الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نماذج من النسخة الخطية
ورقة العنوان من "المنهج القويم"
الورقة الأولى من "المنهج القويم"
الورقة الأخيرة من "المنهج القويم"
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، قيوم السماوات والأَرضين. والحمد لله الذي أكملَ لنا ديننا، وأتمَّ علينا نعمتَه، ورضيَ لنا الإسلامَ دينًا، وأمرنا أن نستهديَه صراطَه المستقيم، صِراط الذين أنعمَ عليهم غير المغضوب عليهم -اليهود-، ولا الضالين -النصارى-.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالدين القيِّم، والحنيفية السَّمْحة، وجعله على شريعةٍ من الأمر، وأمره أن يقول:{هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]، صلى الله وسلَّم عليه، وزاده شرفًا لديه.
وبعد؛ فإني كنت قد نَهَيْتُ عن التشبُّه بالكفار في أعيادهم، وبيَّنت ما في ذلك من الأثر والدلالة الشرعية. ثم بلغني أن من الناس من استغربَ ذلك واستبعده، لمخالفةِ عادةٍ قد نشأوا عليها، فاقتضاني
(1)
بعض الأصحاب أن أعلِّق في ذلك ما يكون إشارة إلى [أصل هذه المسألة، لكثرة فائدتها وعموم المنفعة بها، ولما قد عمَّ كثيرًا من الناس من الابتلاء بذلك حتى صاروا في نوعِ جاهلية.
(1)
أي: طلب مني.
فصلٌ
اعلم أن محمدًا]
(1)
بعثه الله إلى الخلق وقد مقت أهلَ الأرض، إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا -أو أكثرهم- قُبيل مبعثه.
والناس أحد رجلين؛ إما كتابيٌّ مُعْتَصِم بكتابٍ؛ إما مُبدَّل، وإما مُبَدَّلٌ منسوخ، ودين دارس
(2)
، بعضه مجهول وبعضه متروك.
وإما أُمِّي من عربيٍّ وعجمي، مقبل على عبادة ما استحسنه وظنَّ أنه ينفعه من نجمٍ أو وثنٍ أو قبرٍ أو تمثال أو غير ذلك.
والناسُ في جاهليةٍ جَهْلاء، فهدى اللهُ الناسَ ببركة [نبوة]
(3)
محمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من البيِّنات والهدي، هدايةً جلَّت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفةَ العارفين، فلله الحمد كما يحبُّ ربُّنا ويرضى.
بعثه بدين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم، وفَرَضَ على الخلق أن يسألوه هدايتَه كلَّ يومٍ في صلاتهم، ووصفَه بأنه: صراطَ الذي أنعم اللهُ عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
قال عديُّ بن حاتم رضي الله عنه: أتيتُ رسول الله وهو جالسٌ في المسجد، وجئتُ بغير أمانٍ ولا كتاب، فلما دفعتُ إليه أخذ بيدي، وكان قد قال قبل ذلك:"إنِّي لأرجو أن يجعلَ اللهُ يَدَه في يدي"، قال:
(1)
ما بين المعكوفين متآكل في الأصل، إذ كان تكملةَ لحقٍ طويل، بدأ من قوله: "وبعد، فإني
…
" فجاء في ذيل الصفحة، والإكمال مستفاد من "الاقتضاء": (1/ 73 - 74).
(2)
أي: ذهبت معالمه.
(3)
لحق بالهامش ولم يظهر، بسبب تداخله مع اللحق الطويل المتقدم.
فقام بي حتى أتى داره، فألقت له الوليدةُ
(1)
وسادةً، فجلسَ عليها، وجلستُ بين يديه، فحمدَ اللهَ وأثنى عليه ثم قال: "ما يُفِرُّكَ
(2)
؟ أَيُفِرُّكَ أنْ تَقُوْلَ: لا إلهَ إلا الله؟ فَهَل تعلمُ مِن إلهٍ سوى الله"؟ قلتُ: لا، ثم تكلَّم ساعةً، ثم قال: "إنما تَفِرُّ أن تقول: الله أكبر، أَوَ
(3)
تَعْلَمُ شيئًا أكبرُ مِنَ اللهِ؟ " قلتُ: لا، قال: "فإن اليهودَ مغضوبٌ عليهم، وإن النصاري ضُلَّال".
قال: قلت: فإني حنيف مسلم. قال: فرأيتُ وجْهَه ينبسِطُ فرحًا، وذكرَ حديثًا طويلًا.
رواه الترمذي
(4)
وحسَّنه
(5)
.
وفي كتاب الله ما يدلُّ على معنى هذا الحديث، مثل قوله:{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60]، والضمير عائد إلى اليهود والخطابُ معهم، كما دلَّ عليه سِياق الكلام.
(1)
أي: الجارية.
(2)
أي: ما يحملك على الفرار.
(3)
كذا في الأصل، وفي "الاقتضاء" و "المصادر":"و".
(4)
رقم (2953).
(5)
تمام عبارته: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث سِماك بن حرب" اهـ والحديث أخرجه أحمد في "المسند": (32/ 123 رقم 19381)، وابن حبان "الإحسان"(16/ 183) وغيرهم من طرقٍ عن سِماك بن حرب عن عبَّاد بن حُبيش به.
وفيه عبَّاد، قال الذهبي: لا يُعرف، وذكره ابن حبان في "الثقات":(5/ 142)، ولم يرو عنه غير سِماك بن حرب، وسِماكٌ في حفظه مقال. ولبعض ألفاظ الحديث شواهد يتقوَّى بها.
وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ} [المجادلة: 14]، وهم المنافقون الذين تولَّوا يهود، باتفاق أهل التفسير، وسياق الآية يدل عليه.
وقال: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 112]، وفي [البقرة]
(1)
: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} ، فهذا بيان أن اليهود مغضوبٌ عليهم.
وقال في النصارى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} إلى قوله: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} [المائدة: 73 - 77]، فهذا خطابٌ للنصارى كما دلَّ عليه السِّياق، ولهذا نهاهم عن الغلو، وهو مجاوزة [الحد]
(2)
، كما نهاهم عنه في قوله:{لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} الآية [النساء: 171].
ووَصْفُ اليهودِ بالغضب، والنصارى بالضلال له أسبابٌ ظاهرة وباطنة، ليس هذا موضِعها، وجماعٌ ذلك: أن اليهود كفروا عنادًا؛ لأنهم يعلمون الحقَّ ولا يُتْبِعونه عملًا، والنصارى كُفْرهم من جهةِ عملهم بلا علم، بل هم مجتهدون في أصناف العبادات بلا شِرعةٍ
(3)
من الله، ويقولون على الله ما لا يعلمون.
(1)
وقع في جميع مخطوطات الاقتضاء، وفي "الأصل":"آل عمران" وهو سهو؛ إذ الآية قبلها في آل عمران، وهذه في البقرة آية:90.
(2)
في "الأصل": "الحق"، وهو سهو.
(3)
"الاقتضاء": "شريعة".
ولهذا قال السلف -سفيانُ بن عُيَينة وغيره-: "من فَسَد من علمائنا ففيه شبهٌ من اليهود، ومن فسدَ من عُبَّادنا ففيه شَبَهٌ من النصاري".
ومع أنَّ الله قد حذَّرنا سبيلهم، ثم مع ذلك فقضاؤه نافذ بما أخبرَ به رسولُه، حيث قال:"لَتتَّبِعُنَّ سَنَنَ من كان قَبْلَكُمْ حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حَتَّى لو دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُموه" قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: "فَمَنْ"
(1)
؟!. حديث صحيح.
