المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كِتَابُ السِّيَر ــ   كتاب السير مفردها (سيرة)، وهي: السنة والطريقة. ومقصود الباب: الكلام في - النجم الوهاج في شرح المنهاج - جـ ٩

[الدميري]

الفصل: ‌ ‌كِتَابُ السِّيَر ــ   كتاب السير مفردها (سيرة)، وهي: السنة والطريقة. ومقصود الباب: الكلام في

‌كِتَابُ السِّيَر

ــ

كتاب السير

مفردها (سيرة)، وهي: السنة والطريقة.

ومقصود الباب: الكلام في الجهاد وأحكامه التي أخذت من سيرة النببي صلى الله عليه وسلم في غزواته، وترجمه في (التنبيه) ب (قتال المشركين)، وغيره ب (الجهاد) والأصل فيه قبل الإجماع: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} ، {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} ، {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ، {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .

وفي (الصحيحين)[خ 25 - م20]: أ، النبي صلى الله عليه وسلم قال:(أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله).

وجعله ابن سراقة وصاحب (المرشد) أفضل الأعمال بعد الإيمان؛ لما روي مسلم [83] عن سهل بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: (الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله).

وفي (البخاري)[2792]: (غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها).

وفي (المستدرك)[2/ 68]: (يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه)، و (مقام رجل في الصف أفضل عند الله من عبادة ستين سنة)[2/ 68].

ص: 285

كَانَ الْجِهَادْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرْضْ كِفَايَة،

ــ

قال الإمام: وهذا الباب مع قسم الغنائم تتداخل فصولهما، فما نقص من أحدهما .. يطلب من الآخر.

قال: (كان الجهاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض كفاية)، أما كونه فرضًا .. فبالإجماع وأما كونه على الكفاية .. فلقوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} إلى قوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} ففاضل سبحانه بين المجاهدين والقاعدين ووعد كلًا الحسنى، والعاصي لا يوعد بها.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو .. مات على شعبة من نفاق (- قال عبد الله بن المبارك: كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم [1910] والحاكم [2/ 79] وقال: لم يخرجاه، فاستدرك عليه.

والمراد: أنه فرض كفاية بعد الهجرة، أما قبلها .. فكان القتال محظورًا بلا خلاف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما بعث أمر بالتبليغ والإنذار بلا قتال، وأمروا

ص: 286

وَقِيلَ: عَيْنٍ،

ــ

بالصبر على أذى المشركين، قال تعالى:{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} الآية، ثم بعد الهجرة أذن الله تعالى لهم في القتال إذا ابتدأهم المشركون به، فقال:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} .

ثم أباح البداءة به في غير الأشهر الحرم بقوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} الآية.

ثم في السنة الثامنة بعد الفتح أمر به من غير تقييد بشرط ولا زمان، فقال تعالى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} الآية، وقال:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} ، فأمر بقتال جميع الكفار، وهذه أية السيف، وقيل: الآية التي قبلها، وقيل: هما وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية، فالآيات الثلاث نسخت كل موادعة في القرآن، وهي مئة وأربع عشرة آية.

وسميت آية السيف؛ لآن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث خالد بن الوليد يوم الفتح .. قال: (احصدهم بالسيف حتى تلقاني على الصفا)، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم لخالد: (أنت سيف من سيوف الله سله الله على الكفار والمنافقين.

قال: (وقيل: عين)؛ بقوله تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وعلى هذا: من تخلف كان يحرس المدينة، وهو نوع جهاد.

وأجاب الأول بأن الوعيد لمن عينه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتعين الإجابة، أو عند قلة المسلمين وكثرة المشركين.

وصحح الماوردي: أنه كان فرض عين على المهاجرين، وكفاية على غيرهم. وقال السهيلي: كان فرض عين على الأنصار دون غيرهم؛ لأنهم بايعوا عليه، قال شاعرهم [من الرجز]:

نحن الذين بايعوا محمدا .... على الجهاد ما بقينا أبدا

وقال الشيخ: كان فرض عين في الغزوات التي خرج فيها النبي صلى الله عيه وسلم بنفسه، وفي غيرها فرض كفاية.

ص: 287

وَأَمَّا بَعْدَهُ .. فَلِلْكُفَّارِ حَالَانِ: أَحَدَهُمَا: يَكُونُونَ بِبِلَادِهِمْ؛ فَفَرْضُ كِفَايَةٍ، إِذَا فَعَلَهُ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ .. سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ

ــ

وضابط فرض الكفاية: كل مهم ديني طلب الشارع حصوله من غير تعيين من يتولاه، سمي بذلك؛ لأن فعل البعض يكفي فيه، بخلاف فرض العين؛ فإنه لا بد فيه من فعل كل عين، أي: ذات، ولأجل ما في القيام بفرض الكفاية من إسقاط الحرج عن غيره كان القائم به له مزية على القائم بفرض العين، كذا نقله المصنف عن الإمام، ونقله ابن الصلاح عن (المحيط) للشيخ أبي محمد، ونقلة الشيخ أبو علي في (شرح التلخيص) عن المحققين وأرتضاه.

قال: (وأما بعده .. فللكفار حالان: أحدهما: يكونون ببلادهم) أي: مستقرين فيها غير قاصدين شيئًا من بلاد المسلمين.

قال: (ففرض كفاية)؛ لقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} ، وادعى القاضي عبد الوهاب فيه الإجماع، ولأنه لو فرض على الأعيان .. لتعطلت المعايش والهذارع وخربت البلاد.

قال: (إذا فعله من فيه كفاية .. سقط الحرج عن الباقين) كسائر فروض الكفايات.

وتعبيره بـ) السقوط) ظاهر في أن فرض الكفاية يتعلق بالجميع، وهو الصحيح عند الأصوليين، وقيل: بان بالآخرة أنه لم يتناول سوى من فعل.

وتحصل الكفاية بأمرين:

أحدهما: أن يشحن الإمام الثغور بجماعة يكافئون من بإزائهم من العدو.

ص: 288

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

والثاني: أن يدخل دار الكفر غازيًا أو يبعث من يصلح له، فإن تركه الجميع أثموا، وهل يعمهم أو يختص بالمندوب؟ له وجهان: والأصح في زوائد (الروضة) أنه يأثم من لا عذر له من الأعذار الآتية.

وأقله مرة في كل سنة؛ لقوله تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} قال مجاهد: نزلت في الجهاد.

ولأنه فرض يتكرر، وأقل ما وجب المتكرر في كل سنة كالصوم والزكاة، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يفعله منذ أمر به، فكانت غزوة بدر في الثانية، وأحد في الثالثة، وذات الرقاع في الرابعة، والخندق في الخامسة، والمريسيع في السادسة، وفتح خيبر في السابعة، ومكة في الثامنة، وتبوك في التاسعة.

وأيضًا الجزية شرعت لدفع القتال وإنما تؤخذ مرة واحدة في السنة، وكذلك سهم الغزاة، فلا يجوز إخلاء السنة عن مرة واحدة إلا لضرورة، فإن كان بالمسلمين ضعف وحاجة؛ بأن عز الزاد أو العلف في الطريق .. فإنه يؤخر لزوالها.

واختار الإمام مذهب الأصوليين؛ فإنهم لم يروا التخصيص بالسنة، بل أوجبوا بحسب الإمكان؛ لأنه دعوة قهرية، وحمل مقالة الفقهاء على العادة الغالبة في الاستعداد، فإن الأموال والعدد لا يتأتى تجهيزها للجند في السنة أكثر من مرة، وفية نظر، ثم الإمام بالخيار بين أن يخرج بنفسه غازيًا، أو يخرج جماعة ويؤمر عليهم أميرًا

ص: 289

وَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ: الْقِيَامُ بِإِقَامَةِ الْحُجَجِ

ــ

ولا يجعلهم فوضى، أو يرتب في كل ناحية أميرًا كافيًا يقلده الجهاد وأمر المسلمين، وسيأتي ما يعتبر في الأمير.

هذا كله في الغزو، فأما حراسة حصون المسلمين .. فمتعينة على الفور وتجب إدامتها بلا فتور؛ وذلك بعمارة الثغور وإعداد الكراع والأسلحة وحفر الخنادق وترتيب الرجال.

والأولى: أن يبدأ بقتال من يلي دار الإسلام، إلا أن يكثر الخوف من الأباعد، فيبدأ بهم بعد أن يأمن شر الأقربين بمهادنة وجعل طائفة بإزائهم يردونهم إن عدوا.

ثم لما جرت عادة الأصحاب بذكر جمل من فروض الكفايات ههنا .. تبعهم المصنف في ذلك، وقد ذكر جملًا منها متفرقة في أبواب كـ) غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه) و) التقاط المنبوذ).

قال: (ومن فروض الكفاية: القيام بإقامة الحجج) أي: العلمية، وهي البراهين القاطعة على إثبات الصانع سبحانه وتعالى وما يجب له من الصفات وما يستحيل عليه، وإثبات النبوات وصدق الرسل، وما ورد به الشرع من المعاد والحساب والميزان وغير ذلك.

ص: 290

وَحَلِّ الْمُشْكِلَاتِ فِي الدِّينِ، وَبِعُلُومِ الشَّرْعِ كَتَفْسِيرٍ وَحَدِيثٍ، وَالْفُرُوعِ بِحَيْثُ يصْلُحُ لِلْقَضَاءِ،

ــ

قال: (وحل المشكلات في الدين) ، فيجب ألا تخلو خطة من خطط الإسلام عن ذلك، والمراد بالخطة: مسافة القصر.

كما تجب الدعوة القهرية بالسيف، كذا قالوه هنا.

ونقل الغزالي عن الشافعي ومالك وسفيان وأحمد وجميع أهل الحديث: أن الاشتغال بعلم الكلام- أي: بقواعده، كما قاله في (الشرح الصغير) - بدعة محرمة.

قال الشافعي: لأن يلقى اللهَ العبدُ بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الكلام.

وأن غيرهم قال: إنه واجب، إما عينًا أو كفاية، وهو أفضل الأعمال، قال الغزالي: والحق: أنه لا يطلق القول بذمه ولا بحمده؛ ففيه منفعة ومضرة، باعتبار منفعته وقت الانتفاع .. حلال أو مندوب أو واجب، وباعتبار مضرته وقت الإضرار .. حرام.

وينبغي أن يكون العالم كالطبيب الحاذق في استعمال الدواء الخطر، لا يضعه إلا في موضعه على قدر الحاجة، فيتعلمه ليدفع به مبتدعًا لا يندفع بغيره، فيستعمله عند الحاجة ويسلك به طريق الحجج الواردة في القرآن.

قال: (وبعلوم الشرع) أي: من فروض الكفاية القيام بعلوم الشرع (كتفسير وحديث) أي: وفقه ، وكذا مقدمات هذه العلوم، كأصول الفقه والنحو والتصريف واللغة وأسماء الرواة والجرح والتعديل واختلاف العلماء ووفاقهم.

قال: (والفروع بحيث يصلح للقضاء)؛ لأن الحاجة إلى ذلك شديدة، وسيأتي في (القضاء) صفات من يصلح له، ويدل لذلك قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ

ص: 291

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} الآية، فدل على أن التفقه في الدين فرض كفاية لا عين.

وقال صلى الله عليه وسلم: (التفقه في الدين حق على كل مسلم) رواه أبو نعيم في (تاريخ أصبهان).

قال الحافظ المزي: وله طرق يبلغ بها رتبة الحسن.

وفي (طبقات العبادي) عن الربيع عن الشافعي أنه قال: إذا ترك أهل بلد طلب العلم .. رأيت للإمام أن يجبرهم عليه.

ونقل ابن الصلاح عن محمد بن الفضل الفراوي: أن البلد إذا خلا عن المفتي .. لا تحل الإقامة به.

روى البيهقي في (شعبه)[7518] عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا ثوبان؛ لا تسكن الكفور؛ فإن ساكن الكفور كساكن القبور).

وفي (كامل ابن عدي)[3/ 360] في (ترجمة سعيد بن سنان أبي مهدي الحمصي).

وفية وفي (الميزان)[2/ 136] في) ترجمة إسماعيل بن عباد السعدي) عن قتادة عن أنس مرفوعًا: (إياكم والسكنى في السواد؛ فإنه من سكن السواد .. يصدأ قلبه كما يصدأ الحديد).

والمراد بـ) الفروع) التبحر فيها، وإلا .. فتعلم ما لا بد منه فرض عين.

وعد العبادى من فروض الكفاية حفظ القرآن، وعد منها القاضي حسين والروياني نقل السنن، فإذا نقلها من فيه كفاية .. سقط الفرض عن الباقين.

فرع:

وقعت للعامي مسألة فاستفتى اثنين فاختلفا عليه؟ قيل: يأخذ بالحظر، وقيل: بالإباحة.

ص: 292

وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ،

ــ

والثالث: بقول من بني قوله على الأثر دون الرأي.

والرابع: بقول من سأله أولًا.

والخامس: يسأل ثالثًا فيأخذ بفتوى من وافقه.

والسادس: الأصح: يتخير؛ إن شاء أخذ بقول هذا أو هذا.

قال الماوردي: إنما يتوجه فرض الكفاية في العلم على من جمع أربعة شروط:

أن يكون مكلفًا.

وممن يتقلد القضاء لا عبدًا وامرأة.

وأن لا يكون بليدًا.

وأن يقدر على الانقطاع إليه؛ بأن يكون له كفاية.

ويدخل الفاسق في الفرض ولا يسقط به، لأنه لا تقبل فتواه.

ومن فروض الكفاية: علم الطب المحتاج إليه في علاج الأبدان، والحساب المحتاج اليه في المعاملات وقسم التركات والوصايا وتعليم الطالبين وإفتاء المستفتين، وتعليم ما يحتاج المكلف إليه في المعاملات من الأمور العامة دون الفروع النادرة.

فرع:

أفتى قاضي القضاة تقي الدين بن رزين في متصدر لإقراء بعض العلوم قال في كتاب (النهاية) لإمام الحرمين: هذا ما يساوي شيئًا: أنه يعزر تعزيرًا بليغًا بالحبس والشهرة، ولا يجوز لولي الأمر أن يستمر به متصدرًا، ولا تمكَّن الناس من القراءة عليه، وإن كان أشار إلى أن النسخة غلط .. فإنه يعزر تعزيرًا أخف من ذلك، ويستتاب من العود إلى إطلاق مثل هذا اللفظ في مثل هذا الكتاب، فإن لم يتب .. منع من التصدر، ومنع الناس من الاقتداء به.

قال: (والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) بالإجماع، وفي (سنن أبي داوود) [4338] و (الترمذي) [2168] بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن

ص: 293

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه .. أوشك أن يعمهم الله بعقابه).

والمراد: الأمر بواجبات الشرع، والنهي عن محرماته.

ونقل الإمام في الأصول عن كثير من العلماء ومعظم الفقهاء: أن الأمر بالمعروف في المستحب مستحب، وفي الواجب واجب.

وعن القاضي أبي بكر أنه قال: عندي أنه واجب، ولا يسقط عن المكلف بظن أن قوله لا يفيد أو يعلم ذلك بالعادة، بل يجب عليه الأمر والنهي، {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} ، وليس الواجب عليه أن يقبل منه، بل واجبه أن يقول كما قال الله تعالى:{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} .

