المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الثاني: أن يتحرى الدعاء عندها - المنهج القويم في اختصار اقتضاء الصراط المستقيم

[بدر الدين البعلي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌التحذير مِن اتباع سنن

- ‌1 - "مختارات من اقتضاء الصراط المستقيم" لفضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عُثيمين

- ‌2 - "مهذَّب اقتضاء الصراط المستقيم" للدكتور عبد الرحمن الفريوائي

- ‌3 - "مختصر اقتضاء الصراط المستقيم" للدكتور ناصر بن عبد الكريم العَقْل

- ‌نماذج من النسخة الخطية

- ‌ الصلاة في أماكن العذاب

- ‌الغُلُوَّ في الدينِ

- ‌ الشُّعُوبية

- ‌الدليل على فضل جنس العرب

- ‌فصلٌ

- ‌الطريق الأول العام:

- ‌الطريق الثاني الخاصُّ في نفس أعيادهم:

- ‌ فمن الكتاب

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الرابع:

- ‌الوجه الخامس:

- ‌الوجه السادس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌وأما الإجماع والآثار؛ فمن وجوه:

- ‌الثاني:

- ‌ الثالث:

- ‌فصلٌ(3)وأما الاعتبار في مسألة العيد؛ فمن وجوه:أحدها:

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الرابع:

- ‌الوجه الخامس:

- ‌الوجه السادس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌الوجه الثامن:

- ‌فصلٌ(1)مشابهتهم فيما ليس من شرعنا قسمان:

- ‌فصلٌ(5)أعياد(6)الكفَّار كثيرة

- ‌ الثاني(1)-في ذم المواسم والأعياد المُحْدَثة

- ‌النوع الثاني من الأمكنة(1): ما له خَصِيْصة؛ لكن لا يقتضي اتخاذه عيدًا

- ‌ الثاني: أن يتحرَّى الدعاء عندها

- ‌فصلٌ(2)[في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وبعض ما أُحدث فيها]

- ‌فصلٌ(2)[في إثبات الشفاعة ونفيها]

- ‌افترق الناس على ثلاث فرق:

- ‌ المشركون ومن وافقهم من مبتدعة أهل الكتاب وهذه الأمة:

- ‌الخوارج والمعتزلة:

- ‌ سلف الأمة وأئمتها

- ‌الرسول يُطاع ويُحب ويرضى

- ‌ فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌ الثاني: أن يتحرى الدعاء عندها

فصلٌ

(1)

والمقصود أن الدعاء والعبادة عند القبور وغيرها من الأماكن تنقسم إلى نوعين:

أحدهما: أن يحصل الدعاء في البقعة بحكم الاتفاق، لا لقصد الدعاء فيها، كمن يدعو في طريقه، ويتفق أن يمر بالقبور، وكمن يزورها فيسلِّم ويسأل الله العافية له وللموتى، كما جاءت به السنة، فهذا ونحوه لا بأس به.

النوع‌

‌ الثاني: أن يتحرَّى الدعاء عندها

، بحيث يستشعر أن الدعاء عندها أجوبُ من غيره، فهذا منهيٌّ عنه، إما نهي تحريم أو تنزيه، والتحريم أقرب، فإن الشخص لو دعا فاجتاز بصنمٍ من غير قصدٍ لم يكن به بأس، ولو تحرى الدعاء عند الصنم أو الصليب أو في الكنيسة يرجو الإجابة في تلك البقعة؛ لكان هذا من العظائم، فَقَصْد القبور للدعاء عندها من هذا الباب، بل قد يكون أشد؛ لنهي الرسول عن اتخاذها مساجد وعيدًا. فقَصْد القبور لم يفعله أحد من الصحابة والتابعين، بل أجْدَبُوا على عهد الصحابة، ودهمتهم نوائب، فهلَّا جاءوا فاستغاثوا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟! بل قد خرج عمرُ بالعباس يَسْتسقي به ولم يَرُح إلى القبر

(2)

.

وكذلك لما فُتِحت تُسْتَر وجدوا قبر دانيال، فقيل: إنه كان إذا أجدبت السماء برزوا بسريره، فيُمْطَرون، فأمر عمر أن يُعَمَّى قبره،

(1)

"فصل" ليست في "الاقتضاء": (2/ 195).