ورواه البخاري
(2)
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَقُوْمُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخَذَ أُمَّتِي ما أَخَذَ
(3)
القرونَ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وذِراعًا بِذِراعٍ" فقيل: يا رسولَ الله! كفارس والروم؟ قال: "وَمَن الناسُ إلا أُولئك"؟
وقد كان ينهى عن التشبُّه بهم، وليس ذلك إخبارًا عن جميع الأُمة، فإنه قال:"لا تَزَالُ طائفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظاهرينَ على الحقِّ حتَّى تقومَ السَّاعَةُ"
(4)
.
وأخبرَ: أنه لا تجتمع هذه الأمةُ على الضلالة
(5)
، وأن لا يزال
(1)
أخرجه البخاري رقم (7320)، ومسلم رقم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. بنحوه.
(2)
رقم (7319).
(3)
كذا بالأصل. وهي إحدى روايات الصحيح، ورواية الإسماعيلي. وضُبِطت بأوجهٍ أخرى انظر "الفتح":(13/ 313).
(4)
أخرجه البخاري رقم (3640)، ومسلم برقم (1920، 1921) من حديث المغيرة رضي الله عنه وغيره.
(5)
جاء هذا المعنى في عدة أحاديث عن عدد من الصحابة، منهم ابن عمر عند الترمذي برقم (2167) وابن أبي عاصم في "السنة":(1/ 39 رقم 80)، وكعب =
يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم فيه بطاعة الله
(1)
.
فعُلِم بخبره الصِّدق أنَّ في أمته قومًا متَمسِّكون بهديه الذي هو دين الإسلام محضًا، وقومٌ منحرفون إلى شعبةٍ من شُعَب اليهود، أو إلى شعبة من شعب النصارى، وإن كان الرجل لا يكفر بكلِّ انحرافٍ، بل وقد لا يفسُق، بل قد يكون الانحرافُ كفرًا، وقد يكون فِسْقًا، وقد يكون معصيةً، وقد يكون خطأً.
وهذا الانحراف أمرٌ تتقاضاه
(2)
الطباع ويُزَينه الشيطان، فلذلك أُمِر العبدُ بِدَوام دعاء الله -سبحانه- بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهوديَّةَ فيها ولا نصرانية أصلًا.
وأنا أشير إلى بعض أمور أهل الكتاب والأعاجم التي ابتُلِيَت بها هذه الأمة، ليجتنب المسلم الحنيف الانحرافَ.
قال الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ
= بن عاصم الأشعري عند ابن أبي عاصم في "السنة": (1/ 41 رقم 82)، وغيرهم.
والحديث حسنه الألباني في "السلسلة" رقم (1331) بمجموع طرقه.
(1)
أخرجه بنحوه أحمد في "المسند": (29/ 325 رقم 7787)، وابن ماجه في المقدمة رقم (8)، وابن حبان "الإحسان":(2/ 33) وغيرهم، من طرقٍ عن الجراح بن مليح عن بكر بن زرعة. عن أبي عنبة الخولاني به.
والجراح بن مليح لا بأس به، وبكر بن زرعة لم يوثقه أحد غير ابن حبان فقد ذكره في "الثقات":(4/ 75) وروى عنه جماعة. وفي صحبة أبي عنبة خلاف، والحديث صححه ابن حبان، والبوصيري في "مصباح الزجاجة":(1/ 44).
أقول: وفي صحته نظر.
(2)
أي: تقتضيه وتطلبه.
إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]، فذمَّ اليهودَ على ما حسدوا به المؤمنين على الهدى والعلم.
وقد يُبْتَلى بعض المُتَلَبِّسِين
(1)
بالعلم وغيرهم بنوعٍ من الحسد لمن هداه الله بنوع علمٍ أو عملٍ صالح، وهو خُلُق مذمومٌ مطلقًا، وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 36 - 37]، فوصفهم بالبخل بالعلم وبالمال، وإن كان السياق يدل على أن البخل بالعلمِ هو المقصود الأكبر.
وكذا وصَفَهم بكتمان العلم في غير آيةٍ، مثل قوله:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187]، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159]، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} [البقرة: 174].
فوصَفَ المغضوبَ عليهم بأنهم يكتمون العلم؛ تارةً بخلًا به، وتارةً اعتياضًا عن إظهاره بالدنيا، وتارة خوفًا
(2)
أن يحتج عليهم بما أظهروه منه.
وهذا قد ابتُلِي به طوائف من المنتسبين إلى العلم، فإنهم تارةً يكتمون العلمَ بُخلًا به، وكراهية أن ينال غيرهم من الفضل ما نالوه، وتارةً اعتياضًا برئاسة أو مال، فيخاف إن أظهره نَقْصَ رياسته أو ماله، وتارةً يكون قد خالف غيره في مسألةٍ، أو اعتزى إلى طائفةٍ قد خُوْلفت
(1)
"الاقتضاء": "المنتسبين".
(2)
في "الأصل": "خوف".
في مسألة، فيكتم من العلم ما فيه حجة لمخالفه، وإن لم يتيقَّن أن مخالفه مُبْطل.
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91]، بعد أن قال:{وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} [البقرة: 89].
فوصَفَ اليهود أنهم كانوا يعرفون الحقَّ قبل ظهور الناطق به، فلما جاءهم الناطق به من غير طائفة يَهْوَوْنها لم ينقادوا له، وأنهم لا يقبلون الحق إلا من الطائفة التي هم منتسبون إليها، مع أنهم لا يتبعون ما لزمهم في اعتقادهم.
وهذا يُبْتَلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معيَّنة في العلم أو الدين، من المتفقِّهة أو المتصوِّفة وغيرهم، أو إلى رئيس معظَّم في الدين غير النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يقبلون من الدين رأيًا وروايةً إلا ما جاءت به طائفتُهم، ثم إنهم لا يعملون بما تُوْجِبه طائفتهم، مع أن دين الإسلام يوجِبُ اتباعَ الحقِّ مطلقًا، من غير تعيين شخصٍ غير النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال في صفة المغضوب عليهم: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46]، و {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 78] والتحريف قد فُسِّر بتحريف التنزيل، وتحريف التأويل.
فأما تحريف التأويل؛ فكثير جدًّا، وقد ابتُلِيت به طوائف من الأمة، وأما تحريف التنزيل؛ فقد وقع في كثير من الناس، يحرِّفون ألفاظَ
الرسول، ويروون الحديث برواياتٍ منكرة، وإن كان الجهابذةُ يدفعون ذلك، وربما تطاول بعضهم إلى تحريف التنزيل، وإن لم يمكنه ذلك، كما قرأ بعضهم
(1)
: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) } [النساء: 164].
وأما ليُّ الألسنة بما يظن أنه من عند الله، فوضع الأحاديث عن
(2)
رسول الله، وإقامة ما يظن أنه حجة في الدين وليس بحجةٍ، وهذا من أنواع أخلاق اليهود، وهو كثير لمن تدبَّره بنور الإيمان.
وقال -سبحانه-: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]، وقال:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 72].
ثم إن الغلوَّ في الأنبياء والصالحين قد وقع في طوائف من ضُلَّال المتعبِّدة والمتصوِّفة، حتى خالطَ كثيرًا منهم من مذهب الحلول والاتحاد ما هو أقبح من قول النصارى أو مثله أو دونه.
وقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، وفسَّره النبي صلى الله عليه وسلم لعديٍّ: بـ "أنَّهم أَحَلُّوا لهم الحرامَ، وحَرَّموا عليهم الحلالَ فاتَّبعوهم"
(3)
.
(1)
أي: قرأها محرفة بنصب اسم الجلالة، وموسى فاعل مرفوع بضمة مقدرة. وانظر الرد عليهم في "تفسير ابن كثير":(1/ 601).
(2)
كذا بالأصل وبعض نسخ الاقتضاء، وفي بعضها "على".
(3)
رواه الترمذي رقم (3095)، وقال:"حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروفٍ في الحديث" ا هـ.
وأخرجه ابن جرير: (6/ 354)، والبيهقي:(10/ 116)، وانظر "النهج السديد" رقم (92).
وكثيرٌ من أتباعِ المتعبِّدةِ يُطيعُ بعضَ المعظَّمين عنده في كلِّ ما يأمر به، وإن تضمَّن تحليل حرامٍ أو تحريم حلالٍ.
وقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27]، وقد ابتُلي طوائف من المسلمين من الرهبانية المبتدَعَة بما الله به عليم.
وقال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)} [الكهف: 21]، فكان الضالون، بل المغضوب عليهم، يبنون المساجدَ على قبور الأنبياء والصالحين، كما نهى صلى الله عليه وسلم أُمَّتَه عن ذلك في غير موطن، حتى في وقت مفارقته الدنيا -بأبي هو وأمي-. ثم إن هذا قد ابْتُلي به كثير من الأمة.
ثم إن الضالين تجد عامة دينهم إنما يقوم بالأصوات المطربة، والصور الجميلة، فلا يهتمون بأمر دينهم بأكثر من تلحين الأصوات، ثم قد ابتُلِيت هذه الأمة من اتخاذ السَّماع المطرب: سماع القصائد، وإصلاح القلوب والأحوال به، ما فيه مضاهاة لبعض حال الضالين.
وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113]،، فأخبر أن كلَّ واحدةٍ من الأمتين تجحد كلَّ ما الأخرى عليه، وأنتَ تجد كثيرًا من المتفقِّهة إذا رأى المتصوِّفة أو المتعبِّدةِ لا يراهم شيئًا ولا يَعُدُّهم إلا جُهَّالًا ضُلًّالًا، ولا يعتقد في طريقتهم من الهدي شيئًا، وترى كثيرًا من المتصوِّفة والمتفقِّرة لا يرى الشريعةَ ولا العلم شيئًا، بل يرى أن المتمسِّك بها منقطعٌ عن الله.
وأما مشابهة الفرس والروم؛ فقد دخل في هذه الأمة من الآثار الرومية -قولًا وعملًا-، والآثار الفارسية -قولًا وعملًا- ما لا خفاءَ به على مؤمنٍ عليم [بدين الإسلام]، وليس الغرض تفصيل الأمور التي وقعت مضارِعةً الطريق المغضوب عليهم أو الضَّالين، وإن كان بعض ذلك قد يقع مغفورًا لصاحبه؛ إما لاجتهاد أخطأ فيه، أو لحسناتٍ محت عنه أو غير ذلك، وإنما الغرضُ أن نُبَين ضرورةَ العبد وفاقته إلى هداية الصراط المستقيم، وأن ينفتح بابٌ إلى معرفة الانحراف فيُجتَنب إن شاء الله.
ثم الصراط المستقيم هو أمور باطنة في القلب؛ من اعتقادات وإرادات وغير ذلك. وأمور ظاهرة؛ من أقوال وأفعال، قد تكون عبادات، وقد تكون عادات في الطعام واللباس، والنكاح والمسكن، والاجتماع والافتراق، والسفر والإقامة.
وهذه الأمور الظاهرة والباطنة بينهما ارتباط ومناسبة، فما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجبُ أمورًا ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال، يوجب للقلب شعورًا وأحوالًا.
وقد بعثَ الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحكمة التي هي سنَّته، وهي الشِّرعة والمنهاج [الذي]
(1)
شرعه له، فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يُباين سبيل المغضوب عليهم والضالين، وأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر -وإن لم يظهر لكثير من الخَلْق في ذلك مَفْسَدة- لأمورٍ.
(1)
في الأصل "التي"، والتصويب من "الاقتضاء".
منها: أن المشاركة في الهدي الظاهر تورثُ تناسبًا وتشاكلًا بين المتشابهين، يقود إلى موافقةٍ ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمرٌ محسوس، فإن اللابِسَ ثيابَ أهل العلم -مثلًا- يجد من نفسهِ نوع انضمامٍ وانقياد إليهم، وكذلك اللابس لثيابِ الجند يجد في نفسه نَوْع تخلُّق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضيًا لذلك، إلا أن يمنعه مانع.
ومنها: أن المخالفة في الهدي الظاهر تُوْجِب مباينة ومفارقة، توجب الانقطاعَ عن موجبات الغضب، وأسباب الضلال، والانعطافَ على أهل الهدى والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين، وكلَّما كان القلب أتمَّ حياة كان أبعدَ عن أخلاق اليهود والنصارى ظاهرًا وباطنًا.
ومنها: أن مشاركتهم في الهدي الظاهر، توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع التميُّز ظاهرًا بين المهتدين المرضيين، وبين المغضوب عليهم [و] الضالين، إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية، هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحًا وتجرَّد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم كان شعبةً من شعب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع معاصيهم.
فهذا أصل ينبغي أن يتفطَّن له اللبيب.
* * *
فصْلٌ
(1)
إذا تقرَّر ذلك، فقد دلَّ الكتابُ والسنةُ والإجماعُ على الأمر بمخالفة الكفار، والنهي عن مشابهتهم في الجملة، سواء كان عامًّا في جميع أنواع المخالفات، أو خاصًّا ببعضها، وسواءٌ كان أمرَ إيجاب أو أمرَ استحباب.
أما الكتاب؛ فقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}
(2)
[الحديد: 16].
وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} إلى أن قال: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية: 16، 18].
فأخبر أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا، وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغيًا من بعضهم على بعض، ثم جعل محمدًا على شريعةٍ وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، فدخلَ فيهم كلُّ من خالف شريعتَه.
وأهواؤهم هو ما يهوونه، وما عليه المشركون من هديهم الظاهر، الذي هو من موجبات دينهم الباطل.
ومن هذا قوله: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ} إلى أن قال:
(1)
"الاقتضاء": (1/ 95).
(2)
الآية ليست في "الاقتضاء".
{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) } [الرعد: 36 - 37] والضمير
(1)
-والله أعلم- يعود إلى من
(2)
تقدم ذكره، وهم الأحزاب الذين ينكرون بعضَه، فدخل كلُّ من أنكر شيئًا من القرآن؛ من يهوديٍّ ونصرانيٍّ وغيرهما.
ومن ذلك قوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ
…
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ
…
} الآية [البقرة: 120].
فقال في الخبر: {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} ، وفي النهي:{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} ؛ لأن القومَ لا يرضون إلا باتباع الملة مطلقًا. والزجرُ قد وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير، ومتابعتُهم في بعض ما هم عليه، نوعُ متابعةٍ لهم فيما يهوونَه أو مَظِنَّة له.
وكذا قوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} إلى قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} إلى قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 145 - 150].
