المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب البغاة هُمْ مُخَالِفُو الإِمَامَ بِخُرُوجٍ عَلَيْهِ وَتَرْكِ الاِنْقِيَادِ وَمَنْع حَقٍّ - النجم الوهاج في شرح المنهاج - جـ ٩

[الدميري]

الفصل: ‌ ‌كتاب البغاة هُمْ مُخَالِفُو الإِمَامَ بِخُرُوجٍ عَلَيْهِ وَتَرْكِ الاِنْقِيَادِ وَمَنْع حَقٍّ

‌كتاب البغاة

هُمْ مُخَالِفُو الإِمَامَ بِخُرُوجٍ عَلَيْهِ وَتَرْكِ الاِنْقِيَادِ وَمَنْع حَقٍّ تَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ

ــ

كتاب البغاة

(البغي) الظلم ومجاوزة الحد، وهو في اللغة: التعدي والاستطالة، سمي البغاة بذلك؛ لظلمهم وعدولهم عن الحق، يقال: بعى الجرح: إذا تداعى إلى الفساد، وبغت المرأة: إذا فجرت.

وفي (صحيح مسلم)[2915]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار: (تقتلك الفئة الباغية).

قال: (هم مخالفو الإمام بخروج عليه وترك الانقياد ومنع حق توجه عليهم) هذا حدهم في اصطلاح العلماء.

والمراد: مخالفة الإمام العدل، عرف ذلك من تعريفه بالألف واللام، فالخروج على الجائر لا يكون بغيًا كما صرح به المتولي وغيره، لكن في (البيان) عن القفال: أن الخروج على الجائر بغي كالخروج على غير الجائر؛ لأنه لا ينعزل بالجور.

والإجماع منعقد على قتالهم.

والأصل في الباب: قوله تعالى: {وإن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإن بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} الآية، نزلت في رهط عبد الله بن أبي سلول ورهط عبد الله بن رواحة الأنصاري لما تقاولا حتى اقتتلا بالأيدي والنعال، فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فاصطلحوا، رواه الشيخان [خ 2691 - م 1799] عن أنس.

ص: 43

بِشَرْطِ شَوْكَةٍ لَهُمْ،

ــ

وقاتل أبو بكر أولًا مانعي الزكاة، وعلي آخرًا أصحاب الجمل وأهل الشام وأهل النهروان.

قال الشافعي رضي الله عنه: أخذت السيرة في قتال المشركين من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي قتال المرتدين من أبي بكر، وفي قتال البغاة من علي.

وقال المزني: أبو بكر يوم الردة، وعمر يوم سقيفة بني ساعدة، وعثمان يوم الدار، وعلى يوم صفين، وأحمد ابن حنبل يوم المحنة.

وفي الآية دليل على وجوب قتال البغاة، وأن الباغي لا يخرج عن اسم الإيمان بذلك- خلافًا للروافض- وعلى جواز الصلح في الحوادث والأحكام، وأن الباغي إذا رجع إلى الطاعة .. قبلت توبته.

وأطلق جماعة من الأصحاب القول بأن البغي ليس باسم ذم، وأن البغاة: قوم اجتهدوا فأخطؤوا وليسوا بفسقة.

وقال آخرون: هم عصاة وليسوا بفسقة، وليست كل معصية توجب الفسق.

وقال آخرون: البغي ينقسم إلى فسق وإلى ما ليس بفسق، وعلى الأول: التشديدات الواردة في الخروج عن طاعة الإمام محمولة على من خرج منها بغير عذر ولا تأويل، كقوله صلى الله عليه وسلم:(من خالف الجماعة قيد شبر .. فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)، وكقوله صلى الله عليه وسلم:(من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة .. فميتته جاهلية)، الأول في (سنن أبي داوود)[4725] و (الحاكم)[1/ 77]، والثاني في (الصحيحين)[خ 6874 - م98]، والثالث في (مسلم)[1849].

قال: (بشرط شوكة لهم) أي: قوة وعدد يحتاج الإمام في ردهم إلى كلفة مال وقتال، فإن كانوا أفرادًا يسهل ضبطهم .. فليسوا ببغاة.

وشرط بعضهم في عددهم: أن يكونوا عشرة، وهو بعيد.

وشرط بعضهم: انفرادهم بموضع، وقيل: بطرف لا يحيط بهم جند الإمام.

ص: 44

وَتَاوِيلٍ، وَمُطَاعٍ فِيهِمْ، قِيلَ: وَإِمَامٍ مَنْصُوبٍ

ــ

قال: (وتأويل) أي: يعتقدون به جواز الخروج عليه أو منع الحق، وإلا

فليسوا بغاة.

والمعتبر: تأويل محتمل، كتأويل أهل الجمل وصفين في مطالبتهم بدم عثمان حين اعتقدوا أن عليًا يعرف من قتله.

فلو كان تأويلهم قطعي البطلان .. فالأوفق لإطلاق الأكثرين: أنه غير معتبر، كتأويل أهل الردة حيث قالوا: أمرنا بدفع الزكاة إلى من صلاته سكن لنا، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلاة غيره ليست لنا سكنًا، ووجه مقابله: أنه قد يغلط في القطعيات.

قال: (ومطاع فيهم) يصدرون عن رأيه؛ إذ لا قوة لمن لا يجمع كلمتهم مطاع، (وهذا نقله الرافعي عن الإمام فقط، وهو في الحقيقة شرط لحصول الشوكة، لا أنه شرط آخر مع الشوكة كما تقتضيه عبارة الكتاب.

قال: (قيل: وإمام منصوب)؛ لتجتمع به شوكتهم، وهذا نقله الرافعي عن الجديد، ونسبه الإمام إلى المعظم، وجزم به جماعة كثيرة، لكن في (الرافعي) عن الأكثرين: المنع؛ لأن عليًا قاتل أهل الجمل ولا إمام لهم، وأهل صفين قبل نصب إمامهم، وأثر الخلاف في تنفيذ الحكام لا في عدم الضمان.

وظاهر عبارة المصنف: أنه لا يشترط شيء آخر، وليس كذلك، بل يشترط: أن ينفردوا ببلدة أو قرية أو موضع من الصحراء، كما نقله الرافعي عن جمع من الأصحاب.

وحكى الماوردي: الاتفاق عليه.

واعتبر الجويني أمرين آخرين: أن يمتنعوا من حكم الإمام، وأن يظهروا لأنفسهم حكمًا.

ص: 45

وَلَوْ أَظْهَرَ قَوْمٌ رَايَ الخَوَارِجِ- كَتَرْكِ الْجَمَاعَاتِ وَتَكْفِيرِ ذِي كَبِيرَةٍ- وَلمَ ْيُقَاتِلُوا .. تُرِكُوا، وَإِلَاّ .. فَقُطَّاعُ طَرِيقٍ. وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبُغَاةِ

ــ

قال: (ولو أظهر قوم رأي الخوارج- كترك الجماعات وتكفير ذي كبيرة- ولم يقاتلوا .. تركوا)؛ لأن عليًا سمع رجلًا يقول في المسجد: لا حكم إلا الله ولرسوله وقصد بذلك تخطئة على في التحكيم بينه وبين معاوية، فقال علي وهو في الصلاة: فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ، فلما فرغ .. قال:(كلمة حق أريد بها باطل)، ثم جعل حكمهم حكم أهل العدل بقوله:(لكم علينا ثلاثة: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيدينا في أيديكم، ولا نبدؤكم بالقتال)، فجعل حكمهم كأهل العدل؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين، مع علمه بمعتقدهم؛ لتظاهرهم بالطاعة.

هذا إذا لم يتضرر بهم المسلمون، فإن تذرروا بهم .. فنقل القاضي حسين عن الأصحاب: أنه يتعرض لهم حتى يزول الضرر، وإن صرحوا بسبب الإمام أو غيره من أهل العدل .. عزروا، لا إن عرضوا في الأصح.

و (الخوارج) صنف من المبتدعة، يعتقدون أن من أتى كبيرة .. كفر وحبط عمله وخلد في النار، وأن دار الإسلام تصير بظهور الكبائر فيها دار كفر وإباحة، فلذلك يطعنون في الأئمة ولا يحضرون معهم الجماعات والجمعات.

قال: (وإلا .. فقطاع طريق) أي: وإن قاتلوا .. فحكمهم حكم قطاع الطريق، وهذا كله تفريع على أنهم لا يكفرون، وهو المذهب.

وحكى الإمام في تكفير الخوارج وجهين.

قال: (وتقبل شهادة البغاة)؛ لأنهم ليسوا بفسقة، واستثنى الشافعي من قبول شهادتهم: ما إذا شهدوا لموافقيهم بالتصديق كالخطابية، وإنما لم يستثنه المصنف؛ لأنه لا خصوصية له بالبغاة.