قال في (المهمات) عدم السقوط في هذه الحالة باطل لا نعرف أحدًا قال به، بل نقل إمام الحرمين في (الشامل) الإجماع على عدم الوجوب، وأيده بقول الفقهاء: إن الأب والزوج ومن يباح له التأديب بالضرب إنما يضرب إذا نفع.

وحكي الغزالي في حالة تعارض الاحتمالين وجهين، وصحح الوجوب.

ولا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أن يخاف منه على نفسه أو ماله، أو يخاف على غيره مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع، وكذلك إذا غلب على ظنه أن المرتكب يزيد فيما هو فيه عنادًا، فلو نصب لذلك واحد .. تعين عليه، وهو المحتسب.

ولا يختص بالولاة، بل يجب على المسلم المكلف القادر، سواء كان رجلًا أو امرأة، عبدًا أو حرًا، بل في (الروضة) في (كتاب الغصب) أن للصبي ذلك ويثاب عليه، إلا أنه لا يجب عليه، وهل يسقط الحرج؟ يشبه أن يأتي فيه ما في رد السلام.

ولا يشترط في الآمر العدالة، بل قال الإمام: على متعاطي الكأس أن ينكر على الجلاس.

وقال الغزالي: يجب على من غصب امرأة على الزنا أن يأمرها بستر وجهها عنه وإن كان الزنا أفحش، وعلى من ارتكب معصية أن ينهى نفسه وينهى غيره.

ص: 294

وَإِحْيَاءُ الكَعْبَةِ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِالزِّيَارَةِ،

ــ

ولو كان الأمر بالمعروف لا يتم إلا بالرفع إلى السلطان .. لم يجب؛ لما فيه من هتك الستر وتغريم المال، قاله ابن القشيري.

وإنما يأمر وينهى من كان عالمًا بما يأمر به وينهى عنه، ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع على إنكاره، أما المختلف فيه .. فلا؛ لأن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه ولا إثم على المخطئ.

هذا إذا كان الفاعل لا يرى تحريمه، فإن كان ممن يراه .. فالأصح: أنه كالمجمع عليه، وتصحيحهم لعدم الإنكار في المختلف فيه تشكل عليه مسألة الحنفي إذا شرب النبيذ؛ فإن الإنكار عليه بالحد بالفعل أبلغ من الإنكار بالقول.

وأشكل من ذلك قول المصنف: أن من رأى مكشوف الفخذ في الحمام أنكر عليه، اللهم إلا أن يريد بذلك العورة المتفق عليها وهي السوءتان، وكذلك أفتى الشيخ عز الدين بأن للشافعي أن ينكر على الشافعي كشف الفخذ في الحمام وإن كان لا ينكر على المالكي.

وصفة النهي عن المنكر: أن يغير باليد، فإن لم يستطع .. فبلسانه، فإن لم يستطع .. فبقلبه، كما ورد في الخبر.

وينبغي الرفق بالجاهل والظالم الذي يخاف شره؛ لأنه أدعى لقبوله.

وليس للآمر ولا للناهي البحث ولا التنقيب والتحسيس، ولا اقتحام الدور بالظنون، بل إن رأى شيئًا .. غيره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا ظننت .. فلا تتحقق.

وفي (شعب الإيمان)[7603] عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أمر بمعروف .. فليكن أمره بمعروف).

قال: (وإحياء الكعبة في كل سنة بالزيارة) لأنه من شعائر الإسلام.

وروى ابن الحاج في (منسكه) عن ابن عباس أنه قال: (لو ترك الناس زيارة هذا البيت عامًا واحدًا .. ماتوا طرًا).

ص: 295

وَدَفْعُ ضَرَرِ المُسْلِمِينَ كَكِسْوَةِ عَارٍ وَإِطْعَامِ جَائِعٍ إِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ بِزَكَاةٍ وَبَيْتِ مَالٍ،

ــ

والتعبير بـ (الزيارة) يقتضي: أن الحج لا يتعين في إسقاط فرض الكفاية، بل العمرة أو الصلاة أو الاعتكاف في مسجدها كذلك، وبه صرح الرافعي بحثًا، فإن التعظيم وإحياء الكعبة يحصل بجميع ذلك، وخالفه المصنف فقال: لا يحصل مقصود الحج بما ذكره؛ فإنه يشتمل على الوقوف والرمي والمبيت بمزدلفة وبمنى وإحياء تلك البقاع بالطاعات وغير ذلك، ونوزع المصنف في ذلك.

ولا يشترط في القائمين بهذا الغرض قدر مخصوص، بل الفرض أن يحجها كل سنة بعض المكلفين، قاله في (شرح المهذب) قبيل الكلام على تحريم صيد المدينة، والمتجه: اعتباره من عدد يظهر بهم الشعار.

قال: (ودفع ضرر المسلمين) على أهل المكنة؛ صيانة للنفوس.

وتعليقة الحكم بـ) الضرر) يفهم: أنه لا يجب دفع الحاجة، وفي ذلك خلاف للأصوليين، وحكاه الرافعي وجهين، ومقتضى كلامه في (باب الأطعمة) ترجيح الاكتفاء بما يسد الرمق والضرورة.

قال: (ككسرة عار وإطعام جائع) ، وكذلك إغاثة المستغيث في النائبات، فكل ذلك فرض كفاية في حق أصحاب الثروة والقدرة.

قال: (إذا لم يندفع بزكاة وبيت مال)، ففي (صحيح البخاري) [5373]:(أطعموا الجائع، وفكوا العاني) وما ذكره من (بيت المال) محله إذا أمكن الوصول إليه، فإن لم يكن فيه شيء أو كان وتعذر .. فكالعدم.

وتخصيص ذلك بالمسلمين يقتضي: أن أهل الذمة والمستأمنين لا يجب دفع ضررهم بل يندب؛ لأنا إنما التزمنا لهم دفع الأذى، وليس كذلك، بل الصواب الوجوب أيضًا كما صرح به الرافعي في الكلام على الصلاة على الميت، وجزم في (باب الأطعمة) في الكلام على إطعام المضطر بوجوب إطعامه، ذميًا كان أو مستأمنًا.

وظاهر عبارته: أن المراد: ستر ما يحتاج إليه البدن، وهو كذلك بلا شك، فيختلف الحال بين الشتاء والصيف.

وأما تعبير (الروضة) بستر العورة .. فمعترض، لكن عبارته تقتضي: أنه يجب

ص: 296

وتَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ، وَأَدَاؤُهَا، وَالْحِرَفُ، وَالصِّنَاعاتُ،

ــ

دفع الصائل عن الغير على من قدر عليه، وقدم في) كتاب الصيال) عدم الوجوب. وقال في (الغياثي) يجب على الموسر المواساة بما زاد على كفاية سنة.

وإنما اقتصر المصنف على الزكاة وبيت المال؛ لأنهما أغلب من غيرهما، وإلا .. ففي معناهما الكفارات والوصايا والأوقاف العامة.

ومما يجب على أعيان الناس فك الأسارى من مالهم، ولا يجب على الإمام ابتياعهم من بيت المال.

قال: (وتحمل الشهادة وأداؤها)؛ لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} ، ولأنها وسيلة لحفظ الحقوق الشرعية ووسيلة الواجب واجب.

وما أطلقه من إيجاب التحمل محله إذا حضر له، فإن دعي له .. فالأصح: لا يجب إلا أن يكون الداعي قاضيًا أو معذورًا بمرض ونحوه.

وما أطلقه في الأداء محله: إذا تحمله أكثر من نصاب، فإن تحمله اثنان في الأموال .. فالأداء فرض عين.

قال: (والحرف، والصناعات) كالتجارة والخياطة والحياكة؛ لأن قيام الدنيا بهذه الأسباب، وقيام الدين متوقف على أمر الدنيا، حتى لو امتنع الخلق منه .. أثموا وكانوا ساعين في إهلاك أنفسهم.

وفي الحديث: اختلاف أمتي رحمة ، وتقدم في الخطبة معناه.

وإطلاقه (الحرف) يشمل الدنيئة وغيرها، وبه صرح في (الإحياء) ، فعد الحجامة والكناسة منها، قال: فلو خلا البلد عن حجام .. حرجوا.

وعطف المصنف) الصنائع) على) الحرف) يقتضي تغايرهما، والجوهري فسر الصناعة بالحرفة، وكأن الصناعة تقتضي عملًا والحرفة أعم.

ص: 297

وَمَا تَتِمُّ بِهِ الْمَعَايِشُ، وَجَوَابُ سَلَامٍ عَلَى جَمَاعَةٍ

ــ

قال: (وما تتم به المعايش) كالبيع والشراء والحراثة؛ لأن كل فرد من آحاد الناس عاجز عن القيام بما يحتاج إليه؛ لأن الإنسان مدني بالطبع.

سمع أحمد رجلًا يقول: اللهم لا تحوجني إلى أحد من خلقك، فقال: هذا رجل تمنى الموت.

وفي (ربيع الأبرار) عن علي رضي الله عنه قال: سمعني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: اللهم لا تحوجني إلى أحد من خلقك، فقال:(لا تقل هكذا؛ ليس من أحد إلا وهو محتاج إلى الناس) قلت: كيف أقول؟ قال: (قل: اللهم لا تحوجني إلى شرار خلقك) قلت: يا رسول الله؛ ومن شرار خلقه؟ قال: (الذين إذا أعطوا .. منوا، وإذا منعوا .. عابوا).

وروى الترمذي [3527] عن أبي بكر: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه يقول: اللهم إني أسالك الصبر، فقال:(سألت الله البلاء، فاسأله العافية).

وعد الغزالي من فروض الكفاية النكاح، ومراده: أنه فرض كفاية على الأمة لا يسوغ لجملتهم الإعراض عنه.

وعد القوافي منها: أكل اللحم؛ يعني: أنه يجب أن يكون في الناس طائفة يأكلونه ليتقووا على الجهاد.

قال: (وجواب سلام على جماعة) ، أما وجوبه .. فبالإجماع، قال تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} .

وأما كونه على الكفاية .. فلما روى أبو داوود [5168]- بسند لم يضعفه- عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم).

فإن أجاب أحدهم .. سقط الفرض، واختص الثواب به، ولو أجابوا كلهم .. كانوا مؤدين للفرض، سواء أجابوا مجتمعين أو مترتبين كالصلاة على الجنازة. ويختص وجوب الرد بالمكلف السامع للسلام، فلا يسقط برد الصبي على الصحيح، وكذا من لم يسمع السلام على المشهور.

ص: 298

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وقضية كلام المصنف: أنه لا فرق بين أن يكون المسلم رجلًا أو امرأة، مسلمًا أو ذميًا، سنيًا أو مبتدعًا، صاحيًا أو سكرانًا، ولا بين أن يكون المسلم مشافهًا بالسلام أو مسلمًا في كتاب أو على لسان رسول، وليس كذلك في بعضها.

وأما المرأة .. فيجب رد سلامها إذا سلمت على امرأة أو رجل بينها وبينه محرمية أو زوجية، وكذا إذا كانت أمته كما قال في زوائد (الروضة)، فإن لم يكن بينهما محرمية وي لا تشتهى .. وجب الرد أيضًا، ويجب عليها أيضًا في هذه الأحوال رد سلام الرجل، أما الشابة .. فيحرم عليها رد سلام الرجل، ويكره له رد سلامها.

وأما الذمي .. فقال البغوي: لا يجب رد سلامه، وصوب المصنف: أنه يجب؛ لما ثبت في الأحاديث الصحيحة من قوله: (وعليكم)، وورد في (الصحيحين)[خ 6928 - م2165/ 10] أيضا بغير (واو)، وصحح الخطابي والمصنف تركها؛ ليصير قوله بعيه مردودًا عليه؛ لأن (الواو) للتشريك).

وفي وجه يقول: وعليكم السلام، ولا يقول: ورحمة الله وبركاته اتفاقًا.

ص: 299

وَيُسَنُّ ابْتِدَاؤُهُ-

ــ

وأما الصبي .. ففي وجوب الرد عليه وجهان، بناهما القاضي على أن عمده عمد أم لا؛ والمتولي والرافعي على الخلاف في صحة إسلامه، والاختلاف في البناء يقتضي الاختلاف في التصحيح.

وأما المجنون والسكران .. فلا يجب رد سلامهما على الصحيح في (شرح المهذب).

ولو سلم على إنسان ورضي بأنه لا يرد عليه .. لم يسقط عنه فرض الرد؛ لأنه ليس بحق له وإنما هو حق لله تعالى، قاله المتولي في (باب الإقرار).

ويشترط في جواب السلام: رفع الصوت بحيث يحصل سماع المردود عليه، وكذا التلفظ به على القادر، وتكفي إشارة الأخرس، وجمعهما على الأصم شرط).

وأن يتصل بالسلام اتصال القبول بالإيجاب في البيع، وصفته: أن يقول: وعليكم السلام، سواء كان المسلم واحدًا أم جماعة، أو وعليك السلام للواحد، أو وعليكم سلام بالتنوين وغير، أو وعليكم بالعطف من غير تلفظ بالسلام في الأصح، ولو ترك الواو فقال: عليكم السلام .. فوجهان: أصحهما: يجزئ، خلافًا للمتولي، وكماله: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وظاهر كلامهم: أنه يكفي: وعليكم السلام وإن كان المسلم أتى بلفظ الرحمة والبركة.

وظاهر كلام الماوردي: أنه يجب رد السلام مطلقًا.

قال: (ويسن ابتداؤه)؛ لما روى أبو داوود [5155] بإسناد حسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام).

وهي سنة مستحبة من الو احد، وسنة كفاية من الجماعة، فلو لقي جماعة جماعة فسلم أحد هؤلاء على هؤلاء .. كفئ ذلك لإقامة السنة.

ص: 300

لَا عَلَى قَاضِي حَاجَةٍ وَآكِلِ وَفِي حَمَّامٍ،

ــ

وابتداؤه أفضل من رده كما صرح به المصنف، وفيه وجه لوجوب الرد، قال القاضي والشاشي: ليس لنا سنة كفاية إلا هذا، وزاد الأصحاب عليهما: الأضحية، والتسمية على الأكل والأذان والإقامة وصلاة الجماعة إذا قلنا بسنيتها، وما يفعل بالميت مما ليس بفرض كفاية، وكذا تشميت العاطس كما سيأتي بيانه.

وقد يتصور وجوب الابتداء فيما إذا أرسل سلامه إلى غائب، ففي زوائد (الروضة) يلزم الرسول أن يبلغه؛ فإنه أمانة، ويجب أداؤها، وإنما يستحب ابتداؤه، من المسلم للمسلم؛ فالذمي لا يجوز ابتداؤه به على الصحيح: لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام).

وأما المبتدع .. فالمختار: أنه لا يُبدأ بسلام إلا لعذر وخوف مفسدة.

وفي استحباب السلام على الفاسق وجهاز: أصحهما: المنع.

والصحيح صحة السلام بالعجمية ووجوب الرد عليه.

قال: (لا على قاضي حاجة وآكل وفي حمام)، الضابط في ذلك: أن يكون الشخص على حالة لا يليق بالمروءة القرب منه فيها، فيدخل في ذلك: المجامع والنائم والناعس والإمام في الخطبة، وكذا المستغرق القلب بالدعاء.

والمراد ب (الحاجة) البول والغائط، ففي (سنن ابن ماجه) [352] و (مسند أحمد) [5/ 80] عن جابر قال: مر رجل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:(إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم علي؛ فإنك إذا فعلت ذلك .. لم أرد عليك).

