الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ الرِّدَّةِ
هِيَ: قَطْعُ الإِسْلَامِ بِنِيَّةٍ أَوِ قَوْلِ كُفْرٍ أَوْ فِعْلٍ،
ــ
كتاب الردة
هي في اللغة: الرجوع عن الشيء إلى غيره، وشرعًا ما سيأتي، وهي أفحش أنواع الكفر وأغلظها حكمًا.
والأصل في الباب: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} ، وقوله تعالى:{وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} ، وأشباه ذلك.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه .. فاقتلوه) وهو في (البخاري)[3017]، ووهم الحاكم فاستدركه عليه [3/ 538].
والردة محبطة للأعمال إذا اتصلت بالموت؛ لقوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} ، وقوله:{وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، ولا يكون خاسرًا في الآخرة إلا من مات على الكفر.
فلو كان قد حج قبل الارتداد .. لم تجب الإعادة بعد العود خلافًا لأبي حنيفة، لكن نص في (الأم) على حبوط ثواب الأعمال بمجرد الردة، وهو حسن غريب.
قال: (هي قطع الإسلام بنية أو قول كفر أو فعل) هذا تعريفها شرعًا.
واحترز بـ (قطع الإسلام) عن قطع العبادات كالصلاة والصوم والحج؛ فلا يكون ذلك كفرًا.
فإن قيل: الإسلام معنًى معقول ولا محسوس، فكيف يتصور قطعه؟ .. قيل: المراد: قطع استمراره ودوامه، وعلم من ذلك أن الكافر الأصلي لا يسمى مرتدًا ولا يثبت له حكم المرتدين.
سَوَاءٌ قَالَهُ اسْتِهْزَاءً أَوْ عِنَادًا أَوِ اعْتِقَادًا
ــ
وقوله: (بنية
…
إلخ) أشار به إلى أن القطع يكون بأحد هذه الأمور الثلاثة؛ لأن كلًا منها يؤثر، لكن يَرِد عليه أن الردة تحصل وإن لم يوجد قطع، كما إذا تردد في أنه يخرج من الإسلام أو يبقى فيه؛ فإنها ردة كما سيأتي، وكذلك من علق بين مرتدين .. فإنه مرتد على الأصح عند المصنف.
والقطع بالنية لم يذكره في (الروضة) ولا في (الشرحين)، وكأنه ذكره ليدخل في الضابط مسألة العزم على الكفر الآتية.
وقوله: (أو قول) المراد به: القول المقصود، فمن سبق لسانه إليه أو أكره عليه .. لا يكون مرتدًا، وكذلك تغتفر الكلمات الصادرة من الأولياء في حال غيبتهم.
ففي (أمالي ابن عبد السلام) أن الولي إذا قال: أنا الله .. عزر التعزير الشرعي، ولا ينافي ذلك الولاية؛ لأنهم غير معصومين.
وهذا ينافيه قول القشيري: من شرط الولي: أن يكون محفوظًا، كما أن من شرط النبي: أن يكون معصومًا؛ فكل من كان للشرع عليه اعتراض .. فهو مغرور مخادع، فالولي: الذي توالت أفعاله على الموافقة، وقد سئل ابن سريج عن الحسين الحلاج لما قال: أنا الحق؟ فتوقف فيه وقال: هذا رجل خفي علي حاله وما أقول فيه شيئًا.
وأفتى بكفره بذلك وبغيره القاضي أبو عمر وأبو القاسم الجنيد وفقهاء عصره، فأمر المقتدر بضربه ألف سوط، فإن مات، وإلا .. ضرب ألفًا أخرى، فإن لم يمت .. قطعت يداه ورجلاه ثم يضرب عنقه، ففعل به جميع ذلك لست بقين من القَعدة سنة تسع وثلاث مئة، والناس مع ذلك مختلفون في أمره، فمنهم من يبالغ في تعظيمه، ومنهم من يكفِّره؛ لأنه قتل بسيف الشرع.
قال: (سواء قاله استهزاء أو عنادًا أو اعتقادًا)؛ لقوله تعالى: {قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاته وَرَسُوله كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} ، {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} .
و (المعاند) الذي يرد الحق وهو يعرفه.
فَمَنْ نَفَى الصَّانِعَ أَوِ الرُّسُلَ أَوْ كَذَّبَ رَسُولًا أَوْ حَلَّلَ مُحَرَّمًا بِالإِجْمَاع كَالزِّنَا وَعَكْسُهُ، أَوْ نَفَى وُجُوبَ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، أَوْ عَكْسُهُ، أَوْ عَزَمَ عَلَى الْكُفْرِ غَدًا أَوْ تَرَدَّدَ فِيهِ .. كَفَرَ.
ــ
قال: (فمن نفى الصانع أو الرسل أو كذَّب رسولًا أو حلَّل محرمًا بالإجماع كالزنا وعكسه، أو نفى وجوب مُجمع عليه، أو عكسه، أو عزم على الكفر غدًا أو تردد فيه .. كفر)؛ لمنافاة ذلك الإسلام.
فنفي الصانع جل وعلا كفر بالإجماع، وكذلك إذا اعتقد قدم العالم أو حدوث الصانع، أو نفى ما هو ثابت له تعالى بالإجماع ككونه عالمًا وقادرًا، أو أثبت له ما هو منتف عنه إجماعًا، أو أثبت له الاتصال والانفصال .. كان كافرًا.
واستشكل الشيخ عز الدين في (القواعد) أن أصحابنا كفَّروا من اعتقد أن الكواكب فعالة، ولم يكفروا المعتزلة في اعتقادهم أن العبد يخلف أفعال نفسه؟
وأجيب عنه بأن صاحب الكواكب اعتقد فيها ما يعتقد في الإله من أنها مؤثرة في جميع الكائنات كلها، بخلاف المعتزلي؛ فإنه إنما يقول بخلق أفعاله فقط.