قال غير واحدٍ
(3)
: لئلا يحتج اليهودُ عليكم بأنكم وافقتموهم في القبلة، فيوشك أن يوافقونا في الملة، فقطع الله هذه الحجة بأن قال: خالفوهم في القِبْلة.
(1)
يعني في "أهوائهم".
(2)
"الاقتضاء": "ما".
(3)
أي: من السلف، انظر تفسير ابن جرير:(2/ 34 - 36)، وابن كثير:(1/ 201).
وقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] وهم اليهود والنصارى، الذين افترقوا على أكثر من سبعين فرقة، مع أنه قد أخبر صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة
(1)
، وقال:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].
وكلُّ ما في الكتاب من النهي عن مشابهة الأمم الكافرة وقصصهم التي فيها عبرة لنا بترك ما فعلوه، مثل قوله:{فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ (ضضض 2)} [الحشر: 2]، و {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]، وأمثال ذلك، كله دالٌّ على هذا المَطْلَب: من أن مخالفتهم مشروعة لنا في الجملة
(2)
، وهي دين لنا.
وقال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ
…
} الآيات، إلى قوله:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ} إلى قوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) } [التوبة: 67 - 73].
فبيَّن أخلاق المنافقين والمؤمنين، وتوعَّد المستمتعين الخائضين كالذين خاضوا بأن قال:{أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) } [التوبة: 69].
فأخبر أن في هذه الأمة من استمتعَ بخلاقه
(3)
كما استمتعت الأمم قبلهم، وخاضَ كالذين خاضوا، وذمَّهم على ذلك، ثم حضَّهم على
(1)
سيأتي تخريجه ص/ 34.
(2)
وبعض الآيات تدل على وجوب المخالفة، "الاقتضاء":(1/ 103).
(3)
في هامش الأصل: "والخَلاق قيل: هو الدين، وقيل: نصيبهم من الآخرة في الدنيا، وقيل: نصيبهم من الدنيا، قال أهل اللغة: الخلاق هو الحظ والنصيب، كأنه ما خُلِقَ للإنسان" اهـ.
الاعتبار بمن قبلهم فقال: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
(1)
} [التوبة: 70].
فذَمَّ من استمتعَ وشابه القرون الماضية، وكان من الخائضين، وهم اليهود والنصارى وغيرهم ممن تقدم، ومع ذلك فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا بد أن تأخذ أمته مأخذَ الأمم قبلَها ذراعًا بذراع وشبرًا بشبرٍ
(2)
، وقوله بعد ذلك:{جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} دليلٌ على جهاد هؤلاء الخائضين المستمتعين.
ثم هذا الذي دلَّ عليه الكتاب، من مشابهة بعض الأمة للقرون الماضية في الدنيا وفي الدين، وذم من يفعل ذلك؛ قد دلَّت عليه سنةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفسَّر أصحابُه الآيةَ بذلك.
فعن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال: "لتَأْخُذُنَّ كما أَخَذَتِ الأُمَمُ من قَبْلِكُم ذِراعًا بذراعٍ، وشِبْرًا بِشِبْرٍ، وباعًا بِباعٍ، حتَّى لو أنَّ أحَدًا مِنْ أُولئك دَخَل جُحْر الضَّبِّ لَدَخَلْتُمُوه" قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} الآية [التوبة: 69]، قالوا: يا رسولَ الله كما صنعت فارسُ والرومُ وأهلُ الكتاب؟ قال: "فَمَن الناسُ إلا هم"
(3)
؟!.
وعن ابن عباس أنه قال: "ما أشبه الليلةَ بالبارحة، هؤلاء بنو
(1)
"أصحاب مدين" سقطت من الأصل.
(2)
انظر ما تقدم ص/ 21.
(3)
أخرجه بهذا اللفظ ابن جرير في "التفسير": (6/ 412)، وأصله في الصحيح.
إسرائيل شُبِّهنا بهم"
(1)
.
وعن ابن مسعود أنه قال: "أنتم أشبه الأممِ ببني إسرائيل سمتًا وهديًا، تتبعون عملهم حَذْو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجلَ أم لا"
(2)
؟!.
وعن حذيفة بن اليمان قال: "المنافقون الذين منكم اليومَ شرٌّ من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّ أولئك كانوا يخفون نفاقَهم، وهؤلاء أعلنوه"
(3)
.
أما السنة:
ففي "الصحيحين"
(4)
عن [عَمْرو]
(5)
بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثَ أبا عبيدة إلى البحرين يأتي بجِزْيتها، وكان قد صالحَ أهلَ البحرين، وأمَّر عليهم العلاء بن الحَضْرمي، فَقِدم أبو عُبيدة بالمال، فسمعت الأنصار، فوافَو صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
الحديثَ، إلى أن قال:"أَبْشِروا، فواللهِ ما الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُم، ولكنْ أَخْشَي عليكم أنْ تُبسَطَ الدُّنيا عَلَيكُم كما بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كانَ قَبْلَكُم، فَتَنَافَسُوها كما تَنَافَسُوها، فتُهْلِكَكُم كما أَهْلَكَتْهُم".
(1)
أخرجه ابن جرير: (6/ 413)، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ -كما في "الدر المنثور":(2/ 458) -.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف": (7/ 479) بسندٍ صحيح، والمروزي في "السنة":(ص/ 25).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف": (7/ 481 - 482) بسندٍ صحيح.
(4)
البخاري رقم (3158)، ومسلم (2961).
(5)
في الأصل "عمر" وهو سهو.
وهذا هو الاستمتاع بالخَلاق المذكور في الآية.
وفي مسلم
(1)
عن عبد الله بن [عَمْرو]
(2)
، عن رسول الله قال:"إذا فتِحَت عَلَيْكُم خزائنُ فارسَ والرومِ أَيُّ قوم أَنتم"؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نكون كما أمرنا الله، فقال رسول الله:"تنافَسُون، ثم تحاسَدُون ثم تَدَابرون -أو تباغَضُون أو غير ذلك- ثم تَنْطَلِقون إلى مَسَاکين المُهَاجِرين، فتحملونَ بَعْضَهم على رقابِ بَعْضٍ".
وفي "الصحيحين"
(3)
أنه قال: "إنَّ فِتْنَةَ بني إسرائيل كانَتْ في النِّساءِ، فاتَّقوا [الدنيا]
(4)
واتَّقُوا النِّساءَ".
فحذَّر فتنة النساء مُعَلِّلًا بأن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء.
وقال: "إنما هَلَكَ بَنُو إسْرائيلَ حِيْنَ اتخذَ هذِهِ نِسَاؤُهُم"
(5)
يعني: وصْل الشعر، وكثيرٌ من مشابهة أهل الكتاب في أعيادهم وغيرها، إنما يدعو إليها النساءُ.
وفي مسلم
(6)
: "لا تقومُ السَّاعَةُ حتَّى يَلْحَقَ حَيٌّ مِنْ أُمَّتي بالمُشْركين، وحتَّى يَعْبَدَ فِئامٌ من أُمَّتي الأَوْثَانَ".
(1)
رقم (2962).
(2)
في الأصل "عمر" سهو.
(3)
كذا بالأصل! وهو سهو، فالحديث في "صحيح مسلم" رقم (2742) دون البخاري من حديث أبي سعيد الخدري، وقد تصرف المختصر في لفظه فقدم وأخَّر.
