المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل(2)[في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وبعض ما أحدث فيها] - المنهج القويم في اختصار اقتضاء الصراط المستقيم

[بدر الدين البعلي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌التحذير مِن اتباع سنن

- ‌1 - "مختارات من اقتضاء الصراط المستقيم" لفضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عُثيمين

- ‌2 - "مهذَّب اقتضاء الصراط المستقيم" للدكتور عبد الرحمن الفريوائي

- ‌3 - "مختصر اقتضاء الصراط المستقيم" للدكتور ناصر بن عبد الكريم العَقْل

- ‌نماذج من النسخة الخطية

- ‌ الصلاة في أماكن العذاب

- ‌الغُلُوَّ في الدينِ

- ‌ الشُّعُوبية

- ‌الدليل على فضل جنس العرب

- ‌فصلٌ

- ‌الطريق الأول العام:

- ‌الطريق الثاني الخاصُّ في نفس أعيادهم:

- ‌ فمن الكتاب

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الرابع:

- ‌الوجه الخامس:

- ‌الوجه السادس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌وأما الإجماع والآثار؛ فمن وجوه:

- ‌الثاني:

- ‌ الثالث:

- ‌فصلٌ(3)وأما الاعتبار في مسألة العيد؛ فمن وجوه:أحدها:

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الرابع:

- ‌الوجه الخامس:

- ‌الوجه السادس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌الوجه الثامن:

- ‌فصلٌ(1)مشابهتهم فيما ليس من شرعنا قسمان:

- ‌فصلٌ(5)أعياد(6)الكفَّار كثيرة

- ‌ الثاني(1)-في ذم المواسم والأعياد المُحْدَثة

- ‌النوع الثاني من الأمكنة(1): ما له خَصِيْصة؛ لكن لا يقتضي اتخاذه عيدًا

- ‌ الثاني: أن يتحرَّى الدعاء عندها

- ‌فصلٌ(2)[في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وبعض ما أُحدث فيها]

- ‌فصلٌ(2)[في إثبات الشفاعة ونفيها]

- ‌افترق الناس على ثلاث فرق:

- ‌ المشركون ومن وافقهم من مبتدعة أهل الكتاب وهذه الأمة:

- ‌الخوارج والمعتزلة:

- ‌ سلف الأمة وأئمتها

- ‌الرسول يُطاع ويُحب ويرضى

- ‌ فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌فصل(2)[في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وبعض ما أحدث فيها]

غرضُ صاحبه، ولا يؤثِّر إلا في الأمور الحقيرة، أما الأمور العظيمة كإنزال المطر وكشف العذاب؛ فلا ينفع فيه هذا الشرك، كما قال:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67]، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)} [الإسراء: 56].

فلما كان هذه المواضع

(1)

العظيمة لا يستجيب فيها إلا هو؛ دلَّ على توحيده، وقطع شُبَهِ من أشرك به، وعلم أن ما دون هذا -أيضًا- من الإجابات إنما فَعَلَها هو -سبحانه- وإن كانت تجري بأسبابٍ محرمة أو مباحة، كما أن خلقه للسماء والأرض ونحوهما من الأجسام العظيمة، دل على وحدانيته، وأنه خالق لكل شيءٍ.

‌فصلٌ

(2)

[في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وبعض ما أُحدث فيها]

قال الإمام أحمد وغيره: إنه يستقبل القبلة بعد تحية النبي صلى الله عليه وسلم ويجعل الحجرة على يساره لئلا يستدبره، ويدعو لنفسه، وأنه إذا حيَّاه وسلَّم عليه يكون مستقبلًا له بوجهه -بأبي هو وأُمي صلى الله عليه وسلم-، فإذا أراد الدعاء؛ جعل الحجرة عن يساره واستقبل القبلة، وهذا مراعاةً منهم لحفظ التوحيد، فإن الدعاء عند القبر لا يُكره مطلقًا، بل يُؤمر به تَبَعًا وضمنًا كما جاءت به السنة، وإنما المكروه التحرِّي.

وهذا أمر مستمر، فإنه لا يُستحبُّ للداعي أن يستقبل إلا ما يُسْتحب أن يصلي إليه، فلما نهى عن الصلاة إلى جهة الشرق، نهى أن يتحرَّي

(1)

في "الاقتضاء": "المطالب".

(2)

"فصل" ليست في "الاقتضاء": (2/ 239).

ص: 179

استقبالَها وقتَ الدعاء، ومن الناس من يستقبل وقت دعائه الجهةَ التي فيها الرجلُ الصالح، وهذا شرك وضلال. كما أن بعض الناس يمتنع أن يستدبر الجهة التي فيها [بعض الصالحين، وهو يستدبر الجهة التي فيها]

(1)

بيت الله أو قبر رسوله، وكلُّ ذلك من البدع.

