الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والثاني: أن ذلك لا يُفعل إن لم يؤمر به، وهو قول من لا يرى إثبات الأحكام بالمصالح المرسلة، وهؤلاء ضربان:
منهم من لا يُثْبِت الحكمَ إن لم يدخل في لفظ كلام الشارع أو فعله أو إقراره، وهم نُفَاةُ القياس، ومنهم من يُثبته بلفظ الشارع أو بمعناه، وهم القياسيون.
الوجه
الثاني
(1)
-في ذم المواسم والأعياد المُحْدَثة
-: ما تشتمل عليه من الفساد في الدين، وليس كلُّ أحدٍ يُدْرك فسادَ هذا النوع من البدع، لا سيما إذا كان من جنس العبادات المشروعةِ؛ بل أُولو الألباب هم يُدْركون بعضَ ما فيه من الفساد.
والواجبُ على الخَلْق اتباعُ الكتاب والسنة وإن لم يدركوا ما في ذلك من المصلحة والمفسدة، فنُنَبِّه على بعض مفاسدها، فمن ذلك:
أن من أحدث عملًا في يومٍ، كصوم أول خميس من رجب، وصلاة ليلة الجمعة، التي يُسَمُّونها:"صلاة الرغائب"، وما يتبع ذلك من إحداث أطعمةٍ وزينة، وتوسُّع في النفقة، فلا بُدَّ أن يتبع هذا العمل اعتقاد في القلب: أن هذا اليوم أفضلُ من غيره، وأن الصومَ فيه أفضلُ من أمثاله، وأن هذه الليلة أفضل من غيرها من الجُمَع؛ إذ لولا قيام ذلك لَمَا انبعثَ القلبُ لتخصيص هذه الليلة أو اليوم، إذ الترجيح من غير مرجِّح ممتنع
(2)
.
(1)
انظر "الاقتضاء": (2/ 106) وقد تقدم الوجه الأول (ص/ 132).
(2)
ثم فصل شيخ الإسلام في أن الشرع قد جاء بالاعتبار لهذا الحكم، ومضى على تأثيره، فهو من المعاني المناسبة المؤثرة، ثم تكلم بكلامٍ نفيس حول العلل المؤثرة =
وهذه مفسدة عظيمة، أن يعتقد الإنسانُ فضيلةَ يومٍ ولا يكون فيه فضيلة، فيكون قد شرع شيئًا لم يشرعه الله، وقد أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نهى عن تخصيص يوم الجمعة بصومٍ، وعن قيام ليلته، وذلك لما فيه من المفسدة، باعتقاد كونه فاضلًا على غيره ينبغي أن يُخصَّ بعملٍ، وهذا اعتقاد فاسد منهيٌّ عنه، فكذلك مَسْألتنا.
ومن قال: أنا أفعل ذلك وهذا الوقت عندي كغيره، فلا بدَّ أن يكون له باعث؛ إما موافقة شيخه أو عادته أو خوف اللوم له، ونحو ذلك، فلا بدَّ له من باعثٍ غير شرعيٍّ، وهذا ضلال، لعِلْمِنا أن الرسولَ وأصحابَه لم يكونوا يخصُّون ذلك بفضيِلة، فلا يجوز أن يكون لها فضلٌ؛ لأنه إن كان ولم يعلمه الرسول ولا أصحابه ولا التابعون، فكيف يعلمه هو؟! فظهر أنه لم يكن لها فضل، إذ يمتنع أن يعلم أمرًا [يُقرِّب]
(1)
إلى الله لم يعلمه الرسول، وإن عَلِموه امتنع مع توفُّر دواعيهم على النُّصح وتعليم الخلقِ أن لا يُعْلِموا أحدًا بهذا الفضل، ولا يُسارع إليه واحدٌ منهم. فإذا كان الفضلُ المدَّعَي مستلزمًا لعدم علم الرسول وخير القرون بدين الله، أو لكتمانهم ذلك، وكلُّ واحدٍ من اللازِمَيْن
(2)
مُنْتفٍ شرعًا وعادةً، عُلِمَ انتفاءُ الملزومِ وهو الفضل المدَّعَي.
ثم ذلك مُسْتَلزم؛ إما لاعتقاد هو ضلال في الدين، أو عمل دين لغير الله سبحانه، والتديُّن بالاعتقادات الفاسدة، فهذه البدع مستلزمة
= في الأحكام ومسالك العلة (2/ 107 - 113).
(1)
في الأصل: "تقريبًا" والمثبت من "الاقتضاء".
(2)
في "الأصل": "المتلازِمَين" والتصويب من "الاقتضاء".
قطعًا ما لا يجوز اعتقاده، أقل أحواله -إن لم يكن محرمًا- أن يكون مكروهًا، وهذا سارٍ في سائر البدع المحدَثة، فظهر أن فِعْل البدع يُناقض الاعتقادات الواجبة على الخَلْق، وينازع الرسول ما جاء به عن الله تعالى، ويورث القلبَ نفاقًا ولو كان خفيًّا.
