الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإذا عرف طالب العلم بالتلقي صحة النطق في قوله {فسقى} حتى يكون من السقى لا من الفقس، وفي قوله {وساء لهم} حتى يكون من السوء لا من المساءلة، إذا عرف الطالب المبتدئ ذلك لم يحتج في فهم النبر إلى هذا المثال الذي وضعوه، وهو (ذاكر الدرس) لأمر المخاطب المفرد، (ذاكرى الدرس) لأمر المخاطبة المفردة، فمثل هذا المثال ينبغي أن يظل في دائرة التوضيح والتقريب. أما القاعدة فواجب أن تستند إلى النص العالي الموثق الذي لا يرد ولا يدفع.
على أن هذا (النبر) إنما تحتاج إليه بعض اللغات الأجنبية، لأنه عندهم ذو خطر، وتختلف به المعاني اختلافاً ظاهراً - وليس هذا المكان موضع تفصيله - أما في لساننا العربي، فالأداء الصحيح قد انتقل إلينا بالتلقي المضبوط المتواتر، الذي لا يضل ولا يزيغ (1) ، وقد حمله قراء القرآن الكريم بأمانة والتزام، فمن أراده فليلتمسه عندهم لا عند غيرهم.
ثم ترتفع الشكوى في هذه الأيام عن محنة اللغة العربية، وغربتها، وتدني مستواها، على ألسنة الخطباء، وكتابات الكتاب، وأخذ الباكون في النحيب والعويل على أيامنا التي سلفت، وذهب الشاكون في تعليل ذلك كل مذهب وردوا الأمر رداً غير صحيح.
و
أصل الداء
عند سبب واحد: ماذا يتلقى طالب العربية الآن في كليات اللغة العربية وأقسامها بالجامعات؟ أمشاج من قواعد النحو
(1) وما خرج عن هذا الأداء الصحيح، فهو من باب الخطأ الصريح الذي يرفض ولا يوقف عنده بتقنين أو تقعيد، كالذي يلحن في كلامه، أو يقرأ شعراً أو يكتبه غير موزون.
والصرف، مطروحة في مذكرات يمليها الأساتذة إملاء، أو يطبعونها طبعات مبتسرة، تنقص عاماً وتزيد عاماً، واختفى الكتاب القديم لتحل محله هذه المذكرات (1) ، ودفع الطلاب دفعاً إلى الملل من قراءة الكتب - والملل من كواذب الأخلاق، كما قال عمرو بن العاص، رضي الله عنه ولا بد لصلاح الحال من أن تكوى هذه القروح الممدة (2) ، وأن يستأصل هذا الداء الخبيث من قاعات الدرس الجامعي.
عودوا أيها السادة إلى المتون، عودوا إلى الآجرومية، وترقوا منها إلى ابن عقيل، وهو كتاب سهل رهو، علم أجيالاً، وأقام ألسنة، ولا تحتجوا علينا بالتيسير على الطلاب، ففي تراثنا النحوي كتب ذوات عدد، وضعت للناشئة والمبتدئين.
نعم، عودوا إلى الكتب الأولى، وضعوا الأستاذ الجامعي في حق وظيفته: وهي أن يخوض بالطلاب الجج هذه الكتب، وأن يسلك معهم دروبها، وأنقذوا الطلاب من ذلك البلاء المصبوب، والسم المدوف؛ إن بعض أساتذة النحو يكتبون في فلسفة النحو كلاماً غريباً لا تعرف له أعلى من أسفل (3) ، كلاماً هو أشبه بتخاريف الشعر الحر، وكلام نقاده، كالذي وصفه أبو العلاء:
وما لأقوالهم إذا كشفت
…
حقائق بل جميعها شبه
(1) لست أمل من ذكر هذا والكشف عنه. راجع كتاب: مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي ص8.
(2)
هذه الجملة من كلام شيخنا محمود محمد شاكر، العالي، وبيانه الرفيع.
