعض الآدميين، ولهذا جاز التداوي به في أصحِّ الروايتين، ولم يجز بالخمر بحالٍ، وجازت صنعته في الأصل والتجارة فيه.
فهذا الأصل فيه اشتباه، فإن قيل بالاحتمال الأول في كلام أحمد؛
(1)
انظر "تاريخ الإسلام - الخلفاء": (ص/ 117).
(2)
أخرجه البخاري رقم (886)، ومسلم رقم (2068) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
جوِّز ذلك. وعن أحمد في جواز حمل التجارة إلى أرض الحرب روايتان منصوصتان، فقد يقال: بيعها لهم في العيد كحملها إلى دار الحرب؛ لأن في حمل الثياب والطعام إلى أرض الحرب إعانة على دينهم في الجملة، وإذا منعنا منها إلى أرض الحرب قال: العيد أَوْلى، وأكثر أصوله ونصوصه تقتضي المنع من ذلك؛ لكن هل هو منع تحريم أو تنزيه؟ مبنيٌّ على ما سيأتي.
وقد ذكر عبد الملك بن حبيب
(1)
أنه مما أُجْمع على كراهته، وصرَّح بأن مذهب مالك أنه حرام، وقال:"کره مالك أكل ما ذَبَح النصارى لكنائسهم، ونهي عنه من غير تحريم"، قال:"وكذلك ما ذُبِح على اسم المسيح أو الصليب، أو أسماء من مضى من أحبارهم ورهبانهم الذين يُعظَّمُون، فقد كان مالك وغيره ممن يُقتدي بهم يكره أكل هذا كله من ذبائحهم، وبه نأخذ"
(2)
.
قال: وقد كان رجالٌ من العلماء يَسْتَخِفُّون ذلك
(3)
.
وسُئل مالكٌ عن الطعام الذي يصنعه النصارى لموتاهم يتصدقون به، أيأكل منه المسلم؟ قال: لا ينبغي هو كالذبائح للعيد والكنائس.
وسُئل ابن القاسم عن النصراني يوصي بشيءٍ يُبَاع من ملكه للكنيسة، هل يجوز للمسلم شراؤه؟ فقال:"لا يحل ذلك له؛ لأنه تعظيم لشرائعهم ومُشْتريه مسلم سوءٍ".
(1)
القرطبي المالكي ت (238).
(2)
في كتابه "الواضحة" في الفقه المالكي -كما صرح به في أصله-.
(3)
كذا بالأصل، وفي مطبوعة الاقتضاء: بذلك. وما في المختصر أصح.
وقال ابن القاسم في الأُسْقُف يبيع أرض الكنيسة لمرَمَّتها
(1)
، وربما حُبِسَت تلك الأرض على الكنيسة لمصلحتها: إنه لا يحل للمسلم أن يشتريها؛ لأنه عون على تعظيم الكنائس، ولأنه حَبْس، ولا يجوز لهم في أحباسهم إلا ما يجوز للمسلمين، ولا أرى لحاكم المسلمين أن يَعْرض فيها بمنعٍ ولا تنفيذ بشيءٍ.
ولا أرى للمسلم أن يهدي إلى النصراني في عيده مكافأةً له، ورآه
(2)
من تعظيم عيده، وعونًا له على مصلحة كفره، ألا ترى أنه لا يحل للمسلم أن يبيع من النصارى شيئًا من مصلحة عيدهم؛ لا لحمًا ولا أُدْمًا ولا ثوبًا، ولا يُعَارون دابةً ولا يُعَانون على شيءٍ من عيدهم، وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك، وهو قول مالك وغيره، لم أعلمه اختلف فيه". هذا كلام ابن حبيب.
وقد ذكر أنه أُجْمع على كراهة مبايعتهم ومهاداتهم ما يستعينون على عيدهم، وصرَّح بأنَّ مذهب مالك: لا يحل ذلك.
فصلٌ
(3)
وأما نصوص أحمد على ذلك؛ فقال إسحاق بن إبراهيم
(4)
: سُئل أبو عبد الله عن نصارى وقفوا ضيعةً للبيعة، يَسْتأجِرها المسلمُ منهم؟ فقال: لا يأخذها بشيءٍ، لا يُعينهم على ما هم فيه.
(1)
أي: لترميمها وإصلاحها.
(2)
في "الأصل": "وأراه" والمثبت في أصله.
(3)
"فصل" ليست في "الاقتضاء": (2/ 20).
(4)
"مسائل ابن هانيء": (2/ 29).
قال
(1)
: وسمعتُ أبا عبد الله -وسأله رجلٌ-: أَبْنِي للمجوسٍ ناووسًا
(2)
؟ قال: لا تَبْن لهم، ولا تعينهم
(3)
على ما هم فيه.
ونقلَ عنه محمد بن الحكم
(4)
. -وسأله رجلٌ-: المسلم يحفر لأهل الذِّمة قبرًا بكراءٍ؟ قال: لا بأس به. والفرقُ بينهما: أن الناووس من خصائص دينهم الباطل، کالكنيسة، بخلاف القبر المطلق، فإنه ليس في نفسه معصية ولا من خصائص دينهم.
وقال الخلَّال
(5)
: "باب الرجل يؤاجِر دارَه الذِمِّي أو يبيعها منه" وذكر عن المرُّوذي أن أبا عبد الله سُئل عن رجلٍ باع داره من ذِمِّي وفيها محاريبه؟ فقال: نصراني؟! واستَعْظَم ذلك، وقال: لا تُباع يُضْرب فيها بالناقوس ويُنصب فيها الصُّلبان، وقال: لا تُباع من الكفار وشدَّد في ذلك.
وقال
(6)
: لا أرى له أن يبيع داره من کافر يكفر بالله فيها. فهذا نصٌّ على المنع.
ونقلَ عنه
(7)
إبراهيمُ بن الحارث: قيل لأبي عبد الله: الرجل يكري منزلَه من الذِمِّي؟ فقال: ابنُ عَوْن
(8)
كان لا يكري داره إلا من أهل
(1)
"المسائل": (2/ 30).
(2)
هو: صندوق يضع النصارى فيه جثة الميت.
(3)
كذا.
(4)
ترجمته في "طبقات الحنابلة": (2/ 295).
(5)
في "الجامع - أهل الملل": (1/ 200).
(6)
في رواية أبي الحارث.