كما أن مالكًا وغيره کره أن أهل المدينة كلما جاء أحدهم المسجد أن يدخل إلى قبره ويُسلِّم عليه وعلى صاحبيه، وقال:"إنما يكون ذلك إذا جاء أحدهم من سفرٍ أو أراد سفرًا" ورخَّص بعضهم في السلام عليه إذا دخل المسجد للصلاة ونحوها.

وأما قصده دائمًا للصلاة والسلام؛ فما علمتُ أحدًا رخَّص فيه؛ لأن ذلك نوعٌ من اتخاذه عيدًا، مع أنه يُشرع لنا إذا دخلنا المسجد أن نقول:"السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبرکاته" كما نقوله آخر صلاتنا، بل قد اسْتُحِبَّ ذلك لكل من دخل مكانًا ليس فيه أحدٌ أن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

.

فخاف مالكٌ أن يكون فِعْل ذلك عند القبر كلَّ ساعةٍ اتخاذًا له عيدًا، وأيضًا: فإنه بدعة، فإن المهاجرين والأنصار قد كانوا يصلُّون في المسجد، ولم يكونوا يأتون القبر كل صلاةٍ، وذلك لعلمهم بكراهته لذلك، مع أنهم يُسلمون عليه عند دخولهم وخروجهم وفي التشهد، كما كانوا يسلِّمون عليه في حياته. والمأثور عن ابن عمر يدل على ذلك، أنه كان إذا قَدِم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فسلَّم وصلَّى عليه،

(1)

زيادة لازمة يستقيم بها السياق، من "الاقتضاء".

(2)

انظر "جِلاء الأفهام": (ص/ 218، 238).

ص: 180

وقال: السلام عليك يا أبا بكر، "السلام عليك يا أبتاه" رواه سعيد

(1)

.

وكرهت الأمة

(2)

استلامَ القبر وتقبيلَه، ومنعوا الناسَ أن يُصلُّوا إليه، وكانت حجرة عائشة مُلاصِقةً لمسجده، ومضى الأمرُ على ذلك في عهد الخلفاء الراشدين، وزِيْد في المسجدِ. والحجرةُ على حالها هي وغيرها من الحُجَر المُطِيْفَة بالمسجد من شرقيِّه وقِبْلِيِّه، حتى بناه الوليد بن عبد الملك، وكان عمر بن عبد العزيز عاملَه على المدينة، فابتاع الحجرةَ وغيرها وهدمهنَّ، وأدخلهنَّ في المسجد، فمن أهل العلم من كره ذلك، کسعيد بن المسيب، ومنهم من لم يكره.

قال أحمد -لما سأله الأثرم: أيمس القبر؟ - قال: ما أعرفُ هذا، وحكى بعض أصحابنا روايةً في مسح قبره؛ لأن أحمد شيَّع بعضَ الموتى فوضع يده على قبره يدعو له. والفرق بين الوضعين ظاهر.

أما المنبر؛ فقال أحمد: لا بأس به

(3)

، وكره مالك التمسُّحَ بالمنبر، كما كرهوا التمسُّحَ بالقبر.

أما اليوم؛ فقد احترق المنبر، وإنما بقي من المنبر خشبة صغيرة، فقد زال ما رُخِّص فيه؛ لأن الأثر المنقول عن ابن عمر وغيره إنما هو التمسُّح بمقعده.

(1)

هو ابن منصور في "سننه". وتكلم على سنده في الأصل: (2/ 243). وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف": (3/ 28) بسندٍ صحيح.

(2)

كذا بالأصل، وبعض نسخ "الاقتضاء"، وفي الأخرى:"الأئمة".

(3)

انظر "مسائل أحمد" رواية ابنه صالح رقم (1340)، و "العلل" رواية عبد الله، و "السير":(11/ 214).

ص: 181

فصلٌ

(1)

أما زيارة مقامات الأنبياء والصالحين، وهي الأمكنة التي أقاموا فيها، لكنهم لم يتخذوها مساجد، فالذي بلغني عن العلماء قولان:

أحدهما: النهي عن ذلك.

والثاني: أنه لا بأس باليسير من ذلك، كما نُقِل عن ابن عمر أنه كان يتحرَّي قصد المواضع التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان النبي سلكها اتفاقًا لا قصدًا. قال سِنْدِيّ

(2)

: سألنا أبا عبد الله عن الرجل يأتي هذه المشاهد ويذهب إليها، ترى ذلك؟ فقال: أما على حديث ابن أم مكتوم أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته حتى يتخذه مصلي، وعلى ما كان يفعل ابن عمر؛ يتتبع مواضع النبي صلى الله عليه وسلم وأثره؛ فليس بذلك بأس أن يأتي الرجل المشاهد، إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا جدًّا

(3)

.

فقد فصَّل أبو عبد الله بين ما يُتَّخذ عيدًا وبين ما يُفْعَل نادرًا قليلًا، وهذا فيه جمعٌ بين الآثار.