فمن تدبَّر هذا علمَ ما في البدع من السموم المُضْعِفة للإيمان، ولهذا قيل: إن البدع مشتقة من الكفر، وهذا المعنى جار في كل البدع؛ كالصلاة عند القبور والذبح عند الأصنام، ونحو ذلك، وإن لم يكن الفاعل معتقدًا للمزيَّة، لكن نفس الفعل قد يكون مَظِنَّة للمزيَّة
(1)
.
فصل
(2)
فلو قيل: هذا مُعَارَض بأن هذه المواسم قد فعلها قومٌ من أولي العلم والفضل الصديقين فمن دونهم، وفيها فوائد يجدها الإنسانُ في قلبه؛ من زوال آصار ذنوبه وإجابة دعوته، مع ما ينضمُّ إلى [ذلك] من العمومات الدالة على فضل الصلاة والصيام.
قيل: لا ريب أنَّ من فَعَلها متأوِّلًا مجتهدًا أو مقلِّدًا، فله أجرٌ على حُسْن قصده وعمله من حيث ما فيه من المشروع. وما فيه من المبْتَدَع مغفورٌ له إذا كان في اجتهاده أو تقليده من المعذورين.
وكذلك ما ذُكِر فيها من الفوائد كلها إنما حصلت لما اشتملت عليه من المشروع من جِنْسه، كالصوم والذكر والقراءة والركوع والسجود وحُسْن القصد في عبادة الله، وما اشتمل عليه من المكروه انتفي موجبه
(1)
فكما أن إثبات الفضيلة الشرعية مقصود، فرفع الفضيلة غير الشرعية مقصود أيضًا.
(2)
"فصل" ليست في "الاقتضاء": (2/ 116).
بعفوِ اللهِ، لاجتهاد صاحبها أو تقليده، وهذا ثابت في كل ما يُذْكر في بعض البدع المذكورة من الفائدة.
لكن هذا القدَر لا يمنع کراهَتَها والنهي عنها والاعتياض عنها بالمشروع الذي لا بدعةَ فيه، كما أن الذين زادوا الأذان في العيدين هم كذلك، بل اليهود والنصارى يجدون في عباداتهم فوائد، وذلك أنه لا بدَّ أن تشتمل عباداتُهم على نوعٍ ما مشروع في جنسه، كما أن أقوالهم لا بُدَّ أن تشتمل على صدقٍ ما مأثًورٍ عن الأنبياء، ثم مع ذلك لا يوجب ذلك أن نَفْعَل عباداتهم أو نروي كلماتِهم؛ لأن جميع المبتدعات لا بدَّ أن تشتمل على شرٍّ راجحٍ على ما فيها من الخير، إذ لو كان خيرها راجحًا لما أهملها الشارع، فنحن نستدلُّ بكونها بدعة على أن إثمها أكبر من نفعها، وذلك هو الموجِبُ للنَّهي.
وأقول: إن إثمها قد يزول عن بعض الأشخاص لمعارض الاجتهاد أو غيره، كما يزول أثم النبيذ والربا المُخْتَلَف فيهما
(1)
عن المجتهدين من السلف، ثم مع ذلك يجب بيان حالها، وأن لا يُقْتَدَي بمن استحلَّها، وأن لا يقصَّر في طلب العلم المبيِّن لحقيقتها، وهذا كافٍ في بيان أن هذه البدعة مشتملة على مفاسد اعتقادية أو حالية، مناقضة لما جاء به الرسول، وما فيها من المنفعة مرجوح لا يصلح للمعارضة.
ثم نقول على سبيل التفصيل: إذا فَعَلها قومٌ ذوو فضلٍ، فقد ترکها في زمانهم معتقدًا كراهتها، أو
(2)
أنكرها قومٌ، إن لم يكونوا هم أفضل
(1)
في "الأصل": "فيها".
(2)
في "الاقتضاء": "و".
ممن فعلها، فليسوا دونهم، ولو كانوا دونهم، فقد تنازع فيها أولو العلم، فيجب ردُّها إلى الله والرسول، وكتابُ الله وسنةُ رسوله مع من ترکها بلا شكٍّ، لا مع من رخَّص فيها، ثم عامة المتقدمين الذين هم أفضل من المتأخرين مع من تَرَكَها.
وما فيها من المفاسد التي تستغني بها القلوب عن كثير من السنن، حتى تجد كثيرًا من العامة قد يحافظ عليها ما لا يحافظ على التراويح والصلوات الخمس، وتنقص بِسَببها عنايتهم بالفرائض، وغير ذلك = يُعَارِض ما فيها من المنفعة، فإن فيها -أيضًا- من مصير المعروف منكرًا أو المنكر معروفًا، وجهالة أكثر الناس بدين المرسلين، وانتشار البدع، ومُسَارقة الطَبْع، إلى الانحلال من ربقة الاتباع، وفوات سلوك الصراط المستقيم.