فإن قيل: في إطلاق اسم الصانع على الله تعالى نظر؛ إذ لم يرد به إذن في كتاب لا سنة .. فالجواب: أن البيهقي رواه في (الأسماء والصفات)[43]، وصاحب كتاب (الحجة إلى بيان المحجة)، ومعناه: المُركِّب المُهيِّئ، قال تعالى:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} ، وقال صلى الله عليه وسلم:(إن الله صنع كل صانع وصنعته) رواه الحاكم في أوائل (المستدرك)[1/ 31] من حديث حذيفة، وقال: صحيح على شرط مسلم.
وكذلك يكفر من جحد جواز بعثة الرسل، أو أنكر نبوة نبي من الأنبياء أو رسولًا من الرسل عليهم السلام.
واحترز بقوله: (كذَّب رسولًا) عما إذا كَذَب عليه؛ فإنه لا يكفر، خلافًا للشيخ أبي محمد؛ فإنه قال: يكفر بذلك ويراق دمه؛ لما تواتر عنه من قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمدًا .. فليتبوأ مقعده من النار).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قال الإمام: وهذه زلة، ولم أرَ ما قاله لأحد من الأصحاب، والصواب: أنه يعزر ولا يكفر ولا يقتل.
وكذلك يكفر من اعتقد حل محرم بالإجماع كالزنا وشرب الخمر، أو تحريم حلال بالإجماع، أو وجوب ما ليس بواجب بالإجماع كزيادة ركعة في الصلاة المفروضة، أو وجوب صوم يوم من شوال، ومن هذا إذا اعتقد حَقيَّة المكوس، ويحرم تسميتها: حقًا.
ويكفر من نسب إلى سيدتنا عائشة رضي الله عنها الفاحشة، وفي كفر من سب الحسن والحسين وجهان.
ويكفر من ادعى النبوة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو صدَّق من ادعاها، أو عظم الصنم بالتقرب إليه بالذبح باسمه أو بالسجود له، أو قال لمسلم: يا كافر، بلا تأويل، فإن أراد كفر النعمة والإحسان .. لم يكفر.
وأما العزم على الكفر .. فكفر في الحال، قال في (شرح المهذب) في باب (صفة الصلاة) لا خلاف في ذلك، لكن في (الشهادات) من (البحر) لو نوى أن يكفر غدًا .. كفر في الحال على الصحيح، وكذلك الحكم إذا علق الكفر بأمر مستقبل، كقوله: إن هلك ماله أو والده .. تهود أو تنصر؛ لأن نية الاستدامة شرط في الإيمان، بخلاف ما لو نوى العدل فعل كبيرة عمدًا؛ فإنه لا يفسق بذلك كما سيأتي في بابه.
والرضا بالكفر .. كفر. فلو سأله كافر يريد الإسلام أن يلقنه كلمة التوحيد فلم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يفعل، أو أشار عليه بأن لا يسلم، أو على مسلم بأن يرتد .. كفر، بخلاف ما إذا قال لمسلم: سلبه الله الإيمان، أو لكافر: لا رزقه الله الإيمان؛ فإنه لا يكفر بذلك على الصحيح؛ لأنه ليس رضا به، لكن دعاء عليه بتشديد الأمر والعقوبة.
ومن دخل دار الحرب فشرب معهم الخمر وأكل لحم الخنزير .. لم يكفر.
وارتكاب كبائر المحرمات لا تسلبه اسم الإيمان، خلافًا للخوارج والمعتزلة.
وقال القاضي حسين: لو تقلنس بقلنسوة المجوس أو تزنر بزُنَّار النصارى .. صار كافرًا؛ لأن الظاهر: أنه لا يفعله إلا عن عقيدة الكفر.
ولو شد على وسطه حبلًا فسئل عنه فقال: هذا زُنَّار .. فالأكثرون على أنه يكفر.
قال المصنف: والصواب: أنه لا يكفر في المسألتين.
وفي كتب الحنفية: من قال: لو أعطاني الله الجنة ما دخلتها .. كفر، وكذا من قرأ القرآن على دُف أو قصب أو على الإيقاع .. كفر.
واختلفوا فيمن خرج لسفر فصاح عَقْعَقٌ .. فَرَجَعَ.
ولو حضر جماعة وواحد يعظهم وهم يسخرون ويضربونه بالمخراق .. كفر.
ولو عطس السلطان فشمته إنسان، فقال له شخص: لا تقل للسلطان هذا .. كفر.
قال المصنف: الصواب: أنه لا يكفر بشيء من هذه إذا لم تكن له نية.
ولو قال لغيره: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل لحس أصابعه الثلاثة، فقال السامع: هذا ليس بأدب .. كفر، وكذا لو قال لغيره: قلم أظافرك؛ فهو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا أفعله وإن كان سنة .. كفر.
قال المصنف: المختار: أنه لا يكفر بهذا إلا أن يقصد الاستهزاء، وحديث لعق الأصابع الثلاث رواه مسلم [2032] من رواية كعب بن مالك.
وفي (الروضة) إذا قال: لو كان فلان نبيًا آمنت به .. كفر، كذا بخط المصنف، وفي بعض نسخ الرافعي: ما آمنت به، بإثبات (ما) النافية، وهو الصواب.
وَالْفِعْلُ المُكَفِّرُ: مَا تَعَمَّدَهُ اسْتِهْزَاءً صَرِيحًا بِالدِّينِ أَوْ جُحُودًا لَهُ كَإِلْقَاءِ مُصْحَفٍ بِقَاذُورَةٍ، وَسُجُودٍ لِلصَّنَمِ أَوِ الشَّمْسِ
ــ
فائدة:
لا بدع ولا إشكال في العبارة المعزوة إلى الشافعي في قوله: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى؛ فهي مروية عن عمر، وصحت عن ابن مسعود، وهي قول أكثر السلف والشافعية والمالكية والحنابلة وسفيان الثوري والأشعرية والكلابية.