وفي (شعب الإيمان)[2367]: أن جابرًا هو الذي كان سلم.

وأطلق المصنف (الأكل) وحمله الإمام على من اللقمة في فيه ويعسر عليه الجواب في الحال.

ص: 301

وَلَا جَوَابَ عَلَيْهِمْ

ــ

والعلة في الحمام: كونه مأوى الشياطين، وليس موضع تحية، ولا يلتحق بذلك السلام عليه في موضع خلع الثياب.

واستشكل على المصنف: أنه جزم بكراهة رد السلام في الحمام مع ترجيحه لعدم كراهة قراءة القرآن فيه.

قلت: لا يسن ابتداؤه أيضًا على لاعب الشطرنج والنرد؛ لما سيأتي في (كتاب الشهادات) عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مررتم بهؤلاء الذين يلعبون بالأزلام والشطرنج والنرد .. فلا تسلموا عليهم) رواه الآجري.

قال: (ولا جواب عليهم)؛ لوضع السلام في غير محله.

زاد الشيخ شهاب الدين في (النكت) أنه يكره الرد في حال البول والجماع، ويندب للآكل ومن في الحمام.

وعبارة (الروضة) وأما الآكل ومن في الحمام .. فيستحب له الرد، وأما المصلي .. فأطلق الغزالي: أنه لا يسلم عليه، والصحيح: أنه لا يلزمه الرد، كما تقدم في (شروط الصلاة).

وألحق بالمصلي في كراهة السلام عليه: الملبي في الحج أو العمرة، والمؤذن، والمقيم، لكنهم يردون باللفظ.

وأما القارئ .. فقال الواحدي: الأولى: ترك السلام عليه 0 فإن سلم عليه .. كفاه الرد بالإشارة، وضعفه المصنف، واختار: أنه يسلم عليه ويلزمه الرد لفظًا.

تتمة:

تلاقى رجلان فسلم كل منهما على صاحبه .. وجب على كل منهما جواب الآخر، ولا يحصل الجواب بالسلام وإن ترتب السلامان، قاله القاضي والمتولي.

وقال الشاشي: إن ترتبا .. كان الثاني جوابًا، وإن كانا دفعة .. فلا، قال المصنف: وهذا تفصيل حسن ينبغي أن يجزم به.

والصواب: عند القيام من المجلس أن يسلم؛ فليست الأولى بأحق من الآخرة،

ص: 302

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ويكون جوابه مستحبًا على الصحيح.

ويستحب لمن دخل دار نفسه أن يسلم على أهله، وإن دخل مسجدًا أو بيتًا ليس فيه أحد أن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

ولو ابتدأ المار فقال: صبحك الله بالخير والسعادة، أو قواك الله، أو حياك الله، أو لا أوحش الله منك، ونحوه .. لم يستحق جوابًا، لكن لو دعا له قبالة دعائه .. كان حسنًا، إلا أن يريد تأديبه أو تأديب غيره لإهماله السلام وعدم البُداءة به .. فيسكت.

ويكره حني الظهر بكل حال، وقال البغوي: لا يحل لأحد. أن يحني ظهره لمخلوق: لأنها عبادة مختصة بالله تعالى.

وفي (صحيح مسلم) أيصافح بعضنا بعضًا؛ قال: (نعم) قال: أينحني بعضنا لبعض؟ قال: (لا).

وأفتى المنصف بكراهة الانحناء بالرأس.

وتقبيل يد الغير أو رأسه أو رجله إن كان لزهده أو صلاحه أو علمه أو شرفه أو صيانته أو نحوها من الأمور الدينية .. فمستحب؛ لأن عمر لما دخل الشام .. قبل أبو عبيدة يده.

ويكره فعل ذلك لذي جاه أو شوكة أو غنى؛ ففي الحديث: (من تواضع لغنى لغناه .. ذهب ثلثا دينه).

ويقام لأهل الفضل، ويكره للرجل أن يطمع في قيام القوم له، وقال ابن عبد السلام: لا بأس به لمن يرجى خيره أو يخاف شره من المسلمين.

ولا يقام لكافر إلا إذا خشي منه ضررًا عظيمًا.

ولا بأس بتقبيل الأطفال شفقة ورحمة ومحبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل ابنه إبراهيم وشمه، رواه البخاري [1303] من حديث أنس.

ص: 303

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وقبل أبو بكر خد ابنته عائشة حين أصابتها الحمي، رواه أبو داوود [5180] من حديث البراء بن عازب.

وكان ابن عمر يقبل ولده سالمًا ويقول: (اعجبوا من شيخ يقبل شيخًا).

وقبل النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إذ لي عشرة من الولد ما قبلت أحدًا منهم! فقال صلي الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يرحم) متفق عليه [خ 5997 - م2318].

فإن كان التقبيل بشهوة .. فهو حرام اتفاقًا، سواء الولد وغيره.

ولا بأس بتقبيل الرجل وجه صاحبه إذا قدم من سفر، وكذا أن يعانقه على الصحيح: لأن جعفرًا لما قدم من الحبشة عانقه النبي صلى الله عليم وسلم، رواه أبو داوود [5178] والدارقطني والحاكم [1/ 319].

ويسن تشميت العاطس إذا حمد الله تعالى، فيقال له: يرحمك الله، أو يرحمك ربك، ويقال للصغير: أصلحك الله أو بارك الله فيك.

والأفضل أن يقول: الحمد لله على كل حال، وإن يضع يده أو ثوبه على وجه؛ ففي (سنن أبي داوود) [4490]: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك.

ويستحب أن يخفض صوته لقوله صلى الله عليه وسلم: (العطسة من الشديدة من الشيطان) قال الترمذي [2745]: حسن صحيح.

ولا يشمته ما لم يسمع حمده، ويستحب أن يذكره الحمد فيقول: الحمد لله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من سبق العاطس بالحمد .. أَمِن من الشوص واللوص والعلوص) رواه الطبراني.

(الشوص) وجع الضرس، و (اللوص) وجع الأذن، و (العلوص) وجع في البطن.

وإذا كان العاطس في قراءة أو أذان .. حمد وأجاب مشمته.

ص: 304

وَلَا جِهَادَ عَلَى صَبِيٍّ، وَمَجْنُونٍ،

ــ

ويتكرر التشميت بتكرر العطاس ثلاثًا، فإذا علمه مزكومًا .. دعا له بالشفاء.

ويستحب للعاطس أن يجيبه فيقول: يهديكم الله، أو يغفر الله لك، إلا الكافر فيقال: يهديك الله، ولا يجب ذلك، بخلاف جواب السلام.

ويستحب أن يجاب المنادي بلبيك، وأن يقال لمن ورد: مرحبًا، ولمن أحسن إليه: جزاك الله خيرًا، أو حفظك الله، ونحو ذلك، وإعلامُ مَن أحبه في الله بمحبته.

قال: (ولا جهاد على صبي، ومجنون) لمّا فرغ من بيان فرضية الجهاد وما يتعلق به .. أخذ في بيان ما يسقطه وهو نوعان: حسي وشرعي، وبدأ بالأول، وهو سبعة، ترك منها واحدًا، وهو العمى؛ لوضوحه فالصبي والمجنون لا جهاد عليهما؛ لعدم تكليفهما، ولقوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} الآية، قيل: هم الصبيان؛ لضعف أبدانهم، وقيل: المجانين؛ لضعف عقولهم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رد زيد بن أرقم ورافع بن خديج والبراء بن عازب وأبا سعيد الخدري وزيد بن حارثة الأنصاري وابن عمر يوم بدر لما استصغرهم)، ورد ابن عمر يوم أحد، وأجازه في الخندق، رواه الشيخان [خ 26640 - م1868].

وكذلك اتفق لسعد بن حبتة الأنصاري جد أبي يوسف القاضي، ولما رآه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق يقاتل قتالًا شديدًا وهو حديث السن .. قال:(أسعد الله جدك، اقترب مني) فاقترب منه فمسح رأسه ودعا له بالبركة في ولده ونسله، فكان عمًا لأربعين، وخالًا لأربعين، وجدًا لعشرين، كذا ذكره ابن دحيحة وغيره).

وممن استصغر يوم أحد عَرابة بن أوس، وكان من سادات قومه، يقاس في الجود بعبد الله بن جعفر، لقي الشماخ الشاعر وهو يريد المدينة، فسأله عما أقدمه؟ فقال:

ص: 305

وَامْرَأَةِ،

ــ

أمتار لأهلي، وكان معه بعيران، فأوقرهما له تمرًا وكساه وأكرمه، فقال فيه هذه الأبيات [من الوافر]:

رأيت عرابة الأوسي يسمو .... إلى الخيرات منقطع القرين

إذا ما راية رفعت لمجد .... تلقاها عرابة باليمين

إذا بلغتني وحملت رحلي .... عَرابة فاشرقي بدم الوتين

وقد أساء الشماخ في هذا البيت، وأحسن الحسن بن هانئ في قوله [ديوان: 408 من الكامل]:

واذا المطي بنا بلغن محمدًا .... فظهورهن على الرجال حرام

قال: (وامرأة)؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} .

وقال صلى الله عليه وسلم للنساء: (جهادكن الحج والعمرة) رواه البخاري [2875].

ولأنهن يضعفن عن القتال غالبًا، ولهذا إذا حضرن القتال .. لا يسهم لهن، بل يرضخ.

ولما رأئ عمر بن أبي ربيعة امرأة مقتولة، وهي عمرة بنت النعمان بن بشير امرأة المختار .. قال [من الخفيف]:

إن من أكبر الكبائر عندي قتل بيضاء حرة عطبول

كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جز الذيول

و (العطبول) من النساء: الحسناء التامة، وأراد ب (الغانيات) اللاتي يستغنين بجمالهن عن التزين، وقيل: بالزوج عن الفجور، وقيل: بنسبهن الشريف. و (الذيول) بالذال المعجمة جمع: ذيل.

والخنثى كالمرأة؛ لاحتمال الأنوثة.

وللإمام استصحاب المراهقين والنساء لسقي الماء ومداواة الجرحى؛ ففي (البخاري)، [2883] عن الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ قالت: (كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه

ص: 306

وَمَرِيضٍ، وَذِي عَرَجٍ بَيِّنٍ، وَأَقْطَعَ، وأَشَلَّ، وَعَبْدٍ،

ــ

وسلم نسقي القوم ونخدمهم ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة). قال: (ومريض)؛ لقوله تعالى: {وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ} .

والمراد: مرض يمنع من القتال والركوب إلا بمشقة شديدة كالحمى المطبقة ونحوها، ولا اعتبار بالصدع ووجع الضرس والحمى الخفيفة، بخلاف الرمد.

قال: (وذي عرج بين) ولو في إحدى رجليه؛ لقوله تعالى: {وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} ، (سورة الفتح) نزلت في الجهاد اتفاقًا، وآية النور في المؤاكلة.

واحترز ب (البين) عن الذي لا يمنع المشي والعدو والهرب؛ فإنه لا يمنع وجوب الجهاد على النص، وقيل: إن كان راكبًا .. لزم؛ لأن العرج لا يؤثر فيه، والأصح: المنع؛ فقد تتعطل الدابة فيعسر الفرار.

واستدل البيهقي [9/ 24] للعرج البين؛ بأن عمرو بن الجموح كان شديد العرج، وكان سيدًا من سادات الأنصار وأشرافهم، وكان له أربعة من الولد شباب يغزون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أراد صلى الله عليه وسلم أن يتوجه إلي أحد .. منعه بنوه، فشكاهم إلى النبي صلي الله عليه وسلم وقال: إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال له صلى الله عليه وسلم:(إن الله قد عذرك ولا جهاد عليك) ثم قال لبنيه) (وما عليكم أن تدعوه؟! لعل الله أن يرزقه الشهادة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقاتل يومئذ وقتل ودفن مع صهره عبد الله والد جابر في قبر واحد، فقال صلى الله عليه وسلم:(لقد رأيته يطأ بعرجته في الجنة).

قال: (وأقطع، وأشل) لأن مقصود الجهاد البطش والنكاية وهو مفقود فيهما.

وفي معنى الأقطع: فاقد معظم الأصابع.

قال: (وعبد)؛ لقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} ، فلم يشمله

ص: 307

وَعَادِمٍ أُهْبَةَ قِتَالٍ. وَكُلُّ عُذْرٍ مَنَعَ وُجُوبَ الْحَجِّ مَنَعَ الْجِهَادَ، إِلَاّ خَوْفَ طَرِيقٍ مِنْ كُفَّارٍ، وَكَذَا مِنْ لُصُوصِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّحِيحِ

ــ

الخطاب؛ لأنه لا مال له، فدخل في قوله تعالى:{وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} ولأنه لو كان من أهل فرض الجهاد لأسهم له.

والمدبر والمبعض والمكاتب كالقن، فلو آذن له سيده .. قال الإمام: لا يلزمه؛ لأنه ليس من أهل هذا الشأن، وليس القتال من الاستخدام المستحق؛ لأن السيد لا حق له في روحه حتى يعرضه للهلاك، لكن لو خرج سيده للجهاد .. فله استصحابه ليخدمه على العادة، ولا يقاتل قهرًا.

قال: (وعادم أهبة قتال)، وهي السلاح والمركوب والنفقة ذهابًا وإيابًا؛ لقوله تعالي:{وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} إلى قوله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَاذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} .

و (أُهْبَة الحرب) عدتا، والجمع: أهب.

فلو بذل للفاقد ما يحتاج إليه، فإن كان الباذل الإمام من بيت المال .. لزمه؛ لأن ما يأخذه منه حقه، وإلا .. فلا، فإن كان فلقتال قريبًا من مكانه .. سقطت نفقة الطريق.

ويشترط كون ذلك فاضلًا عن نفقة من تلزمه نفقته كما تقدم في (الحج)، فإن كانت المسافة دون مسافة القصر .. لم يكن عدم الراحلة مانعًا من الوجوب إذا كان قادرًا على المشي، كما أن ذلك لا يمنع وجوب الحج.

ولو مرض بعدما خرج أو فني زاده أو هلكت دابته .. فهو بالخيار بين أن ينصرف أو يمضي، فإن حضر الوقعة .. فالأصح: تجويز الرجوع إذا لم يمكنه القتال، فإذا أمكنه الرمي بالحجارة عند تعذر السلاح. فألآصح في زوائد (الروضة) وجوب الرمي بها، على تناقض وقع له فيه.

قال: (وكلَّ عذر منع وجوب الحج منع الجهاد، إلا خوف طريق من كفار)؛ لآن مصادمة الكفار هي المطلوبة في الجهاد.

قال: (وكذا من لصوص المسلمين على الصحيح)؛ لأن الخوف يحتمل في هذا السفر.

ص: 308

وَالدَّيْنُ الْحَالُّ يُحَرِّمُ سَفَرَ جِهَادٍ وَغَيْرِهِ إِلَاّ بِإِذْنِ غَرِيمِهِ،

ــ

والثاني: يمنع الوجوب كالحج؛ فإنه يأنف من قتال المسلمين.

ثم إن المنصف لما فرغ من بيان الموانع الحسية .. شرع في بيان الموانع الشرعية، وهي ثلاثة:

الرق وقد تقدم في كلامه.