وذلك أن النفس فيها نوعٌ من الكبر، فتُحِبُّ أن تخرج عن العبودية والاتباع بحسب الإمكان، كما قال أبو عثمان النيسابوري
(1)
: "ما ترك أحدٌ شيئًا من السنة إلا لكبرٍ في نفسِه"، ثم هذا مظنة لغيره
(2)
، فينسلخ القلبُ عن حقيقة اتباع الرسول، ويصير فيه من الكبر وضعف الإيمان ما يُفْسِد عليه دينه أو يكاد، إلى غير ذلك من المفاسد التي لا يدركها إلا من استنارت بصيرتُه وسلمت سريرتُه، حتى إن متتبعها يصير في غايةٍ من الجهالة. قد ضلَّ سعيُهم وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعًا، وهذا كلُّه مقرر في غير هذا الموضع.
(1)
هو: إسماعيل بن عبد الرحمن أبو عثمان الصابوني، صاحب العقيدة المشهورة، ت (449) "السير":(18/ 40).
(2)
يعني من البدع والفساد.
فصلٌ
(1)
تقدم أن العيد يكون اسمًا لنفس المكان والزمان والاجتماع، وقد أُحدث من هذه الثلاثة أشياء، مثل:
* أول خميس من رجب
(2)
، وليلة تلك الجمعة تسمَّي:"الرغائب"، فإن تعظيم ذلك اليوم والليلة حادث بعد المئة الرابعة، ورُوِيَ في صومه حديث موضوع باتفاق العلماء
(3)
، وفعل هذه الصلاة وإن كان قد ذكرها بعض المتأخرين من الأصحاب وغيرهم، فإنها محدثة منهيٌّ عنها عند المحققين من أهل العلم، وعن إفراد صوم هذا اليوم، وكل ما فيه تعظيم له من طعامٍ وزينة، بل لا يكون له مزيَّة على غيره.
* وكذلك يومٌ آخر في وسط رجب، يصلى فيه صلاة تُسَمَّى "صلاة أم داود" فلا أصل لذلك.
* ومنها: ثامن عشر ذي الحجة
(4)
، الذي خطب فيه رسول الله بغدير خُمٍّ مرجِعَه من حجة الوداع
(5)
، فاتخاذ ذلك اليوم عيدًا مُحْدَث لا أصل له.
(1)
"الاقتضاء": (2/ 121).
(2)
وهذا من نوع: ما لم تُعظمه الشريعة أصلًا.
(3)
أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات": (2/ 124)، وانظر "أداء ما وجب":(ص/ 54) لابن دحية، و "المنار":(ص/ 95 - 96) لابن القيم.
(4)
وهذا من نوع: ما جرى فيه حادثة ما، من غير أن يُجعل موسمًا.
(5)
أخرجه مسلم رقم (2408) من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه.
* ومنها: ما يُحدِثه بعضُ الناس؛ إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم، والله يُثيبهم على قصدهم الصالح
(1)
؛ لكن هذا المولد لم يفعله أحد من السلف للنبي صلى الله عليه وسلم
(2)
، ولو كان خيرًا لكان السلف رضي الله عنهم أحقَّ به، وكمالُ تعظيمه في متابعته ظاهرًا وباطنًا، ونَشْر ما بُعِث به، والجهادُ على إظهاره باليد والقلب واللسان، هذه طريقة السابقين.
فعليك بالتمسُّك بالسنة في خاصَّتك وخاصَّة من يُطيعك، وأعرف المعروف وأنكر المنكر، وادْعُ
(3)
إلى السنة بحسب الإمكان، فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شرٍّ منه؛ فلا تدعُ إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه، أو ترك واجب أو مندوب تركُه أضرُّ من فعل ذلك المكروه، ولا ينبغي لأحدٍ أن يترك خيرًا إلَّا إلى مثله أو إلى خيرٍ منه.
فَفِعْل المولد قد يفعله بعضُ الناس ويكون له فِيْه أجر عظيم
(4)
، فقد يَحْسُن من بعض الناس ما يُستقبح من المؤمن المسدَّد
(5)
.
فتفطَّن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية
(6)
، بحيث تعرف مراتبَ المعروف ومراتبَ المنكر، حتى تُقَدِّم
(1)
من محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، لا لأجل البدع.
(2)
مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه.
(3)
في "الأصل": "وادعوا" والصواب المثبت.
(4)
لحسن قصده وتعظيمه للرسول صلى الله عليه وسلم، وما وقع منه من بدعة غفره الله له؛ لاجتهاده أو تقليده الذي يُعْذَر به عند الله تعالى.
(5)
وانظر "الاقتضاء": (2/ 126) لمزيد البيان.
(6)
في "الأصل": "الشريعة" سبق قلم.