وحكي عن أبي حنيفة إنكارها، وهو عجيب؛ لأنها صحت عن ابن مسعود، وهو شيخ شيخ شيخ شيخه.
والقائلون بجواز قولها اختلفوا في الوجوب، وذكر العلماء لها محامل كثيرة، والصواب: عدم الاحتياج إلى تلك المحامل؛ لأن حقيقة (أنا مؤمن) هو جواب الشرط، أو دليل الجواب، وكل منهما لا بد أن يكون مستقبلًا، فمعناه: أنا مؤمن في المستقبل إن شاء الله، وحينئذ لا حاجة إلى تأويل، بل تعليقه واضح مأمور به بقوله تعالى:{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَاّ أَن يَشَاء اللَّهُ} .
وقال الشيخ في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} : استدل بها على أن الأولى أن يقول: أنا مسلم، من غير تقييد بقوله: إن شاء الله، قال: والخلاف الذي أعرفه في قوله: أنا مؤمن إن شاء الله، ومن قيد .. نظر إلى حالة الوفاة، وأما قوله: أنا مسلم .. فمعناه: أنا مقر، ولا معنى لتقييده بالمشيئة.
وقال المصنف في أوائل (شرح مسلم) هذا في المؤمن، أما الكافر .. ففيه خلاف غريب لأصحابنا:
منهم من قال: يقول: هو كافر، ولا يقول: إن شاء الله.
ومنهم من قال: هو في التقييد كالمسلم، فيقول: هو كافر إن شاء الله؛ نظرًا إلى الخاتمة، وأنها مجهولة، وهذا القول اختاره بعض المحققين.
قال: (والفعل المكفِّر: ما تعمده استهزاءً صريحًا بالدين أو جحودًا له كإلقاء مصحف بقاذورة، وسجود للصنم أو الشمس) أو غيرهما من المخلوقات، وكذلك
وَلَا تَصِحُّ رِدَّةُ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَمُكْرَهٍ، وَلَوِ ارْتَدَّ فَجُنَّ .. لَمْ يُقْتَلْ فِي جُنُونِهِ .....
ــ
السحر الذي فيه عبادة كوكب، فإن لم يتضمن ذلك .. لم يكن كفرًا.
قال القاضي: وكذلك الاستنجاء بأوراق المصحف مستحلًا، وألحق الروياني بها أوراق العلوم الشرعية.
وعن الشيخ أبي محمد: أن الفعل بمجرده لا يكون كفرًا، وأنكر الإمام.
قال: (ولا تصح ردة صبي ومجنون)، أما المجنون .. فبالإجماع، وأما الصبي .. فقياسًا عليه بجامع رفع القلم، لكن الإمام يهدد المميز ولا يقتله، والمراد: أن أحكام الردة لا تترتب على غير المكلف المختار.
قال: (ومكره) إذا كان قلبه مطمئنًا بالإيمان؛ لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} ، وهو عمار بن ياسر بالإجماع.
روى أحمد [4/ 89]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب عمارًا .. أحبه الله، ومن أبغضه .. أبغضه الله، ومن عاداه .. عاداه الله)، فإذا أكره المسلم على التلفظ بكلمة الكفر ففعل .. لم يحكم بردته، بل تدوم عصمته وزوجيته وماله، وترثه ورثته إذا مات.
وقد تقدم في أول (الجراح) أن المكره يباح له ذلك ولا يجب عليه على الصحيح، وأن الأولى له: أن يثبت ولا يتلفظ بها.
ويصح الإسلام بالإكراه من الحربي والمرتد بلا خلاف، وفي الذمي وجهان: أصحهما: المنع.
ولو أكره مسلمًا على الكفر .. صار المكره كافرًا.
قال: (ولو ارتد فجن .. لم يقتل في جنونه)؛ لأنه إذا عقل ربما عاد إلى الإسلام، وكذا إذا أقر بما يوجب حدًا ثم جن .. لا يقام عليه؛ لأنه قد يرجع عن الإقرار، بخلاف ما لو أقر بقصاص أو حد قذف ثم جن؛ فإنه يستوفى منه في جنونه؛ لأنه لا يسقط برجوعه، لكن هذا التأخير للاحتياط، حتى لو قتل أو حد في الجنون .. لم يجب على القاتل شيء.
وَالمَذْهَبُ: صِحَّةُ رِدَّةِ السَّكْرَانِ وَإِسْلَامِهِ، وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالرِّدَّةِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: يَجِبُ التَّفْصِيلُ؛
ــ
قال: (والمذهب: صحة ردة السكران) كطلاقه، ولأن الصحابة اتفقوا على مؤاخذته بالقذف، والمصحح طريقة القولين.
وقيل: تصح قطعًا، فعلى الصحيح: يقتل بردته، لكن لا يقتل حتى يُفيق فيعرض على الإسلام.
وفي صحة استتابته في حالة السكر وجهان: أصحهما: نعم، لكن يستحب أن يؤخر إلى الإفاقة.
قال: (وإسلامه) أي: إذا عاد إلى الإسلام في السكر .. صح إسلامه وارتفع حكم الردة، وإذا صححنا إسلامه فقتله رجل .. لزمه القصاص والضمان على المشهور.
قال: (وتقبل الشهادة بالردة مطلقًا)، لأن الظاهر من حال العدل: أنه لا يطلق الشهادة بذلك إلا وهو على بصيرة منه؛ لعظم أمره.
قال: (وقيل: يجب التفصيل)؛ لأن مذاهب العلماء في التكفير مختلفة، والحكم بالردة عظيم الوقع فيحتاط له.