والكفر، وتركه المنصف، فلا يخاطب به الذمي: لأنه بذل الجزية لنذب عنه لا ليذب عنا، وينبغي أن يجب على المرتد؛ لأنه سبق منه الالتزام.

قال: (والدَّينُ الحالُّ) سواء كان لمسلم أو ذمي (يُحرِّم سفر جهاد وغيره)؛ لأن مقصود الجهاد طلب الشهادة وبذل النفس للقتل وهو يؤدي إلى إسقاط حق ثابت، ولأن أداء الدين فرض عين فقدم على فرض الكفاية.

وفي (صحيح مسلم)[1886] عن عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدَّين).

قال الآجري: هذا لمن تهاون بقضاء دينه، أما من استدان شيئًا وأنفقه من غير سرف ولا تبذير ثم لم يمكنه قضاؤه .. فإن الله تعالى يقضيه عنه.

قال الأصحاب: وليس له معه من السفر كما يمنع زوجته وعبده، بل يشغله برفعه إلي مجلس القاضي ويطالبه حتى يوفي.

ومحل ذلك: إذا لم يستنب من يقضي عنه أو استناب من يقضيه من ماله الغائب، فإن استناب من يقضيه من ماله الحاضر .. لم يلزمه الاستئذان.

قال: (إلا بإذن غريمه)؛ لرضاه بإسقاط حقه، فإن أذن له .. صار من أهل الفرض.

هذا في الغريم الجائز الإذن، أما ولي المحجور ومتولي الوقف .. فليس لواحد منهما أن يأذن في ذلك؛ لأن الحق ليس له.

قال الماوردي: وإذا سافر لا يتعرض للشهادة؛ بأن يقف أمام الصفوف، بل يقف في وسطها أو حواليها، وقال البندنياجي: إن ذلك يستحب.

ص: 309

وَالْمُؤَجَّلُ لَا، وَقِيلَ: يَمْنَعُ سَفَرًا مَخُوفًا. وَيَحْرُمُ جِهَادٌ إِلَاّ بِإِذْنِ أَبَوَيْهِ إِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ،

ــ

وشملت عبارته من عليه دين حال وهو معسر؛ فليس له أن يجاهد إلا بإذن رب الدين، وكذا نقله الماوردي عن الأصحاب.

قال ابن كَج: والمذهب لا، وفي (أصل الروضة) أنه الصحيح؛ إذ لا طالب، وقضية كلامه: أن المنع منوط بعدم الإذن، وهو أعم من المنع؛ إذ يصدق على السكوت.

وعبارة أبي الطيب و (الحاوي الصغير) تقتضي: أنه منوط بمنع رب الدين.

قال: (والمؤجل لا) وإن قرب الأجل؛ لأنه الآن مخاطب يفرض الكفاية والدين المؤجل لا يتوجه الخطاب به إلا بعد حلوله 0 لكن للمستحق الخروج معه إن شاء ليطالبه.

قال: (وقيل: يمنع سفرًا مخوفًا) كالجهاد 0 ورجحه الإصطخري؛ صيانة للدين، كذا أطلق الصنف هذا الوجه وقيده في (الروضة) بأن لا يقيم كفيلًا في الدين.

وقيل: إن لم يخلف وفاء .. فله منعه، وإلا .. فلا.

وقيل: إن كان من المرتزقة .. لم يمنع الجهاد، وإلا .. منع.

وقيل: إن كان يحل قبل عوده .. منع.

وأما السفر الذي لا يغلب فيه الخطر .. فلا منع فيه قطعًا.

قال: (ويحرم جهاد إلا بإذن أبويه إن كانا مسلمين) هذا هو المانع الرابع، وهو عدم رضا الوالدين، فمن والداه أو أحدهما حي .. لا يجوز له السفر للجهاد إلا بإذنهما أو إذنه؛ لأنه فرض كفاية، وبرهما فرض عين.

وفي (الصحيحين)[خ 3004 - م2549]: أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال:(ألك والدان؟) قال: نعم، قال:(ففيهما فجاهد). وفي رواية في (أبي داوود)[2520]: (كيف تركتهما؟) قال: يبكيان، قال:(ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما).

ص: 310

لَا سَفَرُ تَعَلُّمِ فَرْضِ عَيْنٍ، وَكَذَا كِفَايِةٌ فِي الأَصَحِّ،

ــ

وجاء جاهمة السلمي - والد معاوية بن جاهمة- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشيره في الجهاد فقال له صلى الله عليه وسلم: (ألك والدة؟) قال: نعم، قال:(انطلق إليها فأكرمها؛ فإن الجنة تحت رجلها) رواه ابن ماجه [2781] والنسائي [6/ 11] وأحمد [3/ 429] والحاكم [2/ 104] وقال: صحيح.

وفي (صحيح مسلم)[2549/ 6]: أن رجلًا قال: يا رسول الله: أبايعك على الهجرة والجهاد قال: (هل من والديك أحد؟) قال: نعم، كلاهما، قال:(فتبتغ الأجر من الله؟)، قال: نعم، قال:(فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما) فجعل الكون مع الأبوين أفضل من الكون معه في الجهاد.

والأجداد والجدات كالأبوين ولو مع وجودهما في الأصح؛ لأن الشفقة لا تختلف.

والأب الرقيق كالحر على الصحيح.

واحترز ب (المسلمين) عن الكافرين فلا يجب استئذانهما؛ لأن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول كان يغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن أباه كان يكره ذلك.

ولذلك قال الشافعي في (الأم) إذا علم من والده نفاقًا .. لم يكن له عليه طاعة.

ولو كان الابن مملوكًا والأبوان حران .. فالاعتبار بإذن السيد، وإن كان مبعضًا .. لزمه استئذان السيد والأبوين، فأن أذنوا جميعًا

جاهد، وإلا .. فلا.

قال: (لا سفر تعلم فرض عين)، فيسافر بغير إذنهما حيث لا يجد من يعلمه إياه؛ لاضطراره إليه، كحج يضيق عليه، بل أولى؛ لأن الحج على التراخي، وفي وجه غريب: لما منعه.

قال: (وكذا كناية في الأصح)، المراد: أنه يخرج لطلب درجة الفتوي وفي الناحية مستقل بها، فقيل: لهم المنع كالجهاد.

والأصح: خلافه؛ لأن الحجر على المكلف بعيد، والعلم فرض في الجملة

ص: 311

فَإِنْ أَذِنَ أَبَوَاهُ وَالْغَرِيمُ ثُمَّ رَجَعُوا .. وَجَبَ الرُّجُوعُ إِنْ لَمْ يَحْضُرِ الصَّفَّ،

ــ

ومنفعته عظيمة على جميع المسلمين وليس كالجهاد؛ لأنه لا خطر فيه.

وينبغي أن يختلف الحكم باختلاف حال الولد، فإن كان ممن يرجى انتفاعه ونفعه. . قدم قصده على حقهما، وإن كان بخلاف ذلك .. ترجح المنع، وقيده الفوراني بمن لا يمكنه التعلم في بلده.

قال الرافعي: ويجوز أن لا يعتبر، بل يكفي أن يتوقع في السفر زيادة فراغ أو إرشاد أستاذ أو غيرهما، كما لم يقيد الحكم في سف التجارة بمن لم يتمكن منها ببلده، بل اكتفى بتوقع ربح أو رواج.

واشترط الرافعي في الخارج لطلب العلم: ان يكون رشيدا، وأسقطه من (الروضة).

وفي (فتاوى قاضي خان) أن الأمرد الحسن لأبيه منعه من الخروج لذلك دون الملتحي.

وأما سفر التجارة، فإن كان قصيرًا .. جاز بلا إذن، وإن كان طويلًا، فإن كان فيه خوف ظاهر كركوب البحر والبراري الخطيرة .. فهو كسفر الجهاد، وإن غلب الأمن .. فالأصح: الجواز بلا استئذان ولا منع لهما.

وأطلق القاضي القول بوجوب الإذن في الأسفار المباحة، والأب الكافر في هذه الأسفار كالمسلم، إلا في الجهاد فلا يستأذن كما تقدم.

قال: (فإن أذن أبواه والغريم ثم رجعوا) أي: وعلم) .. وجب الرجوع إن لم يحضر الصف) أي: وأمن على نفسه، وماله وانكسار قلوب المسلمين؛ لأن هذه الأعذار تمنع الوجوب فكذلك طرآنها كالعمى.

فإن لم يمكنه الانصراف للخوف وأمكنة أن يقيم في قرية في الطريق إلى أن يرجع الجيش فيرجع معهم .. قال الإمام: الوجه: أن يلزمه ذلك، وأشار إلى احتمال أخر، وأثبتهما الرافعي وجهين.

وفي قول: لا يلزمه الانصراف، بل يتخير كالمرأة إذا أذن لها في السفر وطلقت بعد مفارقة البلد.

ص: 312

فَإِنْ شَرَعَ فِي قتَالٍ .. حَرُمَ الانصِرَافُ فِي الأَظْهَرِ

ــ

قال: (فإن شرع في قتال .. حرم الانصراف في الأظهر)؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} ، وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} .

والثاني: يجب الانصراف كما قبل الشرع؛ مراعاة لحق الآدمي، فإنه فرض عين، والجهاد فرض كفاية.

والثالث: يتخير بين الانصراف والمصابرة؛ لتعارض الأمرين، واختاره القاضي.

والرابع: يجب الانصراف إن رجع صاحب الدَّين دون الأبوين؛ لعظم شأن الدين.

وحاصل الخلاف في (الروضة) أربعة أوجه، وفي (الشرح) قولان ووجهان، فتعبيره هنا ب (الأظهر) فيه نظر.

فرع:

من شرع في القتال ولا عذر له .. تعين عليه، ولا يجوز له الانصراف، وألحق بعضهم به سائر فروض الكفايات، وانبنى على ذلك أن المشتغل بالعلم إذا أيس الرشد من نفسه .. هل يلزمه إتمامه؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم كالجهاد.

وأصحهما: لا)؛ لأن الرجوع إنما حرم في الجهاد لخوف التخذيل)، والانكفاف عن التعلم ليس في معناه، وأيضًا كل مسألة مستقلة برأسها، والجهاد خصلة واحدة، ورجح الشيخ الأول)؛ فإن المشتغل بالعلم له باعث نفسي يحثه على دوام الاشتغال به؛ لمحبته ثمرته، والمقاتل ميله إلى الحياة يباعده عن ذلك؛ لكراهة

ص: 313

الثَّاِني: يَدْخُلُونَ بَلْدَةً لَنَا فَيَلْزَمُ أَهْلَها الدَّفْعُ بِالْمُمْكِنِ، فَإِنْ أَمْكَنَ تَأَهُبٌ لِقِتَالٍ .. وَجَبَ الْمُمْكِنُ حَتَّى عَلَى فَقِيرٍ وَوَلَدٍ وَمَدِينٍ وَعَبْدٍ بِلَا إِذْنٍ، وَقِيلَ: إِنْ حَصَلَتْ مُقَاوَمَةٌ بِأَحْرَارٍ .. اشْتٌرِطَ إِذْنُ سَيِّدِهِ، وَإِلَاّ: فَمَنْ قُصِدَ .. دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْمُمْكِنِ إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا أُخِذَ قٌتِلَ،

ــ

الموت وشدة سكراته، فوكل المشتغل بالعلم إلي محبته؛ لأنه منهوم لا يشبع) وكلف المقاتل بالثبات عند الممات الذي منه يفزع، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:(مداد العلماء أفضل من دم الشهداء).

قال: (الثاني) أي: من حالي الكفار (يدخلون بلدة لنا)، وكذا لو أطلوا عليها ونزلوا بابها ولم يدخلوا، فإن نزلوا على خراب أو جبل في دارنا لكنه بعيد عن البلد .. فالأصح عند المصنف: أنه كدخول البلد، واختار الإمام مقابله.

قال: (فيلزم أهلها المدفع بالممكن)؛ لأن دخولهم دار الإسلام خطر عظيم لا سيبل إلى إهماله، ولا بد من الجد في دفعه بما يمكن، ويصير الجهاد فرض عين، وقيل: كفاية.

قال: (فإن أمكن تأهب لقتال .. وجب الممكن حتى على فقير وولد ومدين وعبد بلا إذن)؛ لأنه قتال دفع عن الدين، ولذلك يلزم كل مطيق حتى النساء إن كانت فيهن قوة أن يبذلوا المجهود.

قال: (وقيل: إن حصلت مقاومة بأحرار .. اشترط إذن سيده)؛ لأن في الأحرار غنية عنهم.

والصحيح: عدم الاشتراط؛ لتقوى القلوب وتعظم الشوكة. أما إذا لم تمكن المقاومة إلا بهم .. فلا حجر للمالك قطعًا.

قال: (وإلا) أي: وان لم يمكن التأهب للقتال؛ بأن هجم الكفار بغتة (فمن قصد) أي: من المكلفين) .. دفع عن نفسه بالممكن إن علم أنه إذا أخذ قُتل)؛

ص: 314

وَإِنْ جَوَّزَ الأَسْرَ .. فَلَهُ أَنْ يَسْتَسْلِمَ. وَمَنْ هُوَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصَرِ مِنَ الْبَلَدِ كَأَهْلِهَا، وَمَنْ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ .. تَلْزَمُهُمُ الْمُوَافَقَةُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ إِنَ لَمْ يَكْفِ أَهْلُهَا وَمَنْ يَلِيِهْم، قِيَل: وَإِنْ كَفَوْا

ــ

لأنه قتال عن الدين لا قتال غزو، ويستوي في ذلك الحر والعبد والمرأة والسليم والأعمى والأعرج.

قال: (وإن جوز الأسر .. فله أن يستسلم)؛ لأن الأسير يحتمل الخلاص والمكافحة في هذه الحالة استعجال للقتل.

هذا في الرجل، أما المرأة، فإن علمت أنها إذا استسلمت امتدت الأيدي إليها .. لزمها الدفع على الأصح وإن كانت تقتل؛ لأن الفاحشة لا تباح عند خوف القتل، والثاني: لا؛ لأن القتل معلوم والفاحشة موهومة، وإن كانت تظن ذلك بعد الأسر. . فيحتمل أن يجوز لها الاستسلام في الحال ثم تدفع حينئذ.

قال: (ومن هو دون مسافة القصر من البلد كأهلها) أي: إذا وجدوا الزاد، ولا يعتبر الركوب على الأصح للقادر على المشي، حتى لو لم يكن في أهل البلد كفاية .. وجب على هؤلاء الممضي إليهم؛ لأنهم كالحاضرين، وكذا إن كان فيهم كفاية على الأصح.

قال: (ومن على مسافة القصر .. تلزمهم الموافقة بقدر الكفاية إن لم يكف أهلها ومن يليهم)؛ دفعًا لهم وإنقاذًا من الهلاك، فيصير فرض عين في حق من قرب، وفرض كفاية في حق من بعد.

وأشار بقوله: (بقدر الكفاية) إلى أنه لا يجب على الجميع الخروج، بل إذا صار إليهم قوم فيهم كفاية .. سقط الحرج عن الباقين، وقيل: يجب على الجميع الخروج؛ خوفًا من التواكل.

قال: (قيل: وإن كَفَوا)؛ لعظم الواقعة.

والأصح: المنع؛ لأنه يؤدي إلى الإيجاب على جميع الأمة، وفي ذلك حرج من غير حاجة.