ص: 46

وَقَضَاءُ قَاضِيهِمْ فِيمَا يُقْبَلُ قَضَاءُ قَاضِينَا إِلَاّ أَنْ يَسْتَحِلَّ دِمَاءَنَا، وَيُنَفَّذُ كِتَابُهُ بِالْحُكْمِ، وَيُحْكَمُ بِكِتَابِهِ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ فِي الأِصَحِّ

ــ

نعم؛ يستثنى ما إذا صرح الشاهد ببيان السبب؛ فإن شهادته تقبل وإن كان خطابيًا، كما نقله في (البحر) عن النص؛ لأن التهمة قد زالت بالتصريح.

قال: (وقضاء قاضيهم فيما يقبل قضاء قاضينا)؛ لأن لهم تأويلًا يسوغ فيه الاجتهاد، فلو حكم بما يخالف النص أو الإجماع أو القياس الجلي .. فهو باطل.

قال: (إلا أن يستحل دماءنا) فلا يقبل قضاؤه؛ لأنه ليس بعدل وشرط القاضي العدالة، وكذلك لا ينفذ قضاؤه إذا كان من الخطابية الذي يقضون لموافقيهم بالتصديق إذا قضى لهم.

وهذا لا يختص بالقاضي، بل الشاهذ إذا كان ممن يرى ذلك .. لم يقبل، حكاه الرافعي عن المعتبرين، فينبغي أن يكون الاستثناء في كلام المصنف راجعًا إلى الجملتين لا إلى الأخيرة وحدها.

قال: (وينفذ كتابه بالحكم)، لكن يستحب أن لا يقبل؛ استخفافًا بهم.

قال الماوردي: والأولى: أن لا يتظاهر بقبوله ويتلطف في رده، والذي قاله الغزالي وغيره: أنه يجب القبول والتنفيذ، ولعلهم أرادوا عدم النقض والحكم بخلافه كما أوله ابن الرفعة.

وحيث نفذناه .. فشرطه: أن لا يكون باطلًا، كما لو قضى على رجل من أهل العدل بضمان ما أتلف في الحرب عليهم، أو بسقوط الضمان عما أتلف في غير الحرب؛ فإن قضاءه لا ينفذ.

نعم؛ لو حكم بسقوط ما أتلفوه علينا في الحرب .. نفذناه، ولا تجوز مطالبتهم بذلك؛ لأنه محل اجتهاد.

قال: (ويحكم بكتابه بسماع البينة في الأصح)؛ لأن الكتاب الذي يرد له تعلق برعايانا، وإذا نفذنا كتاب قاضيهم لمصلحة رعاياهم .. فلأن نراعي مصلحة رعايانا من باب أولى.

والثاني: لا؛ لما فيه من معاونة أهل البغي وإقامة مناصبهم.

ص: 47

وَلَوْ أَقَامُوا حَدًّا وَأَخَذُوا زَكَاةً وَجِزْيَةً وَخَرَاجًا وَفَرَّقُوا سَهْمَ الْمُرْتَزِقَةِ عَلَى جُنْدِهِمْ .. صَحَّ، وَفِي الأَخِيرِ وَجْهٌ. وَمَا أَتْلَفَهُ بَاغٍ عَلَى عَادِلٍ وَعَكْسُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قِتَالٍ .. ضَمِنَ، وَإِلَاّ .. فَلَا،

ــ

وتعبيره بـ (الأصح) تبع فيه (المحرر)، والخلاف في (الروضة) و (الشرحين) قولان، وطردهما الإمام في الكتاب بالحكم.

قال: وكنت أود لو فصل بين حكم يتعلق بأهل النجدة وحكم يتعلق بالرعايا.

أما إذا ورد على قاضينا كتاب من قاضيهم ولم يعلم أنه ممن يستحل دماء أهل العدل أم لا .. ففي قبوله والعمل به قولان: المختار منهما: المنع.

قال: (ولو أقاموا حدًا وأخذوا زكاة وجزية وخراجًا وفرقوا سهم المرتزقة على جندهم .. صح)؛ لأن في إعادة المطالبة بذلك إضرارًا بأهل البلد، ولأن عليًا رضي الله عنه فعل كذلك في أهل البصرة، ولأنهم أخذوا بتأويل سائغ، فأشبه حكم الحاكم بالاجتهاد ولا ينقضه آخر، ولأنهم قد يقيمون على البلاد سنين كثيرة ففي عدم الاعتداد إضرار بالرعايا، فإن عاد البلد إلى أهل العدل .. لم يطالبوا بشيء من ذلك.

قال: (وفي الأخير) وهو تفرقة سهم المرتزقة على جنودهم (وجه) أنه لا يصح؛ لئلا يستعينوا به على البغي.

والأصح: الصحة؛ لأنهم من جند الإسلام وإرعاب الكفار حاصل بهم.

وفي الجزية أيضًا وجه حكاه الرافعي، وفي الزكاة وجه حكاه القاضي: أنهم إن أعطوا اختيارًا من غير إجبار .. لم تسقط عنهم.

قال: (وما أتلفه باغ على عادل وعكسه إن لم يكن في قتال .. ضمن)؛ جريًا على الأل المقرر في قصاص النفوس وغرامات الأموال، وهذا لا خلاف فيه.

قال: (وإلا .. فلا) أي: وإن كان في قتال .. لم يضمن، أما فيما يتلفه العادل على الباغي .. فلأنه مأمور بالقتال، فلا يضمن ما تولد منه، وأما فيما يتلفه الباغي على العادل .. فلأن الله تعالى أمر الإمام أن يصلح بينهما بالعدل ولم يذكر تباعة في دم ولا مال، ولأنه لم ينقل أن أحدًا طالب أحدًا بذلك في وقعة الجمل وصفين مع معرفة القاتل، ولأن الغرم لو وجب فيها .. لربما نفرهم ذلك عن العود إلى الطاعة ويحملهم.

ص: 48

وَفِي قَوْلٍ: يَضْمَنُ بَاغٍ. وَالْمُتَأَوِّلُ بِلَا شَوْكَةٍ يَضْمَنُ

ــ

على التمادي على الباطل، ولهذا سقطت التبعة عن الحربي إذا أسلم، وبهذا قال أبو حنيفة.

قال: (وفي قول: يضمن باغ)، وبه قال مالك؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:(إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام)، وقول أبي بكر للذين قاتلهم بعدما تابوا:(تدون قتلانا، ولا ندي قتلاكم) رواه البيهقي [8/ 183].

ولأنهما فرقتان من المسلمين محقة ومبطلة فلا تستويان في سقوط الغرم، كقطاع الطريق.

والجواب: أن أبا بكر لما قال ذلك .. قال عمر: (لا نأخذ لقتلانا دية؛ لأنهم عملوا لله)، فسكت أبو بكر سكوت راجع.

ثم إن كان المتلف نفسًا وقلنا بالأول .. فأصح الوجهين: لا كفارة أيضًا.

ومحل القولين: فيما أتلفه في القتال بسبب القتال أو تولد منه هلاكه، فلو أتلف في القتال ما ليس من ضرورة الحرب .. وجب ضمانه قطعًا.

ويستثنى من الإتلاف في غير القتال: ما إذا قصد أهل العدل بإتلاف المال إضعافهم وهزيمتهم؛ فلا ضمان، قاله الماوردي.

قال: فإن قصدوا التشفي والانتقام .. ضمن كالمتلف في غير القتال.

هذا بالنسبة إلى الضمان، أما التحريم .. فقال الشيخ عز الدين: لا يتصف إتلافهم بإباحة ولا تحريم؛ لأنه خطأ معفو عنه، بخلاف ما يتلفه الكفار حال القتال؛ فإنه حرام غير مضمون.

قال: (والمتأول بلا شوكة يضمن)؛ لأن حكمهم في ذلك حكم قطاع الطريق، فيضمن النفس والمال ولو في حال القتال؛ لأنا لو أسقطنا الضمان عنهم .. لأبدت كل شرذمة من أهل الفساد تأويلًا وفعلت ما تشاء، وفي ذلك إبطال السياسات.

قال الشافعي رضي الله عنه [أم 4/ 216]: ولما قتل ابن ملجم عليًا متأولًا .. رأى علي

ص: 49

وَعَكْسُهُ كَبَاغٍ،

ــ

القصاص، فأمر بحبسه وقال لابنه الحسن:(إذا قتلتموه .. فلا تمثلوا به)، فقتله الحسن وفي الناس بقية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينكر ذلك منهم أحد.