ورُوِي عن عمر أنه رأى الناس ابتدروا المسجد، فقال: ما هذا؟ قالوا: مسجدٌ صلى فيه رسول الله، فقال:"هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم، اتخذوا آثار أنبيائهم بِيَعًا، من عَرَضت له منكم الصلاة فلْيُصلِّ، ومن لم تعرض له فليمض"

(4)

، فكره اتخاذ مصلَّى النبي عيدًا.

(1)

"الاقتضاء": (2/ 271).

(2)

الخواتيمي، وله مسائل عن الإمام أحمد، "طبقات الحنابلة":(1/ 455).

(3)

ذكره الخلال في "جامعه - كتاب الأدب".

(4)

أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها": (ص/ 87 - 88)، وابن أبي شيبة في =

ص: 182

وقال محمد بن وضَّاح

(1)

: إن عمر أمر بقطع الشجرةِ التي بويع تحتها النبيُّ صلى الله عليه وسلم خوفَ الفتنةِ على الناس.

وقال محمد بن وضاح

(2)

: كان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار بالمدينة، ما عدا قُباء وأُحُدًا. ودخلَ الثوريُّ بيتَ المقدس فصلَّى فيه ولم يتبع تلك الآثار، فهولاء کرهوها مطلقًا؛ لحديث عمر هذا.

وما فعله ابنُ عمر لم يوافقه عليه أحدٌ من الصحابة، والصوابُ معهم، فإن المتابعة تكون: بأن يفعل مثل ما فعل، على الوجه الذي فعل، فإذا قَصَد العبادة في موضعٍ كالمساجد والمشاعر، كان قصدنا متابعة له، أما إذا فعل فعلًا اتفاقًا من غير قصد وتحرٍّ، فإذا تحرينا ذلك المكان لم نكن متبعين له، فإن الأعمال بالنيات.

واستحبَّ آخرون من العلماء إتيانها، وذكر طائفةٌ من أصحابنا وغيرُهم استحبابَ زيارة هذه المواضع وعدّوا منها مواضع، وأما أحمد فرخَّص فيما جاء به الأثر إلا إذا اتُّخِذ عيدًا، وجمع بين الأخبار، مثل حديث عِتْبان الذي راح إليه الرسول وصلى في بيته موضعًا اتخذه مسجدًا

(3)

. لكن عِتْبان كان قصده بناء المسجد، فأحبَّ أن يكون الرسول هو الذي يخطّه له، بخلاف ما إذا صلَّى الرسولُ في موضعٍ من

= "المصنف"، وصححه شيخ الإسلام في "الفتاوى":(1/ 281).

(1)

"البدع والنهي عنها": (ص/ 87 - 88).

(2)

المصدر نفسه: (ص/ 88).

(3)

أخرجه البخاري رقم (425)، ومسلم رقم (33) من حديث عتبان بن مالك.

ص: 183

غير قصدِ اتخاذِه مسجدًا، فاتخذه أحدٌ مسجدًا لا للحاجة إليه، بل لكونه صلى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم.

أما الأمكنة التي قصدها رسول الله للدعاء عندها والصلاة؛ فقصْدُها، سنة، اقتداءً به صلى الله عليه وسلم؛ كتحريه الصلاة عند الاصطوانة موضع المصحف

(1)

.

وقد روى بعض الفقهاء

(2)

أن أعرابيًّا أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتلا قولَه تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ

} الآية [النساء: 64]، وأنشد:

يا خيرَ مَن دُفِنَتْ بالقاعِ أعْظُمُه

وَطَابَ مِن طِيْبِهِنَّ القاعُ والأَكَمُ

وأنه استحبَّ طائفةٌ من متأخِّري الفقهاء من أصحاب أحمد والشافعي مثل ذلك.

(1)

أخرجه البخاري رقم (502)، ومسلم رقم (509) من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.

(2)

لعله يقصد أبا محمد ابن قدامة المقدسي، فإنه ذكرها في "المغني":(5/ 465 - 466)، وعنه ابن أبي عمر في "الشرح الكبير" وهذه القصة أخرجها ابن عساكر في "تاريخه" وابن الجوزي في "مثير العزم الساكن" بأسانيدهم، وذكرها ابن كثير في "تفسيره":(1/ 532).

وقال الحافظ ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي": (ص/ 253): "هذه الحكاية التي ذكرها بعضهم يرويها عن العُتبي بلا إسناد، وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب الهلالي

وقد ذكرها البيهقي في كتابه "شعب الإيمان" بإسنادٍ مظلم

وقد وضع لها بعض الكذابين إسنادًا إلى علي بن أبي طالب.

وفي الجملة؛ ليست هذه الحكاية المنكورة عن الأعرابي مما يقوم به حجة، وإسنادها مظلم مختلف ولفظها مختلف أيضًا

، ولا يصلُح الاحتجاج بمثل هذه الحكاية، ولا الاعتماد على مثلها عند أهل العلم وبالله التوفيق" اهـ.