أحدهما عند الازدحام، فهذا حقيقة العلم بما جاءت به الرسل.
وقد يُفْعَل في ما هو مُعَظَّم في الشريعة
(1)
، من الأوقات الفاضلة ما يعتقد أنه فضيلة فيصير منكرًا، مثل ما أحدث بعضُ أهل الأهواء في يوم عاشوراء من التعَطُّش والتحزُّن والتجمُّع، وغير ذلك من المحدثات، من اتخاذه مأتمًا، فهو من دين الجاهلية ليس من دين المسلمين، وكذلك أحدثَ فيه بعضُ الناس أشياءَ مستَنِدة إلى أحاديث موضوعة، مثل فضل الاغتسال فيه أو التكحل أو المصافحة
(2)
، فكل ذلك مكروه، وإنما السنة صومه.
وقد رُوِيَ في التوسعة على العيال آثار معروفة
(3)
، وقد يكون الغُلُو في تعظيمه من بعض أهل السنة لمقابلة الروافض، فإن الشيطان قصده أن يحرف الخلقَ عن الصراط المستقيم.
* ومنها: رجب، فإنه أحد الأشهر الحُرُم، ورُوِيَ عنه أنه كان يقول:"اللهم بارِكْ لنا في رجَبَ وشعبانَ وبلِّغْنا رمضَاَن"
(4)
، ولم يثبت عنه في رجب حديث آخر، بل عامة الأحاديث المأثورة فيه كَذِب. فاتخاذه
(1)
وهذا هو القسم الثالث، وقد تقدم القسمان الأولان قريبًا، وهذا القسم إلى قوله {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} ملحق في الحاشية.
(2)
انظر "المنار المنيف": (ص/ 112)، و "لطائف المعارف":(ص/ 112).
(3)
انظر "المنار المنيف": (ص/ 111 - 112)، و "المقاصد الحسنة":(ص/ 431)، و"اللآلي المصنوعة":(2/ 111 - 114)، و"لطائف المعارف":(ص/ 112 - 113).
(4)
أخرجه أحمد: (4/ 180 رقم 2346)، والبزار "الكشف":(1/ 294) وغيرهم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وهو حديث ضعيف مداره على زائدة بن أبي الرقاد عن زياد النميري.
موسمًا بحيث يُفْرَد بالصوم مكروه عند الإمام أحمد وغيره، كما روي عن عمر بن الخطاب وأبي بكرة وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم
(1)
-. وروى ابن ماجه: "أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن صَوْمِ رجب"
(2)
.
وهل الإفراد المكروه أن يصومه كلَّه أو أن لا يقرن به شهرًا آخر؟ فيه للأصحاب وجهان.
ومن هذا الباب: ليلة نصف شعبان، فقد رُوِي في فضلها من الأحاديث ما يقتضي أنها ليلة مفضَّلة، وأن من السلف من كان يخصُّها بالصلاة فيها
(3)
.
وصوم شهر شعبان قد جاءت فيه أحاديث صحيحة
(4)
.
ومن العلماء من أنكر فضلَها وطعن في الأحاديث الواردة فيها؛ كحديث: "إنَّ اللهَ يَغْفِرُ فيها لأكثر من شَعْر غَنَمٍ کلبٍ"
(5)
.
والذي عليه أكثر أهل العلم من أصحابنا وغيرهم تفضيلها، وعليه يدل نصُّ أحمد، وإن كان قد أُحْدِثَ فيها أحاديث.
(1)
انظر "تبيين العجب": (ص/ 66)، و "لطائف المعارف":(ص/ 229 - 230).
(2)
رقم (1743) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وسنده ضعيف، وقد ضعفه شيخ الإسلام، وابن رجب وصحح وقفه على ابن عباس.
(3)
انظر "المنار المنيف": (ص/ 98)، و "لطائف المعارف":(ص/ 261).
(4)
كما أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها رقم (1969)، ومسلم رقم (1156). في أحاديث أخرى، انظر "لطائف المعارف":(ص/ 236).
(5)
يعني ليلة النصف من شعبان، وهذا الحديث رواه أحمد:(6/ 238)، والترمذي رقم (739)، وابن ماجه رقم (1389)، وضعفه الإمام البخاري كما نقل عنه الترمذي.
أما صوم النصف مفردًا؛ فلا أصل له، بل إفراده مكروه، وكذلك اتخاذه موسمًا تُصْنَع فيه الأطعمة والزينة.
وكذلك صلاة الألفية في ليلة النصف جماعةً. وليعلم أن الاجتماع لصلاة تطوع، أو استماع قرآن، أو ذكر الله، ونحو ذلك، إذا كان يُفْعَل أحيانًا فهو حسن، فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى التطوع في جماعةٍ أحيانًا. وعموم الأحاديث الذي فيها: "ما اجْتَمَعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللهِ يَتْلُونَ كتابَ اللهِ ويَتَدَارسُونَه بَيْنَهم
…
"
(1)
الحديث. وأنه خرج على قومٍ وهم يقرأون فجلس معهم
(2)
، وغير ذلك.