فإن قيل: كيف سمى الشافعي ابن ملجم متأولًا؟ وأي تأويل كان له في ذلك؟ .. فأجاب عنه في (البحر) بما رواه الحاكم [3/ 143]: أنه كان خطب امرأة يقال لها: قطام، وكان علي رضي الله عنه قتل أباها من جملة الخوارج، فقالت له: إن عليًا قتل أبي بغير حق، ووكلته في قتله بأبيها قودًا، وطلبت منه بعد قتله ثلاثة آلاف وعبدًا وقينة حتى تنكحه، وظن المغرور أنها صادقة في القتل بغير حق، ولهذا قال الشاعر [من الطويل]:

فلم أر مهرًا ساقه ذو فطانة .... كمهر قطام بين عرب وأعجم

ثلاثة آلاف وعبد وقينة .... وقتل علي بالحسام المصمم

فلا مهر أغلى من علي وإن علا .... ولا قتل إلا دون قتل ابن ملجم

قال: (وعكسه كباغ) أي: الذين لهو شوكة ولا تأويل لهم حكمهم حكم الباغي في الضمان على أصح الطريقين؛ لأن سقوط الضمان عن الباغي لقطع الفتنة واجتماع الكلمة، وهذا هو موجود فيهم.

والطريق الثاني: يضمن قطعًا كعكسه، أما قضاء قاضيهم .. فالظاهر المعروف: لا ينفذ.

ولو ارتدت طائفة لهم شوكة فأتلفوا مالًا أو نفسًا في القتال ثم تابوا وأسلموا .. ففي ضمانهم القولان كالبغاة: أظهرهما عند بعضهم: لا ضمان، وخالفهم البغوي.

ولا ينفذ قضاء المرتدين قطعًا.

ص: 50

وَلَا يُقَاتِلُ الْبُغَاةَ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ أَمِينًا فَطِنًا نَاصِحًا يَسْأَلُهُمْ مَا يَنْقِمُونَ، فَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلَمَةً أَوْ شُبْهَةً .. أَزَالَهَا،

ــ

قال: (ولا يقاتل البغاة حتى يبعث إليهم أمينًا فطنًا ناصحًا يسألهم ما ينقمون) أي: ما ينكرون وما يعيبون وما يعدونه ذنبًا، قال الله تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إلَاّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ} ، وقال تعالى:{ومَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلَاّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} ، فالاستثناء في جميع ذلك من غير الجنس، كقول النابغة [من الطويل]:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم .... بهن فلول من قراع الكتائب

وكقول الرقيات [من المنسرح]:

ما نقموا من بني أمية إلا .... أنهم يحملون إن غضبوا

و (نقم) بفتح القاف وكسرها.

قال: (فإن ذكروا مظلمة أو شبهة .. أزالها)؛ لأن المقصود بقتالهم ردهم إلى الطاعة ودفع شرهم.

والبعث واجب كما صرح ابن الصباغ وغيره، وهو ظاهر عبارة (الشرحين) والكتاب.

وقال أبو الطيب: مستحب.

وقد بعث علي ابن عباس إلى أهل النهروان، فقال لهم:(هذا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته فما تنقمون منه؟) قالوا ثلاثًا.

حكم في الدين وقد أغنى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التحكيم.

وقتل ولم يسب، فإما أن يقتل ويسبي، وإما أن لا يفعلهما.

ومحا اسمه من الخلافة، فإن كان على حق .. فلم خلع؟ وإن كان على غير حق .. فلم دخل؟ فقال ابن عباس: (أما التحكيم .. فقد حكم الله في الدين، فقال تعالى:

ص: 51

فَإِنْ أَصَرُّوا .. نَصَحَهُمْ ثُمَّ آذَنَهُمْ بِالْقِتَالِ،

ــ

{فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} ، وقال تعالى:{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} في أرنب قيمته درهم، أخرجت من هذه؟) قالوا: نعم.

قال: (وأما أنه قتل وما سبى .. فلو حصلت عائشة في قسم أحدكم .. كيف يصنع وقد قال تعالى: ولا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا؟) فقالوا: رجعنا عن هذه.

قال: (وأما محوه اسمه من الخلافة حين كتب كتاب التحكيم بينه وبين معاوية .. عمرو عام الحديبية)، وقد كتب كتاب القضية بينهم وعلى بن أبي طالب، فرجع عند ذلك بعضهم وأبى بعضهم، رواه أحمد [1/ 86] والبهقي [8/ 179].

فلما أخبره ابن عباس بما تفق .. قال علي لأصحابه: لا ينفلت منهم عشرة ولن يقتل منا عشرة، فسار إليهم، فقتلوا كلهم إلا ثمانية، وقتل من أصحاب على تسعة.

قال: (فإن أصروا) أي: بعد إزالة العلة) .. نصحهم) ووعظهم وأمرهم بالعود إلى الطاعة؛ لتكون كلمة الدين واحدة، ولأن ذلك أقرب إلى حصول المقصود، فإن أصروا .. دعاهم إلى المناظرة.

قال: (ثم آذنهم بالقتال) أي: أعلمهم؛ لأن الله تعالى أمر أولًا بالإصلاح ثم بالقتال، فلا يجوز تقديم ما أخره الله تعالى.

وإنما يعلمهم بالقتال إذا علم أن في عسكره قوة وقدرة عليهم.

ويكون القصد بالقتال دفعهم عما هم عليه دون قتلهم؛ لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} أي: ترجع إلى كتاب الله وسنة رسوله.

ص: 52

فَإِنَ اسْتَمْهَلُوا .. اجْتَهَدَ وَفَعَلَ مَا رَأَىهُ صَوَابًا. وَلَا يُقَاتِلُ مُدْبِرَهُمْ

ــ

ثم هذا القتال واجب- قال الماوردي- بخمس شروط:

أحدها: أن يتعرضوا لحريم أهل العدل أو لإفساد نسلهم.

والثاني: أن يتعطل جهاد المشركين بهم.

والثالث: أن يأخذوا من حقوق بيت المال ما ليس لهم.

والرابع: أن يمتنعوا من دفع ما وجب عليهم.

والخامس: أن يتظاهروا على خلع الإمام الذي انعقدت بيعته.

فإن انفردوا عن الجماعة ولا منعوا حقًا ولا تعدوا على الإمام .. جاز قتالهم لأجل تفريق الجماعة.

قال: (فإن استمهلوا .. اجتهد وفعل ما رآه صوابًا)، فإن ظهر له أنهم عازمون على الطاعة وأنهم ينتظرون كشف الشبهة .. أمهلهم ليتضح لهم الحق.

وإ، ظهر له أنهم يحتالون لاجتماع عساكرهم وانتظار مددهم .. لم يمهلهم إن كان في عسكره قوة، وإن سألوا ترك القتال أبدًا .. لم يجبهم.

وظاهر عبارة المصنف: أن هذا الإمهال لا يتقدر، بل يرجع إلى ما يراه الإمام.

وفي (التهذيب) يوم أو يومين، وفي (المهذب) ثلاثة أيام.

وفي (العمدة) للفوراني: إن رجا توبتهم ورجوعهم .. انتظرهم شهرًا أو شهرين، وكذلك إن رأى في أهل العدل ضعفًا.

قال: (ولا يقاتل مدبرهم) إذا كان غير متحرف لقتال أو متحيزًا إلى فئة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود: (يا ابن أم عبد؛ ما حكم من بغى من أمتى؟) قلت: الله ورسوله أعلم، قال:(لا يتبع مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم) رواه الحاكم [2/ 155] والبيهقي [8/ 182].

ودخل الحسن بن علي على مروان فقال: ما رأيت أكرم من أبيك، ما إن ولينا ظهورنا يوم الجمل حتى تادى مناديه: أن لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح.

ص: 53

وَلَا مُثْخَنَهُمْ وَأَسِيرَهُمْ، وَلَا يُطْلَقُ وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوِ امْرَأَةً حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَرْبُ وَيَتَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ،

ــ

قال الشافعي: ولأن الله تعالى أمر بقتالهم لا بقتلهم، وإنما يقال: قاتلوا لمن يقاتل، ويقال للمنهزم: اقتلوا لا قاتلوا، وكذلك الحكم فيمن ألقى السلاح.

وانهزام الجند: أن يتبددوا وتبطل شوكتهم.

فول ولوا مجتمعين تحت راية زعيمهم .. لم ينكف عنهم، بل يطلبهم حتى يطيعوا، فلو بطلت قوة واحد بتخلفه عنهم .. لم يتبع.

ومن ولى متحرفًا لقتال .. اتبع، وكذا متحيزا إلى فئة قريبة، قيل: أو بعيدة.

