الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحقيقة الأولى: "أنه لا يغني كتاب عن كتاب
". فقد شاع في كتابات بعض الدارسين المحدثين، أن كتب التراث ذات الموضوع الواحد، تتشابه فيما بينها، وأن غاية اللاحق أن يدخل على ما تركه السابق، يدور حوله، ويردد مباحثه وقضاياه. ثم أفضى ذلك الزعم إلى دعوة صاخبة، تنادى بغربلة التراث وتصفيته؛ بالإبقاء على النافع المفيد، وترك ما عداه مستقرا في المتاحف كمومياء الفراعنة، يذكر بتطور الخطوط، وقواعد الرسم، وتاريخ صناعة الورق.
فإذا قلت لهذا الزاعم: ماذا نأخذ وماذا ندع؟ حار وأبلس (1) ، واعتصم بسراديب التفكير الموضوعي، ومناهج البحث العلمي، وأشباه ذلك من تلك التهاويل الفارغة من الحقيقة. فإذا اضطررته أضيق الطرق، وأخذته إلى فن واحد من فنون التراث، ونثرت أمامه مصنفات ذلك الفن، ثم طلبت إليه أن يختار ما يستحق أن يبقى عليه، وما هو جدير بأ، ينحى، شغب ونازع؛ لأنه لا يملك أدوات الحكم على هذا الموروث؛ لبعده عنده، وخفائه عليه، ولم يجد بدا من العودة كرة أخرى إلى التكفير الموضوعي، والبحث العلمي، يسلبهما منك، ملقياً بك في ردغة (2) الحبال، وظلمات الجهل، وبيداء التخلف.
(1) أبلس: أي سكت من الحزن أو الخوف. والإبلاس: الحيرة. ومنه قوله تعالى: {فإذاهم مبلسون} الأنعام 44، ومنه سمى إبليس؛ لأنه أبلس عن رحمة الله: أي يئس منها وتحير.
(2)
الردغة: بسكون الدال وفتحها: طين ووحل كثير. وفي الحديث: "من قال في مؤمن ما ليس فيه حسبه الله في ردغة الخبال" وجاء تفسيرها في الحديث: "أنها عصارة أهل النار" النهاية 2/215.
وقد يسايرك بعضهم، آخذاً بالنصفة والبراءة، قائلاً: نقف عند القرون الخمسة الأولى؛ لأنها قرون الإبداع والخلق (1) . فقال له: إن الخالفين من القرون اللاحقة قد أضافوا إلى ميراث تلك القرون السابقة إضافات صالحة، كشفت عن خبيئة، بل إنهم قد استخرجوا من علم الأوائل علماً آخر، مصبوغاً بصبغتهم، موسوماً بسمتهم، ملبياً حاجات عصرهم، مفجرا طاقات عظيمة من هذا العقل العربي، الذي ما فتىء يغلي ويموج، كالبحر الهادر (2) .
(1) هكذا يستعملون تلك الكلمة، مرادفة لمعنى الإنتاج الفكري الذي لم يسبق إليه صاحبه، وهم يعتزون كثيراً بتلك الكلمة، ويشتقون منها صيغة مبالغة، فيقولون:"جهد خلاق" وهي كلمات غثه باردة، إذا استعملت في مجال أعمال البشر. ولكن هكذا قدر الله وقضى، أن نتجرع هذه الغصص، في الصحيفة المقروءة، والكلمة المسموعة، والقصة المحكية! ولا يحتجن أحدّ علينا بأن الاشتقاق اللغوي لا يأبى ذلك، فإن لهذا كلاماً آخر.