ص: 184

وهذه الحكاية لا يثبتُ بها حكم شرعيّ، لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان سُنة لكان السابقون إليه أسْبَق وبه أعلم.

فصلٌ

(1)

لو أُقْسِمَ على الله ببعض خلقه من الأنبياء والملائكة وغيرهم؛ لنُهِىَ عن ذلك، كما لا يُقْسَم بمخلوق مطلقًا، وهذا القسم منهيٌّ عنه غير مُنْعَقِد باتفاق، ولم يتنازعوا إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فإن فيه قولين في مذهب أحمد، وبعضُ أصحابه كابن عقيل طَرَدَ الخلافَ في سائر الأنبياء، والذي عليه الجمهور؛ کمالك والشافعي وأبي حنيفة: أنه لا تنعقد اليمينُ بمخلوق أَلْبته ولا يُقْسَم به، وهذا هو الصواب.

والإقسام على الله بنبيِّه صلى الله عليه وسلم مبنيٌّ على هذا الأصل، ففيه هذا النزاع، وقد نُقِل عن أحمد في التوسُّل بالنبي صلى الله عليه وسلم في "منسك المرُّوذي" ما يُناسبُ قولَه بانعقاد اليمين به؛ لكن الصحيح: أنه لا تنعقد اليمينُ به، فكذلك هذا.

وأما غيره؛ فما علمتُ فيه نزاعًا، واتفقوا على أنه -سبحانه- يُسأل ويُقْسَم عليه بأسمائه وصفاته كما يُقْسَم على غيره بذلك، كالأدعية المعروفة في "السنن":"اللهم إنِّي أسْألُكَ بأنّ لك الحمد، أنتَ اللهُ المنَّانُ، بديع السماواتِ والأرض يا ذا الجلالِ والإكرام"

(2)

، وأما إذا

(1)

"فصل" ليس في "الاقتضاء": (2/ 305).

(2)

أخرجه ابن ماجه رقم (3858)، وأحمد في "مسنده":(19/ 238 رقم 12205)، والحاكم:(1/ 504) وغيرهم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وهو حديث صحيح.

ص: 185

قال: "أسألك بمعاقِدِ العِزِّ من عَرْشِكَ"، ففيه نزاع

(1)

، نُقِل عن أبي حنيفة كراهته

(2)

، فلا يجوز أن يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلِك، وبحق البيت والمَشْعَر؛ لأنه لا حق للمخلوق على الخالق.

أما "معاقدِ العزِّ من عَرْشِك" فقيل: هو سؤالٌ بمخلوق، وقيل: هو سؤال بالخالق، فلذلك تنازعوا فيه، وقد نازع بعضُ الناس، وقالوا في حديث أبي سعيد: "اللهمَّ إنِّي أسألكَ بِحَقِّ السائلينَ عليكَ وبحَقِّ مَمْشايَ هذا

"

(3)

الحديث، وقال تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] على قراءة الخَفْض

(4)

، كما يقال: سألتك بالله وبالرَّحِم.

وفي "الصحيح"

(5)

أن عمر قال: "اللهم إِنَّا كنَّا إذا أَجْدَبْنا نَتَوسُّلُ إليكَ بِنَبِيِّنا وإنَا نتوسَّلُ إليكَ بِعَمِّ نَبِيِّنا فاسْقِنا".

وفي النسائي والترمذي حديث الأعمى الذي جاء إليه فقال: ادعُ اللهَ لي أن يردَّ بصري، فقال: "توضَّأ

(6)

فَصَلِّ ركعتين ثُمَّ قل: اللهم إني

(1)

والنزاع مبني على أثر موضوع، أخرجه البيهقي في "الدعوات الكبير":(2/ 157 - 158)، وابن الجوزي في "الموضوعات":(2/ 142) وقال: "هذا حديث موضوع بلا شك .. " اهـ.

وانظر "نصب الراية": (4/ 272 - 273).

(2)

نقله في "الاقتضاء" عن أبي الحسين القدوري في "شرح الكرخي"، وانظر "شرح الطحاوية":(1/ 297) لابن أبي العز، و "حاشية رد المحتار":(6/ 396).

(3)

أخرجه أحمد: (17/ 247 رقم 11156)، وابن ماجه رقم (778) وغيرهم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه والحديث ضعيف في سنده فُضيل بن مرزوق وعطية العَوْفي.

(4)

وهي قراءة حمزة.

(5)

أخرجه البخاري رقم (1010) من حديث أنسٍ رضي الله عنه.

(6)

في "الأصل": "تتوضأ" وهو سهو.

ص: 186

أسألك وأتوَجَّهُ إليكَ بِنَبِيِّكَ محمدٍ نبيِّ الرحمةِ، يا محمدُ يا نبيّ اللهِ إنِّي أتوجَّهُ بِكَ إلى رَبِّكّ في حاجَتيِ لِتَقْضِيَها، اللهم فَشَفِّعْهُ فِيَّ"

(1)

فدعا الله، فردَّ عليه بصَرَه.