(7)
في "الأصل": "عن" سهو.
(8)
هو: عبد الله بن عون البصري، الإمام المشهور ت (151) انظر "السير":(6/ 364).
الذمة، يقول: نُرْعبهم، يعني: أنه إذا أخذ من الذمي الأُجرة حصل له رُعب، وجعلَ أحمدُ يعجب بهذا من ابن عَوْن.
ونقل مُهنَّا قال: سألتُ أحمد عن الرجل يكري المجوسي داره؟ فقال: كان ابن عَوْن لا يرى أن يكري المسلم، يقول: أرعبهم في أَخْذ الغلَّة، وكان يرى أن يكري غير المسلم.
قال الخلَّال
(1)
: كلُّ من حكي عن أبي عبد الله في الرجل يكري داره من ذِمِّي، فإنما أجابَه على فعل ابن عونٍ، ولم ينفذ لأبي عبد الله قول، وقد حكى عنه إبراهيمُ أنه رآه معجَبًا به، والأمرُ في ظاهر
(2)
قول أبي عبد الله: أن لا تباع منه؛ لأنه يكفر فيها.
والأمر عندي: لا تُباع منه ولا تُكري؛ لأنه معنى واحد، وكره أحمد بيعَ الدار لعَوْن
(3)
؛ لأنه كان مبتدعًا، فإذا كره بيع الدار من الفاسق فكيف بالكافر؟!
وقال أبو بكر: لا فرق بين البيع والإجارة، فإذا أجاز [البيع]
(4)
أجاز الإجارة، وإذا منع البيع منع الإجارة، ووافقه القاضي وأصحابه على ذلك.
(1)
"الجامع": (1/ 201).
(2)
في "الأصل": "ظاهر في" والمثبت من أصله و "الجامع"، وهو الأصح.
(3)
هو: البصري. كما في كتاب الخلال و "الاقتضاء".
وقد ذكر الشيخ في الأصل أنه لعله من أهل البدع أو من الفسَّاق. ونقله عنه ابن القيِّم في "أحكام أهل الذمة": (1/ 286).
(4)
زيادة لازمة.
وعن إسحاق بن منصور
(1)
أنه قال لأبي عبد الله: عن الأوزاعي أنه کره أن يؤاجر المسلم نفسَه للنصراني ينظر كَرْمَه. فقال أحمد: ما أحسن ما قال، لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر، إلا أن يعلم أنه يُباع لغير الخمر، فلا بأس.
وعن أبي النضر العجلي
(2)
قال: قال أبو عبد الله فيمن يحمل خمرًا أو خنزيرًا أو مَيْتة لنصراني: فهو يكره أكل کرائه، ولكنه يقضي للجمَّال
(3)
بالكراء، وإذا كان للمسلم فهو أشدُّ.
وتلخيص الكلام في ذلك: أما بيع داره من کافر، فقد ذكرنا مَنْع أحمد منه، ثم اختلفَ أصحابُه؛ هل هذا تنزيه أو تحريم، فقال الشريف أبو علي بن أبي موسى
(4)
: "کره أحمد أن يبيع داره من ذِمِّي يكفر فيها بالله تعالى، ويستبيح المحظورات، فإن فعل أساء و [لم]
(5)
يبطل البيع".
وكذلك أبو الحسن الآمدي أطلق الكراهة مقتصرًا عليها.
وأما الخلال وصاحبه
(6)
والقاضي؛ فمقتضى كلامهم تحريم ذلك،
(1)
هو الكوسج، ولم أجد هذا النص فيما طُبع من مسائله.
(2)
هو: إسماعيل بن عبد الله بن ميمون العجلي المروزي ت (270). انظر "طبقات الحنابلة": (1/ 276).
(3)
كذا في الأصل، ويصح أن تكون "الحمال" بالمهملة كما في بعض نسخ "الاقتضاء".
(4)
هو: محمد بن أحمد بن أبي موسى الهاشمي القاضي ت (428)، "طبقات الحنابلة":(3/ 325).
(5)
سقطت من الأصل!
(6)
هو غلام الخلال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر ت (363)، "طبقات الحنابلة":(3/ 213).
وقال القاضي: لا يجوز أن يؤاجر داره أو بيتَه ممن يتخذه بيت نار أو کنيسة، أو يبيع فيه الخمر، سواء شَرَط أنه يبيع فيه الخمر أو لم يشترط؛ لكنه يعلم أنه يبيع الخمر.
قال أبو بكرٍ: لا فرقَ بين البيع والإجارة كما قدمناه، وكلام أحمد محتمل الأمرين، فإن قوله في رواية أبي الحارث: يبيعها من مسلم أحبّ إليَّ، يقتضي أنه مَنْع تنزيه. واستعظامه لذلك في رواية المرُّوذي، وقوله: لا تباعُ من كافرٍ، وشدَّد في ذلك، يقتضي التحريم.
وأما الإجارة؛ فقد سوَّى الأصحابُ بينها وبين البيع، وأن ما حكاه عن ابن عَوْنٍ ليس بقولٍ له. ويمكن أن يقال: بل ظاهر الرواية أنه أجاز ذلك، فإن إعجابه بالفعل دليل جوازه عنده، واقتصاره على الجواب بِفِعْل رجلٍ يقتضي أنه مذهبه في أحد الوجهين.
والفرقُ بين الإجارة والبيع: أن ما في الإجارة من مفسدة الإعانة قد عارضه مصلحة أُخرى، وهو صرف إرعاب المطالبة بالكِراء عن المسلم، وإنزال ذلك بالكافر، فصار ذلك بمنزلة إقرارهم بالجزية [فَـ] لِمَا تضمَّنه من المصلحة جاز، وكذلك جازت مُهادنة الكفار في الجملة.
فأما البيع؛ فهذه منتفية فيه، وهذا ظاهر على قول ابن أبي موسى وغيره: أن البيع مكروه غير محرَّم، فإن الكراهة في الإجارة تزول بهذه المصلحة الراجحة كما في نظائره، فيصير في المسألة أربعة أقوال.
وهذا الخلافُ عندنا والتردُّد في الكراهة، هو إذا لم يعقد الإجارة على المنفعة المحرَّمة، فأما إن آجره على أنه يبيع فيه الخمر أو يعملها کنيسة؛ فلا يجوز قولًا واحدًا، وبه قال الشافعي وغيره.