أما اتخاذ اجتماع راتبٍ يتكرَّر بتكرُّر الأسابيع أو الشهور أو الأعوام غير الاجتماعات المشروعة، فإن ذلك يُضاهي اجتماعات الصلوات الخمس والجمعة والعيدين والحج، وذلك هو المبتدَع المحدَث، فَفَرْقٌ بين ما يُتَّخذ سنة وعادة، فإن ذلك يُضاهي المشروع، وهذا الفرق هو المنصوص عن أحمد وغيره من الأئمة.
وروي عن ابن مسعود أنه اتخذ أصحابُه مكانًا يجتمعون فيه للذكر؛ فخرج إليهم فقال: "لأنْتُم أهْدَى من أصحاب محمد، أو لأنتم على شُعْبَةِ ضلالٍ"
(3)
.
وفيما شرعَه الله من العبادات المتكرِّرة كفاية، فإذا أحْدِث اجتماع معتاد كان فيه مضاهاة لما شَرَعَه الله، بخلاف ما يفعله الرجل وحدَه أو
(1)
أخرجه مسلم رقم (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
كما في حديث استماعه لقراءة أبي موسى، وابن مسعود.
(3)
أخرجه الدارمي في "مسنده" رقم (210 - ط. حسين أسد) وابن أبي شيبة: (7/ 553).
الجماعة المخصوصة أحيانًا، ولذلك كره السلف إفرادَ رجب، وقطعَ عمرُ الشجرةَ التي [بويع تحتها]
(1)
لمَّا انتابها الناسُ. ففرقٌ بين الكثير الظاهر وبين القليل الخفيِّ، والمعتاد وغير المعتاد
…
(2)
.
* * *
فصل
(3)
وقد يحدث في اليوم الفاضل مع العيد العملي المحدَث العيدُ المكانيُّ؛ فيغلظ قُبْح هذا، ويصير خروجًا عن الشريعة، فمن ذلك: ما يُفْعَل يوم عرفة مما لا أعلم بين المسلمين خلافًا في النهي عنه، وهو قَصْد قبر من يُحْسِن به الظنَّ يوم عرفة، والاجتماع العظيم عند قبره، كما يُفْعَل في بعض أرض المشرق والمغرب، والتعريف هناك كما يُفْعَل بعرفات، فإن هذا نوعٌ من الحجِّ المبتدَع الذي لم يشرعه الله واتخاذ القبور أعيادًا.
وكذلك السفر إلى بيت المقدس للتعريف فيه، فإنه -أيضًا- ضلال بَيِّن، فإن زيارة بيت المقدس مستحبَّة للصلاة والاعتكاف، وهو أحد المساجد الثلاثة التي تُشَدُّ إليها الرِّحال؛ لكن قصد إتيانه في أيام الحج هو المكروه، فإن ذلك تخصيص وقت معيَّن بزيارة بيت المقدس، ولا خصوص لزيارته في هذا الوقت.
(1)
غير واضحة في الأصل، ولعلها ما أثبت.
(2)
بعده نحو سطر لم يتضح؛ لأنه جاء في ذيل الورقة (200 ب)، والنص من قوله: "وروي عن ابن مسعود
…
" إلى هنا ملحق في حاشية النسخة.
(3)
"الاقتضاء": (2/ 149).
ثم فيه -أيضًا- مضاهاةٌ للحج إلى المسجد الحرام، وتشبيهُه بالكعبة، وقد أفضى الأمر إلى ما لا يشكُّ مسلم أنه شريعة أخرى غير شريعة الإسلام، وهو ما قد يفعله بعض الضُلَّال من الطواف بالصخرة، أو حَلْق الرأس هناك، أو قصد النُّسك هناك.
وما يفعله بعضُ الجهَّالُ من الطواف بالقُبة التي بجبل الرحمة بعرفة.
وأما الاجتماع في هذا الموسم لإنشاد الغناء أو ضَرْبٍ بالدفِّ بالمسجد الأقصى ونحوه؛ فمن أقبح المنكرات من جهاتٍ أُخرى.
وأما قَصْد الرجل مسجدَ بلدِه يوم عرفة للدعاء والذكر؛ فهذا هو التعريف في الأمصار، فقد اختلف فيه العلماء؛ ففعله ابنُ عباس وعَمْرو ابن حُرَيث، ورخَّص فيه أحمد وإن كان مع ذلك لا يستحبُّه، هذا المشهور عنه، وكرهه طائفة من الكوفيين [والمدنيين]
(1)
؛ كأبي حنيفة ومالك وغيره.