(4)
في الأصل "الله" وهو سبق قلم! وليس في شيءٍ من طرق الحديث
(5)
أخرجه مسلم برقم (2127) من حديث معاوية رضي الله عنه.
(6)
أصل الحديث في مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه رقم (2889) في حديث طويل، وهذه الزيادة التي ذكرها المصنف رواها أبو داود رقم (4252) والترمذي رقم (2219)، وعزاها شيخ الإسلام في "الاقتضاء":(1/ 142) إلى البرقاني في "صحيحه". قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
و "سَتَفْتَرِقُ أُمَّتي على ثلاثٍ وسَبْعينَ فِرْقَةً كُلُّها في النارِ إلَّا فرقةٌ واحدةٌ وهي الجَمَاعة"
(1)
.
ولا شكَّ أن الثنتين وسبعين هم الذين تفرَّقوا واختلفوا كما تفرَّق الذين من قبلهم، ومن ذلك لما سألوه أن يجعل لهم ذات أنواط، فقال:"اللهُ أكبر، قلتم -والذي نَفْسِي بِيَدِه- كما قال بَنُو إسْرائيِلُ قَبْلَكُم". رواه مالك والنسائي والترمذي وصحَّحه
(2)
.
وقال: "لتركَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُم حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حَتَّى لو دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُموه" قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فَمَن"
(3)
؟!
وقد تقدم
(4)
مثله في البخاري قوله: "لتأخُذَنَّ أُمَّتِي مأْخَذَ القرونِ قَبْلَها شِبْرًا بشِبْرٍ وذِرَاعًا بذراعٍ".
(1)
جاء هذا الحديث من رواية جماعة من الصحابة: أبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، ومعاوية، وعَمْرو بن عوف، وعبد الله بن عَمْرو، وعوف بن مالك، وأبو أمامة، وسعد بن أبي وقاص، وأنس بن مالك.
وهو حديث صحيح بشواهده.
(2)
أخرجه الترمذي رقم (2180)، والنسائي في "الكبرى":(6/ 346) في التفسير. ولم أر من نسبه إلى مالك.
وأخرجه أحمد: (5/ 218)، وابن حبان "الإحسان":(15/ 94) وغيرهم من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه.
وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح" وصححه ابن حبان، وهو كذلك.
(3)
أخرجه البخاري رقم (7319)، ومسلم رقم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بنحوه.
(4)
ص/ 21.
فهذا كلُّه وأشباهُه خَرَجَ منه صلى الله عليه وسلم مَخْرَج الخبر عن وقوعِه والذَّمِّ لمن يفعله، فعُلِم أن مشابهتها
(1)
لليهود والنصاري، وفارس والروم، مذمومٌ ذمَّه الله ورسوله، وهو المطلوب.
فإن قيل: إذا كان قد أخبر رسولُ الله وكتابُ الله -جل وعز- أنه لا بُد من وقوع المشابهة، فما فائدة النهي عن ذلك؟
قيل: قد دلَّ الكتابُ والسنةُ -أيضًا- أنه لا تزال طائفةٌ متمسِّكة بالحق الذي بعثَ اللهُ به محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، وأنَّها لا تجتمع على الخطأ، ففي النهي عن ذلك تكثير لهذه الطائفة المنصورة، وتثبيتها، وزيادة إيمانها، زادها الله شرفًا وقوَّةً ونصرًا، وأظهر دينَه ونصَرَه حيث كان وعلى يَدِ من كان، وخذلَ أعداءَه وكَبَتَهم، وجعلَ الدائرةَ عليهم إنه سميعُ الدعاء
(2)
.
وأيضًا: لو فُرِض أن الناس لا يتركون هذه المشابهة المنكرة، لكان في العلم بها معرفة القبيح، والإيمان بذلك، فإن نفسَ العلم والإيمان بما كرهه الله خير، وإن لم يُعْمَل به، بل فائدة العلم والإيمان أعظم من فائدة مجرَّد العمل الذي لم يقترن به علم، فإن الإنسان إذا عرفَ المعروفَ وأنكرَ المنكرَ، كان خيرًا من أن يكون ميِّتَ القلب لا يعرف معروفًا ولا يُنكر منكرًا.
وإنكار القلب هو: الإيمانُ بأن هذا منكر وكراهته لذلك، فإذا حَصَلَ ذلك كان في القلوب إيمان.
(1)
أي: الأُمة.
(2)
هذا الدعاء من قوله "زادها الله شرفًا
…
" ليس في "الاقتضاء": (1/ 171).
وأيضًا: فقد يستغفر الرجل من الذنب مع إصراره عليه، أو يأتي بحسناتٍ تمحوه أو بعضَه، وقد يُقلِّل منه، وقد تضعف همتُه في طلبه إذا عرفَ أنه منكر.
ثم لو فُرِضَ أَنَّا علمنا أن الناسَ لا يتركون المنكر ولا يعترفون بأنه منكر، لم يكن ذلك مانعًا من إبلاغ الرسالة وبيان العلم، بل ذلك لا يُسْقط وجوب الإبلاغ، ولا وجوبَ الأمر والنهي في إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله وقول كثير من أهل العلم.
وهذا أمر عامٌّ في كلِّ منكر أخبر الصادقُ بوقوعه.
وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]. فقد برَّأ -سبحانه- رسولَه بأن يكون فيه شيءٌ من المُفَرِّقين لدينهم، فمن كان متبعًا له حقيقةً كان متبرِّئًا کتبرئته، ومن كان موافقًا لهم في شيء كان مخالفًا للرسول بقدر موافقته لهم.
وما دلَّ عليه الكتابُ جاءت به سنةُ رسولِ الله وسنة خلفائهِ الراشدين التي أجمع الفقهاء عليها بمخالفتهم وترك التشبه بهم.
ففي "الصحيحين"
(1)
أنه قال: "إنَّ اليَهُوْدَ والنَّصَارَى لا يَصْبُغُوْنَ فَخَالِفُوهم"، فاقتضى أن جِنْسَ مخالفتهم أمرٌ مقصود للشارع؛ لأن الفعل المأمور [به]
(2)
إذا عُبِّر عنه بلفظٍ مشتقٍّ من معنىً أعم من ذلك الفعل، فلا بُدَّ أن يكون ما منه الاشتقاق أمرًا مطلوبًا، لا سيما إن ظهر
(1)
البخاري رقم (3462)، ومسلم رقم (2103) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
مطموسة في الأصل، والإكمال من "الاقتضاء":(1/ 186).
لنا أن المعنى المشتقَّ منه معنيً مناسب للحكمة؛ ولأن الأمر إذا تعلَّق باسم مفعولٍ مشتقٍّ من معنىً؛ كان المعنى علةً للحكم؛ كما في قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}
(1)
[الحجرات: 10]. "عُودوا المريضَ، أَطْعِموا الجائعَ، فكُّوا العاني"
(2)
.
وأيضًا: إذا أمر بفعلٍ كان نفس مصدره أمرًا مطلوبًا للآمر مقصودًا، كما قال تعالى:{اتَّقُوا اللَّهَ} ، {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) } [البقرة: 195]، {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136]، {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا}
(3)
[يونس: 84].