وهذا الذي ضعفه المصنف هو القوي الصحيح المعتمد في الفتوى، وفاقًا للقفال والبغوي والمتولي والشاشي والقاضي أبي الطيب وأصحاب (المهذب) و (البيان) و (الذخائر) و (الحاوي) و (الوسيط) و (الانتصار)، وأجاب الرافعي بنحوه في (تعارض البينتين)، وسيأتي فيما إذا أقر أحد الابنين، بأن أباه مات كافرًا ولم يبين سبب كفره، وفي الجرح: أنه لا بد من بيان السبب، والمدرك واحد.
والذي صححه الرافعي هنا تبع فيه الإمام، والإمام لم ينقله عن أحد، وإنما هو من تخريجه، وهو معارض بما ذكرناه، والإقدام على قتل نفس بمجرد شهادة مطلقة صعب.
فَعَلَى الأَوَّلِ: لَوْ شَهِدُوا بِرِدَّةٍ فَأَنْكَرَ .. حُكِمَ بِالشَّهَادَةِ،
ــ
وقد يقال: إن كانت الشهادة عند من يقبل التوبة كالشافعية .. تقبل مطلقًا، ثم يقول له القاضي: تلفظ بالشهادتين ولا حاجة إلى السؤال عن السبب، فإذا امتنع .. كان امتناعه قرينة لا يحتاج معها إلى ذكر الشاهد السبب، وإن كان عند من لا يقبل التوبة كالمالكية .. لم تقبل إلا مفصلة.
والجواب: أن عار ذلك يبقى على الإنسان، فلا بد من التفصيل والبيان.
ووقع في (المحاكمات) أن شاهدين شهدا بفساد عقيدة إنسان، فأفتى علماء الشام بأنه لا بد من بيان السبب، وليس كالشهادة بالردة على ما فيها من النظر؛ لإضافة الشهادة إلى العقيدة التي لا يطلع عليها إلا الله.
فائدة:
قال في (المطلب) جمع بعض الفقهاء المواضع التي لا تسمع البينة فيها إلا مفصلة فبلغت ثلاثة عشر موضعًا: الزنا، والإقرار به، والسرقة، والإقرار بها، والردة، والجرح، والإكراه، وأنه وارث فلان، وأن الماء نجس، وأن فلانًا سفيه، وأنه يستحق النفقة، وأن بين هذين رضاعًا، والشهادة على الشهادة، فلا بد في جميع ذلك من التفصيل.
وبقيت مسائل أخرى:
منها: لو شهدا بأنه قذفه، أو بأن المقذوف محصن .. فالظاهر: أنه لا يكفي الإطلاق، خصوصًا إذا كان الشاهد غير فقيه.
ومنها: لو شهدا بأنه شفيع، ذكره في (الإشراف).
ومنها: لو شهدا بأنها مطلَّقة ثلاثًا .. قال الزبيلي في (أدب القضاء) لم تسمع حتى يَذكرا لفظ الزوج.
قال: (فعلى الأول) وهو الإطلاق (لو شهدوا بردة فأنكر .. حكم بالشهادة)، ولا أثر لتكذيبه، ولا ينفعه ذلك، بل يلزمه أن يأتي بما يصير به الكافر مسلمًا، وكذا الحكم إن قلنا بالتفصيل ففصلا وكذبهما، بخلاف ما إذا شهد أربعة على إقرار شخض
فَلَوْ قَالَ: كُنْتُ مُكْرَهًا وَاقْتَضَتْهُ قَرِينَةٌ كَأَسْرِ كُفَّارٍ .. صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَإِلَّا .. فَلَا، وَلَوْ قَالَا: لَفَظَ لَفْظَ كُفْرٍ، وَادَّعَى إِكْرَاهًا .. صُدِّقَ مُطْلَقًا
ــ
بالزنا فأنكر لا يحد؛ لأنه لو رجع عن الإقرار .. سقط الحد.
وقتل المرتد لا يسقط بالرجوع.
قال: (فلو قال: كنت مكرهًا واقتضته قرينة كأسر كفار .. صدق بيمينه)؛ عملًا بالقرائن الشاهدة لذلك، وإنما حلف؛ لاحتمال أنه كان مختارًا، وكذا الحكم لو قامت بينة بإقراره بالبيع وغيره وكان مقيدًا أو محبوسًا، وقال: كنت مكرهًا.
قال: (وإلا .. فلا)؛ لانتفاء القرائن؛ بأن كان في دار الإسلام، فإنه لا يقبل قوله: كنت مكرهًا، وكذا إن كان في دار الكفر وسبيله مخلى.
فرع:
من سبق لسانه إلى كلمة كفر من غير قصد .. لا يحل لشاهد أن يشهد عليه قطعًا، كذا نص عليه الشافعي، وحكى الرافعي مثله في نظيره من الطلاق وقد تقدم، وأفاد الغزالي في (الإحياء) أن الشاهد إذا سمع لفظ الكفر .. لا تحل له حكايته إلا في مجلس الحكم.
وأفتى الشيخ بأنه لا يحل للشاهد الشافعي أن يشهد بالكفر، أو التعريض بالقذف، أو بما يوجب التعزير عند من يعلم أنه لا يقبل التوبة ويحد بالتعريض ويعزر بما ينتهي إلى القتل، قال: وليس كطلب الشافعي شفعة الجوار من الحنفي؛ لأن أمر الأموال أخف من الدماء والأبدان، ويؤيده قول ابن سراقة: لو شهد على مسلم: أنه قتل كافرًا، والحاكم يقتل بذلك .. لم يجز له الأداء؛ لما فيه من قتل المسلم بالكافر.
قال: (ولو قالا: لَفَظ لفْظَ كفرٍ، وادعى إكراهًا .. صدق مطلقًا)؛ لأنه ليس فيه تكذيب للشاهدين، بخلاف ما إذا شهدا بالردة؛ فإن الإكراه ينافي الردة ولا ينافي التلفظ بكلمتها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قال الجويني: والحزم أن يجدد عليه الإسلام.