والفرق بين هذا التعريف وذلك التعريف المنهيِّ عنه: هو أن ذلك قَصْد موضعٍ بعينه، مثل قبرٍ أو غيره يُشَبَّه بعرفات، بخلاف مسجد المِصْر، فإنه قَصَد له بنوعه لا بعينه، وأيضًا: فإن المكان المعيَّن قد يحصل شدُّ رحلٍ إليه، واتخاذ القبر عيدًا، وهذا بنفسه محرَّم.
وأما ضرب البوقات والطبول فإنه مكروه في العيد وغيره، وكذلك لباس الحرير.
(1)
زيادة من "الاقتضاء" ليتسق الكلام، لأنه ذكر أبا حنيفة وهو کوفي، وذكر مالكًا وهو مدني.
فصلٌ
(1)
وأما الأعياد المكانية فتنقسم كالزمانية إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما لا خصوصَ له في الشريعة.
والثاني: ما له خَصِيصة لا تقتضي قصده للعبادة فيه.
والثالث: ما تُشرع
(2)
العبادة فيه، لكن لا يُتَّخذ عيدًا.
والأقسام الثلاثة جاءت الآثارُ بها؛ مثل قوله: "لا تتخذوا قبري عيدًا"
(3)
، ومثل نهيه عن اتخاذ آثار الأنبياء أعيادًا. فهذه الأقسام الثلاثة:
أحدها: مكانٌ لا فضل له في الشريعة أصلًا، ولا فيه ما يوجِب تفضيلَه، بل هو كسائر الأمكنة أو دونها، فَقَصْد ذلك أو الاجتماع فيه لصلاة أو دعاء أو ذِكْر أو غيره ضلال بيِّن، [و] إن كان به أثر بعض الكفار أو غيرهم صار أقبح وأقبح، ودخل في هذا الباب وفيما قبله مشابهة الكفار، وهذه أنواع لا يمكن ضبطها بخلاف الزمان فإنه محصور، وهذا الضرب أقبح من الذي قبلَه، فإن هذا يُشبه عبادة الأوثان أو ذريعة إليها، أو نوع من عبادة الأوثان، إذ عبَّاد الأوثان كانوا يقصدون بقعةً بعينها لتمثالٍ هناك أو غير تمثال، يعتقدون أن ذلك يُقربهم إلى الله، وكانت الطواغيتُ الكِبار التي تُشَد إليها الرِّحال ثلاثة؛ اللات، والعُزَّى، ومناة الثالثة الأخرى، كما ذكر اللهُ تعالى في كتابه
(4)
. كلُّ واحدة من هذه الثلاثة لمِصْر من أمصار العرب.
(1)
"الاقتضاء": (2/ 155).
(2)
في "الأصل": "ما يشرع من
…
" وحذفها هو الصواب كما في "الاقتضاء".
(3)
سيأتي ص/ 162.
(4)
سورة النجم (19 - 22).
ومواقيت الحج ثلاثة؛ مكة والمدينة والطائف، فكانت اللات لأهل الطائف. قيل: إنه كان رجلًا صالحًا يَلُتُّ السويق للحجيج، فلما مات عكفوا على قبره مُدَّة، ثم اتخذوا تمثاله، ثم بنوا عليه بِنْيَة سَمَّوها:"بيت الربَّة" وقصتها معروفة، فلما بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم هَدَمَها لما فُتِحت الطائف بعد مكة سنة تسعٍ
(1)
.
وأما العُزَّى: فكانت لأهل مكة قريبًا من عرفات، وكانت هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون، فبعثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خالدَ بنَ الوليد عَقِب فتح مكة، فأزالها، وقسم النبي صلى الله عليه وسلم مالَها، وخرجت منه شيطانة ناشرة شعرها، فيئست العُزَّى أن تُعْبَد.
وأما مناة: فكانت لأهل المدينة من ناحية الساحل.
ومن أراد أن يعلم كيف كان حال المشركين في عبادة أوثانهم، ويعرف حقيقة الشركِ الذي ذمَّه اللهُ وأنواعه حتى يتبين له تأويل القرآن؛ فلينظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحوال العرب في زمانه، وما ذكره الأزرقي في "أخبار مكة"
(2)
وغيره من العلماء.
ولما كان للمشرکين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ويسمُّونها: "ذات أنواط". فقال بعضُ الناس: يا رسول الله اجعل لنا ذاتَ أنواط ٍ كما لهم ذات أنواط. فقال: "الله أكبر، قلتم كما قال قومُ موسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، إنها السَّنَن لتركبنّ سَنَن من كَان قَبْلَكم"
(3)
. فأنكر
(1)
انظر "السيرة النبوية": (4/ 541).
(2)
(1/ 116 - 125).
(3)
تقدم ص/ 35.
مشابهتهم للكفار بأن يعلقوا على شجرة، فكيف بما هو أطم من مشابهتهم في نفس الشرك؟!