(2)
يقول الدكتور محمد أبو موسى: "ونقلت هنا إلى شيء مهم، وهو أن اجتهاد أهل الاجتهاد من أئمتنا الكلمة رضوان الله عليهم، لم يكن اجتهاداً في استخراج مسألة من مسألة، أو في استخراج باب من باب، وإن كان ذلك نفيساً وهو علينا عزيز، وإنما كان يكون اجتهادا في استخراج علم من علم
…
" ثم يقول عن الشيخ عبد القاهر: "تأمل بحث القصر الذي أسسه على محاوره ذكية مع نص نقله=
وعلى سبيل المثال، فإن القرن الثامن - وهو في تقديرك ورأيك مما ينبغي أن ينبذ ويطرح - قد شهد أعلاماً شوامخ، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، ومؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي، ومجتهد عصره تقي الدين السبكي، وولده المؤرخ تاج الدين، والحافظ أبي الحجاج المزى، وختنه (1) الحافظ المفسر المؤرخ عماد الدين بن كثير، والحافظ الكبير علم الدين البرزالي، والأديب المؤرخ صلاح الدين الصفدي، واللغوي الجامع ابن منظور، وإمامى النحو: أبي حيان وأبي هشام.
وإن القرن لتاسع قد شهد أمير المؤمنين في الحديث، الحافظ ابن حجر العسقلاني، وشيخ الإقراء في زمانه شمس الدين بن الجزرى، وعالم الاجتماع الكبير ابن خلدون، والمؤرخ الجغرافي تقي الدين المقريزي.
وإن القرن العاشر قد شهد الحافظ المؤرخ الحجة شمس الدين السخاوى، والحافظ المفسر النحوي، الجامع للفنون والمعارف جلال الدين السيوطي، ولا تقل: إنه جماع، فقد حفظ لنا في تصانيفه التي بلغت نحو ستمائة مصنف (600) كثيراً مما عدت عليه عوادى الناس والأيام (2) ، من علوم الأوائل وفنونها، واستخرج من كل ذلك علماً عرف به ونسب إليه.
(1) من الشيرازيات، ومازال يستل من هذا النص خيوطا، ويستخرج من الخيوط، حتى قدم شيئاً جديداً، ليس هو كلام أبي علي، وليس مقطوعاً عنه، وإنما هو متناسل منه كما يتناسل الحي من الحي ودع عبد القاهر، وانظر إلى تجربة أبي الفتح - ابن جنى - في كتاب الخصائص، وكيف استخرج من كلام سيبويه وأبي علي وغيرهما، علماً ليس هو علم سيبويه، ولا علم الفارسي، وإنماهو علم أبي الفتح. وكما استخرج عبد القاهر من مضابئ النحو علماً آخر هو علم المعاني، استخرج أبو الفتح من هذه المضابئ نفسها علماً آخر، هو علم أصول النحو قياس العربية". القوس العذراء وقراءة التراث ص54 - 56.
() الختن، بفتحتين: كل من كان من قبل المرأة، مثل الأب والأخ، وهو أيضاً: زوج الابنة. وفي الحديث: "على ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقال الأصمعي: "الأختان من قبل المرأة، والأحماء من قبل الزوج، والصهر يجمعهما". وكان ابن كثير زوجاً لزينب ابنة الحافظ المزى.
(2)
وكذلك الحال في كثير من كتب المتأخرين التي حفظت لنا أصولاً ونصوصاً من كتب المتقدمين التي ضاعت أو خفى علينا مكانها
فإذا جئنا إلى القرن الحادي عشر - وهو عندما مما لا يلتفت إليه، ولا يعاج به؛ لأن هذا العصر في رأيك عصر انحطاط وانحدر (1) ، من حيث كانت الغلبة فيه للأتراك العثمانيين. وهم من كرام هذه الأمة الإسلامية، شئت أم أبيت (2) : رأينا علماء كبارا، منهم شهاب الدين الخفاجي، صاحب المصنفات الكبيرة: ريحانة الألبا؛ تراجم أدباء عصره، وشفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل، وشرح درة الغواص، للحريري، وطراز المجلس، ونسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض. ومن أعظم تصانيفه وأبقاها: حاشية على تفسير البيضاوي، المسماة: عناية القاضي وكفاية الراضي. في ثماني مجلدات كبار.
والعلامة عبد القادر البغدادي، صاحب "الخزانة" وهي من مفاخر التأليف العربي.