والجواب عن هذا أن يُقال:

أولًا: لا ريب أنَّ الله تعالى جعل على نفسه حقًّا لعباده المؤمنين، كما قال:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [الروم: 47]، {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]. وفي "الصحيحين"

(2)

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جَبَل -وهو رديفه-: "يا معاذُ أتَدْرِي ما حقُّ الله على عباده"؟ قلتُ: اللهُ ورسولهُ أعلم. قال: "حَقُّهُ عليهم أنْ يَعْبُدوه ولا يُشْرِكوا بهِ شَيْئًا، أتَدْرِي ما حَقُّ العِبادِ على اللهِ إذا فَعَلوا ذَلِكَ؟ " قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلم. قال: "حَقُّهَم عليه أنْ لا يُعَذِّبَهُم". فهذا حقٌّ وجبَ بكلماته التامة ووعده الصادق.

واتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعده الصادق، وتنازعوا: هل يوجب بنفسه على نفسه؟ على قولين.

وأما الإيجاب عليه بالقياس على خلقِه، فهذا قول القدريَّة، وهو

(1)

أخرجه أحمد: (28/ 478 رقم 17240)، والترمذي رقم (3578)، والنسائي في "الكبرى": رقم (10495)، وابن ماجه رقم (1385) من حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه.

قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وصححه الحاكم وابن خزيمة وغيرهم.

(2)

أخرجه البخاري رقم (5967)، ومسلم رقم (30) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.

ص: 187

قولٌ مُبْتَدَع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول، وأهل السنة متفقون على أنه خالق كل شيءٍ وربّه ومليكه، وأنه ما شاءَ كانَ وما لم يشأ لم يكن، وأن العبادَ لا يوجبون عليه شيئًا، بل كتبَ على نفسهِ الرحمة، وحرَّم على نفسِه الظلم، لا أن العبدَ يستحقُّ على الله شيئًا، كما يكون للمخلوق على المخلوق، بل الله هو المنعِمُ المتفضِّل على العباد بكلِّ خير، هو الخالق لهم، والمرسِل إليهم، والميسِّر لهم الإيمانَ والعملَ الصالح.

وإذا كان كذلك، لم تكن الوسيلة إلا بما منَّ به من فعله وإحسانه، والحقُّ الذي لعباده هو من فضله، ليس من بابِ المعاوضة، ولا من باب ما أوجبه غيرُه عليه.

وإذا سئُل بما جعله هو سببًا للمطلوب، من الأعمال الصالحة التي وعَدَ أصحابها بكرامته، ومن أدعية عباده الصالحين، وشفاعة ذوي الوجاهةِ عنَده؛ فهذا سؤال وتسبُّب بما جعلَه هو سببًا.

وأما إذا سُئل بشيءٍ ليس سببًا للمطلوب؛ فإما أن يكون إقسامًا عليه به، فلا يُقْسَم على الله بمخلوق، وإما أن يكون سؤالًا بما لا يقتضي المطلوب، فيكون عديم الفائدة، فالأنبياء والمؤمنون لهم حقٌّ على الله بوعده الصادق أن يُنَعِّمهم ولا يُعذِّبهم، وهم وُجَهاء عنده يقبل شفاعتهم ودعاءهم ما لا يقبله لغيرهم.

فإذا قال الداعي: "أسألك بحقِّ فلانٍ"، وفلانٌ لم يُدْعُ له، وهو لم يسأله باتباعِهِ لذلكَ الشخصِ ومحبتِه وطاعتِه، بل بنفس ذاتِه وما جعله له ربُّه من الكرامة = لم يكن قد سأله بسببٍ يوجبُ المطلوبَ.

ص: 188

وحينئذٍ فيقال: أما التوسل والتوجه إلى الله، وسؤاله بالأعمال الصالحة التي أَمر بها، كدعاء الثلاثة الذين أووا إلى الغار، وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم، فهذا مما لا نزاع فيه، بل هو من الوسيلة التي أمر بها في قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]، {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57]، فإنَّ ابتغاء الوسيلةِ هو طلب ما يُتَوَسَّل به، أي: يُتَوَصَّل ويُتَقَرَّب به، سواء كان على وجه العبادة، أو كان على وجه السؤال له والاستعاذة بها، رغبةً إليه في جَلْب المنافعِ ودَفْع المضارِّ.

ولفظُ الدعاء في القرآن يتناول هذا وهذا، كما قال:{فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، فأمر بالاستجابة له والإيمان به، قال بعضهم

(1)

: "فليستجيبوا لي إذا دعوتُهم، وليؤمنوا بي أني أُجيبُ دعوتَهم"، وبهذين الشيئين تحصل إجابة الدعوة؛ بكمال الطاعة لأُلوهيَّته، وبصحة الإيمان بربوبيته، فمن استجاب لربِّه؛ بامتثال أمره، واجتناب نهيه = حصلَ مقصودُه من الدعاء، فمن دعا موقنًا أنه يُجيب دعوة الداعي إذا دعاه أجابَه، ولو كان مشركًا فاسقًا، كما قال:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) } [الإسراء: 67].