(2)

رواه البخاري رقم (1010) عن أنسٍ رضي الله عنه.

ص: 168

فحفر ثلاثة عشر قبرًا متفرقة ودُفِنَ في أحدها ليلًا، وسوَّوا القبور كلَّها؛ لئلا يفتتن به الناس، فأنكر الصحابةُ ذلك وعَمَّوا قبره

(1)

، فهذا فِعْل الصحابة المهاجرين والأنصار.

ومن تأمل كتب الآثار وعَرَف حال السلف، عَلِم قطعًا أن القومَ ما كانوا يستغيثون عند القبور ولا يتحرون الدعاء عندها؛ بل ينهون عن ذلك جهالهم.

فإن قيل: فقد نُقِل عن بعضهم أنه قال: قبر مَعْروفٍ الترياقُ الأكبر

(2)

المجرَّب، وأن معروفًا أوصى ابن أخيه أن يدعو عند قبره، وأن بعض من هَجَره أحمدُ ابن حنبل، كان يأتي إلى قبر أحمد ويتوخَّي الدعاءَ عنده، ورُوِي عن جماعاتٍ أنهم دعوا عند قبر جماعات من الأنبياء والصالحين من أهل البيت وغيرهم فاستجيب لهم.

وذكرَ علماءُ من المصنفين في المناسك: إذا زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو عنده، وأن من صلى عليه سبعين مرة عند قبره ودعا استجيب له، ورأى بعضُهم منامات في الدعاء عند قبر بعض الأشياخ، وجرَّب

(3)

أقوامٌ استجابة الدعاء عند القبر، وأدركنا من ذوي الفضل علمًا وعملًا من يتحرى الدعاءَ عندها والعكوفَ عليها، وفيهم من لهم كرامات وعِلْم، فكيف يُخَالَف هؤلاء؟!

(1)

أخرجها ابن إسحاق -كما في "الاقتضاء": 2/ 199 - وابن جرير في "تاريخه": (4/ 92)، وانظر "البداية والنهاية":(10/ 65).

(2)

"الأكبر" ليست في "الاقتضاء"، ومعروفٌ هو الكَرْخي الزاهد المشهور.

(3)

بالأصل: "وجرب ذلك"! وحذفها هو الصواب.

ص: 169

وهذا السؤال -مع بُعْدِه عن طريق العلم- هو غايهُ ما يتمسَّك به المَقْبُرِيُّون

(1)

.

والجواب عن ذلك على وجه الاختصار: أن ذلك لم يُنقل في اسْتحبابه -فيما علمناه- شيءٌ ثابت عن القرون الثلاثة المفضَّلة الذين أثنى عليهم الرسول، مع شدَّة المقتضي فيهم لذلك لو كان فضيلة.

وأما من بعدَهم؛ فأكثر ما يُفرض أن الأمة اختلفت، ولا يمكن أن يقال: إن الأمة أجمعت على استحسان ذلك؛ لأن كثيرًا من الأمة كَرِه ذلك وأنكره قديمًا وحديثًا.

وأيضًا: من الممتنع أن تتفق الأمةُ على استحسانِ فعلٍ، لو كان حسنًا لفعله المتقدمون، ولم يفعلوه

(2)

، فإن هذا من باب تناقض الإجماعات وهي لا تتناقض، وإذا اختلف فيه المتأخرون، فالفاصل بينهم هو كتابُ الله والسنة والإجماع المتقدِّم نصًّا واستنباطًا؛ فكيف والحمد لله لم يُنْقَل هذا عن إمامٍ معروف ولا عالم متَّبَع؛ بل المنقول من ذلك إما كذب كما كُذِب على الشافعي أنه قال: "إني إذا نزل شيءٌ بي

(3)

أجيءُ فأدعو عند قبر أبي حنيفة فأُجاب"!

فهذا كذبٌ معلوم كذبُه؛ فإن الشافعي لما قدمَ بغداد لم يكن ببغداد قبر يُنتاب للدعاء عنده، وقد رأي الشافعيُّ بالحجاز والشام من قبور الأنبياء والصحابة والصالحين من هو أفضل عنده من أبي حنيفة، فما

(1)

كذا في الأصل والاقتضاء، نسبة إلى المقبرة، وفي "الباء" وجهان الضم والفتح.