وفي القرنين الثاني عشر والثالث عشر، نلتقي بعلمين كبيرين: المرتضى الزبيدي، صاحب "تاج العروس"، و "إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين". والشوكاني، صاحب "فتح القدير"،
(1) هذا حكم انتهى إليه مؤرخو الأدب والشعر، ثم انسحب - في رأي بعضهم - على كل فروع التراث العربي.
(2)
يقول ابن العماد الحنبلي، في صفة السلطان سليم - الذي وصفوه كذباً بأنه غازى مصر - يقول ابن العماد: إنه من قوم " رفعوا عماد الإسلام، وأعلوا مناره، وتواصوا باتباع السنة المطهرة، وعرفوا للشرع الشريف مقداره " شذرات الذهب 8/143، وانظر تاريخ الأدب الجغرافي العربي، للمستشرق الروسي: كراتشكوفسكي ص451، لتعرف وزن تركيا الإسلامي في تلك الأيام.
و " ونيل الأوطار " إلى علماء الهند، الذين توفروا على السنة المطهرة، شرحاً ونشراً.
وكل هؤلاء؛ من ذكرت ولم أذكر، قد فسروا، وأضافوا، واستخرجوا.
فهل نلقى بهم جميعاً في غيابات الجبّ، ومتاحف الآثار؟ .
وهل من المقبول في موازين العقل والعدل، أن تطالب إنساناً خلف له أهله ثروة طائلة، ثم أقبل عليها، يثمرها ونميها بجهده وعرقه، حتى أضاف إليها أضعافها. هل من المقبول أن تطالبه بأن يتخلى عن هذا الذي أضافه، ويقنع بما تركه له أهله؟ .
وقد يبدو هذا التشبيه لك ساذجاً، ولكن الضرورة ألجأتنا إيه ولضرورة أحكامها.
ثم أعود مرة أخرى إلى قضية " أن كتب التراث يغني بعضها عن بعض" وقد شغلتني هذه القضية، وعشت مخدوعاً بها زماناً، حتى ظهر لي زيفها وبطلانها، بشواهد ومثل كثيرة، وبخاصة في كتب التراجم، ومصنفات اللغة. واكتفى بعرض مثال واحد من كتب اللغة:
من المعروف أن أكمل المعاجم اللغوية وأوسعها، كتابان، هما: لسان العرب، لجمال الدين أبي الفضل محمد بن مكرم بن منظور، المتوفى بمصر سنة 711هـ، وتاج العروس في شرح القاموس، لأبي الفيض محمد بن محمد بن محمد. المرتضى الزبيدي المتوفى بمصر أيضاً سنة 1205هـ.
فقد جمع ابن مظور في كتابه أصول المعاجم: الصحاح للجوهري، وحواشيه لابن برى، والتهذيب للأزهري، والمحكم لابن سيده، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير. وعول المرتضى الزبيدي على اللسان، مع ما أضافه من كتب الصاغاني: التكملة، والعباب. وكتب شيخه محمد بن الطيب محمد الفاسي المالكي، المتوفى بالمدينة المنورة سنة 1170هـ. إلى كتب أخرى صغار وكبار.
فكان النظر في هذين المعجمين الكبيرين مغنياً عن النظر فيما سواهما، للذي قيل:"كل الصيد في جوف الفرا (1) ". لكني وقعت على ما يقتضي التوقف في هذا الحكم:
وذلك ما أثاره ابن الأثير، في النهاية، حين عرض لشرح حديث:"أتاكم أهل اليمن، هم أرق قلوباً وأبخع طاعة".
قال: "أي أبلغ، وأنصح في الطاعة من غيرهم، كأنهم بالغوا في بخع أنفسهم، أي قهرها وإذلالها بالطاعة".