وقال أبو حنيفة: يجوز، وكذا يقول فيما إذا استأجر رجلًا يحمل له الميتة أو الخمر أو الخنزير: أنه يصح. وعامةُ الفقهاء خالفوه
(1)
.
ونُقِل عن أحمد فيما إذا ابتاعَ الذميُّ أرضًا عُشْرية روايتان
(2)
، مَنَعَ في إحداهنَّ، قال: لأن فيه إبطالًا للعُشْر وهو ضررٌ على المسلمين، قال: وكذلك لا يمكَّنوا من استئجار أرض العشر لهذه العلة.
وقال في الرواية الأخرى: لا بأس أن يشتري الذميُّ أرضَ العُشْر من مسلمٍ، واختلفَ قولُه إذا جاز
(3)
ذلك فيما على الذِّمي فيما يَخْرج منها على روايتين، إحداهما: لا عُشْر عليه ولا شيء سوى الجزية، والأُخرى: عليه فيما يَخْرج منها الخُمْس. ومن أصحابنا من حكى رواية: أنهم يُنْهون عن شرائها، فإن اشتروها أُضْعِف عليهم العُشْر، وفي كلام أحمد ما يدل على هذه.
وكذلك نمنعهم -على ظاهر المذهب- من شراء السَّبْي الذي جرى عليه سهام المسلمين، كما شَرَط عليهم عُمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ويتخرَّج: أنه لا يؤخذ منه إلا عُشر واحد، هذا في العُشْرية التي ليست خراجيَّة. أما الخراجيَّة؛ فقالوا: ليس لذمي أن يبتاع أرضًا فَتَحها المسلمون عُنْوة، وإذا جوَّزنا بيع العُنوة كان حكم الذمي في ابتياعها
(1)
انظر تفصيل المخالفة في "الاقتضاء": (2/ 30).
(2)
رسمها في الأصل: "أرض عشرية روه ايتان"! وهو سهو، وفي أصله:"أرض عشر من مسلم على روايتين".
(3)
في الأصل: "أجاز" وهو سهو.
كحكمه في أرض العُشْر المَحْض؛ إذ جميع الأرض عُشْرية عندنا وعند الجمهور، بمعنى أن العُشْر يجب فيما أخْرَجَت.
وكذلك الأرض المَوَات من أرض الإسلام التي ليست خراجيَّة؛ هل للذمي أن يتملَّكَها بالإحياء، فيه قولان للعلماء، هما في المذهب. قيل: ليس له ذلك، وهو قول الشافعي وابن حامد، وهو قياس إحدى الروايتين عن أحمد في منعه ابتياعها.
ثم هل عليه عُشر؟ فيه روايتان، قال ابنُ أبي موسى: ومن أحيا من أهل الذمة أرضًا فهي له، ولا زكاة عليه فيها ولا عُشر، وقد رُوِيَ عنه رواية أخرى: أنه لا خراج على أهل الذمة، ويؤخذ منهم العُشر يُضَاعَف عليهم، والأول عنه أظهر.
فهذا الذي حكاه ابنُ أبي موسى من تضعيف العُشر فيما يملكه بالإحياء، هو قياس تضعيفه فيما يملكه بالابتياع؛ لكن نقل حَرْبٌ عنه في رجلٍ من أهل الذمة أحيا أرضًا قال:"هو عُشْر". ففهم القاضي وغيرُه من الأصحاب أن الواجب هو العُشر المأخوذ من المسلم، فحكوا في وجوب العُشر فيها روايتين، وابنُ أبي موسى نقل الروايتين في وجوب عُشر مضعَّف.
وعلى طريقة القاضي يُخَرَّج في مسألة الابتياع كذلك، والذي نقله ابنُ أبي موسى أصحُّ، فإن أحمد سُئل عن إحياء الذمي الأرضَ؟ فأجاب: بأنه ليس عليه شيءٌ، وذكر اختلاف الفقهاء في مسألة اشترائه الأرض هل يمنع أو يضعَّف عليه العُشر، وهذا يبين لك أن المسألتين عنده واحدة، وهو تمليك الذمي الأرض العشرية، سواء كان بابتياعٍ أو إحياء أو غير ذلك.
ومن نقل عنه عشرًا مفردًا في الأرض المُحْياة دون المبتاعة؛ فليس بمستقيم. وأصلُه قوله في [الرواية]
(1)
التي نقلها الكرماني قوله: "هي أرض عشر"، ولكن هذا كلام مُجْمل قد فسَّره أبو عبد الله في موضع آخر وبيَّن مأخَذَه. ونَقْلُ الفقه إن لم يعرف الناقل مأخَذ الفقيهِ، وإلا فقد يقع فيه الغلط كثيرًا.
وقد أفصحَ أربابُ هذا القول: بأن مأخَذَهم قياس الحِراثة على التجارة، فإن الذمي يؤخذ منه إذا اتَّجَر في غير أرضه ضِعْف المسلم، فكذلك إذا استحدث أرضًا غير أرضه؛ لأنه في كلا الموضعين قد أخذ يكتسب في غير مكانه الأصلي.
وقياس قول من يضعّف العُشر: أن المستأمن لو زرع في دار الإسلام لكان الواجب عليه خُمُسَيْن، ضِعفا ما يُؤخذ من الذمي، كما إذا اتَّجر في بلاد الإسلام.
ومذهب أحمد في الإجارة لعمل ناووس ونحوه: لا يجوز رواية واحدة، ذكره الآمديُّ، كالإجارة لبناء كنيسة أو بيعة أو صومعة، وكالإجارة لكتبهم المحرفة.
وأما مسألة حمل الميتة والخمر والخنزير للنصراني؛ فقد تقدَّم لفظ أحمد أنه قال: يُكره أكل كِراه ويُقضي له بالأجرة، ثم اختلف الأصحاب على ثلاثة طرق:
أحدها: إجراء هذا على ظاهره، وأن المسألة رواية واحدة. قال
(1)
زيادة لازمة.
ابنُ أبي موسى: وكره أحمد أن يُؤجِّر المسلم نفسه لحمل ميتة أو خنزير لنصراني، وإن أجَّر نفسه لحمل محرَّم لمسلم كانت الكراهة أشدّ ويأخذ الكِراء.