لكن هولاء الذين يُستجاب لهم لإقرارهم بربوبيَّتِه، وأنه يُجيب دعاءَ المضطر، إذا لم يكونوا مخلصين له الدين في عبادته، ولا مطيعين له ولرسله، كان ما يعطيهم بدعائهم متاعًا في الحياة الدنيا، وما لهم في الآخرة من خَلَاق.

(1)

انظر "تفسير الطبري": (2/ 166)، و "الدر المنثور":(1/ 356).

ص: 189

وقد ذُكِرَ أن بعض النصارى حاصروا المسلمين فنفدَ ماؤُهم، فاستسقوا من المسلمين وقالوا: ننصرف عنكم، فلم يُسْقوهم، فرفعوا أيديهم وسألوا الله؛ فأمطرت عليهم، فكاد بعض المسلمين أن يَفْتَيِن، فقام فيهم رجلٌ من المسلمين وقال:"اللهم إنَّك تكفَّلت برزق كلِّ دابِّةٍ، وقد أجبتَ دعاءَ هولاء الكفار، لأنهم مضطرون لا لأنك تحبهم فنريد أن ترينا بهم آيةً تُثبِّت الإيمانَ في قلوب عبادك"، فأرسلَ اللهُ عليهم ريحًا فأهلكتهم، أو نحو ذلك.

ومن هذا: من يدعو دعاءً يعتدي فيه، فيُجاب، فما كلُّ من دعا فأُجِيْب يكون ذلك دليلًا على أن عملَه صالح، بل ذلك بمنزلة من يمدهم بالمال والبنين، فلا يُظَنُّ أنه يُسارع لهم في الخيرات، بل لا يشعرون، قال تعالى:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)} [آل عمران: 178].

والمقصود: أن دعاء الله قد يكون دعاء عبادةٍ يُثاب العبدُ عليه في الآخرة، وقد يكون دعاء مسألة تُقضي به حاجته، ثم قد يُثاب وقد لا تحصل له إلا تلك الحاجة، وقد تكون سببًا لضرر دينه.

فالوسيلة التي أمر اللهُ بها تعُمُّ الوسيلة في عبادته وفي مسألتهِ، فالتوسل بالأعمال الصالحة وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم ليس من باب الإقسام بمخلوق.

وكذلك استشفاع الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، كما كانوا في الدنيا يطلبون منه أن يدعو لهم.

* وقول عمر: "اللهمَّ إنَّا كنا نتوسَّلُ إليكَ بنبيِّنا فتسقينا وإنَّا نتوسُّل

ص: 190

إليك بعمِّ نبيِّنا"

(1)

، معناه: نتوسل بدعائه وشفاعته وسؤاله، ونحنُ نتوسُّل إليك بدعاء عمِّه وسؤاله وشفاعته، ليس المراد: أنَّا نُقْسِم عليك به، أو ما يجري هذا المجرى مما يُفْعَل بعد موته وفي مغيبه، كما يقول بعضُ الناس: أسألك بجاه فلان عندك؛ لأنه لو كان كذلك لكان توسُّلهم به أولى من عمِّه ولم يعدلوا إلى العباس، مع علمهم أن السؤال به أعظم من العباس، فَعُلِم أن التوسُّل هو ما يُفْعَل بالأحياء دون الأموات، وهو التوسُّل بدعائهم وشفاعتهم.

* وكذلك حديث الأعمى الذي علمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يسأل الله قبول شفاعة نبيِّه فيه، فيدل على أن النبيَّ شَفَعَ وسألَ، فعلَّمه أن يسأل اللهَ قبول شفاعته، ولهذا قال: اللهم فَشَفِّعْه فيَّ.

فلفظُ التوسُّل فيه إجمال، غَلِطَ فيه من لم يفهم مقصود الصحابة.

يراد به: التسبُّب به لكونه داعيًا وشافعًا، أو لكون الداعي مُحِبًّا له مطيعًا لأمره مقتديًا به، فيكون التسبُّب إما لمحبة السائل له واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته.

ويراد به: الإقسام به والتوسل بذاته، لمجرد الإقسام به على الله.

فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونَهَوا عنه، وكذلك لفظ السؤال قد يُراد به المعنى الأول، وقد يُراد الثاني، ومن الأول: حديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار فدعوا الله بصالح الأعمال

(2)

؛ إذ هي أعظم ما

(1)

تقدم هو وحديث الأعمى بعده في ص / 187.

(2)

أخرجه البخاري رقم (2215)، ومسلم رقم (2743) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 191

يتوسَّل به العبد إلى الله؛ لأنه وعد أنه يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله، فهولاء دعوه بعبادته وفِعْل ما أَمَر به.