ثم قال: "قال الزمخشري: هو من بخع الذبيحة: إذا بالغ في ذبحها، وهو أن يقطع عظم رقبتها، ويبلغ بالذبح البخاع - بالباء - وهو العرق الذي في الصلب، والنخع، بالنون: دون ذلك، وهو أن يبلغ
(1) أصل هذا المثال أن قوماً خرجوا للصيد، فصاد أحدهم ظيباً، وآخر أرنباً، وآخر فرأ، وهو الحمار الوحشي. فافنخر الأول والثاني بما صادا، فقال الثالث: كل الصيد في جوف الفرا: أي جميع ما صدتموه يسير في جنب ما صدته. جمهورة الأمثال 2/163، وانظر شرحه برواية أخرى في فصل المقال ص11.
بالذبح النخاع، وهو الخيط الأبيض، الذي يجرى في الرقبة. هذا اصله، ثم كثر حتى أستعمل في كل مبالغة. وهكذا ذكره في كتاب الفائق في غريب الحديث وكتاب الكشاف في تفسير القرآن، ولم أجده لغيره، وطالما بحثت عنه في كتب اللغة والطب، والتشريح، فلم أجد البخاع - بالباء - مذكوراً في شيء منها" (1) .
هذا كلام ابن الأثير، والأمر على ما قال، في كتابى الزمخشري: الفائق، والكشاف، وأيضاً جاء بعضه في أساس البلاغة (2) .
قلت: هذا الذي تعقب به ابن الأثير، الزمخشري، وقد شاع في معاجم المتأخرين: ابن منظور، والفيروزابادي، والمرتضى الزبيدي. ويدل سياق هؤلاء جميعاً في كتبهم، على أن الزمشخري منفرد - دون اللغويين - بذكر "البخاع" بالباء الموحدة، حتى ليقول الزبيدي، بعد حكاية كلام ابن الأثير، والفيروزابادي:"قال شيخنا: وقد تعقب ابن الأثير قوم، بأن الزمخشري ثقة ثابت، واسع الاطلاع، فهو مقدم"(3) .
فهذا كلام دال بوضوح، على أن الزمخشري منفرد بذكر هذا القول، وأن انفراده به لا يطعن فيه؛ لأنه ثقة مأمون.
وقد وقعت على نص عالٍ موثق، يدل على أن هذه التفرقة بين "البخاع" بالباء الموحدة، و "النخاع" بالنون، تفرقة قديمة، سابقة على الزمخشري المتوفى سنة (538) . وذلك ما ذكره ابن فارس، المتوفى
(1) النهاية 1/102.
(2)
الفائق 1/82، 83، والكشاف 2/335، في تفسير الآية الثالثة من سورة الشعراء، وهي قوله تعالى:{لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} - والأساس، ترجمة (بخع) .
(3)
تاج العروس (بخع) .
سنة (395)، في كتابه معجم مقاييس اللغة:
قال رحمه الله: "قال أبو علي الأصفهاني، فيما حدثنا به أبو الفضل محمد بن العميد، عن أبي بكر الخياط، عنه، قال: قال الضبي: بخعت الذبيحة: إذا قطعت عظم رقبتها، فهي مبخوعة، ونخعتها: دون ذلك؛ لأن النخاع: الخيط الأبيض الذي يجرى في الرقبة وفقار الظهر. والبخاع، بالباء: العرق الذي في الصلب"(1) .
فأنت ترى أن الزمخشري مسبوق فيما ذهب إليه، بهذا الذي حكاه ابن فارس، بإسناده إلى الضبى. وقد خفى هذا على ابن الأثير، ومن جاء بعده: ابن منظور، والفيروزابادي، والمرتضى الزبيدي، وشيخه محمد بن الطيب الفاسى، وإن كان هذا قد أحال على الثقة بالزمخشري وسعة اطلاعه.
وواضح أن هناك فرقاً بين أن تفزع إلى المعاجم؛ لتصيب معنى لغوياً لما يعرض لك من ألفاظ، وبين أن تكون بإزاء قضية لغوية، تريد أن تنتهي فيها إلى رأي حاسم قاطع. هنا لا يغنيك النظر في هذين الكتابين - اللسان والتاج، مع سعتهما وإحاطتهما - عن الرجوع إلى غيرهما، من صغر الكتب وأوسطها، وهنا أيضاً لا يفيدك قول أبي الطيب: ومن ورد البحر استقل السواقيا.