وهل يطيبُ له أم لا؟ على وجهين، وغيرُ ممتنع أن يُقضي له بالكراء وإن كان مُحرَّمًا كإجارة الحجَّام، فقد صرَّح هؤلاء بأنه يستحقُّ الأجرة، مع كونها محرمة عليه على الصحيح.
الطريقة الثانية: تأويل هذه الرواية بما يخالف ظاهرها، وجَعْل المسألة رواية واحدة: أن الإجارة لا تصح، وهي طريقة القاضي في "المجرَّد"
(1)
، وهي ضعيفة رجع عنها القاضي.
الطريقة الثالثة: تخرج هذه المسألة على روايتين؛ إحداهما: أن هذه الإجارة صحيحة يستحق بها الأُجرة مع الكراهة للفعل وللأُجرة. والثانية: لا تصح ولا يستحق بها الأُجرة وإن حَمَل، على قياس قوله في الخمر لا يجوز إمساكها وتجب إراقتها.
قال في رواية أبي طالب -إذا أسلم وله خمر أو خنازير-: تُصَب الخمرُ وتُسَرَّح الخنازيرُ قد حَرُما عليه، وإن قتلها فلا بأس.
وهذا عند أصحابنا إذا استأجره ليحمل الخمر إلى بيته أو دكانه أو حيث لا يجوز إقرارها، سواء كان حَمْلها للشرب أو مطلقًا، أما إن كان حَمَلها ليريقها أو يحمل الميتة لينقلها إلى الصحراء، لئلا يتأذَّي الناسُ بريحها، فإنه يجوز الإجارة على ذلك؛ لأنه عملٌ مباح، لكن إذا كانت
(1)
انظر عنه "المدخل المفصَّل": (2/ 708).
الإجارة بجلد المَيْتة لم تصح، واستحق أُجرة المثل، وإن كان قد سَلَخ الجلدَ وأخَذَه ردَّه على صاحبه، وهذا مذهب مالك، وأظنه مذهب الشافعي أيضًا. ومذهب أبي حنيفة كالرواية الأولى.
والأشْبَه -والله أعلم- طريقة ابن أبي موسى، فإنه أقرب إلى مقصود أحمد وإلى القياس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعنَ عاصِرَ الخمر ومعتصرَها وحاملَها والمحمولةَ إليه، فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعةٍ تستحق عِوَضًا، وهي ليست محرمة في نفسها، وإنما حرِّمت بقصد المعتصر والمستحمل، كما لو باع عنبًا لمن يتخذه خمرًا. فإنَّ مالَ البائعِ لا يذهب مجَّانًا بل يُعْطى بدلها، فإن تحريم الانتفاع إنما كان من جهة المستأجر لا من جهته.
ثم نحن نحرِّم الأُجرةَ عليه لحقِّ الله -سبحانه- لا لحقِّ المستأجر، بخلاف من اسْتُؤجِرَ للزِّنا والتلوُّط والقتل والغَصْب، فإن نفس هذا العمل محرَّم، لا لأجل قَصْد المشتري، فهو كما لو باعَه ميتة أو خمرًا لا يُقضى له بثمنها؛ لأن نفس العين محرَّمة.
ومثلُ هذه الإجارة والجَعالة لا توصف بالصحة ولا بالفساد مطلقًا، بل يُقال: هي صحيحة بالنسبة إلى المستأجِر، بمعنى: أنه يجب عليه الجُعْل، وهي فاسدة بالنسبة إلى الأجير، بمعنى: أنه يحرم عليه الانتفاع بالأُجرة. وله في الشريعة نظائر.
ونصُّ أحمدَ على كراهة نظارة كَرْم النصراني لا يُنافي هذا، فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن ثمنه، ثم نقضي له بكرائه، ولو لم نفعل هذا لكان في هذا منفعة عظيمة للعُصَاة، فإن كل من استأجروه على عملٍ يستعينون به على المعصية، حصَّلوا غرضَهم منه ثم لا يعطونه شيئًا، وما
هم أهلٌ أن يُعَانوا. بخلاف من سلَّم إليهم عملًا لا قيمة له بحال.
نعم؛ البَغِيُّ والمُغَنِّي والنائحة ونحوهم، إذا أُعطوا أُجورهم ثم تابوا؛ فهل يتصدقون بالأجر أم يجب ردُّه على المُعْطي؛ فيه قولان؛ أصحهما: أن لا يُرَد بل يتصدق بها وتُصرف في مصالح المسلمين. نصَّ عليه أحمد في أجرة حمال الخمر.
ونصَّ على أنه يُعاقَب بيَّاع الخمر بحَرْق حانوته، كما حرق عمر [حانوتًا]
(1)
يباع فيها الخمر
(2)
. وذلك أن العقوبات المالية عندنا باقية غير منسوخة
(3)
.
إذا عُرف أصل هذه المسائل وعُرِف أصل الإمام أحمد، فمعلوم أن بيعهم ما يُقيمون به أعيادَهم المحرمة، هو مثل بيعهم العقار للسُّكنى وأشد، بل هو إلى بيعهم العصير أقرب منه إلى بيعهم العقار، فإن ما يبتاعونه يصنعون به نفس المحرَّمات مثل: صليب أو شعانين أو معمودية أو تبخير أو ذبح لغير الله أو صورة ونحو ذلك؛ فهذا لا ريب في تحريمه، كبيعهم العصير ليتخذوه خمرًا وبناء الكنيسة لهم.
وأما ما ينتفعون به في أعيادهم للأكل والشرب؛ فأصول أحمد وغيره تقتضي کراهته؛ لكن كراهة تحريم كمذهب مالك، أو كراهة
(1)
في "الأصل": "قرية" وهو انتقال نظر، فإن الذي حرق قرية هو علي رضي الله عنه كما في "الاقتضاء":(2/ 49)، و"الآداب الشرعية":(1/ 222).
(2)
أخرج عبد الرزاق في "المصنف": (6/ 77) أن عمر رضي الله عنه أحرق بيت رجلٍ كان جَلَده في الخمر، ثم وجد في بيته خمرًا.
(3)
انظر: "مجموع الفتاوى": (28/ 109 - 117، 29/ 294 - 297)، و"زاد المعاد":(5/ 54).