قال: (ولا مثخنهم وأسيرهم) أي: لا يقتل مثخنهم، وهو- بفتح الخاء-: المثقل بالجراح، ولا يقتل أسيرهم؛ للخبر المذكور، وجوز أبو حنيفة قتلهما صبرًا.

فلو قتل عادل أسيرهم أو ذفف على جريحهم .. ففي وجوب القصاص وجهان:

أصحهما في زوائد (الروضة) لا قصاص، ونقله في (البحر) عن النص.

ولا يجوز قتل من كف عن قتال منهم إذا وقف معهم في صفهم .. لأنه كاف شره كالأسير، وفي وجه: يجوز؛ لأنه رد لهم.

وقتل رجل محمد بن طلحة حين كان واقفًا مع أهل الجمل، فلم يمنعه علي ولا طالب بديته.

واستثنى بعضهم من ذلك: ما إذا أيس الإمام من صلاحهم لتمكن الضلالة فيهم وخضي عودهم عليه بشر، قال: فيجوز في هذه الحالة أن يتبع مدبرهم ويذفف على جريحهم استئصالًا لهم، كما فعل علي رضي الله عنه بالخوارج، وكذلك المهلب بن أبي صفرة حين قاتلهم في ولاية عبد الملك بن مروان.

قال: (ولا يطلق) أي: أسيرهم (وإن كان صبيًا أو امرأة حتى تنقضي الحرب ويتفرق جمعهم)؛ لينكف شرهم، وذلك واجب إلى انقضاه الحرب، وظاهر عبارة الكتاب في الصبي والمرأة: استمرار حبسهم إلى أن يتفرق جمعهم.

ص: 54

إِلَاّ أَنْ يُطِيعَ بَاخْتِيَارِهِ. وَيَرُدُّ سِلَاحَهُمْ وَخَيْلَهُمْ إِلَيْهِمْ إِذَا انْقَضَتِ الحَرْبُ وَأُمِنَتْ غَائِلَتُهُمْ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ فِي قِتَالٍ

ــ

والذي في (الروضة) وكتب الرافعي: إلى انقضاء الحرب فقط، وصوبه في (المهمات)، وقيل: إن رأى الإمام في إطلاقهم قوة للبغاة، وفي حبسهم ردهم إلى الطاعة .. حبسهم.

وقيل: له حبسهم مطلقًا إلى حين إطلاق الرجال.

قال: (إلا أن يطيع باختياره)؛ بأن يبايع الإمام فيطلق ولو قبل انقضاء الحرب وتفرق الجمع.

هذا في الحر، أما العبد .. فقيل: هو كالنساء وإن كان يقاتل، وقال المتولي: إن كان يتأتى منه ومن المراهق قتال .. فهما كالرجال في الحبس، واستحسنه الرافهي.

أما الصبي غير المراهق والمرأة .. فيطلقان إذا انقضت الحرب، فإن قاتلت المرأة والعبد والمراهق .. فهم كالرجال يقتلون مقبلين لا مدبرين.

قال: (ويرد سلاحهم وخيلهم إليهم إذا انقضت الحرب وأمنت غائلتهم)؛ لزوال المحذور، وأمن الغائلة بعودهم إلى الطاعة أو تفرق شملهم، قال الرافعي: وهو وقت إطلاق الأسير.

و (الغائلة) الشر.

واعترض ابن الفركاح على المصنف فقال: ذكر أمن الغائلة هنا ولم يذكره في الأسير، وذلك يوهم اختلاف الغايتين، وهما سواء كما ذكره الرافعي.

والجواب: أنه نبه في الأسير على أمن الغائلة بقوله: (ويتفرق جمعهم)؛ فإنه إذا تفرق جمعهم .. أمنت غائلتهم.

واقتصاره على رد السلاح والخيل يعلم أن رد غيرهما من الأموال التي ليست عونًا لهم في القتال إليهم من بابا أولى.

قال: (ولا تستعمل) أي: خيولهم وأسلحتهم (في قتال)، كما لا يجوز الانتفاع بسائر أموالهم، ويدل لذلك عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال

ص: 55

إِلَاّ لِضَرُورَةٍ. وَلَا يُقَاتَلُونَ بِعَظِيمٍ- كَنَارٍ وَمَنْجَنِيقٍ- إِلَاّ لِضَرُورَةٍ؛ بِأَنْ قَاتَلُوا بِهِ أَوْ أَحَاطُوا بِنَا. وَلَا يُسْتَعَانُ عَلَيْهِمْ بِكَافِرٍ، وَلَا بِمَنْ يَرَى قَتْلَهُمْ مُدْبِرِينَ،

ــ

امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه).

قال: (إلا لضرورة)، كما إذا خيف انهزام أهل العدل ولم يجدوا غير خيولهم .. فيجوز لهم ركوبها، وكذا إذا لم يجدوا ما يدفعون به عنهم غير سلاحهم، وتجب أجرتها عند استعمالها للضرورة، كالمضطر إذا أكل طعام الغير .. يغرمه.

قال: (ولا يقاتلون بعظيم، كنار)؛ لأن القصد الكف لا الإهلاك، وفي الحديث الصحيح:(لا يعذب بالنار إلا خالقها).

قال: (ومنجنيق)، وكذا إرسال المياه الكثيرة، وإلقاء الحيات والأسد عليهم؛ لأن المقصود من قتالهم ردهم إلى الطاعة، وقد يرجعون فلا يجدون إلى النجاة سبيلًا، ولأنه قد يصيب من لا يجوز قتله كالنساء والصبيان.

قال: (إلا لضرورة؛ بأن قاتلوا به أو أحاطوا بنا) وحصل الاضطرار إلى الرمي بذلك للدفع، ولهذا بالغ علي رضي الله عنه حتى قتل بنفسه ليلة الهرير ألفًا وخمس مئة.

فلو تحصموا ببلد أو قلعة ولم يقدر عليهم إلا بهذه الأسباب .. فلا يجوز قتالهم، ولا يجوز أن يحاصروا بمنع الطعام والشراب إلا على رأي الإمام في أهل القلعة.

ولا يجوز عقر خيلهم إذا قاتلوا عليها، ولا قطع أشجارهم وزرعهم.

قال: (ولا يستعان عليهم بكافر)؛ إذ لا سبيل لهم على المؤمنين، ولهذا لا يجوز لمستحق القصاص من مسلم أن يوكل كافرًا في استيفائه، ولا للإمام أن يتخذ لهم دلادًا كافرًا لإقامة الحدود على المسلمين.

قال: (ولا بمن يرى قتلهم مدبرين)، إما لعداوة تحمله على ذلك، وإما لاعتقاد جوازه كالحنفي؛ لأنهم إذا انهزموا .. وجب الكف عنهم، وهل هو منع تنزيه أو

ص: 56

وَلَوْ اسْتَعَانُوا عَلَيْنَا بِأَهْلِ الْحَرْبِ وَآمَنُوهُمْ .. لَمْ يَنْفُذْ أَمَانُهُمْ عَلَيْنَا، وَيَنْفُذُ عَلَيْهِمْ فِي الأَصَحِّ،

ــ

تحريم؟ فيه وجهان: ظاهر عبارة (الشرح) و (الروضة) الثاني، وفي (الكفاية) وجه: أنه يجوز، فإن دعت الضرورة إلى الاستعانة بهم .. جاز بشرطين:

أن يكون لهم حسن إقدام.

وأن يمكنه منعهم لو اتبعوهم.

ولفظ البغوي يقتضي الجواز بأحدهما، كذا قاله الشيخان، وفيه نظر؛ فإن عبارة (التهذيب) ظاهرة في الشرطين.

وزاد الماوردي شرطًا ثالثًا: أن يَشترط عليهم: أن لا يقتلوا مدبرًا ولا يذففوا على جريح، وأن يثق بوفائهم.

فإن قيل: يشكل على هذا جواز استخلاف الشافعي للحنفي .. قلنا: الفرق: أن الخليفة ينفرد برأيه واجتهاده، وهؤلاء تحت راية الإمام، ففعلهم منسوب إليه، فلا يجوز أن يعملوا بخلاف اجتهاده.

قال: (ولو استعانوا علينا بأهل الحرب وآمنوهم) أي: أعطوهم الأمان، وهي بهمزة ممدودة؛ لقوله تعالى:{وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} .

قال: (.. لم ينفذ أمانهم علينا)؛ لأن الأمان لترك قتال المسلمين، فلا ينفذ على شرط قتالهم، فيجوز لنا أن نغنم أموالهم، ونسترقهم، ونقتل أسيرهم، ونقتلهم مدبرين ومثخنين.

وقيل: لا يقتل مدبرهم، ولا يذفف على جريحهم، والمذهب: الأول.