(1) معجم مقاييس اللغة 1/206، 207.
أن علماءنا الأوائل، رحمهم الله ورضي عنهم، لم يكونوا يعبثون حين يتوفرون على الفن الواحد، من فنون التراث، فيكثرون فيه التأليف والتصنيف، ويدخل الخالف منهم على السالف.
ونعم، قد تجمع بعضهم جامعة المنزع والمنهج العام، ولكن يبقى لكل منهم مذاقه ومشربه، كالذي تراه من اجتماع أبي جعفر الطبري، وعماد الدين بن كثير، على تفسير القرآن الكريم بالمأثور، وافتراقهما في أسلوب التناول ومنهج العرض.
ولم يكن النحاة يعانون من الفراغ، أو قلة الزاد، حين عكفوا على كتاب مثل "الجمل" لأبي القاسم الزجاجي، فوضعوا له مائة وعشرين شرحاً (1) .
ومن الغريب حقاًَ إننا لا نجد باساً أن يكثر الدارسون المحدثون من التأليف في الفن الواحد، كتباً ذاهبة في الكثرة والسعة، كالذي تراه من التأليف في فنون الشعر والقصة والمسرح، ثم نحجر على أسلافنا، ونعيب عليهم من ذلك، ثم ننعتهم بالثرثرة والدوران حول أنفسهم! ولكنها آفة الذين يلتمسون المعابة لأسلافهم بالظن الخادع، والوهم الكذوب.
وإنه الحق أن بعض ما تركه الأوائل، منتزع من جهود سابقة، وتعد إضافته إلى الفن إضافة محدودة، ولكن مثل ذلك معروف مسطور، ومدلول عليه أيضاً بكلام الأوائل أنفسهم، وأكثر ما ترى ذلك في
(1)
…
مقدمات الكتب، كهذا الذي صنعه ابن الأثير، في مقدمة "النهاية" حين قضى على تأليف ابن الجوزي، في غريب الحديث، بأنه مسلوخ من كتاب أبي عبيد الهروي. قال رحمه الله:
" ولقد تتبعت كتابه، فرأيته مختصراًَ من كتاب الهروى، منتزعاً من أبوابه، شيئاً فشيئاً، ووضعاً فوضعاً، ولم يزد عليه إلا الكلمة الشاذة واللفظة الفاذة. ولقد قايست ما زاد في كتابه على ما أخذه من كتاب الهروى، فلم يكن إلا جزءاً يسيراً من أجزاء كثيرة"(1) .
وأحب أن أشير إلى أن هذه المختصرات التي تشغل حيزاً كبيراًَ من التأليف العربي، قد تجدُ فيها ما لست تجده في الأصول. ومن ذلك - وهو كثير - كتاب " مختار الأغاني في الأخبار والتهاني" لابن منظور صاحب " اللسان "، الذي اختصر به كتاب " الأغاني" لأبي الفرج الأصبهاني وقد طبع هذا المختصر في ثمانية أجزاء، وفي الجزء الثالث منه ترجمة موسعة (2) ، لأبي نواس، تضمنت أخباراً وأشعاراً لأبي نواس، لا تجدهما في الأصل المختصر، وذلك أن لابن منظور كتاباً مفرداً لأخبار أبي نواس، وهو مطبوع.
وكذلك صنع ابن منظور، في ترجمة جميل بن معمر، حيث أورد له بعض أشعار وأخبار لم ترد في الأغاني (3) .
(1) النهاية 1/10.
(2)
استغرقت ثلاثمائة صفحة من هذا الجزء الذي حققه الأستاذ عبد العليم الطحاوي.
(3)
انظر هذه الصفحات 237، 238، 239، 250، 251، 253، 255، 257، 272 - من الجزء الثاني الذي حققه الأستاذ عبد الستار فراج، رحمه الله ثم يقال بعد ذلك: إن الشرائح والمختصرين غير مبدعين ولا خلاقين! .