تنزيه؟ والأشبه أنه كراهة تحريم كسائر النظائر عنده، فإنه لا يُجَوِّز بيع الخمر واللحم والرياحين للفسَّاق الذين يشربون عليها، ولأن هذه الإعانة قد تُفْضي إلى إظهار الدين وكثرة اجتماع الناس لعيدهم وظهوره، وهذا أعظم من إعانة شخص معيَّن.
فصلٌ
(1)
وأما قبول الهدية منهم يوم عيدهم، فقد قدَّمنا
(2)
عن عليٍّ رضي الله عنه أنه أُتي بهدية يوم نيروز فقبلها، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"أمَّا ما ذُبِح لذلك اليوم فلا تأكلوا، ولكن كلوا من أشجارهم"
(3)
. وعن أبي بَرْزة أنه كان يُهدي إليه مجوسٌ في نيروزهم، فيقول لأهله:"ما كان من فاكهةٍ فكلوه، وما كان من غير ذلك فردوه"
(4)
.
فهذا كله يدل على أنه لا تأثير للعيد في المنع من قبول هديَّتهم، بل حكمها في العيد وغيره سواء؛ لأنه ليس في ذلك إعانة على شعائر كفرهم. لكن قبول هدية الكفار من أهل الحرب وأهل الذمة مسألةٌ مستقلَّة فيها خلاف، وتفصيله ليس هذا موضعه
(5)
.
* * *
(1)
"فصل" ليست في "الاقتضاء": (2/ 51).
(2)
ص / 91 أشار إلى أصل الرواية، والأصل:(1/ 514).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف": (5/ 126).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف": (5/ 126).
(5)
ثم تكلم في "الاقتضاء": (2/ 53 - 70) عن حكم ذبائح أهل الكتاب لأعيادهم، وما يتقربون بذبحه إلى غير الله.
فصلٌ
(1)
فأما صيام أيام أعياد الكفار مفردةً، كصوم يوم النيروز والمِهْرجان، فقد اختلف فيهما؛ لأجل أنَّ المخالفة تحصُلُ بالصوم، أو بترك تخصيصه بعملٍ.
فنذكر أولًا صوم يوم السبت:
وذلك أنه روى ثور بن يزيد
(2)
، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تصوموا يومَ السبتِ إلا فيما افْتُرِضَ عليكم، وإن لم يَجِد أحدُكم إلا لحاءَ عنبٍ أو عُوْدَ شَجَرٍ فَلْيَمْضَغْه"، رواه أهل السنن الأربعة
(3)
.
وقد اختلف الأصحابُ وسائرُ العلماء فيه:
فقال الأثرم: سمعتُ أبا عبد الله يُسأل عن صوم السبت يَفْتَرد به؟ فيقول: جاء في ذلك حديث الصَّمَّاء، يعني هذا الحديث المتقدِّم. ويقول: كان يحيى بن سعيد يتَّقيه.
قال: وحجّة أبي عبد الله في الرخصة في صومه، أن الأحاديث كلها
(1)
"الاقتضاء": (2/ 71).
(2)
وقع في "الأصل": "زيد" والتصويب من أصله من المصادر.
والحديث يرويه ثور عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بُسر السلمي، عن أخته الصمَّاء، عن النبي صلى الله عليه وسلم به.
(3)
أخرجه أبو داود رقم (2421)، والترمذي رقم (744)، والنسائي في "الكبرى":(2/ 143 - 144)، وابن ماجه رقم (1726) وغيرهم.
والحديث حسَّنه الترمذي، وصححه ابن خزيمة وابن السَّكن وابن حبان والحاكم. وتكلم فيه بعضهم. وانظر "الارواء" رقم (960).
مخالفة لهذا الحديث، مثل حديث: أم سلمة حين سُئلت: أيُّ الأيام كان رسولُ الله أكثر صيامًا لها؟ فقالت: السبت والأحد
(1)
.
ومثل: نهيه عن صوم الجمعة إلا يوم قبله أو بعده
(2)
، ومثل: كان يصوم شعبان
(3)
، ونحو ذلك. ولا يُقال: إن النهي عن إفراده؛ لأنه قال في الحديث: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افْتُرِضَ عَلَيكم"، فالاستثناء منه يدلُّ على دخول غير المُستثنى، بخلاف الجمعة فإنه نهى. عن إفراده.
ففهم الأثرم الرخصةَ في صومه، وذلك أن أحمد علَّل الحديث بأن يحيى كان يتَّقيه.
وأما أكثر الأصحاب ففهموا من كلام أحمد الأخذ بالحديث وحمله على الإفراد، وهؤلاء يكرهون إفراده عملًا بالحديث لجودة إسناده، ثم اختلفَ هؤلاء في تعليل الكراهة، فقال ابن عقيل: لأنه يوم يُمْسِك فيه اليهود ويخصُّونه بالإمساك، وهو ترك العمل، والصائم في مظنة ترك العمل، فيصير صومه تشبُّهًا بهم، وهذه العلة منتفية في الأحد.
(1)
أخرجه أحمد: (6/ 324)، وابن خزيمة رقم (2167)، وابن حبان "الإحسان":(8/ 381)، والحاكم:(1/ 436). من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم.
(2)
أخرجه البخاري رقم (1985)، ومسلم رقم (1144) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
يعني: وفي شعبان يوم السبت.
والحديث أخرجه البخاري رقم (1969)، ومسلم رقم (1156) من حديث عائشة رضي الله عنها.
وعلله طائفة من الأصحاب: بأنه يوم عيد لأهل الكتاب، فَقَصْده دون غيره فيه تعظيم لما عظَّمه أهل الكتاب فكره [ذلك] كما کره إفراد عاشوراء، وإفراد رجب لما عظَّمه المشركون، وهذه
(1)
العلة تُعَارض بيوم الأحد، فإنه عيد النصارى. وقد يقال: إذا كان يوم عيد فمخالفتهم تكون بالصوم لا بالفِطْر، ويُقوِّي ذلك ما رُوي عنه أنه كان يصوم يوم السبت والأحد ويقول:"هُما يَوْمُ عِيْدٍ للمشركين فأنا أُحِبُّ أنْ أُخَالِفَهم" رواه أحمد والنسائي، وصححه بعضُ الحفاظ
(2)
. وهو نصٌّ في استحباب صوم يوم عيدهم. وليس في ذلك حجة على من کره إفرادَه؛ لأنه إذا صام السبتَ والأحد زال الإفراد المكروه وحصلت المخالفة للمشرکين.