(2)

في "الأصل": "ولم يفعلونه"! وهو خطأ.

(3)

كذا، وفي "الاقتضاء":"نزلت بي شدة".

ص: 170

باله لم يتوخَّ الدعاء إلا عنده؟! ثم قد تقدَّم

(1)

عن الشافعي قوله: "إني أكره تعظيم قبور المخلوقين خشية الفتنة بها".

وإما أن يكون المنقول

(2)

عن مجهول لا يُعرف، ونحن لو رُوِيَ لنا أحاديث -مثل هذه الحكايات- لما جاز لنا التمسُّك بها حتى يثبتَ النقلُ.

ومنها ما قد يكون صاحبه قد قاله باجتهاد، وفَعَلَه باجتهاد يُخطيء ويُصيب، أو قاله بقيود وشروط كثيرة، على وجهٍ لا محذور فيه، فَحُرِّفَ النقلُ [عنه].

ثم سائر هذه الحجج دائرة بين نقلٍ لا يجوز إثبات الشرع به، أو قياس لا يجوز استحباب العبادات بمثله، مع العلم بأن الرسول لم يشرعها. وإنما يُثبت العبادةَ بمثل هذه الحكايات النصارى وأمثالُهم، وإنما المتَّبَع في إثبات الأحكام كتابُ الله، والسنةُ، واتباعُ سبيل السالفين الأوَّلين.

والجوابُ المحقَّق عن ذلك من وجهين؛ مجملٌ ومفصَّل:

أما المُجْمَل: فالنقض بأن اليهود والنصارى عندهم من الحكايات من هذا النمط كثير، بل المشركون كانوا يدعون عند أوثانهم فيُسْتجاب لهم أحيانًا، كما قد يُسْتجاب لهؤلاء؛ بل في وقتنا هذا عند النصارى من هذا طائفة، فإن كان هذا وحدَه دليلٌ على أن الله يرضى ذلك ويحبه فليطَّرِد الدليلُ، وذلك كفر متناقض.

(1)

ص/ 167.

(2)

يعني: من هذه الحكايات.

ص: 171

ثم إن كل قومٍ قد جعلوا لأنفسهم

(1)

وقبرًا لا يثقون بغيره، فلا يمكن موافقة الجميع؛ لأنه جَمْع بين الضدين، وموافقة بعض دون بعضٍ تحكُّم بلا مرجِّح، ومن المحال إصابتهم جميعًا؛ لأن كل فريق يُخطِّئ الفريقَ الآخر.

ثم قد استُجِيب لبلعام بن باعور في قوم موسى المؤمنين، فسَلَبه اللهُ الإيمان

(2)

، والمشركون قد يَسْتسقون فيُسْقَون، ويَسْتنصرون فيُنْصَرون.

وأما الجواب المفصَّل فنقول: مدار هذه الشُّبهة على أصلين:

منقول: وهو ما يُحكى من فعل هذا الدعاء عن بعض الأعيان.

ومعقول: وهو ما يُعْتَقد من منفعته بالتجارب والأقْيِسَة.

أما النقل: فإما كذب، أو غلط، أو ليس بحجَّة، بل قد ذكرنا النقل عمن يُقْتَدي به بخلاف ذلك.

وأما المعقول: فعامَّة المذكور من المنافع كذب، فإن هولاء الذين يتحرون الدعاء إنما يُسْتَجاب لهم أحيانًا نادرًا، وأين هذا من الذين يتحرون الدعاء وقت الأسحار وفي سجودهم، وأدبار صلواتهم؛ وفي بيوت الله؟! فإن هؤلاء إذا ابتهلوا مثل ابتهال المَقَابريين لم تكد تسقط لهم دعوة إلا لمانع.

وجميع الأمور التي يُظن أن لها تأثيرًا في العالم وهي محرمة في

(1)

كلمة لم تحرر ولعلها: "شيئًا".

(2)

انظر تفسير آية (175) من سورة الأعراف، "ابن كثير":(2/ 275)، وغيره.