ومن هذا ما يُذكر عن الفُضَيْل أنه أصابَه عُسْر البول، فقال:"بحبِّي لك إلَّا ما فرَّجت عني"، ففرَّج عنه

(1)

. وكذلك دعاء المرأة المهاجرة التي أحيا الله ابنها لما قالت: "اللهمَّ إني آمنتُ بكَ وبرسولكَ وهاجرتُ في سبيلك"، وسألَتِ الله أن يُحيي ولدِها

(2)

.

فسؤال الله والتوسل إليه: بامتثال أمره، واجتناب نهيه، وفِعْل ما يحبه، والعبودية والطاعة له هو من جِنْس فِعْل ذلك رجاءً لرحمةِ الله، وخوفًا من عذابه، وسؤاله بأسمائه وصفاته، كقوله:"أسألُك بأنَّ لكَ الحمدَ أنتَ الله المنانُ أنت اللهُ الأحد الصَّمَدُ"

(3)

ونحو ذلك يكون من باب التسبُّب، فإنه كونه المحمود المنان الصمد يقتضي منَّته على عباده وإحسانَه الذي نحمده عليه، وتوحيدَه في صمديته، فيكون هو السيد المقصود الذي يَصْمُد إليه الناس في حوائجهم، وكل ما سواه مفتقِر إليه، وقد يتضمَّن ذلك معنى الإقسام عليه بأسمائه.

* وأما قوله: "أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا"؛ ففيه ضَعْف

(4)

؛ لكن بتقدير ثبوته هو من هذا الباب، فإن حقَّ السائلين أن يُجِيبهم، وحق المطيعين أن يُثِيبهم، فالسؤال لهم والطاعة، سببٌ لحصول إثابته وإجابته، ولو قُدِّر أنه قَسَمٌ، لكان قَسَمًا بما هو من

(1)

أخرجه أبو نعيم في "الحلية": (8/ 109).

(2)

أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب "من عاش بعد الموت": (ص / 11 - 12).

(3)

تقدم ص/ 185.

(4)

تقدم ما فيه من الضعف ص / 186.

ص: 192

صفاته؛ لأن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله، فصار هذا كقوله: "أعوذُ بِرِضَاكَ من سَخَطِكَ وبِمُعَافَاتِكَ من عُقُوْبِتَك

"

(1)

الحديث.

فالاستعاذة لا تصح بمخلوق، كما نصَّ عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة، وذلك مما استدلوا به على أن كلامَ الله غير مخلوق، كقوله:"أَعُوْذُ بكلماتِ اللهِ التَّامَّاتِ"

(2)

.

* وأما قول الناس: "أسألك بالله والرحم"، وقراءة من قرأ:{تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} بالكسر؛ فهو من باب التسَبُّب بها، فإن الرحم توجب الصلة، فسؤال السائل بها توسُّل بما يوجب صلته من القرابة التي بينهما، ليس من باب الإقسام، ولا من باب التوسُّل بما لا يقتضي المطلوب، [بل هو توسُّل بما يقتضي المطلوب]

(3)

كالتوسُّل بدعاء الأنبياء.

فالتوسُّل بالأنبياء والصالحين يكون بأمرين؛ إما طاعتهم واتباعهم، وإما دعاؤهم وشفاعتهم، فمجرَّدُ [دعائه بهم]

(4)

من غير طاعةٍ منه لهم، ولا شفاعةٍ منهم له؛ فلا تنفعه وإن عَظُم جاهُ أحدهم عند الله. فلا بد من ذلك؛ إما من سؤال المسؤول به، وإما التسبُّب بمحبَّته واتباعه خالصًا لله تعالى، لا لهوى ولا لحظِّ نفسٍ، بل لله وحدَه لا شريك له

(5)

.

* * *

(1)

أخرجه مسلم رقم (486) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

أخرجه مسلم رقم (2708) من حديث خولة بنت حكيم رضي الله عنها.

(3)

زيادة لازمة يستقيم بها السياق.

(4)

في "الأصل": "ذاتهم"، والإصلاح من "الاقتضاء".

(5)

من قوله: "فلا بد

" إلى هنا الحق في حاشية الأصل، وليس هو في أصله.

ص: 193

فصلٌ

(1)

ولا يُشرع شدُّ الرَّحل إلى غير المساجد الثلاثة، للأحاديث الصحيحة في ذلك، ولو نَذَر الإنسانُ إتيان مسجد غيرها، لم يجب عليه فعلُه باتفاق الأئمة، وليس بالمدينة مسجد يُشرع إتيانه إلا مسجد قُباء، وسائر المساجد لها حكم المساجد.