قال: (وينفذ عليهم في الأصح)؛ لأنهم آمنوهم من أنفسهم، فلا يجوز أن يكروا عليهم بالقتل وبالأسر والاسترقاق.

والثاني: المنع؛ لأنه أمان انبنى على فساد فلم ينفذ.

وعلى هذا: لأهل البغي قتلهم واسترقاقهم.

وقال الإمام وابن الصباغ

: هو أمان فاسد، فيردوهم إلى مأمنهم ولا يغتالوهم.

ص: 57

وَلَوْ أَعَانَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ عَالِمِينَ بِتَحْرِيمِ قِتَالِنَا .. انتُقَضَ عَهْدُهُمْ، أَوْ مُكْرَهِينَ .. فَلَا، وَكَذَا لَوْ قَالُوا: ظَننَّا جَوَازَهُ، أَوْ أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَيُقَاتَلُونَ كَبُغَاةٍ

ــ

قال: (ولو أعانهم أهل الذمة عالمين بتحريم قتالنا .. انتقض عهدهم)، كما لو انفردوا بالقتال، ويصير حكمهم حكم أهل الحرب، فيقتلون مقبلين ومدبرين، ولهذا غزا النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة لمّا أعانوا الأحزاب.

قال: (أو مكرهين .. فلا)؛ لمكان العذر، وقيل: هو على الخلاف الآتي.

وظاهر كلامه: أن يكتفى بقولهم: إنهم مكرهون من غير بينة، وهو الذي يظهر من إطلاق الجمهور، وشرط المزني والبندنيجي ثبوته عند الإمام.

قال: (وكذا لو قالوا: ظننا جوازه)؛ لأنهم قد يخفى عليهم منع ذلك، وكذا لو قالوا: ظننا أنهم يستعينون بنا على كفار.

قال: (أو أنهم محقون على المذهب)؛ إلحاقًا لهذه الأعذار بالإكراه؛ لأنهم وافقوا طائفة من المسلمين ولم يستقلوا، فلا ترتفع عصمتهم.

والثاني: الانتقاض، كما لو استقلوا بالقتال.

ثم القولان إذا لم يشترط عليهم ترك القتال في عقد الذمة، فإن شرط .. انتقض قطعًا، ومنهم من أطلق القولين.

قال: (ويقاتلون كبغاة)؛ لأن الأمان حقن دماءهم، كما أن الإسلام حقن البغاة، وكل منهم خرج عن الجماعة بتأويل.

ولو استعان البغاة بأهل العهد .. انتقض عهدهم بالمقاتلة معهم.

قال الجمهور: وإذا ذكروا عذرًا لم يقبل منهم إلا ببينة وخالفوا أهل الذمة حيث قبل دعواهم الإكراه بغير بينة؛ لأنهم أقوى، ولهذا لو خاف الإمام من أهل العهد الخيانة .. نبذ إليهم عهدهم، بخلاف أهل الذمة.

تتمة:

قال المتولي: يلزم الواحد من أهل العدل مصابرة اثنين من البغاة؛ فلا يولي إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة.

ص: 58

فَصْلٌ:

شَرْطُ الإِمَامِ: كَوْنُهُ مُسْلِمًا

ــ

وقال الشافعي رحمه الله: يكره للعادل أن يعتمد قتل ذي رحم من أهل البغي.

وحكم دار البغي حكم دار الإسلام، فإذا جرى فيها ما يوجب الحد .. أقامه الإمام إذا استولى عليها.

ولو سبى المشركون طائفة من البغاة وقدر أهل العدل على استنقاذهم .. لزمهم ذلك.

قال: (فصل:

شرط الإمام: كونه مسلمًا) لمّا كان البغي عبارة عن الخروج على الإمام .. احتاج إلى تعريف الإمام الأعظم، وهو: القائم بخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، فيا لها رتبة ما أسناها، ومرتبة ما أعلاها أن يكون الإمام ساهيًا لاهيًا مع من يحب ورعيته والخلق تعمل له الطاعات وتكسب له الحسنات.

و (السلطان) يذكر لفظه ويؤنث، وهو مشتق من السلاطة، وقيل: من السليط، وهو: الدهن الذي يستضاء به.

ولفظ الخليفة قد يؤنث أيضًا، وأنشد الفراء عليه [من الوافر]:

أبوك خليفة ولدته أخرى

وأنت خليفة ذاك الكمال

وامتنع جمهور العلماء من تسميته خليفة الله؛ لأنه إنما يستخلف من يغيب.

وقد قيل لأبي بكر: يا خليفة الله، فقال: (لست بخليفة الله، بل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وجوز بعضهم ذلك؛ لقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} .

وروى البيهقي [هب 7369] وغيره حديث: (السلطان ظل الله في الأرض، فإذا أحسن .. فله الأجر وعليكم الشكر، وإذا أساء .. فعليه الوزر وعليكم الصبر).

ص: 59

مُكَلَّفًا حُرًّا ذَكَرًا قُرَشِيًّا

ــ

قال الخطابي: معنى (الظل) العز والمنفعة، ويحتمل أن يريد به الستر، كما يقول القائل للرجل الشريف: أنا في ظلك، أي: في سترك، وقيل: إنما وصفه بالظل؛ لأنه يدفع الأذى عن الناس كما يدفع الظل أذى حر الشمس.

فأول شروطه: أن يكون مسلمًا؛ ليراعي مصلحة الإسلام والمسلمين.

قال: (مكلفًا)، فلا تصح إمامة الصبي والمجنون بالإجماع.

وفي (مسند أحمد)[2/ 326] عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استعيذوا بالله من إمرة الصبيان).

وما أحسن قول الشاعر [من الكامل]:

شيئانِ يعجزُ ذو الرياضةِ عنهم رأيُ النساءِ وإمرةُ الصبيانِ

أما النساءُ فميلهُنَّ إلى الهوى

وأخو الصبا يجري بغيرِ عنانِ

قال: (حرًا)؛ لأن الرقيق لا يُهاب ولا يصلح للإرهاب، وما روى مسلم [1298] من قوله صلى الله عليه وسلم:(اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع الأطراف كان رأسه زبيبة) .. فمحمول على غير الإمامة العظمى.

قال: (ذكرًا)؛ لما روى البخاري [4425] عن أبي بكر: أن النبي صلى الله عليه وسلم –لما بلغه أن فارس ولوا بنت كسرى-: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، والخنثى كالمرأة.

قال ابن عبد السلام: فلو ابتلي الناس بولاية امرأة أو صبي مميز .. نفذ تصرفهما العام كتولية القضاة والولاة، وفيه وقفة.

قال: (قرشيًا)؛ لما روى الترمذي [3936] عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الملك في قريش، والقضاء في الأنصار، والأذان في الحبشة)، والأصح وقفه على أبي هريرة.

وروى النسائي [سك 5909] والحاكم [4/ 501] بإسناد صحيح عن أنس: ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأئمة من قريش) إلا أن في سنده بكير بن وهب

ص: 60

مُجْتَهِدًا

ــ

الجزري، وفيه كلام لا يضره؛ فإن ابن حبان ذكره في (الثقات).

ولما أراد الأنصار ولاية سعد بن عبادة .. روى لهم أبو بكر هذا الخبر، فرجعوا إلى قوله.

وقال صلى الله عليه وسلم: (قدِّموا قريشًا ولا تَقَدَّموها).

وانعقد الإجماع على ذلك.

قال الإمام: ولم يزل الناس لاهجين باختصاص ذلك بقريش على طول الأزمان، فلو جاز لغيرهم .. لطلبه ذو النجدة والبأس، ولما اشرأبَّ له المارقون بمصر .. بذلوا الأموال لِكَذَبة النسابين حتى ألحقوا نسبهم بالشجرة النبوية.

قال: ونحن نعقل عدم احتياج الإمامة في وضعها إلى النسب، ولكن خصهم الله بذلك.

فلو لم يوجد قرشي بالشروط .. فكناني، فإن لم يوجد .. فمن ولد إسماعيل صلى الله عليه وسلم، فإن لم يوجد .. ففي (التهذيب) يولى عجمي، وقال المتولي: جرهمي، فإن لم يوجد .. فمن ولد إسحاق.

وجرهم أصل العرب، ومنهم تزوج إسماعيل صلى الله عليه وسلم حين أنزله أبوه أرض مكة.

قال: (مجتهدًا) حيث لا يحتاج إلى استفتاء غيره في الحوادث؛ لأنه بالمراجعة والسؤال يخرج عن رتبة الاستقلال، ويفوِّت من الأمور العظام ما لا يتناهى.

وقد حكى الإمام في (الإرشاد) الإجماع على اشتراط ذلك.

وفي اعتبار الاجتهاد المطلق نظر؛ فإن أكثر من ولي بعد الخلفاء الراشدين لم يكن بهذا الوصف.