واستشكل الرافعي تصوير المسألة؛ بأنه إن اعتبر تفصيل الشهادة والتعرض للشرائط .. فمن الشرائط الاختيار، وإذا قال الشاهد: إنه كان مختارًا، فقال: كنت مكرهًا .. فقد كذَّبَ الشاهد، وإن لم يشترط التفصيل .. فإنما لا يشترط إذا قال: إنه ارتد، فيكتفى به؛ لتضمنه حصول الشرائط، فأما إذا قال: إنه تكلم بكذا .. فيبعد أن يحكم به ويقنع بأن الأصل الاختيار.
حادثة:
رجل نسب إلى شخص ما يقتضي الكفر، ولم يأت ببينة، وقصد المدعى عليه: أن الحاكم يحكم بعصمة دمه خشية أن تقوم عليه بينة عند حاكم لا يقبل توبته .. فهل يجوز للحاكم الشافعي إذا جدد هذا الرجل إسلامه أن يحكم بإسلامه وعصمة دمه وإسقاط التعزير عنه، أو لا يجوز حتى يثبت عليه إما ببينة أو اعترافه ثم يجدد إسلامه بعد ذلك؟
نقل عن الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد أنه قال: ليس للحاكم ذلك، بل لا بد من أن يعترف أو تقوم عليه بينة.
وخالفه الشيخ فقال: يجوز للحاكم الشافعي الذي يرى قبول التوبة إذا تلفظ هذا الرج بين يديه بكلمة الإسلام وطلب منه الحكم له وقد ادعيَ عليه بخلافه: أن يحكم للمذكور بإسلامه وعصمة دمه وإسقاط التعزير عنه، ولا يتوقف ذلك على اعترافه؛ لأنه قد يكون بريئًا، فإلجاؤه إلى الاعتراف على نفسه بخلاف ما وقع لا معنى له، بل لا يجوز له أيضًا أن يفعل ذلك، إنما يحكم القاضي بإسلامه مستندًا إلى ما سمعه منه من كلمة الإسلام العاصمة للدم الماحية لما قبها، ويَمنع بحكمه ذلك مَن ادعى عليه بخلاف ذلك وغيره من التعرض له، ثم أطال في الاستدلال لذلك، وسبقه إلى ذلك ابن القاص في (أدب القضاء) له، فذكره في (باب ما لا تجب فيه اليمين)، فقال: إذا ادعى على شخص: أنه ارتد، وهو ينكر .. قال الشافعي: لم أكشف عن حقيقة
وَلَوْ مَاتَ مَعْرُوفٌ بِالإِسْلَامِ عَنِ أبْنَيْنِ مُسْلِمَيْنِ فَقَالَ أَحَدُهَمَا: ارْتَدَّ فَمَاتَ كَافِرًا، فَإِنْ بَيَّنَ سَبَبَ كُفْرِهِ .. لَمْ يَرِثْهُ، وَنَصِيبُهُ فَئٌ، وَكَذَا إِنْ أَطْلَقَ فِي الأَظْهَرِ ....
ــ
الحال، بل أقول له: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وأنه برئ من كل دين يخالف دين الإسلام، وسيأتي في كيفية الحسبة فرع له تعلق بهذا.
واقعة:
سئل الشيخ عن من قال: القاضي يقتضي والمفتي يهذي؟ فقال: (هذا لفظ صعب يخشى على قائله الكفر، فإن المفتي يبين حكم الله وهو وارث النبوة، قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ}، والقاضي يفصل ويلزم، قال تعالى: {واللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ}، فالمفتي أعلى درجة من القاضي، لأن القاضي تابع له، فمن قال: إن المفتي يهذي مع اعتقاده أن فتواه صواب فيما أخبر به عن الله تعالى .. فهو كافر، وإن قصد أن قول المفتي لا يلزم .. فإطلاق هذه العبارة خطأ).
فإن كانت عبارته يهدي- بالدال المهملة- وأراد الهداية إلى الحق وبيان الحكم الشرعي من غير إلزام .. فلا خطأ عليه في إطلاق ذلك.
قال: (ولو مات معروف بالإسلام عن ابنين مسلمين فقال أحدهما: ارتد فمات كافرًا، فإن بين سبب كفره)، بأن قال: سجد للصنم أو تكلم بما يوجب الكفر) .. لم يرثه، ونصيبه فئ)، لأن المسلم لا يرث الكافر، ولم يحك الرافعي ولا المصنف ف يهذه الحالة خلافًا.
قال: (وكذا إن أطلق في الأظهر)، لأنه أقر بكفره فعومل بمقتضى إقراره فلم يرث منه.
والثاني: أن نصيبه يصرف إليه ولا يعتبر الإقرار المطلق، لاختلاف المذاهب في التكفير، فقد يعتقد ما ليس بكفر كفرًا.
وعلى الأظهر: قولان: أحدهما: أنه فئ فيجعل في بيت المال.
وأظهرهما: أنه يوقف وستفصل، فإن ذكر مصرفًا .. عمل به.
وَتَجِبُ اسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ، وَفِي قَوْلٍ: تُسْتَحَبُّ كَالْكَافِرِ، وَهِيَ فِي الْحَالِ،
ــ
قال: (وتجب استتابة المرتد والمرتدة)، لأنهما كانا محترمين بالإسلام، فربما عرضت لهما شبهة فيسعى في إزالتها وردهما إلى ما كانا عليه، لأن الغالب أن الردة تكون عن شبهه عرضت، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالتوبة إلى الحارث بن سويد ومن كان قد ارتد معه إلى مكة بعد أن نزلت فيه آية التوبة.
وروي البيهقي [8/ 197]: أن النبي صلى الله عليه وسلم استتاب رجلًا- يقال له: نبهان- أربع مرات.