والظن باب منظور أن يكون قد فعل مثل ذلك، فيما اختصره من كتب التراث الأخرى، فقد كان مغرى باختصار كتب الأدب المطولة، كما يقول ابن حجر (1)، وقال صلاح الدين الصفدي:"ما أعرف في كتب الأدب شيئاً إلا وقد اختصره"(2) . ومن مختصراته: مختصر مفردات ابن البيطار، في الأدوية، ولطائف الذخيرة - مختصر الذخيرة لابن بسام. ومختصر تاريخ دمشق لابن عساكر. ومختصر تاريخ بغداد للسمعاني. ومختصر الحيوان للجاحظ. ومختصر أخبار المذاكرة ونشوار المحاضرة للتنوخي.
ومن حديث المختصرات ما لاحظته، أنا وأخي الدكتور عبد الفتاح الحلو، في أثناء عملنا في تحقيق طبقات الشافعية الكبرى، لتاج الدين ابن السبكى: أن الطبقات للمؤلف قد اشتملت على فوئد لم ترد في الطبقات الكبرى، بل إن فيها من التراجم ما لم يذكر أصلاً في الطبقات الكبرى (3) .
وكتاب تقريب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، فيه من التقييد والضبط، ما لست تجده في أصله: تهذيب التهذيب، للمؤلف نفسه، وقد احسن ناشرو تهذيب التهذيب، في دائرة المعارف العثمانية، بالهند، حين أنزلوا هذا الضبط والتقييد في حواشي الكتاب.
(1) الدرر الكامنة 5/31.
(2)
الوافي بالوفيات 5/56.
(3)
وإن كنا قد أنتهينا أخيراً إلى أن الطبقات الوسطى، عمل مستقل، وأن المؤلف لم يقصد به اختصار الطبقات الكبرى. ولذلك حديث آخر.
ومثل ذلك يقال في مصنفات شمس الدين الذهبي التاريخية: تاريخ الإسلام، وسير أعلام النبلاء، والعبر في خبر من عبر، وتاريخ دول الإسلام.
إن تراثنا لم يأخذ مكانه بين تراث الإنسانية إلا بما صنفه الأوائل، مضافاً إليه تلك الشروح والمختصرات والذيول، والصلات (1) ، والحواشى والتقريرات.
نقول هذا لأبنائنا طلبة العلم، ونذكر به أيضاً العقلاء من إخواننا أساتذة الجامعات العربية. أما الذين يلتمسون تراجم الرجال من "دوائر المعارف"، و "الموسوعة العربية الميسرة"، ويطلبون الشروح اللغوية من "المنجد" و "أقرب الموارد"، ويجمعون تراجم الشعراء، من "شعراء النصرانية"، فقد سقطت كلفة الحديث معهم.
الحقيقة الثانية (2) التي أنبه عليها: "أن مجاز كتب التراث مجاز الكتاب الواحد" بمعنى أن هذه الكتب متشابكة الأطراف، متداخلة الأسباب.
(1) جمع الصلة، ويريدون بها تكملة الأعمال السابقة، كما في الصلة، لابن بشكوال، التي جعلها ذيلا وتكملة لتاريخ ابن الفرضى، في الأندلس.
(2)
هذه الحقيقة متصلة بالحقيقة الأولى، وبينهما فرق: وذلك أنى أردت أولاً أن أدفع دعوى التشابه والتكرار في تراثنا. وهنا أريد أن أوجه إلى تلك النظرة الشمولية للتراث، على ما يظهر من تمثيل، إن شاء الله.
فمع الإقرار بنظرية التخصص، وانفراد كل فن من فنون التراث بطائفة من الكتب والمصنفات، إلا أنك قل أن تجد كتاباً من هذه الكتب مقتصراً على الفن الذي يعالجه، دون الولوج إلى بعض الفنون الأخرى، بدواعي الاستطراد والمناسبة، وهذا يؤدي لا محالة، إلى أن تجد الشيء في غير مظانه. وقد ضربت لذلك مثلا - في بعض ماكتبت (1) - بعلم النحو، فليست مسائل هذا العلم في كتب النحو فقط؛ ففي كتب التفسير والقراءات نحو كثير، وفي كتب الفقه وأصوله نحو كثير، وفي معاجم اللغة، وكتب البلاغة، وشروح الشعر (2) ، نحو كثير. بل إنك واجد في بعض كتب السير، والتاريخ، والتراجم، والأدب، والمعارف العامة، والطرائف والمحاضرات، من مسائل النحو وقضاياه، مالا تكاد تجد بعضه في كتب النحو المتداولة (3) .