ص: 172

الشرع، كالتمريحات

(1)

الفلكية، والتوجُّهات النفسانية؛ كالعين، والدعاء المحرَّم، والرُّقى المحرمة، والتمريحات الطبيعية ونحو ذلك، فإن مضرَّتها أكثر من منفعتها حتى في نفس ذلك المطلوب، فإنه لا يُطْلَب بها غالبًا إلا أمورٌ دنيويَّة، فقلَّ من حصل له بذلك أمر دنيوي إلا أعقبه شرٌّ أو كانت عاقبته خبيثة، دع الآخرة.

والمُخْفِقُ

(2)

من أهل هذه الأسباب أضعافُ أضعافِ المُنْجح، فلا يكاد يحصل الغرض إلا نادرًا، مع أن مضرَّتها أكثر من نفعها، بخلاف الأمور المشروعة؛ من الدعاء والتجارة والحراثة والتوكل على الله ونحوه، فإنه يحصل الخير [معها]

(3)

غالبًا.

فعُلِمَ أن

(4)

الأمور المذكورة ليس فيها خير غالب ولا خير مُحْض، ومن له خبرة بأحوال العالم تيقَّن ذلك بلا شكٍّ، والأسباب التي يخلق الله بها الحوادث في الأرض لا يُحْصِيها إلا هو، أما أعيانُها بلا ريب، وكذلك أنواعها لا يضبطها المخلوق لسعة ملكوت الله سبحانه وتعالى، ولهذا كانت طريقة الأنبياء: الأمر بما فيه الصلاح والنهي عما فيه الفساد.

والكلامُ في بيان تأثير بعض هذه الأسباب قد يكون فيه فتنة لمن

(1)

هذه وما سيأتي في السطر بعده كذا بالأصل، وفي "الاقتضاء":"التمريجات"، ولعل صوابها "النيرنجات" جمع نَيْرج، وهي" أُخَذٌ تشبه السحر، وليست بحقيقة، ولا كالسحر، إنما هو تشبيه وتلبيس" انظر "لسان العرب": (2/ 376).

(2)

كذا ضبطها في هامش الأصل، وشرحها بقوله:"أي الذي لا يتم أمره".

(3)

زيادة ليستقيم السياق.

(4)

تكررت في الأصل.

ص: 173

ضَعُفَ عقلُه ودينُه، بحيث تختطفَ عقلَهِ، ويكفي العاقلَ أن يعلم أن ما سِوَى المشروع لا يُؤثِّر بحالٍ فلا منفعةَ فيه، أو أنه إذا أثَّر فضرره أكثر من نَفْعِه.

ثم قد يكون سببُ قضاءِ حاجة هولاء الداعينَ الدعاءَ المحرمَ؛ لشدَّة ضرورته، لو دعا اللهَ بها مشركٌ عند وثنٍ لاستُجِيْبَ له؛ لصدق توجُّهه إلى الله -تعالى-، ولو قد استُجِيبَ له على يد المتوسَّل به صاحبِ القبرِ أو غيرِه لاستغاثته، فإنه يُعاقب على ذلك، ويهوي به في النار إذا لم يعف اللهُ عنه، كما لو طلب ما يكون فتنة له، كما أن ثعلبة لما سأل

(1)

النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ له بِكثَرة المال، ونهاه النبيُّ عن ذلك مرةً بعد مرة، فلم ينته حتى دعا له، وكان ذلك سبب شقائه في الدنيا والآخرة

(2)

. وقد قال: "إنَّ الرَّجُلَ لَيَسْألني المسأَلَةَ فأُعْطِيه إيَّاها، فيخرجُ بها يتأبَّطُها نارًا"

(3)

.

فكم من عبدٍ دعا دعاءً غير مباح فَقُضِيَتْ حاجَتُه، وكان سببَ هلاکه في الدنيا والآخرة، تارةً بأن يسأل ما لا تصلح له مسألته، كما فعل

(1)

غير محررة في "الأصل" وهي هكذا في أصله.

(2)

قصة حاطب بن ثعلبة هذه مما أورده أصحاب التفاسير عند قوله تعالي: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 75] وهي قصة باطلة لا تصح، وانظر في تفنيدها وبيان بطلانها کتاب "ثعلبة بن حاطب الصحابي المفترى عليه" لعداب الحمش.