فإن نفس التقوى والإحسان والإيمان والعبادة أُمور مطلوبة مقصودة؛ بل هي نفس المأمور به، فلما قال:"خالفوهم" كان الأمر بمخالفتهم داخِلًا في العموم، وإن كان السبب الذي قاله لأجلِه هو "الصَّبْغ"؛ لأن الفعل فيه عموم وإطلاق لفظي ومعنوي فيجب الوفاء به، وخروجه على سببٍ يوجب
(4)
أن يكون داخِلًا فيه، ولا يمنع أن يكون غيره داخلًا فيه، وإن قيل: إن اللفظ العام يُقْصَر على سببه؛ لأن العموم هنا من جهة المعنى، فلا يقبل من التخصيص ما يقبله العموم اللفظي.
وأيضًا
(5)
: عدول الأمر عن لفظ الفعل الخاصِّ إلى لفظٍ أعم منه، كعدوله عن لفظ "أَطْعِمْه" إلى لفظ "أَكْرِمْه"، وعن لفظ "فاصبغوا" إلى
(1)
في الأصل في الآيتين بدون "الفاء".
(2)
أخرجه البخاري رقم (3046) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(3)
في الأصل: "عليه فتوكلوا"، سبق قلم.
(4)
في الأصل: "يجب".
(5)
"الاقتضاء": (1/ 195).
لفظ "فخالفوهم" لا بُدَّ له من فائدة، وإلا فمطابقة اللفظ للمعني أولي من إطلاق اللفظ العام وإرادة الخاصّ، ولا فائدة هنا إلا تعليق القصد بذلك المعنى العام المشتمل على هذا الخاص، وهذا بيِّن لمن تأمَّله.
وأيضًا: إذا أمر بفعل باسم دالٍّ على معنيً عام مريدًا به فعلًا خاصًّا، كان ذلك يقتضي أنه قصد أولًا ذلك العام، وأنه إنما قَصَد ذلك الخاص لحصوله بالعامِّ، ففي قولك:"أكْرِم زيدًا" طلبان، طلبٌ للإكرام المطلق، وطلب لهذا الفعل الذي يحصل به المطلق؛ لأن حصول المعيَّن مُقْتضٍ لحصول المطلق، وهذا معنىً صحيح، إذا صادفَ فِطْنةً وذكاءً انتُفِع به في كثير من المواضع، وعُلِم به طرق البيان.
وأيضًا: فإنه رتَّب الحكمَ على الوصف بحرف الفاء، فيدل على أنه علة له من غير وجه، حيث قال:"إن اليهودَ لا يصبغون فخالفوهم"؛ ولأنه لو لم يكن لِقَصْد مخالفتهم تأثير في الأمر بالصَّبغ لم يكن لذكرهم فائدة، فنفسُ المخالفةِ لهم في الهدي مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين؛ لما فيه من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم، وإنما تظهر بعضُ المصلحة في ذلك لمن تنوَّرَ قلبه.
ونَفْس ما هم عليه من الهدى والخلق قد يكون فيه مضرَّة؛ فيُنْهى عنه ويؤمر بضدِّه؛ لما فيه من المنفعة والكمال. وليس شيءٌ من أُمورهم إلا وهو إما فيه مضرَّة أو هو ناقص، ولا يتصوَّر أن يكون شيءٌ من أمورهم کاملًا قطُّ، فإذًا المخالفة لهم فيها لنا منفعة ومصلحة في كل أُمورهم، حتى ما هم عليه من إتقانِ بعضِ أُمور دنياهم، فقد يكون مُضِرًّا بأمر الآخرة أو بما هو أهم من أمور الدنيا.
وبالجملة؛ فالكفر بمنزلة المرض الذي في القلب وأشدُّ، ومتى كان
القلبُ مريضًا لم يصح شيءٌ من الأعضاء صحةً مطلقة، وإنما الصلاح أن لا تُشْبَه مريضَ القلبِ في شيء من أموره، وإن خَفِي عليك مرض ذلك العضو، لكن يكفيك أنَّ فساد الأصل لا بُدَّ أن يؤثِّر في الفرع، ومن انتبه لهذا قد يعلم بعض الحكمة التي أنزلها الله، فإن من في قلبه مرضٌ قد يرتاب في الأمر بنفس المخالفة؛ لعدم استبانته لفائدته أو يتوهَّم أن هذا من جنس أمر الملوك والرؤساء القاصدين للعلوِّ في الأرض.
ولَعَمْري إن النبوة غاية الملك الذي يؤتيه الله من يشاء وينزعه ممن يشاء، ولكن مُلْكٌ هو غايةُ صلاحِ من أطاعَه من العباد في معاشِهم ومعادِهم.
وحقيقة الأمر: أن جميع أعمال الكافر وأُموره لا بُدَّ فيها من خلل يمنعها أن تتمَّ منفعتُه بها، ولو فُرِض صلاح شيءٍ من أموره على التمام لا يستحق
(1)
بذلك ثوابَ الآخرة، فالحمد لله على نعمة الإسلام، التي هي أعظم النعم وأم كلِّ خير، كما يُحبُّ ربنا ويرضى.
فظهر أن مخالفتهم أمر مشروع في الجملة، ولهذا كان الإمام أحمد وغيره يُعَلِّلون الأمر بالصبغ بعلة المخالفة
(2)
، فإذا نهى عن التشبُّه بهم في بقاءِ بياضِ الشيب الذي ليس هو من فعلنا، فَلأَن ينهى عن إحداث التشبُّه بهم بطريق الأولى. ولهذا كان هذا التشبُّه يكون محرَّمًا بخلاف الأول.
(1)
كذا بالأصل، وبعض نسخ "الاقتضاء"، وفي أخرى:"لاستحقَّ" وهو ما أثبت في المطبوعة. وما أثبته أصح.
(2)
في رواية حنبل كما في "الجامع - الترجل": (ص/ 133) للخلال.
وفي "الصحيحين"
(1)
: "خَالِفُوا المشركين" ثم قال: "أحْفُوا الشَّوَارِبَ وأَفُوا اللِّحَى" فأبدل الجملة الثانية من الأولى، أَمَرَ بالمخالفة عامًّا ثم خاصًّا، فقدَّمه عمومًا ثم خصوصًا، كما يقال: أكرم ضيفَك: أطْعِمْه وحادِثْه.
وقال: "خالفوا اليهود فإنهم لا يُصَلُّون في نعالهم ولا خِفافهم" رواه أبو داود
(2)
.
وقال: "فَصْلُ ما بينَ صيامِنا وصيامِ أَهْلِ الكتابِ أَكْلَةُ السَّحَر" رواه مسلم
(3)
.
فدلَّ على أن الفصل بين العبادتين أمرٌ مقصود، وقد صرَّح بذلك في قوله:"لا يزالُ الدِّينُ ظاهرًا ما عجَّل الناسُ الفِطْرَ"
(4)
، لأن اليهودَ والنصارى يؤخِّرون، وإنما المقصود بإرسال الرسل: أن يظهرَ دينُ الله على الدينِ كلِّه، فنفس مخالفتهم من أكبر مقاصِد البِعْثة.
وكذا قال: "لا تزالُ أُمَّتي بخير -أو قال: على الفطرة- ما لم
(1)
البخاري رقم (5892)، ومسلم رقم (259) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(2)
رقم (652).
وأخرجه: ابن حبان "الإحسان": (5/ 561) وزاد "النصاري"، والحاكم:(1/ 260)، ومن طريق البيهقي:(2/ 432) جميعًا من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه وسنده حسن، وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي.
(3)
رقم (1096) من حديث عَمْرو بن العاص رضي الله عنه.
