المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كِتَابُ الْجِزْيَةِ ــ   كتاب الجزية لما فرغ من قتال المشركين عقبه بالجزية؛ لأن - النجم الوهاج في شرح المنهاج - جـ ٩

[الدميري]

الفصل: ‌ ‌كِتَابُ الْجِزْيَةِ ــ   كتاب الجزية لما فرغ من قتال المشركين عقبه بالجزية؛ لأن

‌كِتَابُ الْجِزْيَةِ

ــ

كتاب الجزية

لما فرغ من قتال المشركين عقبه بالجزية؛ لأن الله تعالى غيَّا القتال بها.

وسميت جزية؛ لأنها جزت عن القتل، أي: كفَّت عنه، ولفظها مأجوذ من المجازاة؛ لكفنا عنهم، وجمعها: جِزى، كقربه وقرب.

وهي المال المأخوذ من الكفار في كل سنة بالتراضي؛ لإسكاننا إياهم في دارنا، أو لحقن دمائهم وذراريهم وأموالهم، أو لكفنا عن قتالهم على اختلاف في ذلك، وليست مأخوذة في مقابلة الكفر ولا التقرير عليه، بل هي نوع إذلال لهم، ولعل الله تعالى أن يخرج منهم من يؤمن بالله واليوم الآخر.

والذي يفيد الكافر الأمن ثلاثة:

الأمان الذي يصح من آحاد الناس، وقد تقدم.

وعقد الجزية، وهو أمان بمال لا إلى غاية معينة.

وعقد الهدنة، وهو أمان بلا مال إلى غاية معينة، وهذان مخصوصان بالإمام.

والأصل في الباب قبل الإجماع: قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} ، دلت على ثلاثة أحكام: وجوب جهادهم، وجواز قتلهم، وحقن دمائهم بأخذ الجزية.

وفي (صحيح البخاري)[3157]: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من محبوس هَجَر)، وهذه هجر البحرين من اليمن، وهو مذكر مصروف.

وأما هجر التي تنسب إليها القلال الهجرية .. فهي قرية من قرى المدينة.

ص: 385

صُورَةُ عَقْدِهَا: أُقِرُّكُمْ بِدَارِ الإِسْلَامِ أَوْ أَذِنْتُ فِي إِقَامَتِكُمْ بِهَا عَلَى أَنْ تَبْذُلُوا جِزْيَةً وَتَنْقَادُوا لِحُكْمِ الإِسْلَامِ،

ــ

وروى أبو داوود [3036] والبيهقي [9/ 202]: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من أهل نجرن، ومن أهل أيلة).

وانعقد الإجماع على أخذها منهم.

والمعنى فيه: أن الصغار والذل يحملهم على الإسلام مع مخالطة المسلمين الداعية لهم إلى معرفة محاسن الإسلام، ولأن في أخذها معزة لنا وإهانة لهم، وربما يحملهم ذلك على الإسلام.

قال: صورة عقدها: أقركم بدار الإسلام أو أذنت في إقامتكم بها على أن تبذلوا جزية وتنقادوا لحكم الإسلام) أي: فيما سوى العبادات، قال الله تعالى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي: بالتزام أحْكام الإسلام كما فسره الشافعي في (الأم)؛ لأن الحكم على الشخص بما لا يعتقده ويضطر إلى احتماله عد صغارًا، قال ابن سيده: الصاغر: الراضي بالذل.

وأطبق الأصحاب على اعتبار هذين الشرطين، واستشكل القاضي حسين اشتراط الانقياد إلى جريان الأحكام وهي من مقتضيات العقد، والتصريح بمقتضى العقد لا يشترط في صحته، وأقيم هذا وجهًا، وهو شاذ مذهبًا، متَّجه تعليلًا.

واشترط الماوردي ثالثًا: وهو أن لا يجتمعوا على قتال المسلمين ليكونوا آمنين منهم كما أمنوهم، ونقله الإمام عن الأئمة، ويأتي فيه إشكال القاضي حسين.

ولا يخفى أن المراد بـ (دار الإسلام) غير الحجاز كما سيأتي.

والمراد بـ (أحكام الإسلام) حقوق الآدميين في المعاملات وغرامة المتلفات؛ لتخرج بذلك العبادات.

ونقل الإمام عن العراقيين: أن المراد: أنهم إذا فعلوا ما يعتقدون تحريمه يجري عليهم حكم الله فيه، ولا يعتبر فيه رضاهم كالزنا والسرقة، وأما ما يستحلونه كحد الخمر .. فلا يقام عليهم في الأصح وإن رضوا بحكمنا.

وإذا نكح مجوسي محرمًا .. لم نتعرض له.

ص: 386

وَالأَصَحُّ: اشْتِرَاطُ ذِكْرِ قَدْرِهَا، لَا كَفُّ اللِّسَانِ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَدِينِهِ، وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ مُؤَقَّتًا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَيُشْتَرَطُ لَفْظُ قَبُولٍ

ــ

قال: (والأصح: اشتراط ذكر قدرها) كالثمن والأجرة.

والثاني: لا ويحمل على الأقل عند الإطلاق، والخلاف ضعيف، فكان ينبغي أن يعبر بالصحيح.

قال: (لا كف اللسان عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ودينه)؛ لأنه داخل في شرط الانقياد.

والثاني –وهو قول أبي إسحاق-: يشترط إذ به تحصل المسالمة وترك التعرض من الجانبين.

وقيل: يشترط عدم الزنا بمسلمة وإصابتهم باسم النكاح وإفتان المسلمين عن دينهم وقطع الطريق عليهم والدلالة على عوراتهم.

قال: (ولا يصح العقد مؤقتًا على المذهب)، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه بدل عن الإسلام والإسلام لا يؤقت.

وقيل: قولان: أحدهما: يصح كالأمان.

وشرط المؤقت أن يكون معلومًا، فلو قال الإمام: أقركم ما شئت أنا .. فقولان مرتبان، وأولى بالجواز؛ لما روى مالك [2/ 703] مرسلًا، والبخاري [2730] متصلًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (أقركم ما أقركم الله) إلا أن ذلك كان في انتظار الوحي ولا يتصور الآن.

فلو قال: أقركم ما شئتم .. جاز؛ لأن لهم نبذ العهد متى شاؤوا فليس فيه إلا التصريح بمقتضاه، لكن قالوا في نظيره من الهدنة: لا يصح؛ لأنه يجعل الكفار محكمين في المسلمين.

قال: (ويشترط لفظ قبول)، كقبلت أو رضيت بذلك كغيره من العقود، فلو قال: قررني بكذا، فأجابه .. تم العقد.

واشتراط المصنف القبول اللفظي محله في الناطق، أما الأخرس .. فتكفي فيه

ص: 387

وَلَوْ وُجِدَ كَافِرٌ فَقَالَ: دَخَلْتُ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى، أَوْ رَسُولًا، أَوْ بِأَمَانِ مُسْلِمٍ .. صُدِّقَ،

ــ

الإشارة؛ لأنها بمنزلة نطقه، وسكتوا عن شرط اتصاله بالإيجاب، وقياس كونه عقدًا: اشتراط الفورية.

قال: (ولو وُجد كافر بدارنا فقال: دخلت لسماع كلام الله تعالى، أو رسولًا، أو بأمان مسلم .. صُدق)؛ لأن قصد ذلك يؤمنه.

والغالب: أن الحربي لا يدخل بلاد المسلمين إلا بأمان، ثم الداخل لسماع كلام الله تعالى لا نمكنه من المُقام فوق أربعة أشهر، وفيما دون ذلك إلى المدة التي يتبين لمثله فيها حجج الإسلام ومحاسنه وجهان:

أحدهما: لا يترك أكثر منها.

والثاني: يترك أربعة أشهر،

وقوله: (أو رسولًا) أي: أنه دخل رسولًا وإن لم يكن معه كتاب، وفيه احتمال للإمام، والمنصوص: أنه إن اتهم حلف.

وقال الماوردي والروياني: ما اشتهر من أن الرسول لا يقتل محله في رسالة فيها مصلحة للمسلمين من هدنة وغيرها، فإن كان في وعيد وتهديد .. فلا، ويتخير فيه بين الخصال الأربع كالأسير.

ورد المصنف ذلك وصوب أمانة مطلقًا؛ لما روى أحمد [1/ 390] والحاكم [3/ 52] –وقال: صحيح الإسناد- عن ابن مسعود: أن رجلين أتيا النبي صلى الله عليه وسلم رسولين لمسيلمة، فقال لهما:(أتشهدوا أني رسول الله؟) قالا: أتشهد أن مسيلمة رسول الله؟ فقال: (لو كنت قاتلًا رسولًا .. لضربت أعناقكما) فجرت السنة بأن لا تقتل الرسل.

والرجلان: ابن النواحة، وابن أثال.

ولم يقتل للنبي صلى الله عليه وسلم سوى رسولين: حبيب بن زيد بن عاصم الأنصاري المازني بعثه إلى مسيلمة فقتله، والحارث بن عمير الأزدي أحد بني لهب

ص: 388

وَفِي دَعْوَى الأَمَانِ وَجْهٌ، وَيُشْتَرَطْ لِعَقْدِهَا الإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ،

ــ

أرسله بكتابه إلى ملك بصرى فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فضرب عنقه صبرًا.

فعند ذلك أرسل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف مقاتل إلى مؤتة في جمادى سنة ثمان من الهجرة.

قال: (وفي دعوى الأمان وجه) أنه لا يصدق؛ لإمكان إقامة البينة عليه؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر.

فرع:

دخل حربي دار الإسلام وأقام مدة ثم عرفنا به .. لا نأخذ منه شيئًا؛ لما مضى من الزمان على الأصح، وأفتى البغوي بأنه تؤخذ منه جزية ما مضى، كمن سكن دارًا غصبًا عليه الأجرة.

وعلى الوجهين: لنا قتله واسترقاقه وغنم ماله ويكون فيئًا، فإن بذل الجزية وهو من أهلها .. وجب قبولها منه، إلا أن يكون جاسوسًا، ولا يمتنع ببذلها رقة على الصحيح، وسيأتي هذا في الخنثى إذا بانت ذكورته.

قال: (ويشترط لعقدها الإمام أو نائبه)؛ لأنها من المصالح العظام فاختصت بمن له النظر العام.

وقيل: يصح من الآحاد كالأمان، وهو شاذ متروك، فلو عقدها أحدهم بغير إذن الإمام .. فلا يغتال المعقود له، بل يلحق بمأمنه.

فلو أقام سنة أو أكثر .. فقيل: يؤخذ منه لكل سنة دينار، والأصح: لا؛ لأن القبول ممن لا يملك الإيجاب لغوٌ.

فرع:

يكتب الإمام بعد عقد الذمة أسماءهم وأديانهم وحلاهم، فيتعرض لسنه أهو شيخ أم شاب، وللونه من شقرة أو سمرة وغيرها، ويصف وجهه ولحيته وجبهته وحاجبيه

ص: 389

وَعَلَيْهِ الإِجَابَةُ إِذَا طَلَبُوا، إِلَّا جَاسُوسًا يَخَافُهُ

ــ

وعينيه وشفتيه وأسنانه وآثار وجهه إن كانت، ويجعل على كل طائفة عريفًا يضبطهم، ويشترط إسلامه ليعتمد خبره بمن مات منهم أو أسلم، ومن قدم عليهم ومن بلغ، وليحضرهم لأداء الجزية وللشكوى لمن يستعدي عليهم من المسلمين ومن يتعدى منهم، قال الرافعي: ويجوز في هذا أن يكون ذميًا.

قال: (وعليه الإجابة إذا طلبوا)؛ لما روى مسلم [1731] عن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية .. أوصاه إلى أن قال: (فإن هم أبوا .. فسلهم الجزية، فإن هم أجابوا .. فاقبل منهم وكف عنهم).

وفي قول شاذ: إنها لا تجب إلا إذا رأى فيه مصلحة كالهدنة.

والضمير في (وعليه) عائد على العاقد الإمام أو نائبه، وإنما أفرده؛ لأن العطف بـ (أو) يجب بعده ذلك.

ومحل الوجوب: قبل الأسر؛ فإن الأسير إذا طلب عقد الجزية لا يجب تقريره على الأصح كلما اقتضاه كلام (الروضة).

قال: (إلا جاسوسًا يخافه)؛ فإنه لا يجب عليه إجابته للضرر الذي يخشى منه، بل لا يقبل الجزية منه، وكذا لو كان يخاف غائلتهم ويرى أن ذلك مكيدة منهم .. فلا يجيبهم.

والجاسوس تقدم في الفصل الذي قبل هذا الباب.

وإذا عقد الذمة مع اختلال شرط .. لم يلزم الوفاء، ولا يجب المسمى، ويبلغوا المأمن.

قاعدة:

كل عقد فسد يسقط فيه المسمى إلا مسألة واحدة، وهي ما إذا عقد الذمة معهم على السكنى في أرض الحجاز؛ فإنهم إذا سكنوه ومضت المدة .. وجب المسمى؛ لأنه استوفى العوض، وليس لمثله أجرة فيرجع إلى المسمى.

ص: 390

وَلَا تُعْقَدُ إِلَّا لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَأَوْلَادِ مَنْ تَهَوَّدَ أَوْ تَنَصَّرَ قَبْلَ النَّسْخِ أَوْ شَكَكْنَا فِي وَقْتِهِ،

ــ

قال: (ولا تعقد إلا لليهود والنصارى) من العرب والعجم؛ لقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} .

وأخذها النبي صلى الله عليه وسلم من أكيدر دومة وكان من غسان أو من كندة، وأخذها من أهل اليمن وأكثرهم عرب.

قال: (والمجوس)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هَجَر كما تقدم، وقال:(سنوا بهم سنة أهل الكتاب) رواه البخاري [3157].

وأخذها منهم أبو بكر وعمر وعثمان.

قال: (وأولاد من تهود أو تنصر قبل النسخ) ولو بعد التبديل مطلقًا من غير خلاف ولا تفصيل؛ تغليبًا لحقن الدم، ولا تحل مناكحتهم ولا ذبائحهم كما تقدم؛ لأن الأصل في الميتات والأبعاض التحريم.