(3)

أخرجه أحمد: (17/ 40، 199 رقم 11004 و 11123)، وابن حبان "الإحسان":(8/ 201)، والحاكم:(1/ 46) من حديث سعيد الخدري، وجعله ابن حبان من مسند عمر رضي الله عنهما.

والحديث صححه ابن حبان، والحاكم ووافقه الذهبي.

ص: 174

بلعام وثعلبة

(1)

، وتارةً بأن يسأل على الوجه الذي لا يُحبه الله تعالي.

بل أشدّ من ذلك السحر الطِّلَسْمات

(2)

والعين وغير ذلك، قد يُقْضَي بها كثيرٌ من أغراض النفوس، ومع هذا فقد قال سبحانه:{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 102]. وإنما يتشبَّثون بمنفعة الدنيا، قال تعالى:{وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102].

كذلك أنواع الداعين والسائلين قد يدعو دعاءً محرَّمًا، يحصل معه غرضُه، ويورثه ضررًا عظيمًا، ثم إن الداعي قد يعلمه

(3)

وقد لا يعلمه على وجهٍ لا يُعْذَر فيه بتقصيرِه في طلبِ العلم أو تركِ الحق، وقد لا يعلمه على وجهٍ يُعْذَر فيه، بأن يكون مجتهدًا أو مقلِّدًا، کالمجتهد [والمقلِّد اللذين يُعْذران في سائر الأعمال]

(4)

، وقد يتجاوز عنه لكثرة حسناتِه وصدقِ قصدِه، أو لمحضِ رحمةِ ربه ونحو ذلك. ثم مع ذلك يُنْهَى عنه، وإن كان قد زال سببُ الكراهةِ في حقِّه

(5)

.

ومن هنا يَغْلَط كثير من الناس؛ يبلغهم أن بعض الأعيان من الصالحين عَبَدَ عبادةً، أو دعا دعاءً، وجَدَ أثرَه، فيجعل ذلك دليلًا على استحباب

(6)

تلك العبادة والدعاء، ويجعلون ذلك العمل سنة، كأنه قد

(1)

انظر التعليق رقم (2)، ص 174.

(2)

انظر في التعريف به "أبجد العلوم": (2/ 367)، و "المعجم الوسيط":(ص/ 562).

(3)

أي: يعلم أن ذلك الدعاء محرم أو مكروه.

(4)

زيادة يستقيم بها السياق من "الاقتضاء".

(5)

يعني: لما له من العذر.

(6)

في "الاقتضاء": "استحسان".

ـ

ص: 175

فعله نبيٌّ، وهذا غَلَطٌ عظيم؛ لما ذكرناه، خصوصًا إذا كان العمل إنما كان أثره بصدقٍ قامَ في قلب فاعله حين الفعل، ثم يفعله الأتْباعُ صورةً [لا صدقًا]

(1)

، فيُضرُّون به.

ومن هذا الباب: ما يُحْكَي عن آثارٍ وُجِدت في السَّماع المبتَدَع، فإن تلك الآثار قد تكون عن أحوالٍ قامت بقلوب أولئك الرجال، حركها محركٌ كانوا فيه مجتهدين، أو مقصِّرين تقصيرًا غمره حسناتُ قَصْدِهم، فيأخذ الأتْباعُ حضور صورة السماع. وليس حضورُ أولئك الرجال سنةً تُتَّبَع، ولا مع المتَّبعين من الصدق ما لأجله عُذِروا وغُفِر لهم؛ فيهلكون بذلك، كما حُكيَ عن بعض الأشياخ أنه رُئي بعد موته فقيل له: ما فعلَ الله بك؟ فقال: أوقفني بين يديه وقال: يا شيخ السوء أنت الذي كنتَ تتمثَّل بي

(2)

بِسُعْدَي ولُبْنَي؟ لولا أعلم من صدقك لعذبتك.

ولهذا كان الأئمة المقتَدَي بهم يقولون: "عِلْمنا هذا مُقَيَّدٌ بالكتاب والسنة"

(3)

. وحُكِيَ لنا أن بعض المجاورين أتى إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاشتهى عليه من الأطعمة، فجاء بعض الهاشميين إليه فقال: النبيُّ بعث لك هذا وقال لك: اخرج من عندنا. وآخرون قضِيت حوائجُهم ولم يُقل لهم ذلك، لاجتهادهم أو قصورهم في العلم، فإنه يُغْفَر للجاهل ما لا يُغْفَر للعالم.