فصلٌ
(3)
وأما النَّيْروز والمِهْرَجان ونحوهما من أعياد المشركين؛ فمن لم يكره صوم السبت قد لا يكره صوم ذلك؛ بل ربما استحبَّه للمخالفة، وكرهها أكثر الأصحاب، وعلَّلوا ذلك بأنه تعظيم لعيدهم فيكره كيوم السبت.
قال الإمام أبو محمد المقدسي
(4)
: "وعلى قياس هذا، كلُّ عيدٍ للكفار، أو يوم يُفردونه بالتعظيم".
(1)
في الأصل: "يعظمه المشركون، وهذا"! والمثبت من "الاقتضاء".
(2)
تقدم تخريجه ومن صححه ص/ 89.
(3)
"الاقتضاء": (2/ 80).
(4)
في "المغني": (4/ 429).
وقد يقال: يُكْره صوم النيروز والمهرجان ونحوهما مما لا يُعرف بحساب العرب، بخلاف ما جاء في الحديث من يوم السبت والأحد؛ لأنه إذا قصد صوم الأيام العجميَّة كان ذريعةً إلى إقامة شعار هذه الأيام وإحياء أمرها، بخلاف السبت والأحد، فإنهما من حساب المسلمين، فليس [في] صومهما مفسدة، ففيه توفيق بين الأدلَّة.
فصلٌ
(1)
ومن المنكرات: سائر الأعياد والمواسم المبتدعة فإنها من المكروهات
(2)
، سواء بلغت التحريم أو لم تبلغه، فهي منكرة من وجهين:
أحدهما: أن ذلك داخل في مسمَّى البدع والمحدثات، فيدخل في قوله:"شَرُّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وكلُّ ضلالةٍ في النار"
(3)
، و"كلُّ [عملٍ]
(4)
ليسَ عليه أَمْرُنا فهو رَدٌّ"
(5)
، "من أَحْدَثَ في أَمْرِنا ما ليسَ مِنْه فَهُو رَدٌّ"
(6)
.
(1)
"الاقتضاء": (2/ 82).
(2)
في أصله: "من المنكرات المكروهات".
(3)
أخرجه مسلم رقم (867) من حديث جابر رضي الله عنه.
وزيادة: "وكل ضلالة في النار" أخرجها النسائي في "الكبرى": (1/ 550).
(4)
في "الأصل": "أمر" والمثبت من أصله ومصادر الحديث.
(5)
أخرجه مسلم رقم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(6)
أخرجه البخاري رقم (2697)، ومسلم رقم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
وهذه قاعدة دلّت عليها السنةُ والكتابُ والإجماعُ، مثل قوله:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، ونحو ذلك كثير في الكتاب.
وليعلم أن هذه القاعدة، وهي الاستدلالُ بكون الشيء بدعةً على کراهته، قاعدةٌ عامة عظيمة، وتمامُها بالجوابِ عما يُعارضها.
وذلك أن من الناس من يقول: البدع تنقسم إلى قسمين: حسنة وقبيحة، بدليل قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح:"نِعْمَت البِدْعَةُ هذه"
(1)
، وبدليل أشياء من الأقوال والأفعال أُحْدِثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست مكروهة، بل قد تكون حسنة للأدلَّة الدالة على ذلك من الإجماع والقياس.
[فمن حجج المعارضين أن يقولوا]:
* فإذا ثبت أن بعض البدع حَسَنة، فالقبيح ما نهى عنه الشارع، وما سكت عنه من البدع فليس بقبيح، بل قد يكون حَسَنًا، فهذا مما يقوله بعضهم.
* وقد يقال: هذه البدعةُ حسنة؛ لأن فيها من المصلحة كَيْت وكَيْت، وهؤلاء المعارضون يقولون: ليست كل بدعة ضلالة.
والجوابُ عن قولهم هو: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نصَّ على أنَّ كلَّ بدعةٍ ضلالة وكل [ضلالة]
(2)
في النار، وشر الأمور محدثاتُها، فلا يحلّ لأحدٍ أن يدفعَ دلالة ذلك على ذمِّ البدع، ومن دفعَ ذلك فهو مُرَاغِم.
(1)
أخرجه البخاري رقم (2010). وفي بعض الروايات: "نِعْم".
(2)
في الأصل: "بدعة" وهو سبق قلم.
وأما المعارضات فالجوابُ عنها بأحدِ جوابَيْن:
إما أن يُقال: إن ما ثبتَ حُسْنه فليس من البدع، فيبقى العموم محفوظًا لا خصوصَ فيه، [وإما أن يقال: ما ثبت حُسنه فهو مخصوص، والعام المخصوص دليل فيما عدا صورة التخصيص]
(1)
فمن اعتقد أن بعضَ البدع مخصوص احتاج إلى دليلٍ يخصُّ به ذلك، وإلا كان العمومُ موجِبًا للنهي.
ثم إن المخصِّص لا يجوز أن يكون عادةَ بعض البلاد أو بعض الناس، بل إنما يكون من الكتابِ أو السنة أو الإجماع من الأدلة الشرعية، لا قول بعض العلماء أو العُبَّاد ونحو ذلك، فلا يُعَارض به قولُ سيِّد الخلْق إمام المتقين رسول ربِّ العالمين صلى الله عليه وسلم.
ومن اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنة مُجْمَعٌ عليها، بناءً على أن الأمة أقرَّتها ولم تنكرها؛ فهو مُخطئ، فإنه لم يزل ولا يزال في كلِّ وقتٍ من ينهى عن عامة العادات المحدَثة المخالفة للسنة.
ولا يجوز حملُ قوله: "كل بدعة ضلالة" على البدع التي نهى عنها بخصوصها؛ لأنه تعطيل لفائدة الحديث، فإن ما نهى عنه من الكُفْر والفسوق قد عُلِمَ بذلك النهي أنه قبيحٌ محرَّم، سواء كان بدعةً أو لم يكن بدعة، فإذا كان لا منكر إلا ما نهى عنه بخصوصه سواء كان مفعولًا على عهده أو لم يكن، صار وصف البدعة عديم التأثير، لا يدلُّ وجودُه على القُبْح ولا عدمُه على الحُسْن، بل يكون قوله:"كل بدعةٍ ضلالة" بمنزلةِ قوله: كل عادةٍ ضلالة، أو: كل ما عليه العربُ أو العجم فهو
(1)
زيادة من "الاقتضاء" ليتم الكلام.