وخرج بقوله: (قبل النسخ) ما إذا كان ذلك بعد بعثة نبينا وعيسى صلى الله عليهما وسلم؛ فإنها لا تعقد لهم؛ لأنهم تمسكوا بدين سقطت حرمته.

وقال المزني: يقرون، وقد تقدم في (النكاح) أن نسخ النصرانية ببعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم واليهودية ببعثة عيسى عليه السلام، وقيل: ببعثة نبينا صلى الله وسلم.

قال: (أو شككنا في وقته) فلم نعرف أدخلوا فيه قبل النسخ أم بعده، أو دخلوا فيه قبل التبديل أو بعده، فيجوز تقريرهم بالجزية؛ تغليبًا للحقن كالمجوس، وبذلك حكمت الصحابة رضي الله عنهم في نصارى العرب، وهم: بهراء، وتنوخ، وبنو تغلب، وفي (النكاح) و (الذبيحة) غلبوا التحريم في مثلهم؛ أخذًا بالأحوط في البابين.

ص: 391

وَكَذَا زَاعِمُ التَّمَسُّكِ بِصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَزَبُورِ دَاوُودَ عليهما السلام،

ــ

قال الشافعي: والذي يروى من حديث ابن عباس من إحلال ذبائحهم، إنما هو من حديث عكرمة. أشار إلى أنه يتوقف في الاحتجاج به، والأكثرون وثقوه، ويكفي إخراج البخاري له، وهو عكرمة مولى ابن عباس، وليس هو عكرمة بن خالد الثقة، ولا عكرمة بن خالد الضعيف.

وفهم من إطلاق المصنف: أن يهود خيبر كغيرهم، وهو كذلك.

وانفراد ابن أبي هريرة بإسقاط الجزية عنهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ساقاهم وجعلهم بذلك خولًا، أي: عبيدًا.

وسئل ابن سريج عما يدعونه من أن علي بن أبي طالب كتب لهم كتابًا بإسقاطهم؟ فقل: لم ينقل أحد من المسلمين ذلك.

قال ابن الصباغ: وقد أظهروا في زماننا كتابًا ذكروا أنه بخط علي بن أبي طالب، وبان كذبهم فيه؛ فإن شهادة سعد بن معاذ ومعاوية، وتاريخه بعد موت سعد وقبل إسلام معاوية؛ لأن سعدًا توفي يوم الخندق، ومعاوية أسلم يوم الفتح.

وأما الصابئة والسامرة .. فحكمهم كما سبق في (النكاح) إن خالفا الأصول .. لم يصح، وإلا .. صح.

وقطع الإصطخري بأن الصابئة لا يقرون ولا تحل ذبائحهم ولا نساؤهم؛ فإنهم يقولون: إن الفلك حي ناطق، وإن الكواكب السبعة آلهة.

وأما من ليس له كتاب ولا شبهة كتاب كعبدة الأوثان والشمس والملائكة ومن في معناهم .. فلا يقرون بالجزية، سواء فيهم العربي والعجمي.

وعند أبي حنيفة: تؤخذ الجزية من العجم منهم.

وعند مالك: تؤخذ من جميع المشركين إلا مشركي قريش.

قال: (وكذا زاعم التمسك بصحف إبراهيم وزبور داوود عليهما السلام، وكذا صحف شيث، وهو ابن آدم لصلبه؛ لأن الله تعالى أنزل عليهم صحفًا، فقال:{صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} ، وقال:{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِالْأَوَّلِينَ} .

ص: 392

وَمَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كِتَابِيٌّ وَالآخَرُ وَثَنِيٌّ عَلَى الْمَذْهَبِ

ــ

وفي تقرير هؤلاء بالجزية وجهان:

أحدهما: لا يقرون، إما لأنها ليست كتبًا منزلة تتلى، أو لأنها مواعظ لا أحكام فيها.

والأصح –كما قال المصنف-: يقرون؛ لإطلاق قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} ، ولأن المجوس يقرون لشبهة كتاب، فهؤلاء أولى.

وداوود عليه السلام: هو أبو سليمان داوود بن إيشا –بهمزة مكسورة ثم مثناة من تحت ساكنة ثم شين مجمعة –من ذرية يهود بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام.

قيل: أنزل الله الزبور عليه في ست ليال، وعاش مئة سنة، مدة ملكه منها أربعون.

ولما مات شهد جنازته أربعون ألف راهب سوى غيرهم من الناس، وفي (الصحيحين) [خ 1975 - م 1159/ 182]:(أن داوود كان أعبد الناس)، وفي (الترمذي)(أعبد البشر).

وكان عليه السلام أحمر الوجه، أبيض الجسم، طويل اللحية فيها جعودة، حسن الصوت والخلق، طاهر القلب صلى الله عليه وسلم.

قال: (ومَن أحد أبويه كتابي والآخر وثني على المذهب)، سواء كان الكتابي الأب أو الأم؛ تغليبًا لحقن الدم، وفي الذبيحة والمناكحة غلبنا التحريم احتياطًا.

وقيل: فيه قولان، وقيل: لا يقرون، وقيل: يلحق بالأب، وقيل: بالأم.

ومحل الخلاف: إذا بلغ ودانَ ابنُ الوثني من كتابية بدين أمه، فإن دان بدين أبيه .. لم يقر قولًا واحدًا.

ولو أحاط الإمام بقوم فزعموا: أنهم أهل كتاب، أو أن آباءهم تمسكوا بذلك

ص: 393

وَلَا جِزْيَةَ عَلَي إمْرَأَةٍ وَخنْثَى، وَمَنْ فِيهِ رِقٌ

ــ

الدين قبل التبديل ..... فإنه يقرهم بالجزية؛ لأن ذلك لايعرف إلا من جهتهم

قال: (ولا جزية على إمرأة)، لما وي البيهقي [5/ 195] بإسناد صحيح عن عمر:

أنه كتب إلى أمراء الأجناد: أن لا تأخذوا الجزية من النساء والصبيان.

وحكي إبن المنذر فيه الإجماع، وخالف إبن حزم فأوجبها علي النساء والصبيان

والعبيد

ولو جاءتنا إمرأة حربية تطلب عقد الذمة بجزية أو بعثت بذلك إلينا من دار الحرب .. أعلمها الإمام:

أنه لاجزية عليها، فإن رغبت مع ذلك البذل

فهذه هبة لا تلزم إلا بالقبض، وإن طلبت الذمة بلا جزية

أجابها وشرط عليها التزام الأحكام.

قال) وَخَشِيَ)؛ لإحتمال كونه انثي، فلو بانت ذكورته ...... فهل تؤخذ منه جزية السنين القادمة؟ وجهان

قال في) الروضة) الذي ينبغي أن يكون الأصح: الأخذ، وبه جزم في) باب الأحداث) من) شرح المهذب)

قال ابن الرفعة: وينبغي تصحيح عكسه، كما إذا دخل حربي دارنا ثم أطلعنا عليه

لا نأخذ منه شيئآ؛ لما مضي علي

الصحيح؛ لأن عماد الجزية القبول وهذا حربي لم يلتزمها.

قال: (ومن فيه رق)، أما كامل الرق

فبالإجماع.

واستدال الرافعي تبعا ل (الحاوي) بأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (لا جزية علي رقيق)

ولا يعرف إلا من قول عمر.

والمدير والمكاتب وولد وأم الولد التابع لها كالقن، وكذا من بعضه حر علي المذهب؛ لأنه غير مقبول بالكفر، فكان

كمن تمحض رقة.

ص: 394

وَصَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ، فَإِنْ تَقَطَّعَ جُنُونُهُ قَلِيلًا كَسَاعَةٍ مِنْ شَهْرٍ

لَزِمَتْهُ، أَوْ كَثِيرا كَيَوْمٍ وَيَوْمٍ

فَالصَّحِيحُ: تَلْفِيقُ الإِفَاقَةِ،

فَإِذَا بَلَغَتْ سَنَةُ ..... وَجَبَتْ

ــ

وقيل: يؤدي بقدر ما فيه من الحرية، وكما لا يجب علي سيده بسببه.

وإذا عتق العبد، فإن كان من أولاد من لا يقر بالجزية .... فيسلم أو يبلغ المأمن، وأذاكان ممن يقر

فيسلم أو يبذل

الجزية، وإلا

فيبلغ المأمن، سواء أعتقه مسلم أو ذمي.

وعن مالك: إذا أعتقه مسلم

لم تضرب عليه الجزية؛ لحرمة ولائه.

قال) وصبي) لقوله صلي الله عليه وسلم لمعاذ) خذ من كل حالم _ أي: محتلم _ دينارآ) رواه الترمذي [623]

وأبو داوود [3033]

وروي أبو شيبة [7/ 582] بإسناد صحيح: أن عمركتب إلي عماله: ألا تضربوا الجزية علي النساء والصبيان.

فرع

لو عقد علي الرجال أن يؤدوا عن نسائهم وصبيانهم شيئأ غير ما يؤدونه عن أنفسهم، فإن كان من أموال النساء

والصبيان

لم يجز، قاله الإمام.

قال: (ومجنون)؛ لأن الجزية لحقن الدم، والمجنون محقون الدم، ولذلك إذا وقع في الأسر

رق.

وفي وجه ضعيف: عليه الجزية كالمريض.

قال: (فإن تقطع جنونه قليلا كساعة من شهر) أو شهرين) .. لزمته) ويغتفر الزمن اليسير.

قال: (أو كثيرا كيوم ويوم

فالصحيح: تلفيق الإفاقة، فإذا بلغت سنة وجبت)؛ اعتبارا للأيام المتفرقة بالأيام

المجتمعة.

والثاني: لاشيْ عليه قطعآ، كمن بعضه رقيق

ص: 395

وَلَوْ بَلَغَ ابْنُ ذِمِّيٍّ وَلَمْ يَبْذُلْ جِزْيَةُ .. أُلْحِقَ بِمَامَنِهِ، وَإِنْ بَذَلَهَا

عُقِدَ لَهُ، وَقِيلَ: عَلَيْهِ كَجِزْيَةِ أَبِيهِ

ــ

والثالث: حكمة كالعاقل، وما يطرأ ويزول

ينزل منزلة الأغماء، فتؤخذ منه جزية كاملة في آخر الحول، ونقله في) التنبيه) عن النص

والرابع: ينظر إلي الأغلب ويحكم بموجبه، فإن كانت الإفاقة أقل

لم يجب، وإلا وجب.

والخامس _ واختاره القفال _: النظر إلي آخر السنة، فإن كان عاقلا .. أخذت منه الجزية وإلا .. فلا،

كما أن في تحمل العقل يعتبر اليسار والإعسار بآخر الحول.

فلو أسرنا من يجن ويفيق .. قال الإمام: إن غلبنا الجنون

رق ولم يقتل، وإن غلبنا الإفاقة

ولم يرق

بالأسر، والظاهر: الحق، ويتجه أن يعتبر وقت الأسر وصححه في (الوسيط).

قال الرافعي: وهو في الحقيقة كوجه التلفيق في مسألة الجزية وطروء الجنون في أثناء السنة كالموت، وطروء الإفاقة كالبلوغ.

قال: (ولو بلغ ابن ذمي ولم يبذل جزية .. ألحق بمنامه)، لأنه كان في أمان أبيه.

قال: (وإن بذلها .. عقد له)؛ لأن عقد الأب لنفسه دونه، وقد ثبت له الآن حكم الاستقلال،

فأشبه من لا أب له.

فعلي هذا: يرفق الإمام ليلتزم ما إلتزم أبوه.

قال: (وقيل عليه كجزية أبوه) المراد: أنه يكتفي بجزية أبيه من غير استئناف عقد؛

لأنه لما تبعه في الأمان .. تبعه في الذمة، وادعي الإمام: أنه ظاهر النص، وقال في (الحاوي)

إنه ظاهر مذهب الشافعي، وصححه القاضي حسين.

ولأن أحدا من الأئمة لم يستأنف العقد للأولاد عند بلوغهم.

فعلي هذا: إذا أبي أن يبذل جزية أبيه

فقيل: يقبل منه، وقيل: كذمي عقد بأكثر ثم إمتنع من الزائد،

وسيأتي.

وشمل إطلاقه: ما إذا بلغ الابن سفيها فإن قلنا: تؤخذ منه جزية أبيه .. أخذت

ص: 396

وَالْمَذْهَبُ: وُجُوبُهَا عَلَى زَمِنٍ وَشَيْخٍ هَرِمٍ وَأَعْمَى وَرَاهِبٍ وَأَجِيرٍ وَفَقِيرٍ عَاجِزٍ عَنْ كَسْبٍ، فَإِذَا تَمَّتْ سَنَةٌ وَهُوَ

مُعْسِرٌ .. فَفِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُوسِرَ. وَيُمْنَعُ كُلُّ كَافِرٍ مِنِ اسْتِيطَانِ الحِجَازِ،

ــ

من ماله وإن زادت علي الدينار، وإن قلنا بالإستئناف

فللسفيه الإستقلال بها، لحقن دمه بأقل الجزية، فإن

عقدها بأكثر منه

لزمة.

وسكت المصنف عن بقية الموانع ولاشك أن إفاقة المجنون كالبلوغ.

والأصح في زوائد) الروضة) في عتق العبد: استئناف العقد، وقيل: عليه كجزية

سيدة، وقيل عصبته؛ لأنهم أخص به

قال: (والمذهب: وجوبها علي زمن وشيخ وهرم وأعمي وراهب وأجير)، لأنها بمثابة كراء الدار،

فيستوي فيها المعذور وغيره.

والطريق الثاني: البناء علي جواز قتلهم: إن قلنا بالجواز ضربت عليهم الجزية، وإلا .. فلا؛ إلحاقا بالنساء

والصبيان.

قال: (وفقير عاجز عن كسب)؛ لعموم الآية.

قال: (فإذا تمت سنة وهو معسر

ففي ذمته حتي يوسر)، كغيره من المعسرين، فإذا أيسر

طولب بها

والثاني_ وبه قال أبو حنيفة وأحمد _: لا تجب؛ لأنها حق مالي يجب في كل حول فلم تلزم كالزكاة.

وفي وجه آخر: أنه لايمهل، بل يقال له: إما أن تحصل، وإلا

بلغناك المأمن؛ لقدرته علي إسقاطها

بالإسلام.