(3)
كالذي قاله ذلك الأعرابي وقد حضر مجلس الأخفش ولم يفهم مما سمع شيئاً، فقال:"أراكم تتكلمون بكلامنا في كلامنا بما ليس من كلامنا" الامتاع والمؤانسة 2/139.
وكلام هؤلاء الذين يكتبون في فلسفة النحو - على ضعفه وتهافته وثقله - يحمل في أثنائه شكوكا كثيرة، وسخرية باردة بأعلام النحو. وكل هذا من البلاء الذي يفرض على أبنائنا، ويطالبون باستظهاره واستحضاره. وإلى الله المشتكى!
فماذا تطلب من ناشئ غض، تمرغ في هذه الأوحال، وسقى ماء حميما، ثم تكون عقله ووجدانه على هذه الموائد التي ملئت بصحاف مسمومة؟ .
جاءني ذات يوم طالب يعد رسالة "دكتوراه" وسألني متعجباً: كيف لا يذكر ابن منظور في "لسان العرب" شيئاً عن معنى كلمة (التراث) ؟ فقلت له: وكيف كان ذلك؟ قال: هو على ما وصفت لك، لقد بحثت عن مادة (ترث) في فصل التاء من كتاب الثاء، فلم أجد لها ذكرا. فقلت له: ابحث في مادة (ورث) ، وستجد بغيتك؛ لأن هذه التاء التي تراها، مبدلة من الواو، مثل (تجاه) من (وجه) ، و (تقاة) من (وقى) . ففغر فاه دهشاً وتحيراً.
ولو ذهبت أذكر أمثلة من ذلك لأتيت بكل عجيبة.
وإن تراثنا بفنونه المختلفة قد غيب عن أبناءنا بظلمات بعضها فوق بعض من تراث الأعاجم. وحين بلغ الضعف منهم مبلغه أنحينا عليهم باللأئمة، ووسمناهم بالقصور. وحق لهم أن يقولوا قولة عمرو بن معد يكرب الزبيدي:
فلو أن قومي انطقتني رماحهم
…
نطقت ولكن الرماح أجرت (1) .
(1) يقال: أجرت الفصيل: إذا شققت لسانه لئلا يرضع أمه.
وعوداً على بدء؛ فقد رغب إلى كثير من الطلبة، وكثير أيضاً من كرام أساتذة العلم أن أكتب شيئاً عن مراجع تراجم الرجال والبلدان، وكتب الضبط، ومراجع الكتب والمصنفات، وتعريفات العلوم ومصطلحاتها، وأن أضع ذلك بين أيديهم، تذكرة مختصرة، ودليلاً مسعفاً. فأجبتهم إلى ذلك؛ طالباً للثواب، راغبا إلى الله عز وجل أن ينفع به، مع ما أعرفه في نفسي من ضعف المنة (1) ، وقلة الزاد، فنحن نلقى الناس بعلم " مسترضع بثدي من العجز وثدي من التقصير" كما يقول شيخنا محمود محمد شاكر (2) . وصدق من قال (3) ::
خلت الديار فسدت غير مسود
…
ومن البلاء تفردى بالسؤدد
وإني لأقول هذا من باب الحقيقة الصادقة، لا من باب التواضع الكاذب، فليس كالزهو والكبر حجازاً بين المرء وبين أن يستفيد علما. وإن من آفات المنتسبين إلى العلم في هذا الزمان: التطاول والتعالي، وترى أحدهم يمشى بين الناس، شامخاً بأنفه، زاماً شفتيه، منتفخاً قد شرقت عروقه ولحمه بدم كذب، هو دم الكبر والعجب، حتى كاد يتفقا. فإذا جاءت الحقائق لم تجد شيئاً؛ إلا شيئاً لا يعبأ به.
فضعف العلم بضعف أهله. " فإن فساد كل صناعة من كثرة
(1) المنة، بضم الميم وتشديد النون: القوة. يقال: هو ضعيف المنة، ومنة السير: أضعفه وأعياه. ورجل منين: أي ضعيف، كأن الدهر منه، أي ذهب بمنته.