ص: 61

شُجَاعًا ذَا رَايٍ

ــ

وقال القاضي حسين: إذا اجتمع عدل جاهل وعالم فاسق .. فالأول أولى؛ لتمكنه من التفويض إلى العلماء، قال ابن الرفعة: هذا إنما يكون عند فقد المجتهدين.

قال: (شجاعًا)؛ ليغزو بنفسه ويقهر الأعداء ويجهز الجيوش ويفتح الحصون.

فمن لم يكن عقربًا يتفي

مشت بين أثوابه العقرب

قال الماوردي: فإذا اجتمع أعلم وأشجع، فإن كانت الحاجة إلى الشجاعة أدعى .. قدم، وإن كانت إلى الأعلم أشد لظهور البدعة .. قدم.

و (الشجاعة) شدة القلب عند البأس، يقال: شجُع الرجل –بالضم- فهو شجع، وفي شينه ثلاث لغات حكاها ابن سيده وغيره.

قال أبو زيد: يقال: رجل شجاع، ولا توصف به المرأة.

قال: (ذا رأي) يفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح الدنيوية.

فالرأيُ قبلَ شجاعةِ الشجعانِ

هي أوَّلٌ وهوَ المحلُّ الثاني

فإذا هُما اجتمعا لنفسٍ مرَّةً

بلغت مِنَ العلياءِ كلَّ مكانِ

ولرُبَّما قهرَ الفتى أقرانَهُ

بالرأيِ لا بتطاعنِ الأقرانِ

وقد كان العباس بن عبد المطلب يضرب به المثل في سداد الرأي، وكذلك الحُباب بن المنذر الأنصاري، وهو الذي أشار على النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل على ماء بدر للقاء القوم، فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: الرأي ما رآه الحباب، وهو القائل يوم سقيفة بني ساعدة: (أنا جُذَيلُها المُحكَّك،

ص: 62

وَكِفَايَةٍ وَسَمْعٍ وَبَصَرٍ وَنُطْقٍ

ــ

وعُذَيْقُها المُرَجَّب، منكم أمير ومنا أمير).

قال: (وكفاية)؛ ليقوم بما يتولاه من أمور رعاياه، فلا يكون إمعًا ولا إمعة، وهو: الذي يكون لضعف رأيه مع كل واحد، ولا يقال ذلك للنساء، ومثله: رجل إمر وإمرة، وهو: الذي لضعف رأيه يأتمر لكل أحد.

قال: (وسمع وبصر ونطق)؛ ليتأتى منه فصل الأمور.

أما اشتراط السمع .. فقال الإمام في (الغياثي) أجمعوا عليه.

وأما البصر .. فلأنه في معناه، وضعف البصر إن كان يمنع تمييز الأشخاص .. منع، وإلا .. فلا، ولا يمنع الولاية كونه أعشى.

واشترط الشيخان مع هذه الأمور: العدالة، وعبر عنها الإمام بالورع والتقوى والأمانة.

وحذف المصنف هذا الشرط؛ لظنه دخوله في الاجتهاد، وهذا عند التمكن، فلو دعت الضرورة إلى ولاية فاسق .. جاز.

قال ابن عبد السلام: وإذا تعذرت العدالة في الأئمة والحكام .. قدمنا أقلهم فسقًا؛ دفعًا لأشد المفسدتين بأخفهما، والأصح: اشتراط كونه سالم الأعضاء الظاهرة.

وأما فقد الشم والذوق وقطع الذكر والأنثيين .. فلا يمنع قطعًا.

وجزم في (البحر) بأن العور يمنع الإمامة دون القضاء.

ص: 63

وَتَنْعَقِدُ الإِمَامَةُ بِالْبَيْعَةِ،

ــ

ولا يشترط كونه هاشميًا بالاتفاق، ولا كونه معصومًا، خلافًا للإسماعيلية والإثني عشرية.

ثم إذن هذه الشروط كما تعتبر في الابتداء تعتبر في الدوام إلا العدالة.

وفي جواز تولية المفضل خلاف مذكور في (أدب القضاء)، فإن لم تتفق الكلمة إلا عليه .. جازت توليته بلا خلاف لتندفع الفتنة، ولو نشأ من هو أفضل من المنصوب .. لم يعدل إليه بلا خلاف.

) والجمهور على أن الإمامة وجبت بالشرع؛ لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ففرض طاعتهم علينا، وقال صلى الله عليه وسلم:(اسمعوا وأطيعوا)، و (عليكم بالسمع والطاعة).

وروي عن بعض المتكلمين: أنها وجبت بالعقل؛ لقول الأفوه الأودي الجاهلي [من البسيط]:

لا يصلحُ الناسُ فوضى لا سراةَ لهم

ولا سراةَ إذا جُهّالهُم سادوا

والبيتُ لا ينبني إِلا له عَمَدٌ ولا عمادٌ إذا لم ترسُ أوتادُ

قال: (وتنعقد الإمامة بالبيعة) الطرق التي تنعقد بها الإمامة ثلاثة: البيعة كما بايع الصحابة أبا بكر رضي الله عنهم، هكذا استدل به الجمهور.

قال ابن حزم: الذي اعتقده أنه إنما ولي بعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث الوارد في ذلك رواه البخاري [3659] ومسلم [2386]، وهو قصة المرأة التي قالت: فإن رجعت ولم أجدك؟ كأنها تريد الموت، هذا في نص الحديث، فقال عليه الصلاة والسلام:(فآت أبا بكر).

وما أحسن قول الحسن -في قول أبي بكر لما ولي الخلافة: (وليتكم ولستُ

ص: 64

وَالأَصَحُّ: بَيْعَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ الَّذِينَ يَتَيَسَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ، وَشَرْطُهُمْ صِفَةُ الشُّهُودِ

ــ

بخيركم) -: (كان يعلم أنه خيرهم؛ ولكن المؤمن يهضم نفسه).

قال: (والأصح: بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم)؛ لأن الأمر ينتظم بهم، ويتبعهم سائر الناس.

ولا يشترط على هذا عدد، فلو تعلق الحل والعقد بواحد مطاع .. كفت بيعته؛ لأن عمر هو الذي بايع أبا بكر أولًا، ثم بايعه الناس، وقال العباس لعلي:(امدد يدك أبايعك)، فيقول الناس: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع ابن عمه، فلا يختلف عليك اثنان.

وفي وجه ثان: يشترط اثنان.

وثالث: ثلاثة، يتولاها واحد برضا الاثنين، كولي وشاهدين في النكاح، وحاكم وشاهدين في الحكم، ولأن الثلاثة مطلق الجمع، فإذا اتفقوا .. لم تجز مخالفة الجماعة.

ورابع: أربعة؛ لأنه أكمل نصاب الشهادة.

وخامس: خمسة، حكاه في (الكفاية)؛ لأن بيعة أبي بكر انعقدت بعمر وأبي عبيدة وأُسيد بن حُضير وبشير بن سعد وسالم مولى أبي حذيفة.

وجعل عمر الأمر شورى بين ستة؛ لينعقد لأحدهم برضا الخمسة.

وسادس: أربعون كالجمعة، ولا يشترط اتفاقهم في سائر البلاد، بل إذا وصل الخبر إلى البلاد البعيدة .. لزمهم الموافقة والمتابعة.

وخرج بـ (أهل الحل والعقد) إجماع العامة وحدهم، ولا يلتفت إليهم؛ لأنهم أتباع لأهل الاجتهاد.

قال: (وشرطهم صفة الشهود)، فلا تنعقد بالفسقة.

ص: 65

وَبِاسْتِخْلَافِ الإِمَامِ،

ــ

وظاهر عبارته أنه لا يشترط فيهم الاجتهاد، وهو كذلك بالنسبة إلى الجميع.

أما لو عقدت بواحد .. فيشترط فيه الاجتهاد.

وكذلك إن اعتبرنا العدد .. لا بد وأن يكون فيهم مجتهد؛ لينظر في الشروط المعتبرة.

والمرد بـ (المجتهد) هنا: العارف بشروط الإمامة، لا أن يكون مجتهدًا مطلقًا كما صرح به الزنجاني في (شرح الوجيز).

والأصح في زوائد (الروضة) لا يشترط حضور شاهدَينِ البيعةَ إن كان العاقدون جمعًا، وإن كان واحدًا .. اشترط.

ويشترط: أن يجيب الذي بايعوه، فإن سكت .. لم تنعقد بيعته، فإن لم يكن يصلح إلا واحد .. أجبر بلا خلاف، ويلزمه طلبها.