وفي "المسند"

(2)

عن جابر بن عبد الله أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا في مسجد الفتح ثلاثًا، يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء، فاستُجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين، فعُرِفَ البِشرُ في وجهه. قال جابر: فلم ينزل بي أمرٌ مُهِم إلا توخَّيتُ تلك الساعة فأعْرِفُ الإجابةَ. في إسناده كثير بن زيد، فيه كلام

(3)

.

وهذا الحديث يعمل به

(4)

طائفة من أصحابنا وغيرهم، يتحرَّون الدعاء في هذا، كما نُقِل عن جابر، [ولم يُنْقَل عنه]

(5)

أنه تحرَّى الدعاءَ في المكان، بل في الزمان. فإذا كان هذا في المساجد التي صلى فيها رسول الله وبُنيت بإذنه، ليس فيها ما يُشرع قصده بخصوصيَّته من غير سفر إليه إلا مسجد قباء، فكيف بما سواها!؟

ولما فتح عمرُ بيتَ المقدس وجد النصارى قد ألْقت على الصخرة

(1)

"فصل" ليس في "الاقتضاء": (2/ 339).

(2)

(22/ 425 رقم 14563).

(3)

وفي سنده أيضًا: عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب، مجهول.

(4)

في "الأصل": "فيه"!

(5)

زيادة لازمة يستقيم بها المعنى.

ص: 194

زُبَالةً عظيمة عنادًا لليهود، فأزالها ونظُّفها، وقال لكعب الأحبار:"أين ترى أن أبني مصلَّى المسلمين"؟ فقال: ابْنِهِ خلف الصخرة، فقال: "يا ابن اليهودية

(1)

خالطتك اليهودية، بل أبْنِيه في صدر المسجد

(2)

، فإن لنا صدور المساجد" فبناه في قِبْلي المسجد

(3)

.

وهو الذي يُسمِّيه كثير من العامة اليوم "الأقصى". والأقصى اسم للمسجد كلِّه، ولا يُسمَّى هو ولا غيره حرمًا إنما الحرم بمكة والمدينة خاصَّة.

وفي "وادي وَجٍّ" الذي بالطائف نزاع

(4)

.

وذكر طائفة من المتأخرين أن اليمين تغلظ عن الصخرة، وليس هذا من كلام أحمد ولا غيره من الأئمة، فليس له أصل، بل تَغلُظ هناك عند المنبر كما في سائر المساجد.

وقد صنَّف طائفة من الناس مصنَّفات في فضائل بيت المقدس وغيره من البِقاع التي بالشام، وذكروا فيها من الآثار عن أهل الكتاب ما لا يحلُّ للمسلمين أن يبنوا عليه دينهم.

ومن العجب كيف يُحدِّث كعبُ الأحبار [عن] بعض الأنبياء الذي بينه وبينه أكثر من ألف سنة ولم يُسْنِده، وغايته أن ينقله عن بعض كتب اليهود، الذي أخبر الله أنهم قد بدَّلوا، فكيف يُصدَّق شيءٌ من ذلك

(1)

في الأصل: "اليهود" سهو.

(2)

وقع في "الأصل": "بل أبنه في صدر المساجد"!.

(3)

انظر "البداية والنهاية": (9/ 655 - 656).

(4)

انظر "منسك شيخ الإسلام": (ص/ 49) وهو عند الشافعية حرم.

ص: 195

بمجرد هذا النقل، بل الواجب أَلَّا يُصَدِّق ولا يُكذِّب إلا بدليل، كما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم.

ومعلوم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان قد فتحوا البلادَ بعد موته صلى الله عليه وسلم وسكنوا الشامَ والعراقَ ومصرَ وغيرَها، وهم أعلم بالدين وأتْبَع له، فليس لأحدٍ أن يخالفهم فيما كانوا عليه.

فما كان من هذه البقاع لم يُعَظِّموه أو لم يقصدوا تخصيصه بصلاةٍ أو دعاء أو نحو ذلك لم يكن لنا أن نخالفهم في ذلك، ونقول: إن من جاء بعدهم من أهل الفضل والدين فعل ذلك؛ لأن اتباع سبيل الأولين أولى ممن بعدهم، وما أحدٌ نُقِل عنه ما يخالف سبيلهم إلا وقد نُقِل عن غيره ممن هو أعلم منه وأفضل أنه خالف سبيل هذا المخالف، وهذه جملة جامعة لا يتَّسع هذا الموضع لتفصيلها.

فصلٌ

(1)

وأصل دين المسلمين: أنه لا تختصّ بقعةٌ بقصد العبادة فيها إلا المساجد خاصة. وما عليه المشركون وأهل الكتاب من تعظيم بقاعٍ للعبادة غير المساجد، -كما كانوا في الجاهلية يُعظِّمون حراء ونحوه من البقاع- هو ما جاء الإسلامُ بمحوه وإزالته ونسخه.

ثم المساجد جميعُها تشتركُ في العبادات، إلا ما خُصَّ به المسجد الحرام من الطواف ونحوه.

(1)

"الاقتضاء": (2/ 354).

ص: 196