(2)
مقدمة تحقيق تهذيب الآثار - لأبي جعفر الطبري - ص15، وشيخنا، حفظه الله، في هذا الكلام العالي الشريف، يصف حاله هو، على جلالة قدره، وعظيم خطره!
(3)
هو حارثة بن بدر الغداني، التابعي، رضي الله عنه.
الأدعيا، وقلة الصرحاء" كما قال أبو سليمان الخطابي (1) . وروى، رحمه الله، عن إسماعيل بن محمد الصفار، سمعت العباس بن محمد الدوري، يقول: "أردت الخروج إلى البصرة، فصرت إلى أحمد بن حنبل، وسألته الكتاب إلى مشايخها، فكلما فرغ من كتاب قرأته، فإذا فيه:"وهذا فتى ممن يطلب الحديث"، ولم يكتب:"من أصحاب الحديث".
وهذا الدوري الذي استكثر عليه الإمام أحمد، رضي الله عنه، أن يكون من أصحاب الحديث، يصفه الحافظ الذهبي بأنه "الإمام الحافظ الثقة الناقد (2) "، ويحكى عن الأصم، قوله فيه:"لم أر في مشايخى أحسن حديثنا منه". ثم روى هذا الخبر، برواية أخرى، عن إسماعيل الصفار أيضاً، عن الدوري، قال:"كتب لي يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، إلى أبي داود الطيالسي، كتاباً، فقالا فيه: "إن هذا فتى يطلب الحديث"، وما قالا: "من أهل الحديث".
ثم عقب الذهبي، فقال:"قلت: كان مبتدئا، له سبع عشرة سنة، ثم إنه صار صاحب حديث، ثم صار من حفاظ وقته ".
ومهما يكن من أمر تفسير الذهبي، فإنه تبقى للقصة دلالتها على ما ينبغي أن يكون عليه أهل العلم، من تطامن وانكسار، وهضم للنفس. وآية ذلك تعقيب الدوري نفسه، وسياقه الخبر عند الخطابي.
(1)
…
(2)
…
وكنت أود أن أقف وقفة طويلة مع هذه المراجع؛ أكشف عن مناهجها، وأدل على طرائقها، لكني تركت ذلك - مع قدرتي عليه، امتلاكي لأسبابه، بفضل الله وعونه وتوفيقه- لأني أردت لهذا الدليل أن يكون خفيف المحمل، قريب المورد، سهل الاستيعاب؛ ولأن كثيراً من طلبة العلم لم تعد لديهم القدرة على قراءة المطولات، والصبر عليها؛ للذي عرفته من كثرة الصوارف والحواجز، في هذه الأيام. وهذا بلاء قد عم وساد، وكاد يستوى فيه العالم والمتعلم على السواء. وقد قالوا وأحسنوا: مالا يدرك لا يترك كله.
على أن طالب العلم مدعو لأن يقرأ مقدمات الكتب وخواتيمها؛ ليقف بنفسه على منهج الكتاب، وموضعه من كتب الفن الذي يعالجه، وأسلوب التعامل معه، والرجوع إليه.
وطالب العلم مدعوا أيضاً إلى أن يدرك العلائق بين الكتب: تأثرا وتأثيراً، ونقداً واختصاراً وتذييلا.
وليعم أبناؤنا الطلبة أن كثيراً من أبواب العلم إنما يحصل بالجهد الشخصي الدءوب، وأن وظيفة المعلم إنما تقف عند حدود تعبيد الطرق، ووضع العلامات والصوى (1) .
ونعم، كان واجباً على المعلم أن يأخذ بيد الطلاب، إلى هذه الكتب، ويضيء لهم سبلها، ويكشف لهم عن أغوارها، وهكذا كان في أيامنا التي سلفت - ولكن مناهج الدرس في جامعاتنا العربية، لا تسمح بذلك، ولا تعين عليه، كما سبق.