وسكت الشيخان عن تفسير الفقير هنا، وفيه وجهان:

أحداهما: مستحق الزكاة لو كان مسلمآ.

والثاني: من لا يملك فاضلا عن قوت يومه آخر الحول ما يقدر به علي أداء الجزية كما في زكاة الفطر،

حكاه الدرامي والزاز في (تعليقه)، والأشبه: الثاني. قال (ويمنع كل كافر من إستيطان الحجاز)؛ لما روي

أن النبي

ص: 397

وَهِيَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَقُرَاهَا،

ــ

صلى الله عليه وسلم قال لئن عشت إلي قابل

لأخرجن اليهود والنصاري من جزيرة العرب) أخرجه مسلم [1767] بدون: لئن عشت) والبيهقي بها [9/ 207]

في الصحيحين [خ 3053 - م 1637/ 20] من حديث ابن عباس قال: اشتد الوجع برسول الله صلي الله عليه

وسلم، فأوصي عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)

وفي (مسند أحمد)[1/ 195] والبيهقي) [9/ 208] آخر ما تكلم به النبي صلي الله عليه وسلم:

أخرجوا يهود الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب)

قال الجويني والقاضي حسين: الجزيرة هى الحجاز.

والمشهور أن الحجاز بعض الجزيرة، فلما مات النبي صلي الله عليه وسلم ..

لم لم يتفرغ أبو بكر لإخراجهم، فأجلاهم عمر، وهم زهاء أربعين ألفآ.

ولم ينقل: أن أحدا من الخلفاء أجلاهم من اليمن مع أنها الجزيرة، فدل أن المراد: الجزيرة فقط.

فائدة:

(الاستيطان) اتخااذ المكان وطنآ، والموطن: المشهد من مشاهد الحرب،

قال تعالي: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} ، فيؤخذ من هذا ومن عبارة المصنف:

أن الكافر أن يتخد دارا بالحجاز وإن لم يسكها ولم يستوطنها.

والصواب: أن ذلك لا يجوز، لأن ما حرم إستعماله .... حرم اتخاذه، كالأواني وآلات اللهو، وإليه يشير

قول الشافعي في (الأم) ولا يتخذ الذمي شيئا من الحجاز دارا ..

وعلي هذا: تستثني هذه الصورة من قول المصنف في الباب الذي قبله: (فدورها وأرضها المحياة ملك يباع)

قال: (وهي مكة والمدينة واليمامة وقراها)، كذا فسره الشافعي.

فالطائف مع واديها _ وهو وج من قري مكة، وخبير من قري المدينة.

ص: 398

وَقِيلَ: لَهُ الإِقَامَةُ فِي طُرُقِهِ الْمُمْتَدَّةِ،

ــ

وقال في (الوسيط) و (النهاية) إن في بعض الكتب تصحيف اليمامة بالتهامة. قال إبن صلاح: وهو

غلط موشح بعحمة؛ فإن تهامة لا تدخلها الألف واللام.

وجزيرة العرب: من أقصي عدن إلي ريف العراق في الطول، وفي العرض من جدة وما والاها من ساحل

البحر إلي أطراف الشام.

ونقل الهروي عن مالك: أن الجزيرة: المدينة الخاصة، والصحيح عنه كما قال الشافعي.

وسميت جزيرة العرب؛ لإحاطة بحر الحبشة وبحر فارس ودجلة والفرات بها. وسمي الحجاز حجازآ؛ لأنه

حجز بين تهامة ونجد.

وقيل بإحتجازه بالحرار الخمس، حرة واقم، وحرة راجل ـ بالراء والجيم _ وحرة ليلي، وحرة بني سليم،

وحرة النار، وحرة وبرة _ وهي في صحيح مسلم [1817] من حديث (إنا لا نستعين علي قتالنا بمشرك)

وهي بفتح الباء وسكونها.

و (اليمامة) مدينة بقرب اليمن علي أربع مراحل من مكة، ومرحلتين من الطائف.

قيل: سميت بإسم جارية زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، وكانت تسكنها.

قال: (وقيل له الإقامة في طرقه الممتدة)؛ لأنها ليست من مجتمع الناس ولا موضع إقامة، ولأن المراد:

المنع من الإختلاط بالعرب حرمة لهم.

والمشهور: أنهم يمنعون؛ لأن الحرمة للبقعة.

فرع.

لايمنعون من ركوب بحر الحجاز، ويمنعون من الإقامة في سواحله الممتدة والزائر المسكونة فيه.

ص: 399

وَلَوْ دَخَلَ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِمَامِ .. أَخْرَجَهُ وَعَزَّرَهً إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ، فَإِنِ اسْتَاذَنَ .. أَذِنَ لَهُ إِنْ كَانَ مَصْلَحَةٌ

لِلْمُسْلِمِينَ كَرِسَالَةِ وَحَمْل مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ لِتِجَارَةٍ لَيْسِ فِيهَا كَبِيرُ حَاجَةٍ .. لَمْ يَاذَنْ إِلَّا بِشَرْطِ أَخْذِ شَىْءٍ

مِنْهَا،

ــ

قال القاضي حسين: ولا يمكنون من المقام في المركب أكثر من ثلاثة أيام كالبر، ولعله أراد إذا أذن الإمام

وأقام بموضع واحد، قاله إبن الرفعة

قال: (ولو دخل بغير إذن الإمام) أي: نائبه)

أخرجه وعزره إن علم أنه ممنوع)؛ لأن الدخول إنما

أجيز للحاجة، فوقف علي رأي الإمام أو نائبه، ويعزر عند العلم بالمنع؛ لجرأته علي حرمات الله، فإن جهل

ذلك وأمكن صدقه

فلا؛ لأنه لا يعرف حدود الله العامة.

فرع:

لا يدخلون سائر المساجد إلا بإذن؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم ربط ثمامة بن أثال في المسجد وانزل

ثقيفا فيه، وكذا سبي بني قريظة والنضير.

وجواز الإذن منوط بالحاجة مثل: أن يسلم، أو يسمع القرآن، أو يستفتي، ولا يدخلون للأكل والشرب،

بخلاف المسلم، قاله ابن الصباغ وغيره.

والآذن له الإمام ونائبه، وكذا آحاد المسلمين علي الأصح

وجلوس الحاكم فيه للحكم إذن أن كانت له خصومة، فإن دخله بلا إذن .. عزر، فإن كان جنبآ

مكن من

المكث فيه علي الأصح.

قال: (فإن استأذن .. أذن له أن كان مصلحة للمسلمين كرسالة وحمل ما يحتاج إليه) أي: يحتاج إليه

المسلمون من ميرة أو متاع، وفي معناه: عقد الهدنة للمصلحة.

واحترز عما إذا لم تكن مصلحة؛ فلا يجوز.

قال: (فإن كان لتجارة ليس فيها كبير حاجة

لم يأذن إلا بشرط أخذ شيء منها)

ص: 400

وَلَا يُقِيمُ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَيُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ حَرَمِ مَكَّةَ، فَإِنْ كَانَ رَسُولًا

خَرَجَ إِلَيْهِ الإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ يَسْمَعُهُ،

ــ

وذلك كالعطر ونحوه، ولا يتقدر ذلك، بل هو إلي إجتهاد الإمام، فإن عمر كان يأخذ من القبط إذا إتجروا

إلي المدينة عشر بعض الأمتعة كالقطنية، ويأخذ نصف العشر من الحنطة والشعير ترغيبا لهم في حملها؛ للحاجة إليهما.

والأصح: أنه يجوز أن يأذن لهم بعير شيء.

وما يؤخذ من الذمي والحربي من الضريبة لا يؤخذ في كل سنة إلا مرة كالجزية، فإذا كان يطوف بالحجاز أو

بلاد الإسلام تاجرآ

تكتب له براءة حتي لا يطالب في بلد آخر قبل الحول.

قال: (ولا يقيم إلا ثلاثة أيام) أي: فأقل؛ لما روي أبي شيبة [7/ 635] عن نافع عن ابن عمر: لا

تتركوا اليهود والنصاري بالمدينة فوق ثلاث، قدر ما يبيعون سلعتهم)

ولأن الثلاث في حكم القلة شرعآ، ولا يحتسب منها الدخول والخروج، كما سبق في صلاة المسافر.

ولو أقام أكثر من ذلك لإنجاز حاجة .. لم يكن قطعيآ.

ومحل منع الزائد علي الثلاث: في الموضع الواحد، فلو أقام بموضع من الحجاز ثلاثة أيام، ثم إنتقل إلي آخر

وهكذا .. لم يمنع؛ لأنه لم يصر مقيما في موضع لكن يستثني موضع الضرورة، كما إذا مرض في الحجاز

وكان لا يطيق أن يحمل؛ لخوف تلفه أو زيادة مرضه .. قال الشافعي: يترك حتي يطيق الحمل ثم يحمل.

قال: (ويمنع من دخول مكة)؛ لقوله تعالي: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}

ويدل علي أن المراد به هنا: الحرم قوله تعالي {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} إن خفتم انقطاع التجارة والميرة؛

إذ من المعلوم أن الجلب ليس المسجد نفسه.

قال: فإن كان رسولا

خرج إليه الإمام أو نائبه يسمعه) حسما للباب.

ص: 401

فَإِنْ مَرِضَ فِيهِ

نُقِلَ. وَإِنْ خِيفَ مَوْتُهُ: فَإِنْ مَاتَ .. لَمْ يُدْفَنْ فِيهِ، فَإِنْ دُفِنَ نُبِشَ وَأُخْرِجَ، وَإِنْ مَرِضَ فِي

غَيْرِهِ مِنَ الْحِجَازِ وَعَظُمَتِ الْمَشَقَّةُ فِي نَقْلِهِ .. تُرِكَ،

ــ

هذا إذا امتنع من أدائها إلا إليه، وإلا

بعث إليه من يسمع وينهي إليه، وكذا إن دخل لتجارة .. خرج إليه

يشتري منه، فإن جاء كافر ليناظر .. خرج إليه من يناظره.

فرع:

جوز ابن كج للطبيب الذمي دخول الحرم، ونص الشافعي يعارضه؛ فإنه منع دخول الطبيب والصانع في

البناء وغيره.

قال إبراهيم المروروذي: والمعني في منع المشركين من الحرم: أنهم اخرجوا النبي صلي الله عليه وسلم منه

، فعاقبهم الله بالمنع من دخوله في كل حال.

قال: (فإن مرض فيه

نقل وإذا خيف موته)؛ لأنه ظالم بالدخول وليس لعرق ظالم حق) وسواء

أذن له أم لا؛ لأن المحل غير قابل لذلك بالإذن، فلم يؤثر الجهل به.

قال: (فإن مات .. لم يدفن فيه) تطهيرا للحرم.

قال: (فإن دفن .. نبش وأخرج)؛ لأن بقاء جيفته فيه أشد من دخوله حيآ.

وأطلق المصنف) النبش)، وقيده الرافعي بما إذا لم يتقطع؛ فإن تقطع ترك، وحكاة في المطلب) عن

النص، وجري عليه الجمهور محتجين بأن النبي صلي الله عليه وسلم لم يأمر بنقل من مات منهم ودفن قبل

الفتح.

وقيل: ينبش أيضآ، وبه أجاب الإمام والغزالي.

قال: (وإن مرض في غيره من الحجاز وعظمت المشقة في نقله

ترك)؛ مراعاة لأعظم الضررين.

وهذا فيما إذا خيف موته لا خلاف فيه وفيما إذا لم يخف علي الأصح؛ لأنه يجوز دخوله في الحياة.

ص: 402

وَإِلَّا

نُقِلَ، فَإِنْ مَاتَ وَتَعَذَّرَ نَقْلُهُ

دُفِنَ هُنَاكَ.

فَصْلٌ:

أَقَلُّ الْجِزْيَةِ دِينَارٌ لِكُلِّ سَنَةٍ،

ــ

قال: (وإلا) أي: وإن لم تعظم المشقة (.... نقل) رعاية لحرمة الدار.

قال: (فإن مات وتعذر نقله

دفن هناك)؛ للضرورة.

والمراد (بالتعذر) حصول التغير لبعد المسافة من الحل، وفي معناه التقطيع.

واحترز ب (التعذر) عما إذا أمكن نقله؛ فإنه لا يدفن فيه

هذا كله في الذمي، أما الحربي .. فلا يدفن. بل تغري الكلاب علي جيفته، فإن تأذي الناس برائحته

وروي كالجيفة.

تتمه:

حرم المدينة لا يلحق بحرم مكة فيما ذكرناه؛ لاختصاص حرم مكة بإيجاب قصدها بالنسك ومنع دخولها من

غير إحرام، بخلاف المدينة.

وثبت أنه صلي الله عليه وسلم أدخل الكفار مسجده، وكان ذلك بعد نزول (سورة براءة) فإنها نزلت سنة تسع

، وقدم الوفود عليه سنة عشر، وفيهم وفد نصاري نجران، وهم أول من ضرب عليهم الجزية ‘، فأنزلهم

مسجده وناظرهم من أمر المسيح وغيره.

قال: فصل:

أقل الجزية دينار لكل سنة)؛ لما تقدم من قوله صلي الله عليه وسلم لمعاذ: خذ من كل حالم دينارآ).

قال الشافعي: فهو مبين لما أريد بالجزية في قوله تعالي:

{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}

قال ولا نعلم النبي صلي الله عليه وسلم صالح أحدا علي أقل من دينار ثم روي [1/ 209] بسنده عن مطرف بن مازن وغيره بإسناد حسن: (أن النبي

ص: 403

وَيُسْتَحَبُّ لِلإِمَامِ مُمَاكَسَتُهُ حَتَّى يّاخُذَ مِنْ مُتَوَسِّطِ دِينَارَيْنِ وَغَنيٍّ أَرْبَعَةً،

ــ

صلي الله عليه وسلم فرض علي أهل الذمة من أهل اليمن دينارا لكل سنة) وسيأتي صلي الله عليه وسلم ي (أن النبي صلي الله عليه وسلم ضرب علي نصاري أيلة ثلاث مئة دينار وكانو ثلاث مئة نفر)

ونقل الشيخ أبو حامد فيه الإجماع، وسواء في ذلك الغني والفقير والمتوسط؛ لإطلاق الأحاديث، ولأنها

شرعت لحقن الدم أو لسكني الدار، فاستوي فيها الغني والفقير.