ص: 315

وَلَوْ أَسَرُوا مُسْلَمًا .. فَالأَصَحُّ: وُجُوبُ النُّهُوضِ إِلَيْهِمْ لِخَلَاصِهِ إِنْ تَوَقَّعْنَاهُ.

فَصْلٌ:

يُكْرَهُ غَزْوٌ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ،

ــ

والأصح: اشتراط وجود المركوب لمن على مسافة القصر، وكذلك يشترط وجود الزاد كالحج.

قال: (ولو أسروا مسلمًا .. فالأصح: وجوب النهوض إليهم لخلاصه إن تو قعنا)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فكوا العاني) رواه البخاري [3046].

والتوقع بأن يكونوا قريبين، ويكون ذلك كدخولهم الدار؛ لأن حرمة المسلم أعظم من حرمة الدار.

والثاني: المنع؛ لأن تحريك الجنود لواحد يقع في الأسر بعيدٌ.

تتمة:

محل ما ذكره المصنف إذا لم يتوغلوا في بلادهم، فإن توغلوا فيها ولم يمكن التسارع إليهم .. فإنا نضطر إلى الانتظار، كما لو دخل ملك عظيم الشوكة طرف بلاد الإسلام .. فإنه لا يتسارع إليه آحاد الناس.

قال: (فصل:

يكره غزو إذن الإمام أو نائبه) أصل الغزو الطلب، يقال: ما مغزاك، أي: ما مطلوبك، فالغازي يطلب إعلاء كلمة الله والغنيمة، فيكره له ذلك بغير إذن الإمام أو نائبه؛ لأنه على حسب الحاجة، وهما أعرف بذلك، وقال في (المرشد) لا يجوز بغير إذنهما، وهو مشهور مذهب أبي حنيفة.

ورد بأنه ليس في أكثر من التغرير بالنفس، وهو جائز في الجهاد.

وأستدل الشافعي للجواز؛ بأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الجنة، فقال له رجل من الأنصار: إن قتلت يا رسول الله ما لي؟ قال: (إن قتلت صابرًا محتسبًا .. فلك الجنة فانغمس في العدو فقتل، رواه الحاكم [2/ 93] من رواية أنس، وقال: صحيح على شرط مسلم.

ص: 316

وَيُسَنُّ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أِنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ

ــ

فإذا جاز للواحد أن يقدم على من الأغلب أنهم يقتلونه .. كان هذا في الغير وبغير إذن الإمام أولى.

ومقتضى إطلاق المصنف وغيره: أنه لا فرق بين المرتزقة وغيرهم، والظاهر: أنه مخصوص بالمتطوعة، أما المرتزقة .. فليس لهم الخروج بغير إذن الإمام؛ لأنهم مرصدون لمهمات تعرض للإسلام يصرفهم الإمام فيها على مقتضى نظره فيهم بمنزلة الأُجراء،

قال: (ويسن إذا بعث سرية أن يؤمِّر عليهم)؛ لما روى مسلم [1731] عن بريدة بن الحصيب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرًا قال: (اغزوا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله).

وجعل ابن سريج التأمير في الجهاد واجبًا؛ لأن تركهم فوضي يؤدي إلى اختلاف كلمتهم وتنازعهم، ولأن العدو إنما يفزع من رئيس القوم، فإذا لم يكن فيهم زعيم حصل الطمع فيهم.

قال في (الأم) ولا ينبغي أن يولي الإمام الغزو إلا ثقة في دينه، شجاعًا في بدنه حسن الأناة، عارفًا بالحرب، غير عجل ولا نزق، شجاعًا يثبت عند الهرب، ويتقدم عند الطلب، وأن يكون ذا رأي في السياسة والتدبير؛ ليسوس الجيش على اتفاق الكلمة والطاعة وتدبير الحرب في انتهاز الفرصة، وأن يكون من أهل الاجتهاد في أحكام الجهاد.

وفي اعتبار كونه من أهل الاجتهاد في الأحكام الدينية وجهان.

و (السرية) قطعة من الجيش أربع مئة ونحوها ودونها، وجمعها: سرايا، سميت بذلك؛ لأنها تسري في الليل، وقيل: لأنها خلاصة العسكر وخياره.

روى ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الأصحاب أربعة، وخير السرايا أربع مئة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يغلب اثنا عشر ألفًا من قلة) كذا رواه الترمذي [1555] وأبي داوود [2604]، زاد أبو يعلي الموصلي [2714]: (إذا

ص: 317

وَيَاخُذَ الْبَيْعَةَ بِالثَّبَاتِ، وَلَهُ الاِسْتِعَانَةُ بِكُفَّارِ

ــ

صبروا وصدقوا) زاد العسكري: (وخير الطلائع أربعون).

قال: (ويأخذ البيعة بالثبات) أي: حيث توجه عليهم؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه بايع أصحابه تحت الشجرة على أن لا يفروا، ولم يبايعوه على الموت، رواه مسلم [1856/ 68].

ويستحب أن يخرج بهم يوم الخميس في أوله؛ لما روى الشيخان [خ 2950] عن كعب بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يخرج يوم الخميس. وسيأتي في (القضاء) حديث صخر بن وداعة.

ويستحب أن يبعث السرايا يوم الاثنين، وأن يدخل دار الحرب بنفسه؛ لأنه أحوط وأرهب، وأن يدعو عند التقاء الصفين؛ لما روى ابن حبان [1720] عن سهل بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء؛ عند حضور الصلاة، وعند الصف في سبيل الله).

وأن يكون لهم شعار؛ لما روى النسائي [سك 10376] والحاكم [2/ 107] عن البراء بن عازب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم ستلقون العدو، فليكن شعاركم: (حم) لا ينصرون).

قال الخطابي: بلغني عن ابن كيسان النحوي أنه سأل أبا العباس أحمد بن يحيى عنه فقال: معناه: الخبر، ولو كان بمعنى الدعاء .. لكان مجزومًا، أي: لا ينصروا، وإنما هو إخبار، كأنه قال: والله لا ينصرون.

وقد روي عن ابن عباس أنه قال: (حم اسم من أسماء الله تعالى))، فكأنه حلف بالله: أنهم لا ينصرون.

قال: (وله الاستعانة بكفار) من أهل الذمة وغيرهم؛ لأن النبي صلى الله عليه

ص: 318

تُؤْمَنُ خِيَانَتُهُمْ، وَيَكُونُونَ بِحَيْثُ لَوِ انْضَمَّتْ فِرْقَتَا الْكُفْرِ .. قَاوَمْنَاهُمْ،

ــ

وسلم استعان بيهود بني قينقاع، ذكره الشافعي [أم 7/ 342]، وقال البيهقي [9/ 53]: إسناد ضعيف، وصح شهود صفوان بن أمية معه حنينًا).

وذهب مالك وأحمد إلى المنع استدلالًا بقوله تعالى: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} ، وقوله:{لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} .

وروي مسلم [1817] عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا لا نستعين بمشرك).

وأجاب الشافعي بأن النبي صلى الله عليه وسلم تفرس في الرجل المذكور وفي أمية الرغبة في الإعلام فأسلما، كما رواه مالك وغيره.

وإنما تجوز الاستعانة بهم بشرطين، أشار إليهما المصنف فقال:

(تؤمن خيانتهم)؛ بأن يعرف حسن رأيهم في المسلمين، وجهل هذا في (الروضة) شرطًا ثالثًا، والرافعي جعله مع أمن الخيانة شرطًا واحدًا.

قال: (ويكونون بحيث لو انضمت فرقتا الكفر .. قاومناهم)؛ لأنهم إذا انضموا إلى الفئة الأخرى .. أمكن دفعهم، فإن زادوا بالاجتماع على الضعف .. لم تجز الاستعانة بهم.

وشرط العراقيون قلة المسلمين، قال الماوردي) وهذا الشرط وما قبله متنافيان.

وقال المصنف: لا منافاة، والمراد: أن يكون المستعان بهم فرقة لا يكثر العدد بهم كثرة ظاهرة.

وشرط الماوردي شرطًا آخر؛ وهو: أن يكون معتقدهم مخالفًا لمعتقد العدو كاليهود مع النصارى، وحيث تجوز الاستعانة بالكفار .. قال الشافعي: الأولى: أن يستأجرهم.

كل هذا في الاستعانة بهم على الكفار، أما على البغاة .. فتقدم حكمة في بابه.

ص: 319

وَبِعَبِيدٍ بِإِذْنِ السَّادَةِ وَبِمُرَاهِقِينَ أَقْوِيَاءَ، وَلَهُ بَذْلُ الأُهْبةِ وَالسِّلَاحِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَمِنْ مَالِهِ

ــ

ولو أكره الإمام الذمي على الخروج والقتال معه .. استحق أجرة المثل من حين الخروج إلى عوده إلى وطنه، بخلاف العبد إذا أكرهه؛ فإنه يضمن إلى حين عوده إلى سيده، فلو لم يقاتل الذمي الذي خرج مكرهًا .. لم يستحق أجرة القتال على الأصح.

قال: (وبعبيد بإذن السادة)؛ لأنه ينتفع بهم في القتال، لكن يستثنى منه من لا يتوقف حضوره على إذن سيده، كالمكاتب والموصى بمنتفعته لبيت المال على الأصح فيهما.

قال: (وبمراهقين أقوياء)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحضر معه بعض المراهقين في بعض غزواته، وجوز ذلك؛ ليتمرنوا على الجهاد، فبهم فيه مصلحة، كالختان وقطع السلعة عند غلبة السلامة.

قال: (وله) أي: للإمام (بذل الأهبة والسلاح من بيت المال ومن ماله)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من جهز غازيًا .. فقد غزا) متفق عليه [خ2843 – م 1895]، ولأن الرجال حصون يبنيها الإحسان ويهدمها الحرمان.

ومقتضى كلام المصنف: أنه ليس للآحاد ذلك، وليس كذلك؛ فقد صح الشيخان وغيرهما بجوازه.

فرع:

يمنع الإمام المخذل الذي يخوف الناس أن يخرج مع الجيش، فإن خرج .. رده، فإن قاتل .. لم يستحق شيئًا، ولو قتل كافرًا .. لم يستحق سلبه كما تقدم في (باب الغنيمة).

وفي معنى المخذل: (المرجف) الذي يكثر الأراجيف، وكلام الإمام والغزالي يقتضي دخوله في المخذل، والظاهر: الأول.

فإن قيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنع عبد الله بن أبي بن مسلول من

ص: 320

وَلَا يَصِحُّ اسْتِئْجَارُ مُسْلِمٍ لِجِهَادٍ، وَيَصِحُّ اسْتِئْجَارُ ذِمِّيٍّ لِلإِمَامِ، قِيلَ: وَلِغَيْرِهِ .....

ــ

ذلك، وهو القائل يوم الخندق: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا، وقال يوم أحد: لو أطاعونا ما قتلوا .. فالجواب: أن الله تعالى كان يخبر بأحوالهم، وكان الصحابة أقوياء في الدين لا يبالون بتخذيلهم.

قال: (ولا يصح استئجار مسلم لجهاد)، سواء استأجره الإمام أو غيره؛ لأنه يتعين عليه إذا حضر الصف، وهو كالصرورة إذا استؤجر ليحج عن غيره، والمسألة تقدمت في (الإجازة).

وقيل: يجوز للإمام دون الآحاد، ويعطي الأجرة من مال المصالح.

وما يأخذه المرتزقة من الفيء والمتطوعة من الصدقات .. ليس أجرة لوقوع غزوهم لهم.

ولو أكره الإمام جماعة على الغزو .. لم يستحقوا أجرة؛ لوقوع غزوهم لهم، كذا أطلقوه.

وقال البغوي: إن تعين عليهم .. فكذلك، وإلا .. فلهم الأجرة من الخروج إلى حضور الوقعة، قال الافعي: وهو حسن فليحمل إطلاقهم عليه.

قال: (ويصح استئجار ذمي)؛ لأنه لا يقع عنه، فأشبه البهيمة، وفي معناه: المعاهد والمستأمن.

وقيل: هو جعالة لا إجارة؛ لجهالة العمل.

والمذهب: الأول، واغتفرت الجهالة للضرورة؛ لأن معاقدة الكفار تحتمل ما لا تحتمله معاقدة المسلمين، ولأنها لو كانت جعالة .. لجاز الانصراف متى شاء، وفيه ضرر عظيم.

قال: (للإمام)؛ لأنه أعرف بالمصالح.

قال: (قيل: ولغيره) كالأذان.

والأصح المنع؛ لأن الآحاد لا يتولون المصالح العامة، والجهاد يحتاج إلى نظر كامل.

ص: 321

وَيُكرَهُ لِغَازٍ قَتلُ قَرِيبٍ، وَمَحرَمٍ أَشَدُّ. قُلتُ: إلَاّ أَن يَسمَعَهُ يَسُبُّ الله تَعَالَى أَو رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم، واللهُ أَعلَمُ

ــ

ثم قيل: يجب نقص المسمى عن سهم راجل، والأصح: أنه لا حجر كسائر الإجارات.

فإن كان شيئًا مجهولًا؛ بأن قال: نرضيكم، أو نعطيكم ما تستعينون به، أو أخرجهم وحملهم على الجهاد كرهًا .. وجبت أجرة المثل، وإن خرجوا راضيين ولم يسهم لهم شيئًا .. فهذا موضع الرضخ، وفي محله أقوال سبقت في (الغنيمة).

قال: (ويكره لغاز قتل قريب)؛ لما فيه من قطع الرحم التي أمر الله تعالى بصلتها.

وقيل: لا يكره.

وقيل: إن كانت بينهما توارث .. كره؛ لقوة النسب، وإلا .. فلا، حكاهما في (الكفاية).

هذا إذا لقي القريب المسلم، فإن تعين عليه دفعه .. وجب ولا كراهة.

قال: (ومَحرمٍ أشدُّ)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع أبا بكر يوم أحد من قتل ولده عبد الرحمن، وأبا حذيفة عن قتل أبيه يوم بدر.

ووقع في (البسيط) و (الوسيط) أنه صلى الله عليه وسلم نهى حذيفة وأبا بكر عن قتل أبويهما، وهو تصحيف، إنما هو نهى أبا حذيفة بن عتبة عن قتل أبيه ب (الياء) ، ونهى أبا بكر عن قتل ابنه ب (النون) ، والحديث رواه البيهقي [8/ 186] والشافعي [أم 4/ 222].

وكذلك يكره للجلاد أن يقتل أباه حدًا كما قدم.

قال: (قلت: إلا أن يسمعه يسب الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم والله أعلم) ، فحينئذ لا كراهة؛ تقديمًا لحق الله تعالى وحق رسوله صلى الله عليه وسلم، ففي (الصحيحين) [خ 14 - م 44]:(والذي نفسي بيده؛ لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده) زاد مسلم: (والناي أجمعين).

وروى البيهقي [9/ 27] عن عبد الله بن شوذب قال: جعل أبو أبي عبيدة بن الجراح

ص: 322

وَيَحرُمُ قَتلُ صَبِيِّ وَمَجنُونٍ وَامرَأَةٍ وخُنثَى مُشكِلٍ،

ــ

يوم بدر يتعرض لأبي عبيدة، وجعل أبو عبيدة، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر الجراح قصده أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله تعالى:{لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ} الآية.