وفيه وفي (الدارقطني)[3/ 118] عن جابر: أن امرأة- يقال لها أم رومان – ارتدت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام، فإن تابت، وإلا – قتلت.
وثبت وجوب الاستتابة عن عمر، وحكي ابن القصار المالكي إجماع المالكية على تصويته.
فإن قيل: لم يستتب النبي صلى الله هـ عليه وسلم العرنيين وهو مرتدون .. فالجواب: أنهم حاربوا، والمرتد إذا حارب لا يستتاب، وإنما نص المصنف على المرتدة، لأجل خلاف أبي حنيفة فيها.
وكان الأحسن أن يعبر كما في (المحرر) بقتل المرتد إن لم يتب رجلًا كان أو امرأة، لأن خلاف أبي حنيفة في قتلها لا في استتابتها، فقال: لا تقتل المرتدة، بل تحبس وتضرب إلى أن تموت أو تسلم، للنهي عن قتل النساء.
وأجيب بأنه محمول على الحربيات.
قال: (وفي قول: تستحب كالكافر) الأصلي، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:(من بدل دينه فاقتلوه) ولم يكر توبة.
قال: (وهي في الحال)، فإن تاب، وإلا .. قتل، لحديث أم رومان المتقدم.
وَفِي قَوْلٍ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ أَصَرَّا .. قُتِلَا، وَإِنْ أَسْلَمَ .. صَحَّ وَتُرِكَ، ....
ــ
قال: (وفي قوله: ثلاثة أيام)، سواء قلنا بوجوبها أم استحبابها، لما روى مالك [2/ 737] والشافعي [1/ 321] وأحمد والييهقي [8/ 206] أن محمد بن عبد الله بن عبيد القاري وفد على عمر من قبل أبي موسى، فقال:(هل من مغربة خبر؟) قال: رجل كفر بعد إسلامه، قال:(ما فعلتم به؟) قال: ضربنا عنقه، قال:(هلا حبستموه ثلاثًا وأطعمتموه كل يوم رغيفًا وسقيتموه لعله يتوب، اللهم لم أحضر، ولو أرض إذا بلغني).
وقال مالك: الذي آخذ به في المرتد قول عمر، فلا يأتي الاستظهار إلا بخير.
وقال الزهري: يدعى إلى الإسلام ثلاث مرات، فإن أبي .. قتل، ونقل في (الشفاء) عن على: أنه يستتاب شهرين.
وقال النخعي والثوري: يستتاب أبدًا.
قال: (فإن أصرا .. قتلا)، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:(من بدل دينه .. فاقتلوه)، والأصح: أنه يحبس مدة الإمهال، فإن كان حرًا .. قتله الإمام، فإن قتله غيره .. عزره، وإن كان عبدًا .. فالأصح: أنه يجوز للسيد قتله، وقيل: لا.
ويقتل المرتد بضرب العنق دون الإحراق ونحوه، للأمر بإحسان القتلة.
وفي (الأحكام السلطانية) عن ابن سريج: أنه يضرب بالخشب ونحوه حتى يموت، لأنه ربما استدرك التوبة، بخلاف السيف الموحي، ولا يدفن في مقابر المسلمين، لخروجه بالردة عنهم، ولا في مقابر المشركين، لما تقدم له من حرمة الإسلام.
قال: (وإن أسلم .. صح وترك)، لقوله تعالى:{قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} .
وقوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله).
وَقِيلَ: لَا يُقْبَلُ إِسْلَامُهُ إِنِ ارْتَدَّ إِلَى كُفْرٍ خَفِيٍّ كَزَنَادِقَةٍ وَبَاطِنِيَّةٍ
ــ
وكان الأحسن أن يقول: فإن اسلما، لموافقة ما قبله.
واقتضت عبارته: قبول توبة مكذب الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه ذكره في صدر الباب من أنواع الردة، وبه جزم الرافعي في آخر (باب الجزية).
ومن قذف النبي صلى الله عليه وسلم .. فهو كافر باتفاق الأصحاب، فإن عاد إلى الإسلام .. فثلاثة أوجه:
أحدهما: لا شئ عليه، لأنه مرتد أسلم، قاله الأستاذ أبو إسحاق.
والثاني- قال أبو بكر الفارسي، وتبعه صاحب (الحاوي الصغير)، وهو الصواب -: يقتل حدًا، لأنه حد القذف، ولا يسقط بالتوبة.
والثالث- قاله الصيدلاني-: يجلد ثمانين جلدة.
ولو لم يقذف صريحًا لكن عرض .. فقال الإمام: الذي أراه أنه كالسب الصريح في اقتضاء الكفر، لما فيه من الاستهانة.
قال في زوائد (الروضة) وهذا متعين، وقد قاله آخرون، ولا نعلم فيه خلافًا.
قال: (وقيل: لا يقبل إسلامه إن ارتد إلى كفر خفي كزنادقة وباطنية)، لأن التوبة عند الخوف عين الزندقة.
و (الزنديق) الذي لا ينتحل دينًا على المشهور.
وقيل: الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وهو الذي في (الروضة) هنا وفي (الفرائض) و (صفة الأئمة)، والأول ذكره في (اللعان)، وهو الأقرب، بل الأصوب، لأن الثاني نفاق.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فرع:
من تكررت منه الردة .. لم يعزر في المرة الأولى، لجواز أن تكون له شبهة يزيلها عنه، وفي الثانية: يعزر.
وقال أبو حنيفة: إنما يعزر في الثالثة، وعلى كل حال يصح إسلامه، لعموم الأدلة.
وقد تقدم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استتاب نبهان أربع مرات).
ونقل عن الشيخ أبي إسحاق المروزي: أنه يقتل في الرابعة.