وظاهر كلام المصنف: تعين الدينار، وهو الصواب الموجود في كتب الأصحاب؛ فإنهم إقتصروا علي ذكره.

فلو أرادوا الدراهم .... وجب قدر قيمته بالسعر، وهو المفهوم من قوله صلي الله عليه وسلم: دينارا وعدله من المعافري)؛ فإن العدل بفتح العين -: البدل.

و (المعافري) بفتح الميم: برد منسوب لمعافر، بلد باليمن.

وقال الإمام أقلها اثنا عشر درهما خالصة مصكوكة يتخير الإمام بينهما؛ لقضاء عمر به.

والأصحاب حملوه علي أن قيمة الدينار كانت حينئذ كذلك.

وفهم من عبارة المصنف: أنه لا أحد لأكثرها، وهو كذلك، إلا أن الذي أطلقه من الأقل محله عند قوة المسلمين

فإن لم تكن بهم قوة .. نقل الدرامي عن المذهب: أنها تجوز أنها علي أقل من دينار

قال: (ويستحب للإمام مماكسته) أي مشاححته (حتي يأخذ من متوسط دينارين وغني أربعة)؛ لما

روي البيهقي [9/ 196]: أن عمر وضع علي الغني ثمانية وأربعين درهما وعلي المتوسط أربعة وعشرين

درهمآ، وعلي الفقير اثني وعشرين درهما

وروي البخاري عن ابن نجيح قال لمجاه: ماشأن أهل الشام

ص: 404

وَلَوْ عُقِدَتٌ بِأَكْثَرَ ثُمَّ عَمِلُوا جَوّازَ دِينَار .... لَزِمَهُمٌ مَا أَلٌتَزَمٌوهُ، فَإِنْ أَبَوْا

فَالَأصَحُّ: أَنَّهُمٌ نَاقِصُونَ. وَلَوُّ أَسلَمَ ذِ مَّيِّ أَو مَاتَ بَعدَ سِنِينَ .. ُأخِذِتْ جِزْيَتُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ مُقَدَّمَهً عَلَي اَلوَصَايَا

ــ

عليهم أربعه دنانير وأهل اليمن دينار؟ قال: فعل ذلك من قبل اليسار، ولأن الإمام يتصرف للمسلمين فينبغي أن يحتاط لهم.

وللخروج من الخلاف، فإن أبا حنيفه لا يجيزها إلا كذلك.

هذا بالنسبه إلي ابتداء العقد، فأما إذا انعقد لهم العقد علي شيئ

فلا يجوز أخد زائد عليه، كذا نص عليه في (سير الواقدي).

نعم، يستثنى من ذلك السفيه، فلا يصح عقده ولا عقد الولي له بالزيادة علي المذهب، خلافًا للقاضي حسين، والاعتبار في الغني والفقير بوقت الأخذ لا بحاله العقد.

ولو شرط علي قوم: أن علي فقير دينارًا ومتوسط دينارين وغني أربعة .. جاز ومن ادعي منهم أنه فقير أو متوسط .. قبل قوله، إلا أن تقوم بينه بخلافه.

قال: (ولو عقدت بأكثر ثم علموا جواز دينار

لزمهم ما التزموه) كمن اشتري شيئًا بأكثر من ثمن مثله ثم علم الغبن.

قال: (فإن أبوا .. فالأصح: أنهم ناقضون) كما لو امتنعوا من أداء الجزيه، وحينئذ هل يبلغون المأمن أو يقتلون؟ قولان يأتيان، فإن بلغناهم المأمن ثم عادوا وطلبوا عقدهم بدينار .. أجيبوا إليه.

والوجه الثاني: أنه يقنع منهم بالدينار كما في الابتداء.

قال: (ولو أسلم ذمي أو مات بعد سنين .. أخذت جزيته مِن تَرِكته مقدمه علي الوصايا) ،

لأنها دين يجب استيفاؤه والمطالبة به في حال الكفر، فلا يسقط بالإسلام، ولا يتداخل بتكرر الأعوام، كالخراج وسائر الديون والأجر.

وتقديمها على الوصايا لا خلاف فيه، وكذا الميراث كما قاله الإمام، وإنما لم يذكره المصنف، لأنها إذا قدمت علي الوصايا .. فعلي حق الورثه أولى.

ص: 405

وَيُسَوَّي بَينَهَا وَبَينَ دَيْنِ آدَمِيِّ عَلَي اَلْمَذْهَبِ– أَوْ فِي خِلَالِ سَنَهٍ .. فَقِسْطٌ، وَفِي قَوْلٍ: لَا شَئَ،

ــ

وصورة المسألة: إذا خلف وارثًا، فإن لم يخلفه .. فتَرِكته كلها فيء، فلا معني لأخذ الجزية من تركته ثم ردها إلي بيت المال.

فلو كان له وارث لا يستغرق والباقي لبيت المال على سبيل الفيء .. فيؤخذ من نصيب الوارث ما يتعلق به من الجزية، ويسقط الباقي.

قال: (ويسوّي بينها وبين دَين آدمي على المذهب) ، فيوفي الجميع إن وفت التركة، وإلا .. ضارب الإمام مع الغرماء بالجزية.

ويقابل المذهب: أنه على الأقوال الثلاثة في اجتماع حق الله تعالى وحق الآدمي، إلا أن الأصح هناك: تقديم حق الله، والأصح هنا: استواؤهما، والفرق: أن الجزية غلب فيها حق الآدمي من جهه أنها أجره.

وفي) الوسيط) طريقة جازمة بتقديم الجزية، وهي وهم.

قال: (أو في خلال سنة .. فقسط) كالأجره، لأنها وجبت بالسكني، فإذا سكن بعض المده .. وجب القسط.

وسكت الأصحاب عما لو حجر عليه بفلس في أثنائها، ونص الشافعي في (الأم) علي أنه يضارب مع الغرماء بحصة جزيته لما مضي عليه من الحول.

ولو جن بعد مضي نصف السنه وتمت وهو مجنون .. نص في (الأم) أيضًا علي أخذ جزيته بالقسط.

قال: (وفي قول: لا شيء) ، لانه مال يراعي فيه الحول فيسقط بالموت في خلال الحول كالزكاة، وكما لو مات واحد من العاقلة في الحول، ومنهم من قطع بالأول، ومنهم من قطع بالثاني.

وقيل: لا يجب بالموت، والقولان في الإسلام، كذا وقع في (الروضة) بإثبات (لا)، والصواب: وقيل: يجب بالموت، والقولان في الإسلام.

وحكي الرافعي في أول (عقد الهدنه) طريقة إخري حذفها في (الروضة) ،

ص: 406

وَتُؤْخَذُ بِإِهَانَهِ، فَيَجْلِسُ الآخِذُ، وَيَقُومُ الذِّمِّيُّ وَيُطْأَطِئُ رَاسَهُ وَيَحْنِي ظَهْرَهُ، وَيَضَعُهَا فِي الْمِيَزانِ، وَيَقْبِضُ الآخِذُ لِحْيَتَهُ، وَيَضْرِبُ لِهْزِمَتَيِه، .....

ــ

وهي: أن الخلاف فيما إذا مات بعد أربعة أشهر، فان مات قبل ذلك .. لم يجب شيء جزما ً.

فإن أوجبنا .. فهل للإمام المطالبة في الأثناء بقسط ما مضي؟ وجهان: أصحهما: لا، وهل يجوز اشتراط تعجيل الجزية؟ وجهان من غير ترجيح.

فروع:

إذا بلغ في أثناء الحول

خيِّر بين أن يدفع عند تمام حول أصحابه قسط ما مضي

وبين أن يؤخر إلي تمام الحول الثاني فيعطي لحول وشيء، وبين أن يدفع عند تمام حول من بلوغه الحول.

ولو غاب وعاد مسلمًا وقال: أسلمت من وقت كذا فلا جزية علي، وأنكر الإمام ذلك،، فهل المصدق الذمي ، لأن الأصل عدم الوجوب، أو الإمام، لأن الأصل بقاء الكفر؟ قولان عن صاحب (الإشراف) صحح في (الروضة) في (باب النكول) أن القول قول من أسلم، وهو المنصوص في (الأم).

وحكي في تحليفه وجهان: هل ذلك واجب أو مستحب؟ وكذلك إذا نكل .. هل يقضي عليه المال أولا؟

ولو مات الإمام أو عزل وولي غيره ولم يعرف مقدار الجزية .. رجع إلي قولهم، لتعذر معرفته من غيرهم.

وطريق ذلك: أن يسألهم أفرادًا، فإن توافقوا علي قدر يجوز العقد به .. أقرهم عليه بعد تحليفهم، ويكتب الإمام في ديوان الجزية: أنه رجع إلي قولهم حيث أشكل أمرهم، لجواز أن تشهد بيّنه بخلاف ما قالوه فيرجع إليها.

قال: (وتؤخذ بإهانةٍ، فيجلس الآخذ، ويقوم الذمي ويطأطئ رأسه ويحني ظهره، ويضعها في الميزان، ويقبض الآخذ لحيته، ويضرب لِهزِمتيه) ، لأنه بهذه

ص: 407

وَكُلهُ مُسُتَحَبٌ، وَقِيلَ: وَاجِبُ، فَعَلَي الأَوَّلِ: لَهُ تَوْكِيلُ مُسْلِمٍ بالأَدَاءِ، وَحَوَالَهٌ عَلَيْهِ، وَأَنَ يَضْمَنَهَا. قُلْتُ: هَذِهِ الهَيئهُ بَاطِلَهُ، وَدَعْوَي استِحبَابِهَا أَشَدُ خَطَأَ وَالله أَعَلَمُ

ــ

الهيئه فسر بعضهم قوله تعالى: {وَهُم صَاغِرُونَ}

و (الهمزمتان) بكسر اللام والزاي، وفي الحديث: انها الشدقان، وقيل:

العظمان النائتان في الحيين تحت الاذنين، ولكل إنسان لِهزِمتان.

وعبر في (الوسيط) بقوله: (ويضرب لهازمه) ، فعبر عنهما بالجمع، وذلك جائز لانها تجمع كذلك، قال العذري [من الرجز]:

يا خاز باز أرسل اللهازما .... إني أخاف أن تكون لازما

ويستحب علي هذا القول أن يقول له مع ذلك: يا عدو الله، أد حق الله تعالي

قال الرافعي: ويشبه أن يكون الضرب من أحد الجانبين، ولا يراعي الجمع بينهما.

هذا كله فيمن يؤدي باسم الجزيه، فأما من يؤديها باسم الصدقه .. فتسقط عنه الإهانه قطعًا، صرح به الرافعي في الكلام علي تلك المسأله.

قال: (وكله مستحب) ، لأنه يسقط بتضعيف الصدقه.

قال: (وقيل: واجب) ، ليحصل الصغار المذكور.

قال: (فعلي الأول: له توكيل مسلم بالأداء، وحوالهُ عليه، وأن يضمنها)

ويكون الصغار في التزام المال والانقياد للاحكام.

وعلي القول بالوجوب: لا يجوز جميع ذلك، لأن فيه إهانه مسلم.

ولو وكل ذميًا بالأداء

قال الإمام: الوجه طرد الخلاف، لأن كلًا منهم مقصود بالصغار في نفسه، اما لو وكل مسلمًا في عقد الذمه فإنه يجوز، لأن الصغار مراعيّ عند الأداء لا عند العقد.

قال: (قلت: هذه الهيئه باطله، ودعوي استجابها أشد خطأ والله اعلم) ، هو كما قال، إذ هو منصوص الشافعي.

ص: 408

وَيُسَتَحبُّ للإِمَامِ إِذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيُهِمْ إِذَا صُولِحُوا فِي بَلَدِهِمٌ ضِيَافَةَ مَن يَمُرُّ بِهِم مِنَ الْمُسْلِمِينَ .....

ــ

وقال في (الروضه) لا نعلم لهذه اصلًا معتمدا، وانما ذكرها طائفه من الخراسانيين.

وقال الجمهور: تؤخذ برفق كسائر الديون، لما روي مسلم [2613/ 119] وابو داوود

[3040]

: ان هشام بن حكيم بن حزام وجد رجلا وهو علي حمص يشمس ناسا من القبط في اداء الجزيه، فقال: ما هذا؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(ان الله عز وجل يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا).

ولفظ الشافعي في (الام اخذ) وان منهم الجزيه اخذها باجمال ولم يضرب احدًا منهم ولم ينله بقول قبيح، والصغار ان يجري عليهم الحكم لا ان يضربوا ولا يؤذوا.

ولو استشهد المصنف بهذا النص .. كان اولي، فالصواب: الجزم بانها باطله مردوده علي مخترعها، فلم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن احد من الخلفاء الراشيدين.

وقد قال الرافعي في اول الباب: الاصح عند الاصحاب: تفسير الصغار بالتزام الاحكام.

وقوله: (ودعوى استحبابها اشد خطأ) ليس في (الروضه)، وكان القياس ان يقول: اشد بطلانًا، وكان ينبغي ان يزيد: ودعوي ايجابها اشد، لكن هذا يعلم منه ذلك من باب اولى.

ثم انه لم يبين هل هي محرمه او مكروهه، وقل من تعرض لذلك.

قال: (ويستجيب للإمام إذا أمكنه ان يشترط عليهم اذا صولحوا في بلدهم ضيافه من يمر بهم من المسلمين) ، سواء كانوا مجاهدين أم غيرهم اذا رضوا بذلك، لما روى البيهقي [9/ 195] من حديث ابي الحويرث:(ان النبي صلى الله عليه وسلم صالح اهل أيله على ثلاث مئه دينار- وكانوا ثلاث مئه رجل - وان يضيفوا من يمر بهم المسلمين ثلاثا).

وروي مالك في (الموطأ) ان عمر اشترط عليهم ضيافه ثلاثه ايام لمن يمر بهم.

ص: 409

زَائدًا عَلَي أَقَلّ جِزِيَة، وَقِيلَ: يَجُوزُ مِنْهَا، وَتُجْعَلُ عَلَي غَنِيِّ وَمُتَوَسِّطٍ، لَا فَقِيرٍ فِي الأَصَحّ، وَيَذْكُرُ عَدَدَ الضِّيفَانِ رِجَالًا وفُرسَانًا،

ــ

من المسلمين، ولأن فيه مصلحه للاغنياء والفقراء.