(4)
أخرجه أبو داود رقم (2353)، وابن ماجه رقم (1698) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري رقم (1958)، ومسلم رقم (1098) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه بنحوه.
يُؤخِّروا المغربَ إلى أن تَشْتَبِكَ النُّجُوْمُ" رواه أحمد
(1)
وابن ماجه
(2)
.
وقوله: "اصْنَعُوا كلَّ شيء غيرَ النِّكاحِ" فقالت اليهودُ: ما يريدُ هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه. رواه مسلم
(3)
.
وكذلك نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، مُعَلِّلًا بأنها تسجد لها الكفار حينئذٍ، وأنها تطلُع بين قَرْنَي شيطان
(4)
.
ففيه تنبيهٌ على أن كلَّ ما يفعله المشركون من العبادات ونحوها مما يكون كفرًا أو معصيةً بالنية، يُنهَى المؤمنون عن ظاهرِه، وإن لم يقصدوا به قَصْد المشركين؛ سدًّا للذريعة وحسمًا للمادة.
ومن هذا الباب: أنه كان إذا صلَّى إلى عودٍ أو عمود جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولم يَصْمُد له صَمْدًا
(5)
.
(1)
في "المسند": (24/ 493 رقم 15717) من حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه، وفي سنده ضعف.
(2)
رقم (689) من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه. وفي سنده ضعف والحديث له شواهد كثيرة، فرواه أبو داود رقم (418) والحاكم:(1/ 190 - 191) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وسنده حسن لأجل محمد بن إسحاق، وصححه الحاكم.
ورواه أحمد: (4/ 349)، والطبراني في "الكبير":(8/ 94) من حديث أبي عبد الرحمن الصنابحي.
ورواه أحمد: (19/ 184 رقم 12136) من حديث أنس رضي الله عنه.
(3)
رقم (302) من حديث أنسٍ رضي الله عنه.
(4)
رواه مسلم رقم (832) من حديث عَمْرو بن عَبَسة رضي الله عنه.
(5)
رواه أبو داود رقم (693)، وأحمد:(6/ 4) من حديث المقداد بن الأسود، وسنده ضعيف.
ونهي عن الصلاة إلى ما عُبِد من دون الله في الجملة وإن لم يقصد العابدُ ذلكَ، ويُنْهَى عن السجود لله بين يدي الرجلِ، وإن لم يقصد الساجدُ ذلك، لما فيه من مشابهة السجود لغير الله، فقطعت الشريعةُ المشابهةَ في الجهات والأوقات، وكما لا يُصلَّي إلى القبلة التي يُصلُّون إليها، لا يُصَلَّي إلى ما يصلُّون له.
وقال صلى الله عليه وسلم: "ائتَمُّوا بأَئمتكم، إنْ صلَّى قائمًا فَصَلُّوا قيامًا، وإن صلَّى قاعِدًا فَصَلُّوا قُعُوْدًا، إن كدتم آنفًا تَفْعَلون فِعْلَ فارسَ والرومِ يَقُوْمُوْن على مُلُوْكهم"
(1)
، قال ذلك لما صلَّى قاعدًا فصلوا خلْفَه قيامًا، فأَشار إليهم أنْ اجلسوا، ثم قال ذلك بعد فراغِه، فأمرهم بترك القيام الذي هو فَرْضٌ في الصلاة، وعلَّل ذلك بأنه يشبه فعلَ فارس والروم بعظمائهم، ومعلوم أن المأموم إنما ينوي أن يقوم الله لا للإمام، وهذا تشديدٌ عظيمٌ في النهي عن القيام للرجل القاعِد، ونهي -أيضًا- عما يُشْبِه ذلك وإن لم يقصد به ذلك، فهل بعد هذا في النهي عن مشابهتهم في مجرَّد الصورةِ غايةٌ.
وأيضًا: انتساب الرجل إلى المهاجرين أو الأنصار انتسابٌ حسن محمود عند الله وعند رسوله، ليس من المباح الذي يقصد به التعريف فقط، كالانتساب إلى القبائل والأمصار، ولا من المكروه أو المحرَّم، کالانتساب إلى ما يقتضي
(2)
بدعة أو معصية أخرى.
ثم مع هذا لما دعا كلٌّ من الطائفتين: يا للمهاجرين ويا للأنصار، منتصرًا بحزبه على الآخر، أنكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك وقال: "ما هَذَا؟
(1)
رواه مسلم رقم (413) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2)
"الاقتضاء": "يفضي إلى".
أَدَعْوَى الجاهِلِيَّةِ"
(1)
؟!، سمَّاها دعوى الجاهلية، حتى قيل له: إن الداعي بها إنما هما غلامان، لم يصدر ذلك من الجماعة، فأمرَ بمنع الظالم وإعانة المظلوم، ليبيِّن أن المحذور إنما هو تعصُّب الرجل لطائفته مطلقًا، فِعْلَ أهلِ الجاهلية، فأما نصرها بالحق؛ فحسنٌ إذا كان من غير عدوان.
ولهذا قال: "خَيْرُكم المدافعُ عن عَشِيْرَتِه ما لم يأْثَم" رواه أبو داود
(2)
.
وقال: "أربعٌ في أُمَّتي مِنْ أَمْر الجاهليةِ لا يتركونهنَّ: الفخرُ بالأحسابِ، والطَّعْن في الأنسابِ، والاستسقاءُ بالنُّجومِ، والنياحةُ"
(3)
، فاقتضى أنَّ كلَّ ما كان من أمر الجاهلية مذموم في الإسلام، وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذمٌّ لها، ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرجَ مخرج الذمِّ.
وكذا قوله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الأحزاب: 33] و {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26]، فدلَّ ذلك على أن إضافةَ الأمر إلى الجاهلية يقتضي ذمَّه والنهيَ عنه، وذلك يقتضي المنعَ من أمر الجاهلية مطلقًا، وهو المقصود في هذا الكتاب.
ومنه قوله: "إنَّ الله قد أذهبَ عنكم عُبِّيَّةَ
(4)
الجاهِلِيَّة وفَخْرَها
(1)
أخرجه البخاري رقم (3518)، ومسلم رقم (2584) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(2)
رقم (5120) وضعَّفه بأيوب بن سويد، وحكم عليه أبو حاتم الرازي بالوضع في "العلل":(2/ 209).
(3)
أخرجه مسلم رقم (935) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
(4)
هي: الفخر والنخوة.
بالآباء، مُؤْمنٌ تقيٌّ أو فاجِرٌ شَقِيٌّ، أنتم بنو آدَمَ، وآدَمُ من ترابٍ، ليدعَنَّ رجالٌ فخرَهم بأقوام إنمَّا هم فَحْمٌ من فَحْمِ جهنَّمَ، أو ليكونن أهون على اللهِ من الجِعْلان
(1)
التي تَدْفع بأَنْفِها النَّتَنَ" رواه أبو داود وغيره
(2)
، وهو صحيح.
وأيضًا: روى مسلم
(3)
عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَبْغَضُ الناسِ إلى الله ثلاثةٌ: مُلْحِدٌ في الحَرَم، ومُبْتَغٍ في الإسلامِ سُنَّةً جاهِلِيَّة، ومُطَّلِبٌ دَمَ امْرِيءٍ بغَيْرِ حَقٍّ لِيُرِيْقَ دَمَهُ".