ولا يقال: هولاء لما نقصت معرفتُهم سُوِّغ لهم ذلك، فإن الله لم

(1)

زيادة من أصله.

(2)

كذا بالأصل، وليست في "الاقتضاء".

(3)

القائل هو: الجنيد بن محمد، انظر "الاستقامة":(2/ 141).

ص: 176

يُسَوِّغ هذا لأحدٍ؛ لكن قصورُ المعرفة قد يُرجي معه العفوُ والمغفرة.

أما استحباب المكروهات وإباحة المحرمات؛ فلا نُفَرّق بين العفو عن الفاعل وبين إباحة الفعل له.

وبالجملة؛ فإنما يثبت استحبابُ الأفعال واتخاذها دينًا بكتابِ الله وسنة رسوله، وما كان عليه السابقون، وما سوى ذلك من المحدثات؛ فلا، وإن اشتملت أحيانًا على فوائد؛ لأن مفسدتها راجحة على فوائدها.

فصلٌ

(1)

ومن الغرور اعتقاد أن استجابة مثل [هذا] الدعاء المحرَّم، أو الدعاء عند قبر أو تمثال، أو الدعاء بمحرم ونحوه من الدعاء المعتدي به

(2)

مثل: دعاء غير الله، واستغاثة غير الله، والتوسُّل بما لا يُحب أن يتوسل به إليه، كتوسل المشركين بأوثانهم إلى الله = كرامةٌ من الله لعبده، وليس هو في الحقيقة كرامة، وإنما تُشْبِه الكرامة، من جهة أنها دعوة نافذة وسلطان قاهر، وإنما الكرامةُ في الحقيقة: ما نفعت في الآخرة، أو نفعت في الدنيا ولم تضر في الآخرة، وإنما هذا بمنزلة ما يُنْعَم به على الكفار والفُسَّاق من الرِّياسات والأموال في الدنيا، فإنما تصير هذه نعمة إذا لم تضر صاحبها في الآخرة.

ولهذا اختلفَ أصحابُنا وغيرُهم، هل ما يُنْعَم به على الكافر نعمة أم ليس بنعمة؟ وإن كان الخلاف لفظيًّا.

(1)

"فصل" ليست في "الاقتضاء": (2/ 220).

(2)

من هنا إلى قوله: "إلى الله" ملحق في الهامش وليس عليه علامة التصحيح -وهو بخط المؤلف- وليس في مطبوعة "الاقتضاء".

ص: 177

فهذه الأدعية ونحوها، وإن كان قد يحصل لصاحبها أحيانًا غرضُه؛ لكنها محرمة لما فيها من الفساد الذي يُرْبي على منفعتها، كما تقدم، ولهذا كانت هذه فتنة في حق من لم يهده الله ويُنوِّر قلبَه، ويفرِّق بين أمر التكوين وأمر التشريع، ويفرِّق بين القدر والشرع، ويعلم أن الأقسام ثلاثة:

* أمور قدَّرها الله ولا يُحِبُّها، فإن الأسباب المحصلة لهذه تكون محرمة موجبة لعقابه.

* وأمور شرعها الله، وهو يُحبها ويرضاها من العبد، لكن لم يُعِنْه على حصولها، فهذه محمودة عنده مرضِيَّة وإن لم توجد.

* والقسم الثالث: أن يُعِيْنَ العبدَ على ما يُحبه منه.

فالأول: إعانة الله. والثاني: عبادة الله. والثالث: جمع له بين العبادة والإعانة، كما قال:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5].

فما كان من الدعاء غير المباح إذا أثَّر فهو من باب الإعانة لا العبادة، كسائر الكفار والمنافقين والفسَّاق، ولهذا قال في مريم:{وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم: 12]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بكلمات الله التامات التي لا يُجَاوِزُها بَرٌّ ولا فاجِر

(1)

.

ومن سنة

(2)

الله أن الدعاءَ المتضمِّنَ شركًا، كدعاء غيره لا يحصل

(1)

سيأتي ص/ 194.

(2)

كذا بالأصل، وفي "الاقتضاء":"ومن رحمة".

ص: 178