واقرأ إن شئت: الإمتناع والمؤانسة، ومثالب الوزيرين، كلاهما لأبي حيان التوحيدي، ورسالة الملائكة، ورسالة الغفران، الاثنان لأبي العلاء المعرى، والروض الأنف للسهيلي، وبدائع الفوائد، لابن قيم الجوزية، والغيث المسجم في شرح لامية العجم، لصالح الدين
(1) أنظر مقالة بعنوان: "فهارس الشعر واللغة لكتاب غريب الحديث، لأبي عبيد القاسم بن سلام". مجلة البحث العلمي والتراث الإسلامي - كلية الشريعة - جامعة أم القرى. العدد الرابع 1401هـ.
(2)
وقد وجدت من ذلك شيئاً مأثوراً عن أبي العباس ثعلب، في شرحه على ديوان زهير بن أبي سلمى، ولم أجده في "مجالسه" ولا في "فصيحه".
(3)
ليس يرجع ذلك إلى قصور في كتب النحو، بل يرجع إلى أن أصحاب هذه الكتب قد وقع لهم من كتب أصول النحو، ما لم يقع للمصنفين في النحو، أو أن ذلك قد واتاهم بحسن النظر والتأمل، وقد كان لبعضهم مشاركة ظاهرة في النحو، كالإمام السهيلي.
الصدفي. ثم أنظر كم من مسائل النحو أفدت.
ومما يستطرف ذكره هنا أن الشاهد النحوي المعروف "أكلوني البراغيث" لم أجده منسوباً لقائل، في كتاب من كتب النحو التي أعرفها، على حين وجدته منسوباً لقائل، في كتاب من كتب النحو التي أعرفها، على حين وجدته في كتاب أبي عبيدة " مجاز القرآن" منسوباً لأبي عمرو الهذلي (1) .
وخذ كتاباً لغوياً مثل "المخصص" لابن سيده - وهو معاجم المعاني كما عرفت - تجد فيه نحواً كثيراً، وصرفاً كثيراً، بل إن هذا الكتاب اللغوي يعد توثيقاً كبيراً لآراء أبي على الفارسي، في النحو والصرف، حيث تراه قد أكثر من النقل عنه كثرة ظاهرة (2) .
وإنك لتقضى العجب حين ترى كثيراً من الدراسات النحوية المعاصرة - والتي هوجم النحو العربي فيها هجوماً كاسحاً أكولا - قد اتكأت على كتب النحو المتأخرة، ابتداءً بابن هشام، وانتهاء بالصبان، تاركة وراءها كتب النحو الأولى، وكتب الفنون التراثية الأخرى، التي
(1) مجاز القرآن 1/101، 2/34. وأبو عمرو الهذلي هذا: من فصحاء الأعراب الذين سمع منهم أبو عبيدة، وذكره في غير موضع من كتابه.
وإن في وجود هذا الشاعر وعزوه، في كتاب أبي عبيد معمر بن المثنى، المتوفى بين سنتي 208 - 213: دليلاً على أن هذا الشاهد قديم في كلام العرب، وأنه ليس من صنع النحاة، حتى يتخذ مادة للسخرية والإضحاك البارد!
(2)
وقد ذكره في الجزء الأول من المخصص مائة وإحدى وعشرين مرة، كما أحصى الأستاذ محمد الطالبي. فماذا في الأجزاء الباقية، وهي ستة عشر جزءاً؟ انظر: ابن سيده المرسى، حياه وآثاره ص146 - وأشكر أخي الدكتور عياداً الثبيتي، الذي أمدني بهذا الكتاب القيم.