أما الاغنياء .. فلأنهم قد يأبوا البيع منهم إذا مروا بهم فيلحقهم الضرر، فإذا علموا ان ضيافتهم عليهم واجبه،،، باعوا منهم.

واما الفقراء .. فلأنهم يضطرون الي المرور بهم وقد لا يتصدقون عليهم، ولو صولحوا عن الضيافه بمال

فلا حق فيه لاهل الخمس، بل يختص به الطارقون، كما قاله الرافعي في أول (باب الفئ والغنيمه).

قال: (زائدا علي أقل جزيه) اي: يجب ان يكون زائدا علي اقل الجزيه، وهو دينار، لما تقدم من مصالحه اهل ايله ولان الجزيه يجب فيها التمليك، والاطعام ليس بتمليك، فلم يجز الاكتفاء به كما في التغذيه في الكفاره.

قال: (وقيل: يجوز منها) ، لانه ليس عليهم الا الجزيه، فاذا علمنا آخر الحول انها لم تبلغ الاقل .. لزمهم التتميم، وهذا الوجه يختص عند قائله بكون الضيف من اهل الفيء بهم، لانها من الجزيه وهي مختصه بهم، وبهذا قال اكثر البصريين.

قال: (وتجعل علي غني ومتوسط) ، لا حتمالهما لذلك وقدرتهما عليها.

قال: (لا فقير في الأصح) ، وهو ظاهر النص وجعله الرافعي الاشبه، لانها تتكرر ويعجز عنها فيشق عليه القيام بها.

والثاني: تقرر عليه كالجزيه، فتوظف علي الغني مثلا عشره، وعلي المتوسط خمسه،

وعلي الفقير ثلاثه علي حسب اجتهاده، ولا يفاوت بينهم في صفه الطعام والادام كيلا يتضرر الاغنياء بميل الضيف اليهم.

والثالث: يضرب علي المعتمل دون غيره واستحسنه الرافعي، وجزم به جماعه.

ونقل في (الذخائر) عن الاصحاب: انه يشترط عليهم تزويد الضيف كفايه يوم وليله.

قال: (ويذكر عدد الضيفان رجالا وفرسانا) ، لانه انفي للغرر واقطع للمنازعه،

ص: 410

وَجِنسَ الطَّعَامِ وَالأدْمِ، وَقَدرَهمَا وَلِكلِّ وَاحِدٍ كَذَا، وَعَلَفَ الدَوَاَبِّ، وَمَنْزِلَ الضَّيَفانِ، مِنْ كَنِيسةٍ وَفَاضِلِ مَسْكَنٍ،

ــ

فيقول: أقررتكم على أن على الغني منكم اربعه دنانير او اكثر وضيافه عشره انفس مثلا في كل يوم، فيها رجاله كذا وركبانًا كذا.

وكلام المصنف صادق بأمرين: اما يشترط ذلك علي كل واحد منهم، او علي المجموع، بان يقول: تُضيفوا في كل سنه الف مسلم مثلًا، وهم يوزعون فيما بينهم او يتحمل بعضهم عن بعض.

قال صاحب (البيان) وهذا انما يشترط اذا جعلت من الجزيه، فان قلنا بالاصح .. لم يشترط التعرض للعدد، وأقره الشيخان علي ذلك.

فعلي هذا: يكون المذكور في الكتاب مفرعًا علي الضعيف، وهذا البيان واجب لا يصح العقد إلا به.

قال: (وجنس الطعام والادم، وقدرهما، ولكل واحد كذا) اي: من الخبز، وكذا من السمن او الزيت، لانه انفي للغرر والاعدل في تقدير الطعام: ثلاثه ارطال من الخبز في كل يوم، ومن الادم ما يكفي ذلك.

اما الفاكهه .. فقال الماوردي: ان كانوا يأكلونها في غالب الايام .. شرطت عليهم في زمانها، وليس للأ ضياف ان يكلفوهم ما ليس بغالب من اقواتهم، ولا ذبح دجاجهم، ولا الفواكه النادره والحلوي، ولا ما لا يتضمنه شرط صلحهم.

قال: (وعلف الدواب) اي: من التبن والحشيش ولا يحتاج الي ذكر صفته ولا قدره، والاطلاق لا يقتضي الشعير.

وعباره المصنف قد تفهم اشتراط ذكر صفه العلف وقدره، والذي في (الروضه)

و (المحرر) خلافه.

واطلق الشيخان ذكر (الدواب) ، وقال الشافعي في (الام) الضيف الواحد تعلف له دابه واحده، فلا يلزم لكل ضيف سوي علف دابه واحده.

قال: (ومنزل الضيفان، من كنيسه وفاضل مسكن) ، نفيًا للجهاله، وكذلك بيوت الفقراء الذين لا يضيفون ولا يخرجون اهل المنازل منها انما يسكنون في الفاضل

ص: 411

وَمُقَامَهُمْ ، وَلَا يُجَاوِزُ ثَلَاثَه أيَّامِ

ــ

عن أهلها، ثم أن تساووا في الجزيه تساووا في الضيافة

قال المارودي: ويجب أن يعلو الأبواب، ليدخلها المسلمون ركبانا كما شرطه عمر علي أهل الشام، ويجوز شرطه علي الفقير الذي لا يضيف.

قال: (ومُقامهم) اي: مقام الضيفان - وهو بضم الميم وعباره (المحرر) مدة المقام، وهي أوضح، اي: قدر اقامتهم.

قال: (ولا يجاوز ثلاثه أيام)، ففي (الصحيحين) [خ 6019 - م 48/ 14] عن ابي شريح الخزاعي - واسمه خويلد بن عمرو -: ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جائزه الضيف يوم وليله، والضيافه ثلاثه ايام، وما زاد فهو صدقه) ، ووهم الحاكم فاستدركه عليهما.

ولان الضيافه تختص بالمسافرين.

ومن قصد اقامه اكثر من ثلاث .... انقطع سفره.

قال في (الروضه) ويبين ايضا عدد ايام الضيافه في الحول بمئه يوم او اقل او اكثر.

لكن لم يصرح الرافعي ولا من بعده في الاعداد المذكوره بانها توظف عليهم في كل اسبوع مره او في الشهر او في العام، ويبعد ان يكون ذلك في كل يوم، لما فيه من المشقه التي لا تحتمل غالبا.

فروع:

لو اراد الضيف ان ياخذ منهم ثمن الطعام

لم يلزمهم، واذا اراد ان ياخذ الطعام ويذهب به ولا ياكله

فله ذلك، بخلاف الوليمه، لان هذه معاوضه وتلك مكرمه، ولا يطالب بطعام الايام الثلاثه في اليوم الاول، ولا تلزمهم اجره الطيب والحمام وثمن الدواء.

ولو تزاحم الضيفان علي ذمي .. فالخيار له، ولو قل عددهم وكثر الضيفان .. فالسابق احق ، فان تساووا .. اقرع.

ص: 412

وَلَوْ قَالَ قَوْم: نُؤَدَّي الْجِزْيَة بِاسمِ صًدًقَةٍ لَا جِزيةٍ .... فَلِلأِمَامِ إِجَابَتُهُم إِذَا رَأي، وَيُضَعَّفُ عَلَيْهِمُ الزَّكَاة فَمِن خَمْسَهِ أَبِعَرة: شَاتَانِ، وَخَمْسَهِ وَعِشْرِينَ: بِنْتِا مَخَاضِ، وَعِشْرِينَ دِينَارًا: دِينَارُ، وَمئِتيْ دِرْهَمِ: عَشَرَة وَخُمُسُ اَلمُعَشَّرَاتِ، .....

ــ

وقال الشافعي: ان غلب بعضهم بعضا ودخل المنزل .. كان احق.

واذا شرطت الضيافه ثم راي الامام نقلها الي الدنانير .. لم يجز ذلك علي الاصح الا برضاهم، لان الضيافه قد تكون اهون عليهم، فان ردت الي الدنانير .. فهل تبقي للمصالح العامه ام تختص باهل الفئ؟ وجهان: اصحهما: الاختصاص كالدينار المضروب.

ولو امتنع من الضيافه اثنان او ثلاثه .. اجبروا عليها، فان امتنع الجميع .. انتقض عهدهم كالجزيه، قاله في (الاستقصاء) وقال الجيلي: اذا امتنع الجميع .. قوتلوا، فان قاتلوا،، انتقض عهدهم.

قال: (ولو قال قوم: نؤدي الجزيه باسم صدقه لا جزيه .. فللامام اجابتهم اذا راي)، لما روي البيهيقي [9/ 187] عن عمر رضي الله عنه: انه فعل ذلك بمن تنصر من العرب قبل بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: تنوخ وبهراء وبنو تغلب، لما طلبها منهم

ابوا من دفعها وقالوا: نحن عرب لا نؤدي ما تؤدي العجم، فخد منا كما يأخذ بعضكم من بعض - يريدون الزكاه - فقال عمر:(انها طهره للمسلمين ولستم من اهلها)، فقال: خذ ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزيه، فأبي، فارتحلوا وارادوا ان يلتحقوا بالروم، فصالحهم عمر علي ان يضعف عليهم الصدقه ويأخذوها جزيه باسم الصدقه، ولم يخالفه احد من الصحابه، فكان ذلك كالاجماع، ذكره الشافعي وقال: قد حفظه اهل المغازي. وساقه احسن سياق.

والاصح: انه لا فرق في ذلك بين العرب والعجم.

وقيل: يختص بهم ويشترط عليهم بقدر الزكاه في الزروع والثمار وغيرها.

ويكفي ان يقول للامام: جعلت عليهم ضعف الصدقه او صالحتكم علي ضعفها. قال: (ويضعف عليهم الزكاه، فمن خمسه ابعره: شاتان، وخمسه وعشرين: بنتا مخاض، وعشرين دينارا: دينار، ومئتي درهم: عشره وخُمس المعشرات) ،

ص: 413

وَلَو وَجَبَ بِنَتَا مَخاَض ِمَعَ جُبرَانٍ

لَم يُضَعِّفِ الجُبرِانَ فِي الَاصَحَّ، ......

ــ

لما روى ابن ابي شبيه [3/ 88]: ان عمر صالحهم علي ان يضعف عليهم الزكاه مرتين، اي: في الاموال الظاهره والباطنه، كما تجب الصدقه علي المسلمين فيهما.

واقتصار المصتف علي الخمس في المعشرات محمول علي السقي بلا مؤنه، والا .. فالواجب حينئذ العشر، فكان حقه ان يقول: والعشر فيما فيه نصف العشر.

وعلم من ذلك: ان في الركاز الخُمسين، وعليه نص في (الام).

وتضعيفها غير متعين، بل يجوز تربيعها وتخميسها علي ما يراه من المصلحه، كما صرح به القاضي حسين والبغوي وغيرهما، ونص عليه في (الام) في (الزروع).

قال: (ولو وجب بنتا مخاض مع جبران .. لم يضعف الجبران في الاصح) ، لما في تضعيف الجبران من تضعيف الضعف، فيؤخذ مع كل بنت مخاض شاتان او عشرون درهما، وذلك انا ضاعفنا حين اخذنا منهم مكان الحقه حقتين، ثم انتقلنا الي ابنتي لبون، فاذا اخذنا مع لبون اربع شياه

فهذا جبران مضاعف، ولولا التضعيف .. لاخذنا منه شاتين.

ومقابل الاصح: انه يضعف، لانه بعض الصدقه المأخوذه في الاصل، فيؤخذ مع كل بنت مخاض اربع شياه او اربعون درهما، فيكون المأخوذ مع بنتي المخاض ثماني شياه او ثمانون درهما، هذا هو الصواب في نقل هذا الوجه، وبه صرح في (الابانه) و (النهايه) ،

وو قع في (الشرح والروضه) فيه خلل. ثم قال الامام: وهذا الوجه غلط لا شك فيه، ولا ينبغي ان يعد من المذهب وإن

ص: 414

وَلَوْ كَانَ بَعْضَ نِصَابٍ .. لَمْ يَجِبْ قِسْطُهُ فِي الأَظْهَرِ، ثُمَّ الْمَاخُوذُ جِزْيَةٌ؛ فَلَا تُؤْخَذُ مِنْ مَالِ مَنْ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ.

فَصْلٌ:

يَلْزَمُنَا الْكَفُّ عَنْهُمْ، وَضَمَانُ مَا نُتْلِفُهُ [عَلَيْهِمْ] نَفْسًا وَمَالًا،

ــ

اشتهر نقله، وحينئذ كان ينبغي للمصنف أن يعبر بـ (الصحيح) لا بـ (الأصح).

قال: (ولو كان بعض نصاب .. لم يجب قسطه في الأظهر)؛ لأن الأثر عن عمر ورد في تضعيف ما يجب على المسلم، وبعض النصاب لا وجوب فيه.

والثاني: يجب قسطه؛ رعاية للتضعيف، فيجب في عشرين شاة شاة، وفي مئة درهم خمسة دراهم، وفي بعيرين ونصف شاة، وفي وسقين ونصف العشر أو الخمس، وأجري القولان في الأوقاص، فعلى الثاني: يؤخذ من سبعة أبعرة ونصف ثلاث شياه، ومن ثلاثين ونصف بنت مخاض وبنت لبون.

قال: (ثم المأخوذ جزية) حقيقة وإن تبدل اسمه.

فـ (جزية) مرفوع على الخبرية، وفي بعض النسخ (جزية)، وهي منصوبة على أنها مصدر مؤكد بغيره، أو على إسقاط الخافض، بدليل قول (المحرر) و (الشرح) و (الروضة): جزية في الحقيقة.

قال: (فلا تؤخذ من مال من لا جزية عليه)، كالصبيان والمجانين، ولا من النساء، بل تصرف مصرف الجزية، ولهذا قال عمر:(هؤلاء حمقى أبوا الاسم ورضوا بالمعنى).

تتمة:

روى البلاذري في كتاب (المغازي والفتوح): أن عمر رضي الله عنه لما ضعف على بني تغلب .. اشترط عليهم أن يؤخذ ذلك من أموال صبيانهم ونسائهم، وهو مذهب مالك، وخالفه أبو حنيفة في الصبيان، والشافعي فيهما.