فمن قَصَد بقعةً يقصد الخير فيها، ولم تستحب الشريعةُ ذلك؛ فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض، سواءٌ كانت البقعة شجرة، أو عين ماء، أو قناة جارية، أو جبلًا، أو مغارة، وسواءٌ قَصَدَها ليصلي فيها، أو ليدعو، أو ليقرأ عندها، أو ليذكر، أو ليتنسَّك، بحيث يخص البقعة بنوعٍ من العبادة التي يُشْرَع تخصيص تلك البقعة به لا عينًا ولا نوعًا.
وأقبح من ذلك أن ينذر لتلك البقعة دهنًا لتُنَوَّر [به]، ويقال: إنها تقبل النذر -كما يقوله بعض الضالين- فإن هذا نذرُ معصيةٍ باتفاق العلماء، لا يجوز الوفاء به، بل عليه كفارة يمين عند كثير من أهل العلم، منهم أحمد في المشهور عنه.
وكذلك إذا نذر طعامًا للحيتان التي في العين، أو نذر مالًا للسَّدَنة والمجاورين العاكفين بتلك البقعة، فإن هولاء يشبهون سَدَنة اللات والعُزَّى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل، فيهم شَبَه من العاكفين الذين قال لهم إبراهيم:{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)} [الأنبياء: 52]، وكالذين اجتاز بهم موسى وقومُه في قوله:{فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138].
ثم إذا صُرف هذا المال في جنس تلك العبادة من المشروع، مثل عمارة المساجد، والصالحين من فقراء المسلمين؛ كان حَسَنًا. فهذه الأمكنة منها ما يُظن أنه قبر نبي أو رجلٍ صالح، وليس كذلك، أو يُظن أنه مقام له وليس كذلك، فأما ما كان قبرًا أو مقامًا؛ فهو من النوع
الثاني، وهذا بابٌ واسع أذكر بعض أعيانه:
* فمن ذلك: عدة أمكنة بدمشق، مثل مشهد لأُبَيِّ بن كعب، خارج الباب الشرقي، ولا خلاف أن أُبيَّ بن كعبٍ إنما توفي بالمدينة.
* وكذلك يقال: قبر هود في الحائط القِبْلي، وما علمتُ أحدًا ذكر أن هودًا
(1)
مات بدمشق، بل قيل: باليمن، وقيل: بمكة.
* وكذلك: مشهد أويس، وما قال أحدٌ أن أُويسًا
(2)
مات بدمشق ولا قدم إليها.
* ومن ذلك: قبر أم سلمة، ولا خلاف أنها ماتت بالمدينة، وما أكثر الغلط في ذلك من جهة مشابهة الأسماء
(3)
.
* وكذلك: بمصر مشهد يقال: إنه للحسين، وهو باطل اتفاقًا
(4)
.
فهذه المواضع ليس فيها فضيلة أصلًا، اللهم إلا أن يكون قبر رجلٍ مسلم، فيكون كسائر قبور المسلمين ليس لها خَصِيصة، وإن كانت القبور الصحيحة لا يجوز اتخاذها أعيادًا، ولا أن يُفْعَل فيها ما يُفعل عند هذه القبور المكذوبة.
وفي هذا الباب مواضع يقال: إن فيها أثر النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره،
(1)
"الأصل": "هود".
(2)
"الأصل": "أويس".
(3)
فأم سلمة كنية عدد من النساء في الصحابة والتابعين.
(4)
للمؤلف رسالة خاصة في هذا المشهد نشرت باسم "رأس الحسين"، انظر "مجموع الفتاوي":(27/ 450 - 489).
ويُضَاهَى بها مقام إبراهيم الخليل الذي بمكة، كما يقوله الجهالُ في الصخرة التي ببيت المقدس، من أن فيها أثرًا من وطء النبي، وبلغني أن بعض الجهال يقول: إنه من وطء الربِّ -سبحانه-!!
وفي مسجد قِبْلِي دمشق -مسجد القدم- يقال: إنه أثر قدم موسي، وهذا باطل.
وكذلك مشاهد تُضَاف إلى بعض الأنبياء والصالحين بناءً على أنه رُئيَ هناك في النوم، ورؤية النبي أو الرجل الصالح ببقعة في النوم لا يوجب لها فضيلة، تُقْصَد البقعة لأجلها، أو تُتخذ مصلّي بإجماع المسلمين.
وهذه الأماكن كثيرة موجودة في أكثر المواضع؛ مثل الحجاز فيها مواضع؛ كغارٍ عن يمين الطريق وأنت ذاهب من بدر إلى مكة، يقال: إنه الغار الذي دخله النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وأنه الغار الذي ذكره الله تعالي. فلا خلاف بين أهل العلم أن الغار الذي ذكره الله في القرآن، إنما هو غارٌ بجبلِ ثورٍ قريبٌ من مكة، معروف عند أهل مكة إلى اليوم.