قال ابن مسعود: (نزلت في أبي عبيدة، قتل أباه يوم بدر، (أَوْ أَبْنَاءَهُمْ) والمراد: أبو بكر، دعا ابنه عبد الرحمن إلى البراز يوم بدر، (أَوْ إخْوَانَهُمْ) مصعب ابن عمير، قتل أخاه يوم أحد، (أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) عمر بن الخطاب، قتل خاله العاصي بن هشام بن المغيرة يوم بدر، وعلي وحمزة قتلا شيبة وعتبة والوليد يوم بدر).

قال: (ويحرم قتل صبي ومجنون وامرأة وخنثى مشكل)؛ للنهي في (الصحيحين)[خ 3014 - م1744] عن قتل النساء والصبيان، وفي (السنن)(1)(نهى عن قتل الذرية).

ونص الشافعي –كما أفاده الحازمي عنه- على أنه لا إثم في قتلهم ولا دية ولا كفارة، وإنما التحريم لحق الغانمين لا لحق الله تعالى، لكن تستثنى صور:

إحداها: إذا قاتلوا؛ لما روى أبو داوود في (مراسليه)[333] عن عكرمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة بالطائف فقال: (ألم أنه عن قتل النساء؟! من صاحب هذه المقتولة؟) فقال رجل من القوم: أنا يا رسول الله، أردفتها، فأرادت أن تصرعني لتقتلني، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توارى.

الثانية: إذا سبَّت الإسلام أو المسلمين لظهور الفساد.

الثالثة: إذا كانت من قوم ليس لهم كتاب –كادهرية وعبدة الأوثان- وامتنعوا عن الإسلام، قال الماوردي: فعند الشافعي: يقتلن.

الرابعة: حالة الضرورة عند تترس الكفار بهم كما سيأتي.

الخامسة: إذا لم يجد المضطر سواهم فله قتلهم وأكلهم على الأصح في زوائد (الروضة).

(1) أبو داوود (2663) والترمذي (1583) بنحوه.

ص: 323

وَيَحِلُّ قَتلُ رَاهِبٍ وَأَجِيرٍ وَشَيخٍ وَأعمَى وَزَمِنِ لَا قِتَالَ فِيهِم وَلَا رَأيَ فِي الأظهَرِ، فَيستَرَقُّونَ وَتُسبَى نِسَاؤُهُم وَأَمَوالُهُم ......

ــ

قال: (ويحل قتل الراهب وأجير وشبخ أعمى وزمن لا قتال فيهم ولا رأي في الأظهر)؛ لعموم قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ} .

وفي (أبي داوود)[2663] و (الترمذي)[1583] من حديث الحسن عن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقتلوا المشركين، واستحيوا شؤخهم) أي: صغارهم.

وروي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل اعمى من بني قرسظة بعد الإسار، وهو الزبير بن باطا القرظي (1).

والثاني: لا يحل؛ لحديث زيد بن خالد: (لا تقلوا كبيرًا فانيًا ولا أصحاب الصوامع)(2).

وفي (أبي داوود)[2662] و (النسائي)[سك 8571]: النهي عن قتل العسيف (3) ، ومثله مقطوع اليدين والرجلين.

واحترز بقوله: (لا رأي فيهم) عما إذا كان فيهم رأي .. فيقتل قطعًا، كدريد بن الصمة، فإن المشركين أحضروه يوم حنين التماسًا لرأيه وهو ابن مئة وخمسين سنة، فقتله المسلمون، ولم ينكره النبي صلى الهه عليه وسلم، رواه الشافعي [أم 4/ 240] وغيره.

وسجوز قتل أهل السوق على المذهب، وقيل: على قولين؛ لأنهم لا يمارسون الحرب، وفي عبارة الغزالي وغيره: السوقة، واعترض ذلك؛ بأن السوقة ما عدا الملك من الجند وغيرهم، وأما المحترف .. فهو مشغول بحرفته، وعبر في (الوسيط) عنه بالحارف، وهو معترض؛ بأن هذه الصيغة لم توجد.

قال: (فيسترقون وتسبى نساؤهم وأموالهم) أي ك إذا جوزنا قتلهم، ولهذا أى ب (القاء).

(1) البيهقي (9/ 66).

(2)

أخرجه البيهقي (9/ 90).

(3)

في هامش (د): (وهو الأجير).

ص: 324

وَيَجُوزُ حِصَارُ الكُفَّارِ في البِلَادِ وَالقِلَاعِ وَإرسَالُ المَاءِ عَلَيهِم وَرَميُهُم بِنَارٍ وَمَنجَنيقٍ

ــ

فإن قلنا بالمنع .. فالمذهب: أنهم يرقون بنفس الأسر كالنساء والصبيان.

وقيل: يتخير الإمام بين الرق والمن عليه أو الفداء.

وقيل: لا يجوز استرقاقهم، بل يتركون ولا يتعرض لهم.

ويجوز سبي نسائهم وصبيانهم على الأصح.

وقيل: لا يجوز.

وقيل: يجوز سبي نسائهم دون صبيانهم؛ لأنهم أبعاضهم، وطرد بعضهم الخلاف في اغتنام الأموال.

قال الإمام: ومن منع اغتنام أموالهم .. قرب من خرق الإجماع.

واقتصار المصنف على سبي النساء يوهم أن لا تسبى صبيانهم، وهو وجه، والأصح: خلافه.

ولو ترهبت امرأة .. ففي جواز استرقاقها وجهان؛ بناء على قتل الراهب، وصحح القاضي: الجواز؛ لأن الأصل في الترهب الرجال، دوهن.

وجزم الغزالي في (الخلاصة) فيها وفي العبد إذا ترهب بإذن سيده بجواز القتل. وأما رسول الكفار .. فسيأي في أول (الجزية) أنه لا يقتل.

قال: (ويجوز حصار الكفار في البلاد والقلاع)؛ لقوله تعالى: {وخُذُوهُمْ واحْصُرُوهُمْ} .

وفي (الصحيحين)[خ 4325 - م 1778] من حديث عبد الله بن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف).

وفي (مراسيل أبي داوود)[336] من رواية يحيى بن أبي كثير: (حاصرهم شهرًا).

قال: (وإرسال الماء عليهم ورمسهم بالنار ومنجنيق) ، وكذا ما في معنى ذلك من الهدم للبيوت وإلقاء الحيات والأفاعي والعقارب ونحو ذلك مما يعم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف، رواه الترمذي [2762] والبيهقي [9/ 84] ، وقيس عليه ما عليه ما في معناه.

ص: 325

وَتَبييتُهُم فِي غَفلَةٍ، فَإِن كَانَ فِيهِم مُسلِمٌ أَسِيرٌ أَو تَاجِرٌ .. جَازَ ذَلِكَ عَلَى المَذهَبِ،

ــ

ومقتضى كلام المصنف: جواز ذلك وإن كان فيهم النساء والصبيان واحتمل أن يصيبهم ذلك، وهو كذلك؛ لأن النهي عن قتلهم محمول على ما إذا كان صبرًا بعد السبي؛ لأنهم غنيمة.

قال: (وتبيتهم في غفلة)؛ بأن يقاتلهم ليلًا وهم غافلون؛ لأنه عليه الصلاة والسلام شن الإغارة على بني المصطلق وهم غارون- أي: غافلون- وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلهم، وسبى ذريتهم، رواه الشيخان [خ 2541_ م 1730].

وبعث محمد بن مسلمة وغيره فقتلوا كعب بن الأشرف غيلة (1).

وفي (الصحيحين)[خ 3013_ م 1745] عن الصعب بن جثامة: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين يبيتون وتسبى نساؤهم وذراريهم؟ فقال: (هم منهم).

وادعى الزهري وابن عيينة وابن حبان: نسخ حديث التبيي بخبر النهي عن قتل النساء والصبيان، وأنكر الشافعي وغيره ذلك، وحملوا النهي على قصد قتلهم متميزين، وحديث التبييت على ما بعد السبي؛ لأنهم غنيمة.

ويستثنى من إطلاق المصنف: من لم تبلغه الدعوة من الكفار؛ فإنه لا يجوز قتالهم حتى يدعوا إلى الإسلام؛ لقوله تعالى: {ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} ، كذا نص عليه الشافعي والأصحاب.

وإنما لم يستثنه المصنف؛ لأن هذا الشرط لأصل القتال، وتعبير المصنف بالجواز يقتضي: أنه لا يستحب، وهو كذلك؛ فالمستحب للإمام إذا كان عنده قوة أن لا يغير ليلًا.

قال: (فإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر .. جاز ذلك على المذهب) أي: التبييت والتحريق والتغريق.

(1) البخاري (2510) ، ومسلم (1801).

ص: 326

وَلَوِ التَحَمَ حَربٌ فَتَتَرسٌوا بِنِسَاءٍ وَصِبيَانٍ .. جَازَ رَميُهُم، وَإن دَفَعُوا بِهِم عَن أَنفُسِهِم وَلَم تَدعُ ضَرورَةٌ إلَى رَميِهِم .. فَالأظهَر: تَركُهُم. وَإِن تَتَرَّسُوا بِالمُسلِمِينَ: فَإن لَم تَدعُ ضَرُورَةٌ إلَى رَميِهِم

ــ

المذهب: أنه إن لم يكن ضرورة .. كره، ولا يحرم على الأظهر؛ لئلا يتعطل الجهاد بحبس مسلم عندهم.

والطريق الثانية: لا اعتبار بالضرورة، بل إن علم أن ذلك يهلك المسلم .. لم يجز، وإلا .. فقولان.

والثالثة: إن كان المسلمون أقل .. جاز، أو متساوون .. فلا، والمذهب: الجواز وإن علم أنه يصيب مسلمًا، وهو نصه في (المختصر).

قال: (ولو التحم حرب فتترسوا بنساء وصبيان) أي: منهم (.. جاز رميهم) إذا دعت الضرورة إليه؛ بأن قصدوتا ولو تركناهم غلبونا؛ لئلا يتخذوا ذلك ذريعة إلى منع الجهاد وإلى قتل المسلم، فالاحتيلط للمسلمسن أولى من الاحتياط لأولاد المشركين.

قال: (وإن دفعوا بهم عن أنفسهم ولم تدع ضرورة إلى رميهم .. فالأظهر: تركهم) أي: وجوبًا؛ لنهيه صلى الله عليه وسسلم عن قتل النساء والصبيان، وهذا القول صححه القفال. وقال في (المحرر) إنه أولى القولين، ولم يرجع الرافعي في (الشرحين) شيئًا.

وكذا الحكم لو تترسوا بهم في القلعة، وقيل: هذه أولى بالجواز من مسألة الكتاب (1) ، فلو لم يدفعوا بهم عن أنفسهم، بل فعلوا بهم خديعة ومكرًا لعلمهم أن شرعنا يمنع من قتل الذرية .. لم يمتنع حصارهم ولا رميهم وإن أدى إلى قتل الأطفال قطعًا، قاله الماوردي وغبره، وخصوا القولين بما إذا دفعوا بذلك عن أنفسهم.

قال: (وإن تترسوا بالمسلمين: فإن لم تدع ضرورة إلى رميهم)؛ بأن كانوا

(1) في هامش (ت): (ورجع في زوائد "الروضة"[10/ 245] الجواز.

والقول الثاني –وقطع به-: إنه يجوز رميهم كما يجوز نصب المنجنيق على القلعة وإن كان يصيبهم، ولئلا يتخذوا ذلك ذريعة إلى تعطييل الجهاد).

ص: 327

تَرَكنَاهُم، وَإلَّا .. جَازَ رَميُهُم فِي الأَصَحِّ ......

ــ

يدفعون عن أنفسهم (.. تركناهم) أي: وجوبًا، فلا يجوز رميهم في هذه الحالة صيانة للمسلمين.

والفرق بينهم وبين النساء والصبيان على طريقة المصنف في (الروضة) أن المسلم محقون الدم لحرمة الدين، فلم يجز قتله من غير ضرورة، والذرية حقنوا لحق الغانمين، فجاز قتلهم لغير ضرورة.

قال: (.. جاز رميهم في الأصح) أي: بقصد قتال المشركين، ويتوقى المسلم بحسب الإمكان؛ لأن مفسدة الإعراض أكثر من مفسدة الإقدام، ولا يبعد احتمال قتل طائفة للدفع عن بيضة الإسلام، والجزئيات مغتفرة بالإضافة إلى الكليات.

والثاني: لا يجوز الرمي إذا لم يمكن ضرب الكفار إلا بضرب المسلمين؛ لأن دم المسلم لا يباح بأمر موهوم بدليل صورة الإكراه.

قال الرافعي: وأشعر إيراد الغزالي بخصيص الوجهين بما إذا تترس كافر بمسلم، وتبعه (الحاوي الصغير) قال: لا كافر بمسلم.

ثم إذا جوزنا الرمي فرمى فقتل مسلمًا .. فلا قصاص؛ لأنه ينافي الجواز، وتجب الكفارة للعصمة، وكذا الضمان على لمذهب إذا علم إسلام المرمي إليه؛ لإمكان توقيه وتترسهم (1).

(1) في هامش (ت): (لم يذكر الشارح رحمه الله بقية اللطرق، وقال في "الروضة" [10/ 246]: وفي الدية طرق:

أصحها – وهو ظاهر النص، وبه قال المزني وابن سلمة-: إن علم أن المرمي مسلم .. وجبت، وإلا .. فلا.

والثاني – قاله أبو إسحق-: إن قصده بعينه .. وجبت، سواء علمه مسلمًا أم لا، وإلا .. فلا.

والثالث: قولان مطلقان.

والرابع – قاله ابن الوكيل-: إن علم أن هناك مسلمًا .. وجبت، وإلا .. فقولان)

ص: 328

وَيحرُمُ الِانصِرَافُ عَنِ الصَّفِّ إِذَا لَم يَزِد عَدَد الكُفَّارِ عَلَى مِثلَينَا

ــ

وإن لم نجوز الرمي فرمى وقتل .. ففي وجوب القصاص طريقان:

أحدهما: قولان كالمكره.

والثاني: يجب قطعًا، كالمضطر قتل رجلًا ليأكله، بخلاف المكره؛ فإنه ملجأ، ولأن هناك من يحال عليه، وهو المكره.

وتترسم بالذمي والمستأمن والعبد كالمسلم، في الرمي والدية والكفارة، لكن حيث تجب دية ففي العبد القيمة.

فرع:

تترس كافر بمال مسلم أو فرسه فرمى إليه مسلم فأتلفه .. ضمن ن كان في غير التحام الحرب، وكذا أن كان فيه وأمكنه أن لا يصيب مال المسلم فأصابه، فإن لم يمكنه الدفع إلا بالإصابة، فإن جعل كالمكره .. فلا ضمان، وإن جعل مختارًا .. ضمن كما يلزمه القصاص.

قال: (ويحرم الانصراف عن الصف) أي: على من لزمه الثبات ولو غلب على ظنه أنه إذا ثبت في الأصح؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} .

وفي (الصحيحين)[خ 2767 - م 89]: (اجتنبوا السبع الموبقات) وعد منها: الفرار من الزحف.

وعلم من قوله: (عن الصف) أنه لا يحرم من غيره، كما لو لقي مسلم مشركين .. فله الانصراف إن طلباه، وكذا إن طلبهما ولم يطلباه .. له الفرار بعد في الأصح؛ لأن فرض الجهاد والثبات إنما هو في الجماعة.