قال: (فصل:

يلزمنا الكف عنهم، وضمان ما نتلفه [عليهم] نفسًا ومالًا)؛ لأن الله تعالى منع من

ص: 415

وَدَفْعُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَنْهُمْ، وَقِيلَ: إِنِ انْفَرَدُوا بِبَلَدٍ .. لَمْ يَلْزَمْنَا الدَّفْعُ

ــ

قتالهم حتى يعطوا الجزية، والإسلام يعصم النفس والمال، وكذلك الجزية، فإذا أتلفنا عليهم نفسًا أو مالًا .. وجب علينا ضمانه كما يجب ضمان المسلم؛ لأن ذلك فائدة عقد الذمة.

روى أبو داوود [3047] عن صفوان بن سليم، عن عدة من أبناء الصحابة، عن آبائهم دنية، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(ألا من ظلم معاهدًا، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس .. فأنا حجيجه يوم القيامة).

وخرج بـ (المال): الخمر والخنزير، فإذا أتلفا عليهم .. فلا ضمان، وسواء أظهروه أم لا، لكن لو غصبهما مسلم من ذمي .. وجب ردهما على الصحيح، وعليه مؤنة الرد.

قال: (ودفع أهل الحرب عنهم) إن كانوا في بلاد الإسلام؛ لأنه لابد من الذب عن الدار ومنع الكفار من طروقها، وحكى ابن حزم فيه الإجماع.

هذا إذا كانوا في بلاد الإسلام، فإن كانوا مستوطنين دار الحرب وبذلوا الجزية .. لم يجب الذب عنهم قطعًا، وإن كانوا منفردين ببلد في جوار الدار .. وجب الذب على الأصح، فكلام المصنف مخصوص بالصورة الأولى، وإنما وجب الذب عنهم؛ لأنهم إنما بذلوا الجزية لعصمة الدماء والأموال.

ويلزمنا أيضًا دفع من قصدهم من المسلمين وأهل الذمة؛ ففي (سنن أبو داوود)[3045] بإسناد صحيح عن العرباض بن سارية: أن صاحب خيبر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكا إليه بعض ما يلقون، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس فاجتمعوا، فخطبهم وقال:(إن الله لا يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم).

قال: (وقيل: إن انفردوا ببلد .. لم يلزمنا الدفع)، كما لا يلزمهم الدفع عنا.

ص: 416

وَنَمْنَعُهُمْ إِحْدَاثَ كَنِيسَةٍ فِي بَلَدٍ أَحْدَثْنَاهُ

ــ

والأصح: اللزوم إذا أمكن؛ إلحاقًا لهم بأهل الإسلام في العصمة والصيانة.

هذا إذا جرى العقد مطلقًا، فإن جرى بشرط الدفع .. وجب لا محالة، وفيه احتمال للإمام.

وإذا التزمنا الدفع عنهم فلم ندفع ومضى الحول .. لم تجب جزية، كما لا تجب الأجرة إذا لم يوجد التمكين من الانتفاع، ويستأنف الحول من حين المعاونة.

ولو أغار أهل الحرب على أموال أهل الذمة ثم ظفر الإمام بهم فاسترجعها .. لزمه ردها على أهل الذمة، فإن أتلفوا .. فلا ضمان عليهم، كما لو أتلفوا مال مسلم، ويجب عليه استنقاذ من أسر منهم.

ثم إن المصنف لما فرغ من بيان ما يلزمنا بعقد الذمة .. شرع في بيان ما يجب عليهم وهو خمسة:

الواجب الأول: في حكم البيع والكنائس.

قال: (ونمنعهم) أي: وجوبًا (إحداث كنيسة في بلد أحدثناه) كبغداد والقاهرة والبصرة والكوفة؛ لما روى أبو أحمد بن عدي [3/ 361] عن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبن كنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها).

وروى البيهقي [9/ 202]: أن عمر لما صالح نصارى الشام .. كتب إليهم كتابًا أنهم لا يبنون في بلادهم ولا فيما حولها ديرًا ولا كنيسة ولا قلابة ولا صومعة راهب، ورواه ابن أبي شيبة [7/ 634] عن ابن عباس أيضًا، ولا مخالف لهما من الصحابة.

وقال الحسن البصري: من السنة: أن تهدم الكنائس التي في الأمصار القديمة والحديثة، ويمنع أهل الذمة من بناء ما خرب منها، ولأن إحداث ذلك معصية ولا يجوز في دار الإسلام.

وهكذا الحكم في البيع وبيت نار المجوس والصوامع ومجتمع صلواتهم، فإن بنوا ذلك .. هدم، وسواء شرط عليهم ذلك أم لا.

قال الروياني: ولو صالحهم على التمكين من إحداثها .. فالعقد باطل.

ص: 417

أَوْ أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، وَمَا فُتِحَ عَنْوَةً .. لَا يُحْدِثُونَهَا فِيهِ

ــ

فالبلاد التي أحدثها المسلمون أو أسلم أهلها عليها أو فتحت عنوة أو صلحًا على أن تكون الأرض للمسلمين .. لا يقرون على كنائسها.

ولا ترميم في هذه البلاد الأربع، وإنما الترميم حيث قيل به في البلاد التي صولحوا عليها لتكون الأرض لهم في بلاد المسلمين وجهل حاله.

قال الشيخ في (كتاب الوقف): على أني لا أرى الفتوى بذلك؛ فإنه في سنة ثلاث عشرة أو نحوها رأيت في منامي رجلًا من أكابر العلماء في ذلك الوقت عليه عمامة زرقاء، فعندما طلع الفجر من تلك الليلة .. طلبني ذلك العالم، فوجدته في ذلك المكان الذي رأيته فيه وبيده كراسة في ترميم الكنائس يريد أن ينتصر لجواز الترميم ويستعين بي، فذكرت المنام واعتبرت.

ومعنى قولنا: لا نمنعهم الترميم ليس المراد: أنه جائز، بل هو من جملة المعاصي التي يقرون عليها كشرب الخمر ونحوه، ولا نقول: إن ذلك جائز لهم، وهكذا ترميم الكنائس عند من يقول به في بعض الأحوال ينبغي أن لا يأذن لهم ولي الأمر فيه، كما يأذن في الأشياء الجائزة في الشرع، وإنما معناه: تمكينهم بالتخلية وعدم الإنكار.

وإذا علم ذلك .. فلا يلزم منه جواز الوقف والترميم، لأن ذلك يستدعي كونه مباحًا شرعًا، ألا ترى أنا نقرهم على الصليب ولا يستحق صانعه أجرة ونقرهم على التوراة والإنجيل، ولو اشتروها أو استأجروا من يكتبها .. لم نحكم بصحته، فكذلك الترميم إذا مكناهم منه .. لا يحل للسلطان ولا للقاضي أن يقول لهم: افعلوا ذلك، ولا أن يعنيهم عليه، ولا لأحد من المسلمين أن يعمل لهم فيه، ولو استأجروا له وترافعوا إلينا .. حكمنا ببطلان الإجارة، ولا نزيد على مجرد التمكين والتخلية.

قال: (أو أسلم أهله عليه) كالمدينة الشريفة واليمن، فإنهم يمنعون أيضًا.

قال: (وما فتح عنوة .. لا يحدثونها فيه)؛ لأن المسلمين ملكوها بالاستيلاء، وذلك كأصبهان وبلاد المغرب والأهواز وفارس وقيسارية وجرجان وبلاد الجبل.

وكما لا يجوز إحداثها لا يجوز إعادتها إذا هدمت.

ص: 418

- وَلَا يُقَرُّونَ عَلَى كَنِيسَةٍ كَانَتْ فِيهِ فِي الأَصَحِّ- أَوْ صُلْحًا بِشَرْطِ الأَرْضِ لَنَا وَشَرْطِ إِسْكَانِهِمْ وَإِبْقَاءِ الْكَنَائِسِ لَهُمْ .. جَازَ- وَإِنْ أُطْلِقَ .. فَالأَصَحُّ: الْمَنْعُ-

ــ

كل هذا في كنائس التعبد، أما التي للمارة من أهل الذمة .. فلا يمنع كما تقدم في (الوقف) وغيره.

قال: (ولا يقرون على كنيسة كانت فيه في الأصح)؛ لكونها ملكت للمسلمين بالاستيلاء، قال ابن الرفعة: وعليه ينطبق نص (الأم) في (سير الواقدي).

والثاني –وصححه الماوردي-: يجوز تقريرهم عليها؛ لأن المصلحة قد تقتضي ذلك، وليس فيه إحداث ما لم يكن.

وموضع الوجهين في العامرة عند الفتح، أما المتهدمة والتي هدمها المسلمون .. فلا يقرون عليها قطعًا.

قال: (أو صلحًا بشرط الأرض لنا وشرط إسكانهم وإبقاء الكنائس لهم .. جاز) هذا لا خلاف فيه، وكأنهم صالحوا على أن تكون البيع والكنائس لهم؛ لأنه إذا جاز الصلح على أن كل البلد لهم .. فعلى بعضه أولى، وكذلك لو شرطوا إحداثها، قاله الروياني.

وظاهر عبارة (الحاوي الصغير): المنع.

قال: (وإن أطلق) أي: شرط الأرض لنا ولم يذكر إبقاء الكنائس ولا عدمه (.. فالأصح: المنع)، فيهدم ما فيها من الكنائس؛ لأن إطلاق اللفظ يقتضي صيرورة جميع البلد لنا.

والثاني: أنها تبقى وتكون مستثناة بقرينة الحال؛ فإن شرطنا تقريرهم وقد لا يتمكنون من الإقامة إلا بأن يبقى لهم مجمع لعبادتهم.

فائدة:

قال الشيخ عز الدين: لا يجوز للمسلم دخول كنائس أهل الذمة إلا بإذنهم؛ لأنهم يكرهون دخوله إليها.

ومقتضى ذلك: الجواز بالإذن، وهو محمول على ما إذا لم يكن فيها صور، فإن

ص: 419

أَوْ لَهُمْ .. قُرِّرَتْ، وَلَهُمُ الإِحْدَاثُ فِي الأَصَحِّ

ــ

كان وهي لا تنفك عن ذلك .. حَرُم؛ بناء على تحريم دخول البيت الذي فيه صور كما حكاه صاحبا (الشامل) و (البيان) عن الأصحاب في (باب الوليمة).

وقد توقف ابن الرفعة في هذه المسألة في (كتاب اللعان).

نعم؛ لو كانت مما يقرون عليها .. جاز بغير إذنهم؛ لأنها واجبة الإزالة، وغالب كنائسهم الآن بهذه الصفة.

قال: (أو لهم .. قررت) أي: ما فتح صلحًا بشرط كون الأرض لهم يؤدون خراجها .. تقرر فيها كنائسهم؛ لأنها ملكهم.

قال: (ولهم الإحداث في الأصح)؛ لأن الملك والدار لهم، وكذلك يمكنون من إظهار الصليب والخنزير فيها، وإظهار ما لهم من الأعياد.

والثاني: لا؛ لأن البلد تحت حكم الإسلام.

لكن قوله: (ولهم) عبارة موهمة، والمراد: عدم المنع؛ فإن الجواز حكم شرعي، ولم يرد الشرع بإبقاء الكنائس.

وعبارة (المحرر) سالمة من ذلك؛ فإنه قال: ولا يمنعون من الإحداث في الأظهر، فعدول المصنف إلى قوله:(ولهم) .. مستدرك؛ لأن عدم الإذن أعم من الإذن.

وحيث قلنا: لا يجوز الإحداث، وجوزنا إبقاء الكنائس .. لم يمنعوا من عمارتها إذا تهدمت في الأصح.

وفي وجوب إخفاء بنائها وجهان: الأصح: لا.

وإذا تهدمت الكنيسة المبقاة .. فلهم إعادتها على الأصح، وليس لهم توسيع خطتها على الصحيح.

فائدة:

سئل ابن الصلاح عن كنيسة هدم أهلها بعضها وجددوه لا لاستهدام، بل لطلب التجمل والإحكام، هل ينقض؟ فأجاب: إن زادوه عما كان عليه .. نقض الزائد، وإن أعادوه إلى ما كان عليه .. لم ينقض.

ص: 420

وَيُمْنَعُونَ وُجُوبًا -وَقِيلَ: نَدْبًا- مِنْ رَفْعِ بِنَاءٍ عَلَى بِنَاءِ جَارٍ مُسْلِمٍ، وَالأَصَحُّ: مَنْعُهُمْ مِنَ الْمُسَاوَاةِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا بِمَحِلَّةٍ مُنْفَصِلَةٍ .. لَمْ يُمْنَعُوا

ــ

قال: (ويمنعون وجوبًا –وقيل: ندبًا- من رفع بناء على بناء جار مسلم) هذا هو الواجب الثاني عليهم؛ لأن في الشروط العمرية: ولا يطلعون علينا من منازلهم.

وفي (البخاري) عن ابن عباس: (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه)، ورواه الدارقطني [3/ 252] والطبراني [طس 5993] والبيهقي [6/ 205] مرفوعًا من رواية عمر بن الخطاب.

وذكروا فيها معنيين:

أحدهما: ما فيه من التطاول والمباهاة، وقال تعالى:{وهم صاغرون} .

والثاني: لإشرافهم على عورات المسلمين.

واختار الإمام الأول وضعف الثاني، لأنه قد يقدر على الاطلاع وإن لم يطل.

ثم أصح الطريقين: أن ذلك على سبيل الإيجاب، فلا يسقط بالرضا؛ لأنه حق للدين.

وقيل: مستحب؛ لأنها ملكه، فلا يمنع من التصرف فيها.

ومحل الخلاف: إذا شرط ذلك عليهم، فإن لم يشرط .. قال الماوردي في (الأحكام): يستحب أن لا يعلو، والذي يقتضيه كلام الشافعي والأصحاب: أنه لا فرق.

قال: (والأصح: منعهم من المساواة)؛ لأن التمييز بين المسلم والذمي مطلوب في البناء كالتمييز في اللباس.

والثاني: لا؛ لأنه لم يعل على المسلمين.

قال: (وأنهم لو كانوا بمحلة منفصلة .. لم يمنعوا) أي: من رفع البناء؛ لانتفاء خوف الاطلاع على عورة المسلمين.