ضلالة. ويُرَاد بذلك: أن ما نهى عنه من ذلك فهو ضلالة. وهذا تعطيل للنصوص من نوع التحريف والإلحاد، ليس من نوع التأويل السَّائغ، وفيه من المفاسد أشياء:
أحدها: سقوط الاعتماد على هذا الحديث.
والثاني: أن وصف البدعة ومعناها يكون عديم التأثير، فتعليق
(1)
الحكم بهذا المعنى تعليقٌ بما لا تأثيرَ له ولا فائدةَ فيه.
الثالث: أن الخطاب بمثل هذا إذا لم يقصد إلا الوصف الآخر، وهو كونه منهيًّا عنه كتمانٌ لما يجب بيانُه، لمَّا لم يقصد ظاهره. فإن البدعةَ والنهيَ الخاصَّ بينهما عمومٌ وخصوصٌ؛ إذ ليس كل بدعة عنها نَهْيٌ خاصٌّ، وليس كل ما فيه نهيٌ خاص بدعة، فالتكلُّم بأحد الاسمين وإرادة الآخر تَلْبيس مَحْض لا يَسُوع التكلُّم به، فهو كما لو قيل:"الأسد" وأُريد الفرسُ، أو:"الفرس" وعُنِيَ به الأسدَ
(2)
.
الرابع: أنه إذا أراد بقوله: "كل محدثة بدعة" النهي عما نهى عنه، يكون قد أحالهم على ما لا يمكن الإحاطةُ به، ومثل هذا لا يجوز.
الخامس: إذا أُريد به ما فيه نهيٌ خاص، كان ذلك أقل مما ليس فيه نهي خاص من البدع، فإنك لو تأمَّلت البدعَ التي نَهى عنها بأعيانها، وما لم يَنْه عنها بأعيانها، وجدتَ هذا الضربَ هو الأكثر، واللفظُ العامُّ لا يجوز أن يُراد به الصور القليلة أو النادرة.
(1)
في الأصل: فتعلق، والمثبت من أصله.
(2)
وقع في "الاقتضاء": "الأسود" في الموضعين!
فهذه الوجوه وغيرها توجبُ القطعَ بأن هذا التأويل فاسِد لا يجوز حمل الحديث عليه، فإن على من تأوَّل شيئًا أن يبيِّن إرادة ذلك المعنى الذي حمل عليه الكلام، ثم بيان الدليل الصارف، فإذا مُنِعَ جوازُ إرادة ذلك، امتنعَ حملُ الحديث عليه. هذا مقامٌ.
وأما المقامُ الثاني فيقال: هب أن البدع تنقسم إلى حسنٍ وقبيح، فهذا القَدْر لا يمنع أن يكون هذا الحديث دالًّا على قُبح الجميع، لكن أكثر ما يُقال: إنه إذا ثبت أن هذا حَسَن يكون مستثنىً من العموم، وإلا فالأصل أن كلَّ بدعةٍ ضلالة. فقد تبيَّن أن الجواب عن كلِّ ما يُعَارض [به] من أنه حَسَن، وهو بدعة بإما: أنه ليس ببدعة، وإما: أنه مخصوص، وقد سَلِمت دلالةُ الحديث.
هذا إذا ثبتَ حُسْنُه، أما ما يُظَنُّ أنه حسنٌ وليس بحسنٍ، أو أمور يجوز أن تكون حسنةً وأن تكون قبيحة، فلا تصلح المعارضةُ بها، بل يُجَابُ عنها بالجوابِ المركَّب وهو: إن ثبتَ أن هذا حَسَن فلا يكون بدعة أو يكون مخصوصًا، وإن لم يثبت أنه حَسَنٌ فهو داخلٌ في العموم، فقد تبيَّن أنه لا يحلُّ لأحدٍ أن يُقابل هذه الكلمةَ الجامعةَ من رسول الله الكليةَ، وهي قوله:"كلُّ بدعةٍ ضلالةٌ" بِسَلْبِ عمومِها، ويقال: ليست كلُّ بدعةٍ ضلالة، فإن هذا إلى مُشاقَّةِ الرسول أقرب منه إلى التأويل.
مع أن الجواب الأول أَجْوَد، فإنَّ قَصْد التعميم المحيط ظاهرٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة الجامعة، فلا يُعْدَلُ عن مقصودِه -بأبي هو وأُمي صلى الله عليه وسلم وزاده شَرَفًا وكرَّم-.
وأما صلاةُ التراويح؛ فليست بدعة في الشريعة؛ بل سُنة بقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم وفِعْله فإنه قال: "إنَّ الله فَرَضَ عَلَيكم صِيَامَ رَمَضَانَ وسَنَنْتُ لكم قِيَامَه"
(1)
.
ولا صلاتها جماعة بدعة، بل قد صلَّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجماعة في أول شهر رمضان، ليلتين بل ثلاثًا، وصلَّاها -أيضًا- في العشر الأواخر في جماعةٍ مرات، وقال:"إنَّ الرجلَ إذا صلَّى مع الإمام حتَّى يَنْصَرف كُتِبَ لَهُ قِيامُ لَيْلَةٍ" لما قام بهم حتى خشوا الفلاح. رواه أهل السنن
(2)
.
وبه احتجَّ أحمدُ على أن فعلها جماعة أفْضَل، وكان الناسُ يصلونها جماعة في عهده ويقرهم على ذلك.
وأما قول عمر: "نعمت البدعة هذه" فأكثر المحتجِّين بهذا، لو أرَدْنا أن نُثْبِت حكمًا بقول عمر الذي لم يُخالف فيه، لقالوا: قولُ الصاحب ليس بحجَّة، فكيف يكون حجةً لهم في خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم!؟ ومن اعتقدَ قولَ الصاحبِ حجَّة فلا يعتقده إذا خالف الحديثَ، فعلى التقديرين لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب، نعم يجوز تخصيص عموم الحديث بقول الصاحب الذي لم يُخَالَف على إحدى الروايتين.
(1)
أخرجه أحمد: (3/ 198 رقم 1660)، والنسائي:(4/ 158)، وابن ماجه رقم (1328) وغيرهم من طريق القاسم بن الفضل، حدثنا النضر بن شيبان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه به.