قال: (إذا لم يزد عدد الكفار على مثلينا)؛ لقوله تعالى: {فَإن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} الآية، وهو أمر بلفظ الخبر؛ لأنه لو كان خبرًا .. لم يقع، بخلاف المخبر عنه.

ص: 329

إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَو مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ يَستَنجِدُ بِهَا، وَيَجُوزُ إلَى فِئَةٍ بَعِيدَةٍ فِي الأصَحِّ ....

ــ

والمعنى في وجوب المصابرة للضعف: أن المسلم يقاتل على إحدى الحسنيين: إما أن يقتل فيدخل الجنة، أو يسلم فيفوز بلأجر والغنيمة، والكافر يقاتل على الفوز بالدنيا.

وأفهم من كلامه: أنهم إذا زادوا على الضعف .. جاز مطلقًا، وهو كذلك.

وحكى القرطبي في (تفسيره) أنهم إذا بلغوا اثني عشر ألفًا .. حرم الانصراف وإن زاد الكفار على مثليهم عند جمهور العلماء، منهم: مالك وأبو حنيفة وداوود؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لن يغلب اثنا عشر ألفًا من قلة) ، وأنهم جعلوا ذلك مخصصًا للآية.

قال: (إلا منحرفًا لقتال أو متحيز لفئة يستنجد بها) أي: فإنه لا يجوز لهما الانصراف إلا بشرط قصد العود؛ لقوله تعالى: {ومَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَاّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} .

و (المتحرف للقتال) من ينصرف ليكمن في موضع ثم يبرز، أو من مضيق إلى متسع يمكن فيه القتال، أو يتحول عن مقابلة الشمس أو الريح الذي يسف التراب على وجهه إلى موضع واسع.

و (المتحيز) اسم فاعل من تحيز، أصله: تحيوز، تفعيل، من الحوز، اجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون، فقبلت الواو ياء؛ وأدغمت الياء في الياء، فصارت: تحيز.

قال: (ويجوز) الانصراف للمتحيز (إلى فئة بعيدة في الأصح)؛ لإطلاق الآية، ولأن هذا أمر بينه وبين الله تعالى، ولا تمكن مخادعة الله في العزائم، فإذا ظهرت له تلك العزيمة .. جاز التوجه إليها.

روى أبو داوود [2640] والترمذي [1716] عن ابن عمر قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فحاص الناس حيصة –أي: حادوا حيدة- فقدمنا المدينة، فاختفينا بها وقلنا: هلكنا، ثم أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا:

ص: 330

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يا رسول الله؛ نحن الفرارون، فقال:(بل أنتم العكارون، وأنا فئتكم).

و (العكارون) الكرارون إلى الحرب العاطفون نحوها.

والوجه الثاني: يشترط أن يكون إلى فئة قريبة؛ ليتصور الاستنجاد بها في القتال وإتمامه.

وعلى الأول: يشترط أن لا يحصل بسبب الانصراف كسر للمسلمين وقوة للكافرين، كما قاله الإمام والغزالي، وتبعهما (الحاوي الصغير).

قال الرافعي: ولم يذكره المعظم، وكأنهم رأوا ترك القتال والانهزام في الحال مجبورًا بعزمه على الاتصال بفئة أخرى.

تنبيهان:

أحدهما: يستثنى من التحريم الانصراف مع ما ذكره المصنف: النساء إذا انصرفن؛ فلا يأثمن، وكذلك العبيد بغير إذن السادة، والصبيان، والمغلوب على عقله بلا سكر، والعاجز بمرض ونحوه، ومن لم يبق معه سلاح، فلهم الانصراف بكل حال، وكذا من مات فرسه ولا يقدر على القتال راجلًا ولو أمكنه الرمي بالحجارة؛ فلا يقوم مقام السلاح على الأصح، كذا قاله الرافعي في الباب الأول، ثم أرسل الخلاف هنا، وذهل في (الروضة) عن ذلك، فصحح في زوائده مقابله.

الثاني: لم يبين ضابط القريبة، قال الإمام: ولا ينزل القرب هنا على ما دون مسافة القصر، بل المراد: أن يكون بالقرب من المعترك بحيث يقدر المتحيز إليهم على إدراك المسلمين عند الاستنجاد بهم.

وصحح في (الروضة) الاكتفاء باجتماعهم في دار الحرب.

فرع:

إذا عصى بالفرار من اثنين .. هل يشترط في توبته أن يعود إلى القتال أو يكفيه أن ينوي أنه متى عاد لا ينهزم إلا كما أمر الله تعالى؟ فيه وجهان.

ص: 331

وَلَا يُشَارِكُ مُتَحَيِّزٌ إِلَى بَعِيدَةٍ الجَيشَ فِيمَا غَنِمُوا بَعدَ مُفَارَقَتِهِ، وَيُشَارِكُ مُتَحَيِّزٌ إِلَى قَرِيبَةٍ فِي الأَصَحِّ، فَإِن زَادُوا عَلَى مِثلَينِ .. جَازَ الِانصِرَافُ، ....

ــ

وأطلق في (البسيط) وغيره: أن الجهاد لا يلزم بالنذر، وأن المنهزم عاص ليس عليه إلا الإثم.

قال: (ولا يشارك متحيز إلى بعيدة الجيشَ فيما غنموا بعد مفارقته) ، سواء أجزناه أم منعناه؛ لأن النصرة تفوت ببعده، أما ما غنموه قبل مفارقته .. فيشارك فيه، كذا نص عليه.

قال: (ويشارك متحيز إلى قريبة في الأصح)(1)؛ لبقاء نصرته ونجدته، فهو كسرية قريبة يشارك الجيش فيما غنموه.

والثاني: لا؛ لمفارقته.

قال الغزالي: ويصدَّق بيمينه: أنه قصد التحرف والتحيز.

وقال البغوي: إن عاد بعد انقضاء القتال .. لم يصدق، أو قبله .. صدق بيمينه.

فرع:

الجاسوس إذا بعثه الإمام لينظر عدد المشركين وينقل أخبارهم فغنم الجيش في غيبته شيئًا .. شاركهم فيه الأصح؛ لأنه كان من مصلحتهم، وخاطر بنفسه أكثر من الثبات في الصف.

قال: (فإن زادوا على مثلين .. جاز الانصراف)؛ لقوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} الآية.

(1) في هامش (ت): (لم يذكر المصنف في هذا الباب حد القرب والبعد، وإنما ذكر ذلك في (باب قسم الفيء والغنيمة) فيما إذا بعث الإمام سريتين، قال هناك [روضة 6/ 379]: ثم ذكر ابن كج ةالإمام: أن شرط الاشتراك أن يكونوا بالقرب مترصدين للنصرة.

وحد القرب: أن يبلغهم الغوث والمدد منهم إن احتاجوا، ولم يتعرض أكثر الأصحاب لهذا واكتفوا باجتماعهم في [دار] الحرب.

قلت: هذا المنقول عن الأكثرين هو الأصح أو الصحيح، والله أعلم).

ص: 332

إَلَاّ أَنَّهُ يَحرُمُ انصِرَافُ مِئَةِ بَطَلٍ عَن مِئَتَينِ وَوَاحِدٍ فِي الأَصَحِّ. وَتَجُوزُ المُبَاَرَزَةُ، فَإِن طَلَبَهَا كَافِرٌ .. استُحِبَّ الخُرُوجُ إلَيهِ، ......

ــ

قال: (إلا أنه يحرم انصراف مئة بطل عن مئتين وواحد ضعفاء في الأصح)؛ لأنهم يقاومونهم لو ثبتوا، والانهزام ذل، وإنما يراعى العدد عند تقارب الأوصاف.

والثاني: يجوز الانصراف؛ لأن اعتبار الأوصاف يعسر فأنيط الحكم بالعدد.

ومأخذ الخلاف: النظر إلى مجرد العدد أو المعنى ، ويعبر عنه بأنه هل يجوز أن يستنبط من النص معنى يخصصه أو يقيده.

وطردوا الوجهين فى عكسه ، وهو فرار مئة من ضعفائنا عن مئتين إلا واحدًا من أبطالهم ، فإن اعتبر المعنى .. جاز، أو العدد .. فلا.

ولا فرق في وجوب مصابرة المسلمين لضعفهم بين أن يكونوا خيالة والمسلمون رجالة أو بالعكس، قال المصنف: وفيه نظر ، ويمكن تخريجه على أن العبرة بالمعنى أو العدد.

وحيث جاز الانصراف .. استحب الثبات إن غلب ظن الظفر به ، وإن غلب الهلاك .. استحب أيضا ، كما قاله فى زوائد (الروضة)

وقيل: يحرم؛ لقوله تعالى {ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} .

قال: (وتجوز المباررزة)، وهي: ظهور اثنين من الطائفتين بين الصفين للقتال، وأصلها من البروز، وهو: الظهور.

والمراد: يجوز ابتداؤها بشرط أن لا يتضرر المسلمون بقتل المبارز.

واستدل لها بقوله تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا} وهو: الإسراع في المبارزة {وثِقَالًا} ، وهو: الثبات والمصابرة.

وقيل: تكره المبارزة؛ لقوله تعالى: {وقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً} وقيل: تستحب، وقيل: لا تجوز؛ لأنه لا يأمن أن يخرج إليه أقوى منه فيقتله فيوهن المسلمين.

قال: (فغن طلبها كافر .. استحب الخروج إليه)؛ لما روى أبو داوود [2658 بنحوه]

ص: 333

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بإسناد صحيح عن علي كرم الله وجهه قال: لمّا كان يوم بدر تقدم عتبة بن ربيعة وتبعه أخوه وابنه، فنادى: من يبارز؟ فانتدب له شباب من الأنصار، فقال: من أنتم؟ فأخبروهم، فقالوا: لا حاجة لنا فيكم إنما أردنا بني عمنا، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة بن الحارث) ، فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلت إلى شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان، فأثخن كل منهما صاحبه، ثم ملنا إلى الوليد فقتلناه، واحتملنا عبيدة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومخ ساقه يسيل، فقال: أشهيد أنا يا رسول الله؟ قال: (نعم) قال: وددت أن أبا طالب كان حيًا؛ ليعلم أننا أحق منه بقوله [من الطويل]:

ونسلمه حتى نصرع حوله .... ونذل عن أبنائنا والحلائل

ثم أنشأ يقول [من الطويل]:

فإن تقطعوا رجلي فإني مسلم .... أرجي به عيشًا من الله عاليًا (1)

وألبسني الرحمن من فضل منه .... لباسًا من الإسلام غطى المساويا

وروى الشيخان [خ 3969 _ م 3033] عن قيس بن عبادة –وهو آخر حديث في (صحيح مسلم) - قال: سمعت أبا ذر يقسم قسمًا: أن {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} نزلت في الذين بارزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة.

ولما خرج مرحب يوم خيبر يطلب المبارزة .. خرج له علي –وقيل: محمد بن مسلمة- فقتله بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يرتجز ويقول:

قد علمت خيبر أني مرحب .... شاكي السلاح بطل مجرب (2)

(1) في هامش (د): (نسخة: راضيًا).

(2)

في هامش (د): (رجل شاكي السلاح أي: ذو شوكة وحدة في السلاح، قال الأخفش: هو مقلوب شائك).

ص: 334

وَإِنَّمَا تَحسُنُ مِمَّن جَرَّبَ نَفسَهُ وَبِإذنِ الِإمَامِ

ــ

فقال له علي رضي الله عنه [من الرجز]:

أنا الذي سمتني أمي حيدرة .... أضرب بالسيف رؤوس الكفرة

كليث غابات شديد القسورة .... أكيلهم بالسيف كيل السندرة (1)

وإنما قال ذلك؛ لأن أمه فاطمة بنت أسد قد افترسه، فأراد علي أن يذكره بأنه هو الأسد الذي يقتله، فكاشفه بذلك، فلما سمعه .. أرعب بتذكر المنام، فقتله.

قال: (وإنما تحسن) المبارزة، (ممن جرب نفسه) ، فغيره يكره له ذلك.

قال: (وبإذن الإمام)؛ لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: (قم يا حمزة

) إلخ.

فإن بارز بغير إذنه جاز في الأصح؛ لأن التغرير بالنفس في الجهاد جائز.

والثاني: يحرم؛ لأن للإمام نظرًا في تعيين الأبطال.

والمراد ب (الإمام) صاحب الراية.

فرع:

قال الشافعي: لا أكره لمن يعلم من نفسه في الحرب بلاء أن يعلم ولا يركب الأبلق.

والمراد ب (الإعلام) أن يجعل في صدره أو لحيته ريش النعام، أو يشد على عمامته عصابة ملونة، وركوب الأبلق من الخيل، فإن عرف من نفسه الفشل

(1) أخرجه مسلم (1807) ، والحاكم (3/ 38) ، وأحمد (4/ 51).

وفي هامش (د):

(كليث غابات كريه المنظرة

أوفيهم بالصاع كيل الندرة

السندرة: نوع من المكاييل، وقيل: السندرة: العجلة، يقال: فلان سندري، إذا كان مستعجلًا جادًا في أموره).

ص: 335

وَيَجُوزُ إِتلَافُ بِنَائِهِم وَشَجَرهِم لِحَاجَةِ القِتَالِ والظَّفَرِ بِهِم، وَكَذَا إِن لَم يُرجَ حُصُولُهَا لَنَا،

ــ

والضعف .. كره له ذلك؛ لأنه إذا انهزم وهو بهذه العلامة .. كان ذلك قوة للمشركين.

وكره الحسن الإعلام في الحرب، واسدل الشافعي بأن حمزة يوم بدر غرز ريش النعام في صدره، وشد أبو دجانة على رأسه عصابة حمراء، وركب أبو محجن الأبلق، وكل هؤلاء كانوا أهل شجاعة وشدة بأس رضي الله عنهم.

قال: (ويجوز إتلاف بنائهم)؛ لقوله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وأَيْدِي المُؤْمِنِينَ} .

قال: (وشجرهم لحاجة القتال والظفر بهم)؛ لقوله تعالى: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإذْنِ اللَّهِ} ، وسبب نزولها: أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقطع نخل بني النضير (1)، فقال واحد من الحصن: إن هذا فساد يا محمد، وإنك تنهى عن الفساد، فنزلت، رواه الشيخان [خ 1032، م 1746] من حديث ابن عمر، وقيل في ذلك (2) [من الوافر]:

وهان على سراة بني لؤي .... حريق بالبويرة مستطير

و (قطع صلى الله عليه وسلم كرومًا لأهل الطائف) رواه أبو داوود في (مراسليه)[317] ، و (قطع النخيل) رواه البيهقي.

وقوله: (لحاجة القتال والظفر بهم) قيد في جواز إتلاف البناء وقطع الشجر.

وقال الماوردي: يجب إذا علمنا أنا لا نصل إليهم إلا به.

قال: (وكذا إن لم يرج حصولها لنا) أي: حصول الأبنية والأشجار؛ مغايظة

(1) في هامش (د): (نضير بالضاد المعجمة من الضير، وهو الذل والضرر).

(2)

في هامش (د): (والقاتل حسان بن ثابت، أجابه أبو سفيان رضي الله عنه بقوله [من الوافر]:

أدام الله ذلك من صنيع

وحرق في جولنبها السعير

ستعلم أبناء منه بنزه

وتعلم أي أرضينا تضير

النزه: البعد).