والثاني: المنع، وهو ظاهر نص (الأم)؛ لأنه استعلاء في جوار الإسلام.

ص: 421

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وينبغي تخصيص الخلاف بما إذا أمن، فلو أعلى بناءه لدفع السراق .. فلا منع قطعًا.

فروع:

إذا ملك الذمي دارًا عالية .. لم يكلف هدمها، لكن يمنع من الإشراف على المسلمين وطلوع سطحها بلا تحجير، صرح به الماوردي وغيره.

ولو استأجر دارًا عالية .. لم يمنع من سكناها بلا خلاف.

ولو رفع بناءه على المسلم فأراد المسلم أن يرفع بناءه عليه .. لم يؤخر هدم بنائه لذلك، فلو تأخر ولم ينقض حتى رفع المسلم داره على داره .. قال ابن الصلاح: الظاهر: أنه لا يسقط حق النقض بذلك، وهو كما لو رفع بناءه فحكم حاكم بنقضه فباعه لمسلم .. هل يصح ويسقط حق النقض أو لا؟

قال ابن الرفعة في (حاشية الكفاية): يظهر تخريجها على وجهين، فيما إذا باع المستعير ما بناه على الأرض المستعارة بعد رجوع المعير، وكذا بيع البناء على الأرض المستأجرة بعد انقضاء أيامها، وفي ذلك وجهان.

وفي جواز إخراجهم الرواشن في الطرق السابلة وجهان: الأصح: المنع، ويجريان في آبار حشوشهم إذا حفروها في أفنية دورهم كما تقدم في (باب الصلح).

ص: 422

وَيُمْنَعُ الذِّمِّيُّ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ

ــ

قال: (ويمنع الذمي من ركوب الخيل) هذا هو الواجب الثالث، لقوله تعالى:{ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} فأمر أولياءه بإعدادها لأعدائه.

وفي (الصحيحين)[خ2849 - م1871] من حديث عروة البارقي: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) وعني به الغنيمة، وهم مغنومون، فلا سبيل إلى أن يصيروا غانمين.

وروى: (الخيل ظهروها عز)، وهم ضربت عليهم الذلة.

وقيل: لا يمنع، كما لا يمنع من لبس الثياب النفيسة.

واستثنى الجويني البرذون الخسيس كالقتبيات، كذا عبر به في (الوسيط).

وهذا اللفظة يستعملها العجم يعنون بها الخيل التي يحمل عليها بالأكف.

وفي الحديث: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إذالة الخيل) وهو: امتهانها في الحمل عليها واستعمالها.

هذا إذا كانوا في بلد مع المسلمين، فلو انفردوا بقرية .. ففي منعهم من ركوبها وجهان، لا ترجيح فيهما عند الرافعي، ويظهر ترجيح الجواز كما في نظيره من البناء.

فائدة:

قال ابن الصلاح: ينبغي منعهم من خدمة الملوك والأمراء كما يمنعون من ركوب الخيل؛ فإن المعنى يجمع ذلك في قرب.

وقال في (البحر): يجوز تعليمهم القرآن إذا رجي إسلامهم ولا يجوز إذا خيف منهم الاستهزاء به؛ فقد سمع عمر أخته تقرأ سورة طه فأسلم، قال: وهكذا القول في تعليم الفقه والكلام وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يمنعون من تعلم

ص: 423

لَا حَمِيرٍ وَبِغَالٍ نَفِيسَةٍ، وَيَرْكَبُ بِإِكَافٍ وَرِكَابِ خَشَبٍ لَا حَدِيدٍ، وَلَا سَرْجٍ، وَيُلْجَأُ إِلَى أَضْيَقِ الطُّرُقِ، ..

ــ

الشعر والنحو، ومنه بعض الفقهاء ذلك، فإن في استقامة ألسنتهم تسليطًا على من قصر فيه من المسلمين.

قال: (لا حمير وبغال نفيسة)؛ لأنه لا شرف فيها.

وألحق الإمام والغزالي البغال النفيسة بالخيل؛ لما في ركوبها من التجمل، وجزم به الفوراني، ولم يقيده بالنفيسة، كما قيل: مركب قاض وإمام عدل وعالم وسيد وكهل يصلح للرحل ولغير الرحل.

قال: (ويركب بإكاف وركاب خشب لا حديد، ولا سرج)؛ لئلا يتشبه بالمسلمين، وقال ابن أبي هريرة: يجوز الحديد.

و (الإكاف) بكسر الهمزة: البردعة، وقد تقدم في (باب الخيار).

تنبيه:

لا خلاف في منعهم من الركوب بلجم الذهب والفضة وحمل السلاح وتقليد السيوف، ويركبون عرَضًا وهو: أن يجعل الراكب رجليه من جانب وظهره إلى جانب.

قال ابن كج: هذا في الذكور البالغين، أما النساء والصبيان .. فلا يلزمون الصغار، كما لا جزية عليهم، وقيل: لهم الركوب على الاستواء.

واستحسن الرافعي أن يتوسط، فيفرق بين أن يركب إلى مسافة قريبة إلى البلد وبين السفر؛ فلا يكلف ذلك.

قال: (ويُلجأ إلى أضيق الطرق)؛ لما روى الشيخان عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحده في طريق .. فاضطروه إلى أضيقه).

ص: 424

وَلَا يُوَقَّرُونَ، وَلَا يُصَدَّرُونَ فِي مَجْلِسٍ، وَيُؤْمَرُ بِالْغِيَارِ

ــ

فإن خلت الطريق عن الزحمة .. فلا حرج، وليكن التضييق عليه بحيث لا يقع في وهدة ولا يصدمه الجدار.

قال: (ولا يوقرون، ولا يصدرون في مجلس)؛ لأن الله تعالى أذلهم، وهذا النهي للتحريم، والمراد: إذا اتفق اجتماعهم مع المسلمين.

وما أحسن ما اتفق لأبي بكر محمد بن الوليد الطرطوشي المالكي الزاهد لما دخل على الملك الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش، وكان إلى جانب الأفضل رجل نصراني، فوعظه الطرطوشي حتى بكى، ثم أنشده [من السريع]:

يا ذا الذي طاعته قربة .... وحقه مفترض واجب

إن الذي شرفت من أجله .... يزعم هذا أنه كاذب

وأشار إلى النصراني، فأقامه الأفضل من موضعه؛ لاستحضاره تكذيب المعصوم الذي هو سبب شرفه وشرف أهل السماوات والأرض صلى الله عليه وسلم.

والطرطوشي بضم الطاءين نسبة إلى طرطوش، مدينة ببلاد الأندلس، مات بالإسكندرية ودفن بها بكوم وعلة قبل الباب الأخضر سنة عشرين وخمس مئة.

فرع:

لا تجوز مودة الكافرين، للآية الكريمة، قاله الشيخان هنا وفاقًا للبغوي، وقالا في (باب الوليمة): تكره مخالطتهم ومودتهم.

ويمكن الفرق بين المخالطة والمودة: فالمخالطة ترجع إلى الظاهر، والمودة الميل القلبي، فذلك مكروه، وهذا حرام؛ لقصة حاطب بن أبي بلتعة، فأما المودة على الإحسان الدنيوي فقط من غير ميل ولا موافقة على المعاصي .. فمكروه.

قال: (ويؤمر بالغيار) وهذا هو الواجب الرابع.

ودليله: أن عمر صالحهم على تغيير زيهم بمحضر من الصحابة، وإنما لم يفعل

ص: 425

وَالزُّنَّارِ فَوْقَ اَلثِّيَابِ،

ــ

النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بيهود المدينة ونصارى نجران؛ لأنهم كانوا قليلين معروفين، فلما كثروا في زمن الصحابة وخشوا من التباسهم بالمسلمين .. احتاجوا إلى التمييز.

والأولى: أن يكون غيار اليهود متميزًا عن غيار النصارى، فلليهود الأصفر، وللنصارى الأزرق، وللمجوس الأسود والأحمر، كذا قاله الرافعي. والذي قال: إنه الأولى .. لا دليل عليه، فلو جعل غير الأصفر لليهود .. كان أولى؛ لأنه كان زي الأنصار.

ولو لبس اليهود والنصارى لونًا واحدًا .. جاز، ولو تميزوا بلباس وصار مألوفًا لهم .. منعوا من العدول عنه كيلا يقع الاشتباه.

والأمر بالغيار واجب على الصحيح إذا كانوا في بلاد الإسلام، فإن انفردوا بمحلة .. فلهم تركه، حكاه في (البحر)، وهو قياس ما تقدم.

وشمل إطلاق المصنف: النساء، وهو الأصح، ولا يشبه موتاهم بموتى المسلمين.

و (الغيار) بكسر الغين: الشيء الذي يمتاز به).

قال: (والزُّنّار فوق الثياب)؛ لأن عمر صالحهم عليه، كما رواه البيهقي [9/ 202].

وهو خيط غليظ يجعل في أوساطهم خارج الثياب فيه ألوان، وليس لهم إبداله بمنطقة ولا منديل، وإن لبسوا القلانس .. ميزت عن قلانس المسلمين بعلامة في رأسها.

و (الزُّنّار) بضم الزاي وتشديد النون، قاله الجوهري وابن سيده.

وإنما جمع بين الغِيار والزُّنار؛ ليكون أثبت للعلامة، فإن المسلم قد يلبس الملون.

ص: 426

وَإذَا دَخَلَ حَمَّامًا فِيهِ مُسْلِمُونَ أَوْ تَجَرَّدَ عَنْ ثِيَابِهِ .. جُعِلَ فِي عُنُقِهِ خَاتَمُ حَدِيدٍ أَوْ رَصَاصٍ وَنَحْوُهُ،

ــ

وقال ابن يونس: إن التمييز يحصل بأحدهما، ومراده: انه يكتفي بشرط أحدهما، فإن شرطهما .. وجبا.

وعبارة (الشرح) و (الروضة) والجمع بين الغيار والزنار تأكيد ومبالغة في الاشتهار، ويجوز أن يقتصر الإمام على اشتراط أحدهما.

وإذا لبست المرأة خفًا .. فليكن أحدهما أسود والآخر أبيض أو أحمر، وقال القاضي: تخيط المرأة على ثيابها علامة تتميز بها، ولا يمنعون مع التمييز بما سبق من لبس الطيلسان؛ لأن التمييز قد حصل، وفي وجه: يمنعون منه؛ لأنه أَجَلُّ لُبس المسلمين).

ولا يمنعون من التظاهر بالديباج والحرير على الصحيح، ولا من لبس فاخر الثياب. وقال القاضي حسين: من حمى كافرًا أو دفع عنه الغيار كأهل نيسابور .. عصى؛ لأن إعزاز من أذله الله كإذلال من أعزه الله.

وقال المارودي: يمنعون من التختم بالذهب والفضة؛ لما فيه من التطاول والمباهاه.

وفي (فتاوى قاضي خان) لا بأس ببيع الزنار من النصارى والقلنسوة من المجوس؛ لأن في ذلك إذلالًا لهم.

وقال الحليمي: لا ينبغي لفعلة المسلمين وصناعهم أن يعلموا للمشركين كنيسة أو صليبًا، فأما نسج الزنار .. فلا بأس به؛ لأن فيه صغارًا.

وأفتى ابن تيمية بأنهم يمنعون من إظهار الأكل والشرب في شهر رمضان.

قال: (وإذا دخل حمامًا فيه مسلمون أو تجرد عن ثيابه) أي: في غير الحمام) .. جُعل في عنقه خاتم حديد أو رصاص ونحوه) وهذا التمييز واجب على الصحيح، وقيل: مستحب.

ص: 427

وَيُمْنَعُ مِنْ إِسْمَاعِهِ اٌلْمُسْلِمِينَ شِرْكًا وَقَوْلَهُ فِي عُزَيْرٍ وَاٌلمَسِيحِ، وَمِنْ إِظْهَارِ خَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ وَنَاقُوسٍ وَعِيدٍ، ......

ــ

والمراد ب (الخاتم) ههنا: الطوق والرصاص، بفتح الراء، والعامة تكسرها، وحكي عن ثعلب.

وقوله: (ونحوه) معطوف على (خاتم) لا على (رصاص)، ويعني به: الجلاجل.

وإذا كان له شعر أمر بجز ناصيته، ومنع من إرسال الضفائر كما يفعل الأشراف والأجناد.

وذكر المارودي: أن نساء أهل الذمة يمنعن من فرق الشعر والذوائب في الحمامات دون منازلهن.

وقوله: (فيه مسلمون) أشار به إلى أن لفظ الحمام مذكر، وهذا لا خلاف فيه، تقول: الحمام بعته وشريته ودخلته ورأيته.

وأما تمييز النساء في الحمامات .. فينبني على جواز دخوله مع النساء المسلمات، والأصح في زيادات (الروضة) منعه؛ لأنهن أجنبيات في الدين.

وقد يفهم من هذا السياق: أن لنساء المسلمين أن يدخلنه للا حجر وعن ابن أبي هريرة أنه قال: لا يجوز إلا عن ضرورة؛ لما روى أبو داوود [4006] والترمذي [2803] وابن ماجه [3750] والحاكم [4/ 516] عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة خلعت ثوبها غي غير بيت زوجها .. فهي ملعونة).

والأصح في زيادات (الروضة) أنه لا يحرم دخولهن بلا عذر، لكن يكره: وجزم في (الإحياء) بحرمة دخولهن إلا لنفاس أو مرض.

وكره أحمد بناء الحمام وبيعه وإجازته، وحرمه القاضي من أصحابه، ولم يدخل أحمد حمامًا أبدًا.

قال: (ويمنع من إسماعه المسلمين شركًا وقوله في عُزير والمسيح، ومن إظهار خمر وخنزير وناقوس وعيد) هذا هو الواجب الخامس عليهم، وهو: الانقياد لحكم.

ص: 428

وَلَوْ شُرِطَتْ هَذِهِ اٌلأُمُورُ فَخَالَفُوا .. لَمْ يَنْتَقِضِ اٌلْعَهْدُ،

ــ

الشرع، فيمنع من إظهار ما ذكره؛ لما فيه من إظهار شعار الكفر، وقيل: لا يمنع من الناقوس في الكنيسة تبعًا.