فكل من أراد في الإسلام أن يعمل بشيء من سنن الجاهلية دخلَ في الحديث.
والسنةُ الجاهليةُ: كلُّ عادةٍ كانوا عليها، قال تعالى:{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [آل عمران: 137]، وقال [صلى الله عليه وسلم]:"لتتبعنَّ سَنَنَ مَنْ كان قَبْلَكم"
(4)
، وهذا نصٌّ عام يوجِبُ تحريمَ متابعة كلِّ شيء من سُنَن الجاهلية في أعيادهم وغيرها.
ولفظ الجاهلية قد يكون اسمًا للحال، وهو الغالب في الكتاب والسنة، وقد يكون اسمًا لذي الحال
(5)
.
(1)
جمع جُعَل، وهي دُوَيْبَّة تُشبه الخنفساء، من شأنها جمع الفضلات والنتن.
(2)
رواه أبو داود رقم (5116)، والترمذي رقم (3955 و 3956)، وأحمد:(14/ 349 رقم 8736) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن غريب".
(3)
كذا وهو وهم، وهو في البخاري رقم (6882) من طريق نافع بن جُبير عن ابن عباس رضي الله عنهما وانظر "تحفة الأشراف":(5/ 260).
(4)
تقدم ص/ 21.
(5)
يعني: لصاحب الحال.
فمن الأول: قوله لأبي ذرٍّ: "إنَّكَ امرؤٌ فِيْكَ جَاهِلِيَّةٌ"
(1)
، وقول عمر:"إني نذرت في الجاهلية"
(2)
، وقولهم: يا رسول الله! كنا في جاهليةٍ وشرٍّ
(3)
. أي: في حال جاهلية، أو طريقة أو عادة ونحوه، فإن الجاهلية وإن كان في الأصل صفة، لكنه غلب عليه الاستعمالُ حتى صار اسمًا، ومعناه قريب من معنى المصدر.
وأما الثاني: قولهم: "طائفة جاهلية، وشاعر جاهليٌّ"، وذلك نِسبةً إلى الجهل الذي هو عدم العلم أو عدم اتباع العلم، فإن من لم يعلم الحقَّ، فهو جاهلٌ جهلًا بسيطًا، فإن اعتقد خِلافَه؛ فهو جاهل جهلًا مركَّبًا، فإن قال خِلافَ الحق عالمًا بالحقِّ أو غير عالم فهو جاهلٌ -أيضًا-، كما قال:{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) } [الفرقان: 63]، وقوله:"إذا كان أحَدُكُمْ صَائمًا فلا يَجْهَل"
(4)
، وقول الشاعر
(5)
من هذا الباب:
ألَا لا يَجْهَلَنْ أحدٌ علينا
…
فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجاهِلِيْنا
وكذلك من عمل بخلاف الحق، فهو جاهل وإن علمَ أنه مخالف
(1)
أخرجه البخاري رقم (30)، ومسلم رقم (1661) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(2)
حديث نَذْر عمر في الجاهلية في البخاري رقم (2042)، ومسلم رقم (1656) من حديث عمر رضي الله عنه.
(3)
قطعة من حديث أخرجه البخاري رقم (7084)، ومسلم رقم (1847) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
(4)
قطعة من حديث أخرجه البخاري رقم (1894)، ومسلم رقم (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
هو عَمْرو بن كلثوم التغلبي، وهو في معلقته المشهورة.
للحقِّ، كقوله سبحانه:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17]، قال أصحابُ محمد: كل من عمل سوءًا فهو جاهل
(1)
.
وسبب ذلك: أن العلمَ الحقيقي الراسخ في القلب يمتنع أن يصدر معه ما يخالفُه من قولٍ أو فعل، فمتى صدر خلافه فلا بُدَّ من غفلة القلب عنه، أو ضعفه بما يُعارضه، وتلك أحوال تُناقِض حقيقةَ العلم فيصير جهلًا بهذا الاعتبار، ومن هذا يُعرف دخول الأعمال في مُسمَّى الإيمان حقيقةً لا مجازًا، وإن لم يكن كل من ترك شيئًا من الأعمال کافرًا ولا خارجًا عن أصل مسمَّى الإيمان، وكذلك اسم "العقل" ونحوه من الأسماء.
ولهذا يُسمِّي الله -سبحانه- أصحاب هذه الأحوال: موتى، وعُمْيًا، وصُمًّا، وبُكمًا، وضالين، وجاهلين، وأنهم: لا يعقلون، ولا يسمعون.
إذا ثبت
(2)
ذلك: فالناس كانوا قبل مبعث الرسول في حال جاهلية، منسوبة إلى الجهل، فإنَّ ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال إنما أحدثه لهم جاهل، وإنما يفعله جاهل، وكذلك كلُّ ما يخالف ما جاءت به المرسلون من يهودية أو نصرانية فهي جاهلية، وتلك كانت الجاهلية العامة، فأما بعد مَبْعث الرسول فالجاهلية المطلقة قد تكون في مِصْرٍ دون مِصر، كما هي في دار الكفار، وقد تكون في شَخْص دون شخص، كالرجل قبل أن يُسْلم، فإنه في جاهلية، وإن كان في دار الإسلام.
(1)
انظر تفسير الطبري: (3/ 640).
(2)
كذا بالأصل، وفي "الاقتضاء":"تبين".
فأما في زمان مطلق فلا جاهلية بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم، فإنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرين
(1)
على الحقِّ إلى قيام الساعة.
والجاهلية المقيَّدة قد تقوم في بعض ديار المسلمين وفي كثير من الأشخاص المسلمين. كما قال: "أربعٌ في أُمَّتي مِنْ أَمْرِ الجاهِلية"
(2)
، وقال لأبي ذرٍّ:"إنَّك امرؤٌ فيك جاهلية"
(3)
.
فالرجلُ مع فضله وعلمه قد يكون فيه بعض الخِصال المسمَّاة: بجاهلية ويهودية ونصرانية، ولا يوجب ذلك كفره ولا فِسْقه.
وكذا قوله: "خَصْلَتان هما بهم كُفْر
…
"
(4)
، فنفس الخصلتين كُفْر حيث كانتا من أعمال الكفَّار، وهما قائمتان بالناس، وليس كلُّ من قام به شُعْبة من شعب الكفر يصير كافرًا الكفر المطلق، كما أنه ليس كلُّ من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمنًا، حتى يقوم به أصلُ الإيمان.
وفَرْقٌ بين الكفر المعرَّف باللام وبين المنكَّر، في الإثبات، وفَرْقٌ بين معنى الاسم المطلق إذا قيل: كافر، أو مؤمن، وبَيْن المعنى المطلق للاسم في جميع موارده، كما قال:"لا تَرْجِعُوا بعدِي كفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكم رِقَابَ بعضٍ"
(5)
، فقوله:"يضرب بعضكم رقابَ بعض" هو تفسير لقوله: ["كفارًا"، وهؤلاء]
(6)
يُسَمّون كُفَّارًا تسميةً مُقيَّدة، ولا
(1)
بالأصل: "ظاهرون"، والتصويب من "الاقتضاء".
(2)
تقدم ص/ 44.
(3)
تقدم ص/ 45
(4)
أخرجه مسلم رقم (67) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
أخرجه البخاري رقم (121)، ومسلم رقم (65) من حديث جرير البجلي رضي الله عنه.
(6)
لم يظهر في الأصل، والإكمال بنحوه من "الاقتضاء":(1/ 238).