وفيه النضر ضعيف الحديث، وأبو سلمة لم يسمع من أبيه شيئًا. وضعَّف الحديث جمع من الأئمة، كالبخاري والنسائي وابن خزيمة.
(2)
أخرجه الترمذي رقم (806)، والنسائي:(3/ 83)، وابن ماجه رقم (1327) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة.
ثم يقال: أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك: "بدعة" مع حُسْنها، وهذه تسمية لغوية لا شرعية، وذلك أن البدعةَ في اللغةِ تعمُّ ما فُعِل ابتداءً من غير مثالٍ سابقٍ.
وأما البدعة الشرعية: كلُّ ما لم يدل عليه دليلٌ شرعي. فإذا كان نصُّ رسول الله قد دلَّ على استحبابِ فعل أو إيجابه بعد موته، أو دلَّ عليه مطلقًا ولم يُعْمَل به إلا بعد موته، ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبو بكرٍ، فإذا عمل ذلك العمل بعد موته صحَّ أن يُسَمَّى بدعة في اللغة؛ لأنه مُبْتدأ عملٍ، كما أن نفس الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يُسمَّى بدعة، ويُسمَّى مُحْدَثًا في اللغة، كما قالت رُسُل قريشٍ للنجاشيِّ عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين إلى الحبشة: إن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم، ولم يدخلوا في دين المَلِك، وجاءوا بدينٍ محَدث لا يُعرف
(1)
.
ثم ذلك العمل الذي دلَّ عليه الكتابُ والسنةُ ليس بدعة، وإن سُمِّي بدعة لغةً، فلفظ البدعة في اللغة أعمُّ من لفظها في الشريعة، وقد عُلِمَ أن قوله:"كل بدعة" لم يُرِد كل مبتدأ، فإن دين الإسلام، بل كلّ دين جاءت به الرُّسُل فهو عملٌ مُبتدأ، وإنما أراد ما ابْتُدِئَ من الأعمال التي لم يشرعها هو صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان كذلك؛ فقد كانوا يصلون قيام رمضان على عهده جماعة وفُرَادى، وقال لهم:"لم يمنعني أَنْ أخرجَ إليكم إلا كَرَاهةَ أن تُفْرَضَ عليكم فصلُّوا في بُيُوتكم"
(2)
، فعلم أن المقتضي للخروج قائم، وأنه
(1)
انظر "السيرة النبوية": (1/ 335) لابن هشام.
(2)
أخرجه البخاري رقم (2012 وغيره)، ومسلم رقم (761) من حديث عائشة رضي الله عنها بألفاظ متقاربة.
لولا خوف الافتراض لخرج إليهم
(1)
.
فلما كان في عهد عمر رضي الله عنه جمعهم على قاريءٍ واحدٍ وأسْرَج المسجد، فصارت هذه الهيئة -وهو اجتماعهم في المسجد على إمامٍ واحدٍ مع الإسْراج- عملًا لم يكونوا يعملونه من قبل، فسمِّي بدعة؛ لأنه في اللغة يُسَمَّى بذلك، ولم يكن بدعة شرعية؛ لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح لولا خوف الافتراض، وقد زال خوفُه بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا جمع القرآن، فإن المانع من جمعه على عهده هو: أن الوَحْيَ كان ينزل، فينسخُ اللهُ ما يشاء، فلما أُمِنَ ذلك جُمِعَ في مصحفٍ واحدٍ وإن سُمِّي في اللغة بدعة، فإن المقتضي لجمعه وهو حفظه كان موجودًا في زمنه، لولا ما عارضَه من احتمال تغييره وزيادتِه ونقصِه، فلما أُمِن ذلك عمل المقتضي عملَه.
وصار هذا كنَفْي عمرَ ليهود خيبر، والنصارى من جزيرة العرب. وإنما لم يُنفِّذه أبو بكرٍ لاشتغاله عنه بقتالِ أهل الرِّدَّة، وشروعه في [قتال]
(2)
فارس والروم، وكذلك لم يفعله عمر في أول خلافته، لاشتغاله -أيضًا- بقتال فارس والروم، فلما تمكَّن من ذلك فعلَ ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإن كان هذا قد يُسمَّى بدعة لغةً، كما قال اليهود: كيف تُخْرجنا
(1)
للشيخ العلامة عبد الرحمن المعلمي نظرٌ آخر في السبب الموجِب للافتراض، ذكره في بحثٍ له عن "قيام رمضان".
(2)
زيادة لازمة.
وقد أقرَّنا أبو القاسم، وجاءوا إلى عليٍّ في خلافته
(1)
، فأرادوا أن يردَّهم، فامتنع من ذلك؛ لأن الفعل كان بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان مُحْدَثًا بعده.
وكذلك قوله: "خُذُوا العَطَاء ما كان عطاءً، فإذا صارَ عِوَضًا عن دينِ أَحَدِكم فلا تأخذوه"
(2)
. فإذا ردَّه الرَّادُّ لكونه عِوضًا كان متبعًا للسنة، وأن نفس الرد مُبْتَدَع لم يفعله أحدٌ على حياته صلى الله عليه وسلم.
وهذا كثير في السنة؛ مثل تركه أن يجعل للكعبة بابَيْن من أجل أنهم حديثو العهد في الإسلام.
وأما ما لم يحدث سببٌ يُحْوِجُ إليه، أو كان السبب المُحْوج إليه بعضُ ذنوب العباد، فهنا لا يجوز الإحداث، فكلُّ أمرٍ يكون المقتضي لفعله على عهده موجودًا، أو كان
(3)
مصلحة ولم يُفْعَل، يُعْلَم أنه ليسَ بمصلحة
(4)
، وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخلق، فقد يكون مصلحة.
ثم هنا للفقهاء طريقان:
أحدهما: أن ذلك يُفعل ما لم يُنه عنه، وهذا قول القائلين بالمصالح المرسلة.
(1)
أخرجه أبو عبيد في "الأموال": (ص/ 107 - 108)، وابن زنجوية في "الأموال" رقم (418) والبيهقي:(10/ 120).
(2)
أخرجه أبو داود رقم (2958) وسنده ضعيف.
(3)
في "الاقتضاء": "لو كان"، وله وجه صحيح.
(4)
انظر أمثلة له في "الاقتضاء": (2/ 102).