تمت إلى النحو بأسباب وعلائق كثيرة. ومع التسليم بجدوى مصنفات ابن هشام ومن جاء بعده، فإن ذل لا يغني عن الجهود السابقة، ولا يقوم مقامها.
* * *
وما قيل عن النحو وأنسياحه في الفنون الأخرى، يقال في سائر العلوم؛ وقد حدثنى شيخي الجليل محمود محمد شاكر، حفظه الله، أنه استخرج علوية أبي الطيب المتنبي من خبر صغير، في ثنايا خزانة الأدب، للبغدادي، وقد خفى هذا الخبر على كل الذين كتبوا عن المتنبى، من عرب وعجم، مع أن هذا الكتاب قد طبع في مطبعة بولاق بمصر، سنة 1299هـ، ولكنه في نظر الناس كتاب شواهد ونحو، ليس غير، للذي علموه من أنه شرح شواهد الرضى على الكافية، وترجمة المتنبي عند هؤلاء تلتمس من كتب التراجم والأدب.
وحدثني أيضاً، حفظه الله، أن المفكر الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد، رحمه الله، سألت ذات يوم، عن خبر أو كلام لعمرو بن العاص، رضي الله عنه كان قد قرأه الأستاذ العقاد، ونسى موضعه، وأنه قد وجد هذا الخبر في كتاب الكشكول، أو المخلاة، لبهاء الدين العاملي، المتوفى سنة 1031هـ. ويابعد ما بين العالمي ومظان ترجمة عمرو بن العاص! والكشكول، والمخالة عند بعض المحدثين - إن علموا بأمرهما - من سواقط الكتب وكواذب الأحاديث.
إن في الكتب الموسوعية، مثل شرح نهج البلاغة، لابن أبي
الحديد، المتوفى سنة 656هـ ونهاية الأرب (1) ، للنويري، المتوفى سنة 733هـ، وصبح الأعشى، للقلقشندي، المتوفى سنة 821هـ، من غرائب العلوم والفنون، مالا يأتي عليه حصر.
* * *
وبعد:
فإن من الظاهر الجدير بالتأمل، في هذه الأيام، تلك العناية البالغة بالتراث: نشراً لما لم ينشر، وتصويراً لما نشر، ويقبل القراء على شراء كتب التراث إقبالاًَ زائداً، ولم يستطع الكتاب الحديث - برغم ما أحيط به من مظاهر الإعلان والإعلام - أن يزاحم الكتاب التراثي، بالرغم أيضاً مما يتعرض له من تجريح وتوهين.
ولكن هذه العناية بنشر التراث، والإقبال على شرائه، لم يواكبها قراءة له، وانتفاع به، فكثرت الكتب وقلت القراءة.
ومهما يكن من أمر، فإن هذه الظاهرة دالة بوضوح، على أن للتراث بريقاً أخاذا. ولم يبق إلا أن نعمق في أبنائنا الإحساس النبيل به وأن نأخذ بأيديهم إلى آفاقه الرحبة، وآماده المتطاولة.
(1) يقول عنه الزركلي: "هو أشبه بدائرة معارف لم وصل إليه العلم عند العرب، في عصره"، ونقل عن فازيليف في كتابه العرب والروم:"إن نهاية الأرب على الرغم من تأخر عصره يحوى أخبارا خطيرة عن صقلية، نقلها من مؤرخين قدماء، لم تصل إلينا كتبهم، مثل ابن الرقيق، وابن رشيق، وابن شداد وغيرهم ". الأعلام 1/165.
ثم إنه واجب أيضاً على أنبائنا أن يقبلوا على قراءة هذا الموروث العظيم، وأن يصبروا على معاناة الكتب، والنفاذ إلى أسرارها، وسوف يجدون متعة لا تشبهها متعة، حتى يقولوا في ثقة واطمئنان:
أفبعد كندة تمدحن قبيلا
والله الحمد في الأولى والآخرة
وكتب أبو أروى محمود محمد الطناحي
مكة المكرمة في: ربيع الأول 1405هـ