قال الإمام: وعد هذا من هفواته الفاحشة، والصواب: أن المنسوب إليه ذلك إنما هو إسحاق بن راهوية كما قال القاضي عياض وغيره.
قال ابن المنذر: ولا نعلم أحدًا أوجب على المرتد في المرة الأولى أدبًا.
وتحصل توبة المرتد – وفي معناها الكافر الأصلي- بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأن يبرأ من كل دين يخالف الإسلام، وإن كان الكافر ثنويًا أو وثنيًا.
فلو قال: أنا مسلم أو آمنت .. لم يكف.
ولو قال: أنا من أمة محمد أو دينكم حق .. حكم بإسلامه.
وجزم القاضي أبو الطيب بأن شرط الإيمان بالله ورسوله الترتيب، فلو آمن برسول اتلله صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمن بالله .. لم يصح، كذا نقله في (شرح المهذب) في (الترتيب في الوضوء).
وقال الحليمي: إن الموالاة بينهما لا تشترط فلو تراخي الإيمان بالرسالة عن الإيمان بالله مدة طويلة .. صح، قال: وهذا بخلاف القبول في البيع والنكاح، لأن حق الدعوى إلى دين الحق أن تدوم ولا تختص بوقت دون وقت، فكان العمر كله بمنزلة المجلس.
وَوَلَدُ الْمُرْتَدِّ إِنِ انْعَقَدَ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا وَأَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ .. فَمُسْلِمٌ، أَوْ مُرْتَدَّانِ .. فَمُسْلِمٌ، وَفِي قَوْلٍ: مُرْتَدٌّ، وَفِي قَوْلٍ: كَاِفٌر أَصْلِيٌّ. قُلْتُ: الأَظْهَرُ: مُرْتَدٌّ، وَنَقَلَ الْعِرَاقِيُّونَ الاتِّفَاقَ عَلَى كُفْرِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ
…
ــ
قال: (وولد المرتد إن انعقد قبلها أو بعدها وأحد أبويه مسلم .. فمسلم) تغليبًا للإسلام، حتى لو ارتد حامل .. لم يحكم بردة ولدها، لأنه قد حكم بإسلامه تبعًا والإسلام يعلو، ولا يحكم بردته تبعًا، فإن بلغ وأعرب بالكفر .. كان مرتدًا بنفسه.
وإن حدث الولد بعد الردة، فإن كان أحد أبويه مسلمًا .. فهو مسلم بلا خوف، تغليبًا للإسلام.
قال: (أو مرتدان .. فمسلم)، لبقاء علقة الإسلام في أحد الأبوين، ولو يصدر منه كفر، وهذا حجة الرافعي وفاقًا للبغوي والخوارزمي والجويني والغزالي، وهو الذي ذكره صاحب (التلخيص).
قال: (وفي قوله: كافر أصلي)، لتولده بين افرين فأشبه ولد الحربيين.
قال: (قلت: الأظهر: مرتد، ونقل العراقيون الاتفاق على كفره والله أعلم)، فإذا قلنا: إنه مسلم .. لايسترق بحال وإن مات صغيرًا .. ورثه قرابته المسلمون، ويجزئ عتقه عن الكفارة إن كان رقيقًا، وإن بلغ وأعرب بالكفر .. فمرتد.
وإن قلنا: كافر أصلي .. جاز استرقاقه، لأنه كافر لا أمان له فأشبه ولد الحربي. وعلى هذا: يجوز المن عليه والفداء به، ولا يجوز إقراره بالجزية، لأنه دخل في الكفر بعد نزول القرآن.
وإن قلنا: إنه مرتد .. لم يسترق بحال، ولم يقتل حتى يبلغ فيستتاب، فإن أصر .. قتل.
وَفِي زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ مَالِهِ بِهَا أَقْوَالٌ: أَظْهَرُهَا: إِنْ هَلَكَ مُرْتَدًّا .. بَانَ زَوَالُهُ بِهَا، وَإِنْ أَسْلَمَ .. بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَزُلْ،
ــ
وأولاد أولاد المرتدين حكمهم حكم أولاد المرتدين.
كل هذا إذا لم يكون للولد أصل مسلم معروف من أجداد أو جدات، فإن كان .. فهو مسلم على الصحيح كما سبق في (باب اللقيط)، ولا يأتي ترجيح أنه مرتد أو كافر أصلي.
وسكت الأصحاب هنا عمن أشكل علوقه قبل الردة أو بعدها، والظاهر: أنه على الأقوال، لأن الأصل في كل حادث تقديره بأقرب زمان، ويدل له كلامهم في الوصية للحمل.
وأولاد المبتدعة من المسلمين إذا كفرناهم ببدعتهم .. الظاهر: أنهم مسلمون مل لم يعتقدوا بعد بلوغهم كفرًا، لأنهم ولدوا على الإسلام، واعتقاد الأب لا يسري إلى الولد، وقد تقدم في آخر (باب اللقيط) حكم الأطفال في الدار الآخرة.
قال: (وفي زوال ملكه عن ماله بها أقوال: أظهرها: إن هلك مرتدًا .. بأن زواله بها، وإن أسلم .. بان أنه لم يزل) وجه بقاء ملكه: أن الكفر لا ينافي الملك، ووجه زواله: أن ردته أزالت ملكه عن دمه الذي هو أعز الأشياء، فلأن تزيل ملكه أولى، ووجه الوقف: القياس على بضع زوجته.
ووقع في (الكفاية) أن المصنف صحح عدم زوال ملكه، وتبعه القمولي، وهما واهمان عليه، بل صحح هنا الوقف تبعًا (للمحرر)، وصححه في (أصل الروضة) و (التصحيح) وفي) شرح المهذب) في أول (الزكاة).