(1) الصوى، بضم الصاد، والقصر: جمع صوة، بالضم والتشديد، وهي حجر، يكون علامة في الطريق.
وثالثة: واجب على طالب العلم أن يعرف فرق ما بين الطبعات (1) ، فإن كثيراً من كتب التراث قد طبع مرتين أو أكثر، وتتفاوت هذه الطبعات فيما بينها؛ كمالاً ونقصاً، وصحة وسقما، ولا بد أن يكون رجوع الطالب إلى الطبعة المستوفية لشرائط الصحة والقبول، وهذه الشرائط ظاهرة لائحة لمن يتأملها، وتتمثل في التقديم للكتاب، وبيان وزنه العلمي، وفهرسته فهرسة فنية، تكشف عن كنوزه وخباياه، والعناية بضبطه الضبط الصحيح، والتعليق عليه بما يضيئه، ويربطه بما قبله وبما بعده، في غير سرف ولا شطط، ثم في الإخراج الطباعي، المتمثل في وجود الورق، ونصاعة الحرف الطباعي.
وقد حظى تراثنا - ولله الحمد والمنة - منذ ظهور المطبعة في القرن الخامس عشر الميلادي، إلى يوم الناس هذا، بعلماء كبار، في الشرق والغرب، توفروا على إخراجه الإخراج العلمي الصحيح، وطابعين مهرة، أظهروه في حلل زاهية، لكنه ظهر إلى جانب هؤلاء، ناشرون متساهلون، وطابعون متعجلون، أرادوا ثراء المال من أيسر سبيل. فأعرف أيها الطالب وأنكر، وأقبل وأعرض، على ما وصفت لك، تستقم دراستك، وتمض إلى ما تريد لها من كمال وإتقان.
* * *
وأحب أن يكون واضحاً، أنني اكتفيت بذكر أهم وأبرز كتب التراجم، وأضربت عما هو دونها في الشهرة، مدركاً لقيمة هذا الذي تركت وجدواه، فعلت ذلك تخفيفاًَ وتيسيراً على الناشئة والشداة من طلبة
(1) انظر كتابى، مدخل إلى تاريخ نشر التراث ص7.
العلم. وعلى سبيل المثال، فقد اكتفيت في تراجم اللغويين والنحاة بثلاثة مراجع، وسكت عن أخبار النحويين البصريين، للسرافى، وطبقات النحويين واللغويين، لأبي بكر الزبيدي، ومراتب النحويين، لأبي الطيب اللغوي. وفي طبقات الصحابة والتابعين، تركت تهذيب الأسماء واللغات للنووي. وفي طبقات الفقهاء، تركت تاج التراجم، في طبقات الحنفية، لابن قطلوبغا، وفي طبقات الشافعية، تركت طبقات أبي عاصم العبادي، طبقات الفقهاء (1) ، لأبي إسحاق الشيرازي، وطبقات المصنف، المعروفة بطبقات أبي هداية الله، وتبيين كذب المفترى، للحافظ ابن عساكر. وفي طبقات الحنابلة، لم أثبت المنهج الأحمد، للعليمي، لأنه لم يطبع منه سوى جزءين. وفي كتب تراجم الأندلسيين والمغاربة، تركت العدد الوفير - وكان حبيباً إلى أن أذكره - لندرته في أسواق المشرق العربي (2) . وفي مراجع التراجم العامة، سكت أيضاً عن كتب ذوات عدد، للتخفيف والاختصار؛ ولأن فيما ذكرت مقنعاً وبلاغاً، إن شاء الله.
* * *
وأحب أيضاً قبل أن أدع مقامي هذا أن أنبه إلى حقيقتين جديرتين بالاهتمام:
(1) وفيه تراجم لغير الشافعية من الفقهاء.
(2)
وهذه قضية أخرى، وقد عالجتها في بعض ما كتبت.