وفهم من التقييد بـ (الإظهار) أنه لا يمنع فيما بينهم، وكذا إن انفردوا بقرية، نص عليه في (الأم)، وفي الشروط العمرية: وأن لا يضرب الناقوس في الكنائس إلا ضربًا خفيفًا.

وظاهر عبارة المصنف: منعهم من ذلك، سواء شرط عليهم في العقد أم لا، وبه صرح القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والروياني والمَحاملي، ونقله في (الذخائر) عن الأصحاب.

وإذا أظهروا خمورهم .. أريقت، وقياسه: إتلاف الناقوس إذا أظهروه.

وإذا فعلوها ما يعتقدون تحريمه .. يجري عليهم حكم الله فيه، ولا يعتبر رضاهم، وذلك كالزنا والسرقة؛ فإنهما محرمان عندهم كشرعنا، وأما ما يعتقدون حله .. فقد سبق أن حد الخمر لا يقام عليهم على الأصح.

ويلزمهم كف اللسان والامتناع من إظهار المنكرات، وكذا قراءتهم التوراة والإنجيل ولو في كنائسهم؛ لما في إظهار ذلك من المفاسد.

قال: (ولو شرطت هذه الأمور فخالفوا .. لم ينتقض العهد).

الأمور المشترطة عليهم في عقد الذمة ثلاثة أقسام:

الأول: ما لا تنتقض الذمة بمخالفته قطعًا كهذه الأمور؛ لأنهم يتدينون بها من غير ضرر على المسلمين فيها، فإذا فعلوها .. عزروا عليها؛ مبالغة في إهانتهم وإذلالهم، والمراد بشرط هذه الأمور إذا شرط عليهم: أن ينقض العهد بها، فإن شرط عليهم النقض بها .. فبتاه الإمام على الخلاف في أن عقد الذمة هل يصح مؤقتًا؟ إن صح .. صح وانتقض بها، وإلا .. فباطله من أصله.

والمنقول عن الأصحاب: عدم الانتقاض وفساد الشرط، ويتأبد العقد، ويحمل ذلك على التخويف.

ص: 429

وَلَوْ قَاتَلُونَا، أَوِ اٌمْتَنَعُوا مِنَ اٌلْجِزْيَةِ، أَوْ مِنْ إِجْرَاءِ حُكْمِ اٌلإِسْلَامِ .. اٌنْتَقَضَ

ــ

قال: (ولو قاتلونا، أو امتنعوا من الجزية، أو من إجراء حكم الإسلام .. انتفض)؛ لمخالفة موضوع العقد، وهذا هو القسم الثاني، وهو: ما ينتقض به قطعًا.

وجزم (الحاوي الصغير) بالانتقاض بالتمرد عن الأحكام، وتبع في ذلك الإمام، أما إذا قاتلونا .. فسواء شرط عليهم الامتناع أم لا انتفض؛ لأن القتال ينافي عقد الذمة.

وكلام المصنف محمول على ما إذا لم تكن شبهة.

فإن أعانوا البغاة وادعوا: أنهم لم يعرفوا الحال .. فقد سبق بيانه في بابه، وكذا إذا صال عليهم جماعة من متلصصي المسلمين وقطاعهم فقتلوهم دفعًا .. لا يكونون بذلك ناقضين.

واستشكل الإمام النقض بالقتال؛ لأنه فعل والعقود لا تقطع بالأفعال.

وأجاب بأن الذمة لما كانت جائزة من جانب الذمي .. التحقت في حقه بالعقود الجائزة، والعقد الجائز إذا انتفى مقصوده بالكلية .. لم يبعد انقطاعه وإن كان الصادر فعلًا، وهذا بمثابة انقطاع الإيداع بالعدوان.

وأما إذا امتنعوا من إجراء الأحكام عليهم أو منعوا الجزية .. فينتقض عهدهم، سواء كان الممتنع واحدًا أو جماعة؛ لأن الذمة لا تنعقد إلا بهما، فألحق الدوام بالابتداء.

وسواء منعوا أصولها أو منعوا الزائد على الدينار كما تقدم، وهو الأصح.

قال الإمام: هذا بالنسبة إلى القادر، أما العاجز إذا استمهل .. فلا ينقض عهده، قال: ولا يبعد أخذها من الموسر قهرًا ولا ينتقض، ويخص قولهم بالمتغلب المقاتل، وأقره الرافعي عليه.

لكن المنصوص كما قاله القاضي حسين: انتقاض العهد وعدم الاستباحة، وأما عدم الانقياد لأحكام الإسلام .. فإنه يحمل عليه قهرًا.

قال الإمام: وإنما يؤثر إذا كان يتعلق بقوة وعزة، فأما الممتنع هاربًا .. فلا

ص: 430

وَلَوْ زَنَى ذِمِّيٌّ بِمُسْلِمَةٍ أَوْ أَصَابَهَا بِنِكَاحٍ، أَوْ دَلَّ أَهْلَ اٌلْحَرْبِ عَلَى عَوْرَةِ اٌلْمُسْلِمِينَ، أَوَ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِيِنِه، أَوْ طَعَنَ فِي اٌلإِسْلَامِ أَوِ اٌلْقُرْآنِ، أَوْ ذَكَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسُوءٍ .. فَالأَصَحُ: أَنَّهُ إِنْ شُرِطَ انْتِقَاضُ الْعَهْدَ بِهَا .. انُتَقَضَ، وَإِلَاّ .. فَلَا

ــ

ينتقض، وجزم به في (الشرح) و (الحاوي الصغير).

قال: (ولو زنى ذمي بمسلمة أو أصابها بنكاح، أو دل أهل الحرب على عورة المسلمين، أو فتن مسلمًا عن دينه، أو طعن في الإسلام أو القرآن، أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء .. فالأصح: أنه إن شرط انتقاض العهد بها .. انتقض، وإلا .. فلا) هذا هو القسم الثالث، وهو الذي فيه خلاف:

والأصح: أنه إن شرط .. انتقض؛ لأن هذه الأشياء وإن اقتضى العقد المنع منها بتحريمها لا تخلُّ بمقصوده.

والثاني: ينتقض قطعًا؛ لما فيه من الضرر.

والثالث: إن شرط .. انتقض، وإلا .. فوجهان.

والمصنف صحح في (الروضة) في المسائل الأربع: أنه إن لم يجر ذكرها في العقد .. لم ينتقض، وكذا إن جرى في الأظهر، عكس ما في الكتاب، ثم إنه عبر بـ (الأصح)، وهي ذات طرق أو بعضها ذات طرق، وبعضها ذات أوجه.

وأما فتنة المسلم عن دينه .. فمثله إذا دعاه إلى دينهم.

وأما إذا طعنوا في الإسلام أو القرآن .. ففيه طريقان:

أحدهما: الانتقاض بلا خلاف كالقتال.

وأظهرهما: أنه كالزنا بمسلمة ونحوه، فيأتي فيه الخلاف.

وأما الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو نسبته إلى أمر مستقبح .. فيلحق بالقتال قطعًا، سواء شرط عليه الكف عنه أم لا.

وقال أبو بكر الفارسي: من شتم منهم النبي صلى الله عليه وسلم .. قتل حدًا؛

ص: 431

وَمَنِ انْتَقَضَ عَهْدُهُ بِقِتَالٍ .. جَازَ دَفْعُهُ وَقِتَالُهُ، أَوْ بِغَيْرِهِ .. لَمَ يَجِبْ إِبْلَاغُهُ مَامَنَهُ فِي الأَظْهَرِ، بَلْ يَخْتَارُ الإِمَامُ فِيهِ قَتْلًا وَرِقًّا وَمَنًّا وَفِدَاءً، فَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الاِخْتِيَارِ .. امْتَنَعَ الرِّقُّ

ــ

لأنه صلى الله عليه وسلم قتل ابن خطاب وغيره بذلك، وقد تقدم هذا في قبول توبة المرتد.

قال: (ومن انتقض عهده بقتال .. جاز دفعه وقتاله)؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} ، ولأنه صار حربيًا لنا في دار الإسلام، وحينئذ فيتخير الإمام فيمن ظفر به منهم من الأحرار الكاملين كما يتخير في الأسير، كذا قطع به الرافعي، لكن حكى الإمام في (قتال البغاة) قولًا بأنه يبلغهم المأمن إذا انكفوا عن الأذى، واستبعده.

قال: (أو بغيره .. لم يجب إبلاغه مأمنه في الأظهر، بل يختار الإمام فيه قتلًا ورقًا ومنًا وفداء)؛ لأنه كافر لا أمان له كالحربي.

وروى البيهقي [9/ 201]: أن عمر صلب يهوديًا زنى بمسلمة.

والثاني: يجب أن يبلغ المأمن، كمن دخل بأمان صبي.

وأجاب الأول عن هذا بأنه يعتقد في نفسه أمانًا، وهنا فعل باختياره ما أوجب انتقاض الأمان.

مهمة:

التخير بين هذه الأمور ليس على إطلاقه، بل شرطه: أن لا يطلب الذمي الذي انتقض عهده تجديد العهد، فإن طلبه .. وجب إجابته إلى عقد الذمة، ولا يجوز قتله، كذا نبه عليه الرافعي في (باب قطع السرقة).

ثم ما اقتضاه كلام الشيخين من تصحيح عدم البلوغ إلى المأمن يشكل عليه ما قالاه في (باب الهدنة) إن من دخل دارنا بأمان أو بهدنة لا يغتال وإن انتفض عهده، بل يبلغ المأمن مع أن حق الذمي آكد من حق المستأمن، والفرق مشكل.

قال: (فإن أسلم قبل الاختيار .. امتنع الرق)، بخلاف الأسير؛ لأنه لم يحصل في يد الإمام بالقهر فخف أمره.

ص: 432

وَإِذَا بَطَلَ أَمَانُ رِجَالٍ .. لَمْ يَبْطُلْ أَمَانُ نِسَائِهِمْ وَالصِّبْيَانِ فِي الأَصَحَّ، وَإذَا اخْتَارَ ذِمِّيٌّ نَبْذَ الْعَهْدِ وَاللُّحُوقَ بِدَارِ الْحَرْبِ .. بُلِّغَ الْمَامَنَ

ــ

قال: (وإذا بطل أمان رجال .. لم يبطل أمان نسائهم والصبيان في الأصح)؛ لأنه قد ثبت لهم الأمان ولم توجد منهم خيانة.

والثاني: يبطل؛ لأنهم دخلوا تبعًا فيزول بزوال الأصل.

وعلى الأصح: لا يجوز سبيهم، ويجوز تقريرهم في دارنا، وإن طلبوا الرجوع إلى دار الحرب .. أجيب النساء دون الصبيان؛ لأنه لا حكم لا ختيارهم قبل البلوغ، فإن بلغوا وبذلوا الجزية .. أقروا بها، وإلا .. ألحقوا بدار الحرب.

قال: (وإذا اختار ذمي نبذ العهد واللحوق بدار الحرب .. بُلِّغ المأمن)؛ لأنه لم يوجد منه خيانة ولا ما يوجب نق

ض عهده فبلغ مكانًا يأمن فيه على نفسه.

وقيل بإجراء القولين؛ لأنه بعد نبذ العهد كافر لا أمان له.

وصورة المسألة: أن ينبذ ذلك من غير أذى، فأما مع الأذى .. فقد تقدم حكمه، وهذا بناه المصنف على أن الذمة عقد جائز من جهة الذمي، وأنه لا يجبر على الوفاء بالذمة.

وحكى الإمام في (باب البغاة) فيه الاتفاق.

و (المأمن) بفتح الميمين: موضع الأمن، والمراد به: أقرب بلاد الحرب من دار الإسلام، ولا يلزم إلحاقه ببلده الذي يسكنه فوق ذلك، إلا أن يكون بين أول بلاد الكفر ومسكنه بلد للمسلمين يحتاج إلى المرور عليه.

وقال في (البحر) لو كان له مأمنان .. ألحق بما يسكنه منهما، فإن سكن بلدين .. تخير الإمام.

تتمة:

إذا رجع المستأمن إلى بلاده الإمام لتجارة أو رسالة .. فهو باق على أمانه في نفسه وماله، فإن رجع للاستيطان .. انتقض عهده.

فإن رجع فمات في بلاده واختلف الوارث والإمام: هل انتقل للإقامة فهو حربي، أو للتجارة فلا ينتقض عهده؟

ص: 433

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أجاب فيها بعض علماء العصر بأن قول الإمام؛ لأن الأصل في رجوعه إلى بلاده الإقامة، ولأن الوارث يدعي سفرين والإمام يدعي سفرًا، والأصل: عدم الثاني؛ لأن المارودي قال إذا اختلف الزوجان في السفر هل هو للعود أو النقلة: إن سفر النقلة واحد وسفر العود اثنان .. فكان القول في الثاني قول منكره.

خاتمة

روى الحافظ أبو نعيم وابن عبد البر وغيرهما عن جعفر بن محمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو عاش إبراهيم .. لأعتقت أخواله، ولو ضعت الجزية عن كل قبطي).

وروي أبو عبيد في كتاب (الأموال) عن يزيد بن أبي حبيب: أن الحسن بن علي كلم معاوية في أهل حَفْن من كورة أَنْصِنا- قرية أم إبراهيم- فسامحهم بالجزية إكرامًا لإبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن روى أنس بن مالك أنه قال:(لو عاش إبراهيم .. لكان صديقًا نبيًا).

قال أبو عمر: لا أدري ما وجه هذا القول، فقد ولد نوح غير نبي، ولو لم يلد النبي إلا نبيًا .. لكان كل أحد نبيًا؛ لأنهم من ولد نوح عليه السلام.

قال المصنف: ما روي عن بعض المتقدمين: (لو عاش إبراهيم .. لكان نبيًا) باطل، وفيه جسارة على الكلام في المغيبات ومجازفة وهجوم على عظيم الزلات.

و (حَفْن) بفتح الحاء المهملة وإسكان الفاء.

و (أنصنا) بفتح أوله وإسكان النون بعده صاد مهملة مكسورة ونون وألف: من صعيد مصرن كذا ضبطه أبو عبد الله البكري، وقال: إنها كانت مدينة السحرة في زمن فرعون.

***

ص: 434

كتاب الهدنة

ص: 435