وأما الرافعي في (شرحه) .. فلم ينقل تصحيحه إلا عن البغوي فقط، وقال في (كتاب التدبير) إن بعضهم روى عن الشافعي أنه قال: أشبه الأقوال بالصحة زوال ملكه بنفس الردة، وبه أقول، وهو نص (المختصر) هناك، وصححه الشاشي والبغوي والمحاملي، والشيخ أبو محمد في) التبصرة)، والغزالي في (الخلاصة)، وهو المعتمد، وتجري الأقوال فيما تجدد ملكه بعد الردة باصطياد ونحوه كما صرح به المارودي.
وَعَلَى الأَقْوَالِ: يُقْضَى مِنْهُ دَيْنٌ لَزِمَهُ قَبْلَهَا، وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْهُ،
ــ
فإن قلنا بالبقاء .. ملك، وإن قلنا بالزوال .. لم يملك، بل هو لأهل الفئ عند الإمام.
وقال المتولي: إنه باق على إباحته كالمحرم إذا اصطاد، قال في (الكفاية) وهو متعين.
وأن قلنا: موقوف، فإن أسلم .. تبينا انه ملكه، وإن قتل أو مات على الردة .. تبينا أنه لم يملك، وجئ مقالة المتولي.
قال الرافعي: وعلى قياس ما قاله الإمام يكون لأهل الفيء.
تنبيهان:
أحدهما: أطلق الشيخان وغيرهما الأقوال، وخصها القاضي حسين في (باب الكتابة) بالأملاك المعرضة للزوال، قال: فأما ما لا تعرض له كالمكاتب وأم الولد .. فلا يزول ملكه عنه قطعًا، ولا يعيق مدبره ومستولده على الأقوال كلها.
الثاني: ظاهر عبارة المصنف: أنه يصير محجورًا عليه بنفس الردة، وهو وجه، والجمهور على أنه لا بد من ضرب الحاكم، وعلى الأقوال: هل هو كحجر السفه أو المرض أو الفلس؟ أوجه: أصحها: ثالثها، لأنه لأجل حق أهل الفيء.
قال: (وعلى الأقوال: يقضي منه دين لرمه قبلها)، لأنا إن قلنا ببقاء ملكه .. فواضح، أو بواله .. فهي لا تزيد على الموت، والدين يقدم على حق الورثة فليقدم على حق أهل الفيء.
وقال الإصطخري: لا تقضى منه ديونه على قول زوال الملك، ويجعل المال كالتالف
قال: (وينفق عليه منه) كمال المفلس، ونجعل حاجته إلى النفقة كحاجة الميت إلى التجهيز بعد زوال ملكه، وعن ابن الوكيل: لا ينفق منه قول الزوال بل نفقته في بيت المال.
وَالأَصَحُّ: يَلْزَمُهُ غُرْمُ إِتْلَافِهِ فِيهَا، وَنَفَقَةُ زَوْجَاتٍ وُقِفَ نِكَاحُهُنَّ وَقَرِيبٍ. وَإِذَا وَقَفْنَا مِلْكَهُ .. فَتَصَرُّفُهُ إِنِ احْتَمَلَ الْوَقْفَ كَعِتْقٍ وَتَدْبِيرٍ وَوَصِيَّةٍ مَوْقَوفٌ، إِنْ أَسْلَمَ .. نَفَذَ، وَإِلَّا .. فَلَا، وَبَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَرَهْنُهُ وَكِتَابَتُهُ بَاطِلَةٌ، وَفِي الْقَدِيمِ مَوْقُوفَةٌ، وَعَلَى الأَقْوَالِ: يُجْعَلُ مَالُهُ عِنْدَ عَدْلٍ، وَأَمَتُهُ عِنْدَ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ، وَيُؤَجَّرُ مَالُهُ، وَيُؤَدَّي مُكَاتَبُهُ النُّجُومَ إِلَى الْقَاضِي
ــ
قال: (والأصح: يلزمه غرم إتلافه فيها)، كمن حفر بئرًا عدوانًا ومات وحصل بسببها إتلاف، فإنه يتعلق بتركه وإن زال ملكه بالموت).
قال: (ونفقة زوجات وقف نكاحهن وقريب)، لأنها حقوق متعلقة به.
والثاني: لا يلزمه ذلك، لأنه لا مال له، وهذا الخلاف مفرع على قول الزوال. وسكت عن نفقة الرقيق، استغناء بذكر القريب، وصرح في (المطلب) بأنه ينفق على الرقيق وأم الولد قطعًا.
قال: (وإذا وقفنا ملكه .. فتصرفه إن احتمل الوقف كعتق وتدبير ووصية موقوف، إن أسلم .. نفذ، وإلا .. فلا)، لأن الوقف لا يضرها، وضابط ما يقبل الوقف: ما يحتمل التعليق.
قال: (وبيعه وهبته ورهنه وكتابته باطلة، وفي القديم موقوفة، وعلى الأقوال: يجعل ماله عند عدل، وأمته عند امرأة ثقة) احتياطًا، لأنا وإن أبقينا ملكه .. فقد تعلق به حق المسلمين.
قال: (ويؤجر ماله)، عقارًا كان أو غيره، صيانة له عن الضياع.
قال: (ويؤدي مكاتبه النجوم إلى القاضي)، لأن قبضه غير معتبر، فإذا أداه إلى القاضي .. عتق.
تتمة:
إذا أزلنا ملكه .. حل ما عليه من دين مؤجل، وإن أبقيناه .. فلا، وإن وقفناه فأسلم .. بأن عدم الحلول.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
خاتمة
إذا أتلف المرتد في حال الحرب شيئًا .. وجب عليه ضمانه، نص عليه في أكثر كتبه، وصححه الجمهور، وصحح صاحب (التنبيه) عدم الضمان، وأقره عليه المصنف، ولم يصحح في (الروضة) ولا في (الشرحين) شيئًا، والمعتمد ما تقدم من النص وقول الأكثرين، والله تعالى أعلم.
كتاب الزنا