قال: (وباستخلاف الإمام) هذه الطريقة الثانية، وهي استخلاف الإمام وعهده إليه، فإذا مات .. صار إمامًا، وكذلك إذا عزل نفسه.

واستدل لذلك بعهد أبي بكر إلى عمر رضي الله عنهما، وانعقد الإجماع على ذلك، كذا قاله الرافعي، وفي المسألة وجهان في (الإشراف) للهروي.

وممن ولي بعهد من الخلفاء: يزيد بن معاوية، وعبد الملك بن مروان، والوليد ابنه، وسليمان أخوه، وعمر بن عبد العزيز، ويزيد بن عبد الملك، وهشام أخوه، والوليد بن يزيد، وإبراهيم بن الوليد، وأبو جعفر المنصور، والمهدي، والهادي، والرشيد، والأمين، والمأمون، والواثق، والمنتصر، والمعتضد، والمكتفي، والمقتدر، والطائع، والقائم بأمر الله.

كل هذا إذا كان صالحًا للإمامة، فإن كان فاسقًا أو صغيرًا عند العهد كاملًا عند موت المستخلف .. فلا بد من بيعة حينئذ كما جزم به في (الغياثي)، وصوبه في (الروضة)، وأنكر على الرافعي التوقف فيه.

ص: 66

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وكيفية الاستخلاف: أن يجعله خليفة في حياته ثم يخلفه بعد مته، فإن أوصى له بالإمامة .. فوجهان؛ لأنه بالموت خرج عن الإمامة فلا يصح منه تولية غيره.

قال الرافعي: (ولك أن تقول: هذا التوجيه يشكل بكل وصاية، ثم جعلُه خليفةً في حياته إن أريد به استنابة .. فلا يكون هذا عهدًا إليه بالإمامة، وإن أريد جعله إمامًا في الحال .. فهذا إما خَلَعَ نفسه، أو اجتماعُ إمامين في وقت، وكلاهما لا يجوز، أو يريد جعله خليفة بعد موته .. فهذا معنى الوصية، ولا فرق بينهما) اهـ

وعلى كل تقدير: فلا بد من قبول المعهود إليه، ووقته على الأصح: من العهد إلى الموت.

وينبني على هذا الخلاف: أن المعاهد هل له خلعه؟ جزم المتولي بالجواز؛ لأن الخلافة لم تنتقل إليه فلا يخشى منه فتنة.

وجزم الماوردي بالمنع من غير سبب، ورجحه الإمام والمصنف في زوائد (الروضة).

فإن امتنع المعهود إليه من القبول .. بويع غيره وكأنه لا عهد.

ويجوز العهد إلى الوالد والولد كما يجوز إلى غيرهما.

وقيل: يمتنع ذلك كالتزكية والحكم لهما.

وقيل: يفترق الحال بين الوالد والولد؛ لن الميل إلى الولد أشد.

ولو أراد ولي العهد أن ينقل ما إليه من العهد إلى غيره .. لم يجز.

ولو عهد إلى جماعة مرتبين كفلان ثم فلان ثم فلان .. جاز وانتقلت الخلافة إليهم، كما رتب النبي صلى الله عليه وسلم أمراء مؤتة.

فإن مات الأول في حياة الخليفة .. فالخلافة للثاني، وإن مات الأول والثاني .. فهي للثالث.

وإن مات الخليفة وبقي الثلاثة أحياء فانتصب الأول .. كان له أن يعهد بها إلى غير الآخرين؛ لأنها لما انتهت إليه .. صار أملك بها، بخلاف ما إذا مات ولم يعهد إلى

ص: 67

فَلَوْ جَعَلَ الأَمْرَ شُورَى بَيْنَ جَمْعِ .. فَكَالاِسْتِخْلَافِ، فَيَرْتَضُونَ أَحَدَهُمْ وَبِاسْتِيلَاءِ جَامِعِ الشُّرُوطِ، وَكَذَا جَاهِلٌ وَفَاسِقٌ فِي الأَصَحِّ

ــ

أحد؛ فليس لأهل البيعة أن يبايعوا غير الثاني، ويقدم عهد الأول على اختيارهم.

قال: (فلو جعل الأمر شورى بين جمع .. فكالاستخلاف، فيرتضون أحدهم) كما فعل عمر؛ فإنه جعل الأمر شورى بين علي والزبير وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة وسعد بن أبي وقاص، فاتفقوا بعد موته على عثمان.

ووقع في (الكفاية) و (تعليقة القاضي حسين) أن أبا عبيدة من أهل الشورى وأسقطا سعدًا، وهو وهم؛ لأن أبا عبيدة كان قد مات قبل ذلك سنة ثماني عشرة من الهجرة في طاعون عَمواس؛ وهي قرية بين الرملة وبيت المقدس، ودفن بغور بيسان.

وقال عمر عند الموت: لو كان أبو عبيدة حيًا ما عدلت بها عنه.

وكان سعيد بن زيد أحد العشرة حيًا أيضًا، إلا أن عمر لم يدخله فيهم؛ لكونه ابن عمه.

فلو امتنع أهل الشورى من الاختيار .. لم يجبروا عليه، وكأنه لم يجعله إليهم.

وليس لأهل الشورى أن يعينوا واحدًا منهم في حياة الخليفة إلا أن يأذن لهم في ذلك.

قال: (وباستيلاء جامع الشروط) هذه الطريقة الثالثة، فإذا مات الخليفة فتصدى لها من هو لها أهل وقهر الناس بشوكته وجنوده .. انعقدت إمامته؛ ليتنظم شمل المسلمين، وأنكرت الإمامية ذلك.

وقال الزيدية: كل فاطمي عالم خرج بالسيف وادعى الإمامة .. صار إمامًا، ولا اعتداد بخلافهم.

قال: (وكذا جاهل وفاسق في الأصح) وإن كان عاصيًا بما فعل.

والثاني: المنع؛ لفقد الشرط.

وظاهر عبارته: أن الخلاف عند اجتماع الجهل والفسق، لكن عبارة (الشرح) و (الروضة) تقتضي: أنه في أحدهما، وهو الظاهر.

ص: 68

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فتلخص: أن الشخص لا يصير إمامًا إلا بأحد هذه الطرق، حتى لو انفرد شخص بشروطها في وقت .. لم يصر إمامًا بمجرد ذلك كما جزم به الجمهور.

وقيل: تثبت إمامته بذلك وتجب طاعته، واختاره الإمام.

وحكى القمولي وجهًا: أن الإمامة تنعقد من غير عقد، قال: ومن الفقهاء من ألحق القاضي بالإمام في ذلك، قال: ومنهم من سوى بينهما في المنع، وهو أقرب من عكسه.

فروع:

تجب طاعة الإمام في أمره ونهيه ما لم يخالف حكم الشرع، سواء كان عادلًا أو جائرًا.

ولا يجوز خلع الإمام اتفاقًا ما لم تختل الصفات.

فلو أراد هو خلع نفسه .. ففي جواز ذلك وجهان: وجه الجواز: أن الحسن بن علي خلع نفسه –ولم ينكره أحد- لما رأى في ذلك من تسكين الفتنة.

ولا يجوز نصب إمامين في وقت واحد وإن تباعد الإقليمان بهما.

وحكى أبو القاسم الأنصاري في (الغنية) عن الأستاذ أبي إسحاق: أنه يجوز نصبهما في إقليمين؛ لأنه قد يحتاج إلى ذلك، وهو اختيار الإمام.

وإذا عقدت البيعة لاثنين معًا .. فالبيعتان باطلتان، وإن ترتبتا .. بطلت الثانية؛ لما روى مسلم [1853] عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما) روي بالتاء المثناة من فوق، من القتل، ومعناه: أبطلوا دعوته واجعلوه كمن مات، وروي بالياء المثناة من تحت، أي: لا تطيعوه.

ثم إن جهل الثاني ومَن بايعه بيعةَ الأول .. لم يغرروا، وإلا .. وجب تعزيرهم، ولو عرف سبق أحدهما ولم يتعين، أو شككنا في المعية والترتيب .. فالحكم كما سبق في الجمعتين والنكاحين.

ص: 69

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

روى البيهقي [8/ 145] في حديث السقيفة: أن الأنصار حين قالوا: منا رجل ومنكم رجل .. قال عمر بن الخطاب: (سيفان في غمد إذن لا يصطحبان)، ثم أخذ بيد أبي بكر فقال:(من هذا الذي له هذه الثلاث){إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ، ثم قال:(بايعوه)، فبايعه الناس أحسن بيعة وأجملها.

وقوله: (يصطحبان) من الصحبة، كقول أبي ذؤيب [من الطويل]:

تريدين كيما تجمعيني وخالدًا .... وهل يجمع السيفان ويحك في غمد

وفي المثل: لا يجتمع فحلان في شول، وتمثل به عبد الملك بن مروان عند قتله عمرو بن سعيد الأشدق، والمعنى ينظر إلى قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وقد ذكر الزمخشري المثل هنالك.