وبالجملة؛ فتعظيم مكان لم يُعظّمه الشرع شر من تعظيم زمانٍ لم يُعظمه، فإن تعظيم الأجسام بالعبادة عندها، أقرب إلى عبادة الأوثان من تعظيم الزمان، فيُنْهى عن الصلاة فيها وإن لم يقصد تعظيمها، لئلا يكون ذريعةً إلى تخصيصها بالصلاة، كما يُنْهى عن الصلاة عند القبور المحققة، وإن لم يقصد المصلِّي الصلاة لأجلها، كما يُنْهى عن إفراد الجمعة وسَرَر شعبان
(1)
، وإن لم يقصد تخصيصها بالصوم.
(1)
يعني: آخر شعبان.
وما أشبه هذه الأمكنة بمسجد ضرار، فإن هذه المشاهد إنما وُضِعَت مضاهاةً لبيوت الله، وتعظيمًا لما لم يُعظِّمْه الله، وعكوفًا على أشياء لا تنفع، وصدًّا للخلق عن سبيل الله، وهي عبادته وحده لا شريك له بما شرعه.
ويلتحق بهذا الضرب -وإن لم يكن منه- مواضع يُدَّعَى لها خصائص لا تَثْبُت، مثل كثير من القبور التي يقال: إنها قبر نبي أو قبر صالح، أو مقام نبي أو صالح، ونحو ذلك، وقد يكون ذلك صدقًا، وقد يكون كذبًا، وأكثر المشاهد التي على وجه الأرض من هذا الضرب، فإن الصحيحَ من ذلك قليل جدًّا.
وقال غيرُ واحدٍ من أهل العلم: لم يثبت إلا قبر نبينا صلى الله عليه وسلم. وغيرُه يُثْبِت قبرَ إبراهيم الخليل، وقد يكون عُلِمَ أن القبرَ في تلك الناحية؛ لكن يقع الشكُّ في عينه، ككثير من قبور الصحابة التي "بباب الصغير" من دمشق، فإن الأرض غُيِّرت، فتعيينُ قبرٍ بعينه أنه قبر بلالٍ أو غيره لا يكاد يَثْبت إلا من طريق خاصة. وإن كان لو ثبت ذلك لم يتعلَّق به حكمٌ شرعي مما قد أُحْدِثَ عندها؛ إذ لو كان ضبط هذه الأمكنة من الدين لما أُهْمِل ولما ضاع عن الأمة المحفوظ دينها المعصومة عن الخطأ.
وأكثر الحكايات إنما توجد من السَّدَنة والمجاورين، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، وقد يُحْكَي ماله تأثيرٌ، مثل: أن رجلًا دعا عند قبرٍ فاستُجِيبَ له، أو نَذَر لمكانٍ فقُضِيت حاجتُه، ونحو ذلك، وبمثل هذه الأمور عُبِدَت الأصنام، فإن القوم كانوا -أحيانًا- يُخَاطَبُون من الأوثان، وربما تُقْضَي حوائجهم إذا قصدوها، وكذلك يجري لأهل
الأبداد
(1)
من أهل الهند، وربما قِيْست على ما شرعه الله من حجِّ بيته والحجر الأسود.
وإنما عُبِدت الشمس والقمر بالمقاييس، وبمثل هذه الشبهات حدث الشركُ في أهل الأرض.
وقد صحَّ أنه نهى عن النذر وقال: "إنَّه لا يَأتي بِخَيْرٍ"
(2)
، فإذا كان النذر الذي هو طاعة لا يأتي بخير؛ فما الظنُّ بالنذر الذي هو معصية، بأن يكون لشيءٍ من هذه الأمكنة مما لا ينفع ولا يضر؟!
وأما إجابة الدعاء؛ فقد يكون سببه اضطرار الداعي وصدقه، وقد يكون مجرد رحمة الله له، وقد يكون أمرًا قضاه الله، لا لأجلِ دعائه، وقد يكون له أسبابٌ أُخَر، وإن كانت فتنةً في حقِّ الداعي، فإنا نعلم أن الكفار قد يُسْتجابُ لهم، فيُسْقون ويُنصرون ويُعافون مع دعائهم عند أوثانهم وتوسُّلهم بها، وقال تعالى:{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) } [الإسراء: 20]، وقال:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) } [الجن: 6].
وأسبابُ المقدورات فيها أمور يطول شرحُها، ليس هذا موضُعها، وإنما على الخلق اتباع ما بعثَ الله به المرسلين، والعلم بأنَّ فيه خير الدنيا والآخرة، ولعلِّي إن شاء الله أبين أسباب هذه التأثيرات في موضعٍ آخر
(3)
.
هذا هو النوع الأول من الأمكنة.
(1)
جمع "بُدّ"، وهو الصنم أو بيته.
(2)
أخرجه البخاري رقم (6692، 6693، 6694)، ومسلم رقم (1639، 1640) من حديث أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم.
(3)
انظر: "مجموع الفتاوي": (1/ 359 - 364)، (11/ 641 - 644) وغيرها.