فوائد:

الأولى: هل للسلطان أن يقضي بين الخصمين أو يفصل حكومة بين متحاكمين؟

عند أبي حنيفة ليس له ذلك وإنما هو لنائبه الخاص، وكذلك مذهبنا كما نقله في (شرح مسلم).

وفي (التتمة) في (كتاب النكاح) كان القاضي حسين يقول: الإمام الفاسق لا يزوِّج الأيامى ولا يقضي، كما لا يشهد، ولكنه ينصِّب القضاة حت يزوِّجوا.

قال: وليس في منعه من القضاء والتزويج خوف فتنة؛ لأنه يفوض ذلك إلى من يصلح له.

قال الشيخ: (وهو حسن متعين؛ لأن الضرورة في تنفيذ قضائه وتزويجه إليه.

قال: وهكذا أقول إذا ولى قاضيًا لا يصلح، وكنت أظن أن تنفيذ ذلك ضرورة؛ لما يترتب على إبطاله من كثرة المفاسد حتى تنبهت بقول المتولي: إن الضرورة إنما هي خوف القتال، وهذا لا يحصل إلا بإزالة الإمام، وأما أفعال القاضي .. فلا يترتب على إبطالها قتال ولا هرج وإن كانت كثيرة –قال-: فهذا الذي استقر عليه رأيي) اهـ

ص: 70

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وجزم المصنف في (الروضة) في (القضاء على الغائب) بأن سماع البينة يختص بالقضاة، وسيأتي في تتمة (فصل تحمل الشهادة).

الثانية: عهد أبي بكر الذي كتبه بعد موته: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة في الحالة التي يؤمن فيها الكافر ويتقي فيها الفاجر، إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن بر وعدل .. فذلك علمي به ورأيي فيه، وإن جار وبدل .. فلا علم لي بالغيب، والخيرَ أردت، ولكل امرئٍ ما اكتسب، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} .

الثالثة: أربعة إخوة وُلُّوا الخلافة لا نعرف غيرهم: الوليد وسليمان ويزيد وهشام بنو عبد الملك، وأما ثلاثة إخوة .. فالأمين والمأمون والمعتصم بنو الرشيد، والمنتصر والمعتز والمعتمد بنو المتوكل، والمكتفي والمقتدر والقاهر بنو المعتضد، والراضي والمتقي والمطبع بنو المقتدر.

وأكثر الخلفاء ولدًا: عبد الرحمن بن الحكم، كان له خمسون ذكرًا وخمسون أنثى.

وأطولهم عمرًا: القادر، بلغ ثلاثًا وتسعين سنة، ولم يصح عن خليفة غيره: أنه تجاوز السبعين.

وأقصرهم عمرًا: معاوية بن يزيد، لم يجاوز العشرين، وكانت ولايته أربعين يومًا.

وسابور ذو الأكتاف ولي وهو في بطن أمه حين مات أبوه، ولم يكن له ولد، وضعوا التاج على بطن أمه، وعقدوا لحملها اللواء، فولدته ذكرًا، فملكهم إلى أن مات.

الرابعة: رأى المستنجد في حياة والده المقتفي كأن ملكًا من السماء نزل فكتب في كفه أربع خاءات معجمات، فلما استيقظ .. عبرها له بعض العلماء؛ بأنه يلي الخلافة سنة خمس وخمسين وخمس مئة، فكان ذلك.

ص: 71

قَلْتُ: وَلَوِ ادَّعَى دَفْعَ زَكَاةٍ إِلَى الْبُغَاةِ .. صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، أَوْ جِزْيَةٍ .. فَلَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَذَا خَرَاجٌ فِي الأَصَحِّ، وَيُصَدَّقُ فِي حَدٍّ

ــ

ورأى عبد الملك بن مروان أنه بال في محراب النبي صلى الله عليه وسلم أربع بولات، فولي الخلافة من بنيه لصلبه أربعة كما تقدم.

الخامسة: كان المعتصم بالله يُدعى المُثمَّن؛ لأنه ثامن خلفاء بني العباس، ولد سنة ثمان ومئة لثماني عشرة خلت من شعبان، وهو الشهر الثامن من السنة، وفتح ثماني فتوحات، ووقف ثمانية ملوك وثمانية أعداء ببابه، وعاش ثمانية وأربعين سنة، وكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أيام، وخلف ثمانية بنين، وثماني بنات، وثمانية آلاف دينار، وثماني مئة ألف درهم، وثمانية آلاف فرس، وثمانية آلاف بعير وبغل ودابة، وثمانية آلاف خيمة، وثمانية آلاف عبد، وثمانية آلاف أمة، وثماني قصور، وكان نقاش خاتمه: الحمد لله، وهي ثمانية أحرف، وكانت غلمانه الأتراك ثمانية عشر ألفًا.

قال: (قلت: ولو ادعى دفع زكاة إلى البغاة .. صدق بيمينه)؛ لأنها عبادة ومواساة، والمسلم في العبادات أمين، لكنه يحلف وجوبًا على الأصح، وقيل: استحبابًا.

قال: (أو جزية .. فلا على الصحيح)؛ لأن الذمي غير مؤتمن فيما يدعيه على المسلمين، ولأنها أجرة ومدعي دفعها غير مصدق.

والثاني: نعم كالزكاة؛ فإنها عبادة ومواساة أيضًا.

قال: (وكذا خراج في الأصح)؛ لأنه ثمن أو أجرة فيحتاط فيه.

والثاني: أنه يصدق؛ لأن المسلم مأمون على أمر دينه.

قال: (ويصدَّق في حدٍّ) أي: في إقامته عليه، قال الماوردي: بلا يمين؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات.

ص: 72

إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ بِبَيِّنَةٍ، وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي الْبَدَنِ، وَاللهُ أَعْلَمُ

ــ

قال: (إلا أن يثبت ببينة، ولا أثر له في البدن والله أعلم)؛ لأن المشاهدة تدل عليه، فأما إذا ثبت بالبينة ولا أثر ببدنه .. فلا يصدق؛ لأنه متهم، وكان اللائق بالمصنف أن يذكر هذه الزيادة قبل الكلام على أحكام الإمامة.

تتمة:

تقدم في (الجنائز) أن من مات في قتال البغاة ليس بشهيد في الأظهر، ولا ينقطع التوارث بين أهل العدل وأهل البغي.

وإذا اجتمع الفريقان في قتال الكفار .. قسم الإمام الغنيمة بينهم، وأعطى القاتل منهم السلب.

ومن قتل من أحد الفريقين في المعترك ولم يعلم قاتله .. لم يرثه من كان في الطائفة الأخرى من ورثته؛ لاحتمال أنه قتله وشارك في قتله.

خاتمة

تجب نصيحة الإمام بحسب القدرة، ويجوز أن يقال له: الخليفة، والإمام، وأمير المؤمنين، وإن كان فاسقًا.

وتقدم في (الوصايا) أنه لا ينعزل بالفسق على الأصح، لكنه ينعزل بالمرض الذي ينسيه العلوم، وبالجنون إلا اليسير الذي يتمكن منه من القيام بالأمور.

وينعزل بالعمى والصمم والخرس، لا بثقل السمع وتمتمة الكلام.

والأصح: أن قطع إحدى يديه ورجليه لا يؤثر.

وإذا أسر .. لزم الرعية استنقاذه وهو على إمامته ما دام مرجوَّ الخلاص، فإن أيس منه وقد أسره الكفار .. خرج عن الإمامة وعقدت لغيره، فإن عهد بها في هذه الحالة .. لم يصح عهده.

ص: 73

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ويستحب أن يكون الإمام لينًا من غير ضعف، شديدًا من غير عنف، وأن لا يحتجب، وأن يشاور الفقهاء، وحكمه في ذلك كالقاضي، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى،

ويستحب أن يكون له وزير صدوق، إن نسي .. ذكره، وإن ذكر .. أعانه.

وأن لا يكون متلوِّنًا، كما قال شيخ الإسلام القشيري في وصف الوزير تاج الدين الجيلي [من الخفيف]:

مقبل مدبر بعيد قريب

محسن مذنب عدو حبيب

عجب من عجائب البر والبحـ

ـر ونوع فرد وجنس غريب

قال الزمخشري: ألا أخبركم بالنفس الوزارة؟ نفس بلاها الله بالوزارة، كل وزير موسى إلا وزير موسى.

وأعظم من نيل الوزارة للفتى

حياة تريه مصرع الوزراء

ص: 74

كتاب الردة

ص: 75