ص: 336

فَإِن رُجِيَ .. نُدِبَ التَّركُ. وَيحرُمُ إِتلَافُ الحَيَوَانِ، إِلَاّ مَا يُقَاتِلُونَ عَلَيهِ لِدَفعِهِم أَو ظَفَرٍ بِهِم،

ــ

لهم، قال تعالى:{ولا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكُفَّارَ} .

قال: (فإن رجي .. ندب الترك)؛ حفظا لها على المسلمين.

وفي (الموطأ) أن أبا بكر بعث جيشًا إلى الشام فتهاهم عن قتل الشيوخ وأصحاب الصوامع وقطع الأشجار المثمرة.

وعبارة (الروضة) كره الإتلاف، ولا يحرم على الأصح.

هذا إذا دخلنا بلادهم مغيرين ولم يمكننا الاستقرار بها، فلو قهرناهم وفتحناها .. حرم القطع والتخريب؛ لأنها غنيمة، وكذا إذا فتحناها صلحًا على أنها لنا ولهم.

قال: (ويحرم إتلاف الحيوان) أي: المحترم؛ لما روى النسائي [7/ 206] والحاكم [4/ 233] عن عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل عصفورًا فما فوقها بغير حقها .. سأله الله عنها) قيل: وما حقها؟ قال: (يذبحها ويأكلها، ولا يقطع رأسها ويطرحها).

(وفي سنن أبي داوود)(أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان بغير مأكلة).

وخالف الأشجار؛ لأن للحيوان حرمتين: حق مالكه، وحق الله، فإذا سقطت حرمة المالك لكفره .. بقيت حرمة الخالق في بقائه على حظره، ولذلك يمنع مالك الحيوان من إجاعته وعطشه، بخلاف الأشجار.

قال: (إلا ما يقاتلون عليه لدفعهم أو الظفر بهم) فلا يحرم قتله؛ لأنها كأداة القتال، وإذا جاز قتل النساء والصبيان عند التترس بهم .. فالخيل أولى.

وفي (الصحيحين)(أن رجلًا من المسلمين رأى في غزوة مؤتة رجلًا من الروم وعليه لأمة حسنة، فكمن له وراء حجر، فلما جاوزه خرج من ورائه فعقر فرسه، فسقط الأرض وجلس على صدره وذبحه وأخذ لأمته وسلاحه، فأخذه خالد بن الوليد، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرده، ولم ينكر عليه عقر الفرس).

ص: 337

أَو غَنِمنَاهُ وَخِفنَا رُجُوعَهُ إلَيهِم وَضَرَرَهُ .....

ــ

وروى الشافعي [أم 4/ 245]: (أن حنظلة بن الراهب عقر لأبي سفيان فرسه يوم أحد، فسقط عنه، فجلس حنظلة على صدره ليذبحه، فجاء شداد بن الأسود فقتل حنظلة واستنقذ أبا سفيان، ولم ينكر صلى الله عليه وسلم فعل حنظلة).

قال ابن عبد البر (1) وغيره: افتخرت الأوس فقالوا: منا غسيل الملائكة حنظلة بن الراهب، ومنا من حمته الدبر عاصم بن ثابت، ومنا من أجيزت شهادته بشهادتين خزيمة بن ثابت، ومنا من اهتز لموته عرش الرحمن سعد بن معاذ (2)، فقال الخزرجيون: زيد بن ثابت وأبو زيد ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب.

قال: (أو غنمناه وخفنا رجوعه إليهم وضرره) ، فلا يحرم قتله أيضًا؛ دفعًا لهذه المفسدة ومغايظة، ولا يجوز للمسلم أن يعقر فرسه في الحرب حتى لا يفر.

تتمة:

نقل رؤوس الكفار إلى بلاد المسلمين اتفقوا على أنه لا يحرم، وفي كراهته أوجه:

أحدها: لا يكره؛ لأن أبا جهل لما قتل حمل رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه ابن ماجه [1391] من رواية عبد الله بن أبي أوفى بإسناد جيد.

وروى النسائي [سك 8619] عن فيروز الديلمي أنه قال: (قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم برأس الأسزد الكذاب).

والثاني –وهو الصحيح، وبه قطع العراقيون والروياني-: أنه يكره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحمل إليه رأس كافر قط.

(1)"الاستيعاب"(1/ 281).

(2)

في هامش (د): "ثبت في " الصحيحين" لأخ 3803، م 2466] عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ" قال العلماء: اهتزاز العرش فرح الملائكة بقدومه لما رأوا من منزلته).

ص: 338

فَصلٌ:

نِسَاءُ الكُفَّارِ وَصِبيَانُهُم إذَا أُسِرُوا .. رَقُّوا، ......

ــ

وروى البيهقي [9/ 132]: أن أبا بكر لما حملت إليه رأس يناق البطريق .. أنكر ذلك، وقال: ما فُعل هذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا له فائدة.

وما روي من حمل رأس أبي جهل قد تكلموا في ثبوته، وبتقدير الثبوت؛ فإنه حمل في الوقعة من موضع إلى موضع ولم ينقل من بلد إلى بلد، ولأنهم أرادوا أن ينظر الناس إليه فيتحققوا موته.

والثالث: إن كان نقلها منكيًا للعدو .. لم يكره.

والرابع: إن كان فيه إنكاء للعدو وإظهار لقوة المسلمين .. استحب النقل، واختاره الماوردي.

ولا تباع جيفة كافر؛ لما روى البيهقي [9/ 133] عن ابن عباس: أن رجلًا من المشركين قتل يوم الأحزاب، فبعث المشركون إلى رسزل الله صلى الله عليه وسلم: أن ابعث إلينا بجسده ونعطيك اثني عشر ألفًا، فقال صلى الله عليه وسلم:(لا خير في جسده ولا ثمنه) ، وقد تقدم نظير هذا (في ميراث المرتد).

قال: فصل:

نساء الكفار وصبيانهم إذا أسروا .. رقوا) بمجرد الأسر وكانوا كسائر الغنيمة، خمسهم لأهل الخمس والباقس للغانمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم السبي كما يقسم المال، والمجانين كالصبيان.

واستثنى الماوردي في (الأحكام) من لا كتاب لها، وقال: إذا امتنعت من الإسلام .. قتلت عند الشافعي، فلو قتل صبي أو امرأة .. وجبت قيمته؛ لأنه صار مالًا بنفس الأسر، فإن كان الصبي منفردًا عن أبويه .. ففيه قيمة عبد مسلم؛ لأنه محكوم بإسلامه تبعًا لسابيه، فإن قتله عبد .. لزمه القصاص.

وقوله: (رقوا) بفتح الراء، أي: صاروا أرقاء بمجرد الأسر، ولا يجوز ضم رائه بالاتفاق.

ص: 339

وَكَذَا العَبِيدُ، وَيجتَهِدُ الِإمَامُ فِي الأَحرَارِ الكَامِلِينَ، وَيَفعَلُ الأَحَظَّ لِلمُسلِمِينَ مِن قَتلٍ وَمَنِّ وَفِدَاءٍ بِأَسرَى أَو مَالٍ وَاستِرقَاقٍ ،

ــ

قال: (وكذا العبيد) كسائر الأموال المغنومة لا يتخير الإمام فيها؛ لأن عبد الحربي ماله، ولا يجوز للإمام قتلهم ولا المن عليهم.

وفي (المهذب) لو رأى الإمام قتل العبد لشره وقوته .. قتله وضمن قيمته للغانمين، وهذا محكي عن أبي يعقوب الأبيوردي.

والصحيح: أنه لا يجوز، ونقله الرافعي عن جمهور الأصحاب.

وسكت المصنف عن الخنثى، وصرح الرافعي في الباب الثاني بإلحاقه بالمرأة، وقال القاضي أبو الفتوح: يجوز المن عليه ومفاداته (1) وإن حكمنا بامتناع قتله وملك الغانمين له؛ لأن الحكم يذلك لأجل الاحتياط، فإذا رأى الإمام مخالفته بلاجتهاد .. جاز، بخلاف النساء والصبيان.

قال: (ويجتهد الإمام في الأحرار الكاملين، ويفعل الأحظ للمسلمين من قتل ومن وفداء بأسرى أو مال واسترقاق).

المراد ب (الكامل) البالغ العاقل الذكر، فيتخير الإمام فيه بين أربع خصال:

أن يقتلهم صبرًا بضرب العنق لا بتحريق ولا تريق ولا مثله؛ للنهي عنها.

وأن يمن عليهم بتخلية سبيلهم.

وأن يفاديهم بالرجال أو بالمال.

وأن يسترقهم ويكون مال الفداء ورقابهم إذا استرقوا كسائر أموال الغنيمة، وبهذا قال أحمد.

وقال أبو حنيفة: يتخير الإمام بين القتل والاسترقاق.

وقال مالك: يتخير بين القتل والاسترقاق والفداء، وإنما يجوز الفداء بالرجال دون المال.

لنا في قول الله تعالى: {فَإمَّا مَنًا بَعْدُ وإمَّا فِدَاءً} وكل واحد من الأمور الأربعة نقل عن فعل

(1) في غير (ت): (لا يجوز المن عليه ولا مفاداته).

ص: 340

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

النبي صلى الله عليه وسلم فقتل بدر بن أبي عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث وطعيمة بن عدي صبرًا، رواه الشافعي [أم 4/ 238] وغيره.

ووقع في (المهذب) المطعم بن عدي، وهو وهم؛ لأن المطعم مات قبل بدر.

وفي (الصحيحين)[خ 1846، م 1357]: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر يوم فتح مكة بقتل عبد العزى بن خطل).

وفي (أبي داوود)[2677] و (النسائي)[7/ 107 بنحوه]: (وأمر بقتل عكرمة بن أبي جهل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وامرأتين كانتا قينتين لمقيس بن صبابة).

ضبط الجوهري مقيس بن صبابة ب (الصاد)، فقال: مقيس بن صبابة بكير الميم، رجل من قريش قتله النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح.

و (من صلى الله عليه وسلم على جماعة؛ منهم: ثمامة بن أثال) رواه مسلم [1764] ، (وعلى أبي العاصي بن الربيع) رواه أبو داوود [2685].

و (من يوم بدر على أبي عزة الجمحي)(1) الشاعر، واسمه عمرو، وقع في الأسر ولم يكن معه مال، فقال: يا رسول الله؛ إني ذو عيلة، فأطلقه لبناته الخمس على أن لا يرجع إلى القتال، فرجع إلى مكة ومسح عارضيه، وقال: خدعت محمدًا مرتين، وجاء عام أحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(اللهم لا تقتله) قلم يقع في الأسر غيره، فقال: يا محمد؛ إني ذو عيلة فأطلقني، فقال صلى الله عليه وسلم:(لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)(2) وأمر بقتله، رواه الشافعي [أم 4/ 238] وابن ماجه [3982 ممختصرًا].

(1) البيهقي (9/ 65).

(2)

قي هامش (د): (قال الخطابي: يروى على النهي بالسكون وكسر الغين لالتقاء الساكنين، وعلى الخبر بالضم، وهو مثل ضرب، أي: لا يستعمل ويخدع مرة بعد أخرى في شيء واحد، وقيل: المراد به: أمر الآخرة دون الدنيا. "زركشي").

قال الحافظ في "الفتح"(10/ 530): (قال ابن يطال: وهذا الكلام مما لم يسلق إليه النبي صلى اللع عليه وسلم، وأول ما قاله لأبي عزة الجمحي. وصنيع أبي عبيد في طتاب "الأمثال: مشكل على قول ابن بطال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أول من قال ذلك،

ص: 341

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وروى مسلم منه [2998](لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين).

وأفاد أبو داوود الطيالسي في هذا الحديث [1813]: أن معناه: لا يعاقب العبد على ذنب في الدنيا ثم يعاقب عليه في الآخرة.

ويدل للمفادة بالأسرى: ما روى مسلم [1641] وأبو داوود [3300] والنسائي [سك 8538] عن عمران بن حصين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم فادى رجلًا أسره أصحابه برجلين أسرتهما ثقيف من أصحابه) ، وأخذ المال في فداء أسرى بدر مشهورٌ، رواه مسلم [1763] وألو داوود [2683] والنسائي والحاكم [2/ 329].

ويدل الاسترقاق: قوله تعالى: {حَتَّى إذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ} أي: بالاسترقاق.

وروى الشافعي [أم 4/ 238] وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استرق من بني قريظة وبني المصطلق وهوزان) ، وادعى القاضي أبو الطيب في هذا الإجماع.

وشمل إطلاق المصنف (الاسترقاق) كل الشخص، وفي جواز استرقاق بعضه وجهان: أصحهما: نعم.

قال البغوي: فإن منعناه وضرل الرق على بعضه .. رق كله.

قال الرافعي وكان يجوز أن يقال: لا يرق منه شيء.

ص: 342

فَإِنْ خَفِيَ الْأَحَظُّ حَبَسَهُمْ حَتَّى يَظْهَرَ، وَقِيلَ: لَا يُسْتَرَقُّ وَثَنِيٌّ، عَرَبِيٌّ فِي قَوْلٍ

ــ

وعلى الأول يقال: لنا صورة يسري فيه الرق كما يسري فيها العتق، وسيأتي في (باب النذر) حكم ما إذا نذر الإمام قتل كافر بعد الظفر به، وما اتفق للسلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى في ذلك.

قال: (فإن خفي الأحظ

حبسهم حتى يظهر)؛ لأنه راجع إلى الاجتهاد لا إلى التشهي كما تقدم، وجعله القاضي حسين خصلة خامسة، ولم يتابع عليه.

قال: (وقيل: لا يسترق وثي)، كما لا يجوز تقريره بالجزية، وإلى هذا ذهب الإصطخري.

والأصح: نعم؛ لما روى البيهقي [6/ 323] عن ابن عباس: أنه قال في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} : (إن ذلك كان يوم بدر وفي المسلمين قلة، فلما كثروا واشتد سلطانهم .. أنزل الله تعالى في الأسرى: فَإمَّا مَنًا بَعْدُ وإمَّا فِدَاءً، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالخيار فيهم: إن شاؤوا .. قتلوهم، وإن شاؤوا .. استعبدوهم، وإن شاؤوا .. فادوهم، ولم يفرق بين كافر وكافر).

قال: (وكذا عربي في قول) أي: قديم؛ لما روى الشافعي [أم4/ 271] في القديم بإسناد واه عن معاذ بن جبل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: (لو كان الاسترقاق جائزًا على العرب .. لكان اليوم، إنما هو إسار وفداء).

فعلى هذا: يكون الخيار بين ثلاثة أمور: القتل والمن والفداء، وكذلك على وجه الإصطخري في الوثني.

فروع:

للإمام قتل بعض، والمن على بعض، واسترقاق بعض، ومفاداة بعض على حسب ما يراه.

وإذا قتل مسلم الأسير قبل أن يختار الإمام فيه شيئًا .. عزره، فإن قتله بعد

ص: 343

وَلَوْ أَسْلَمَ أَسِيرٌ عَصَمَ دَمَهُ وَبَقِيَ الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي، -وَفِي قَوْلٍ: يَتَعَيَّنُ الرِّقُّ وَإِسْلَامُ كَافِرٍ قَبْلَ ظَفَرٍ بِهِ، يَعْصِمُ دَمَهُ وَمَالَهُ

ــ

الاسترقاق .. ضمن قيمته للغانمين، وإن قتله بعد المن ووصوله إلى مأمنه .. ضمن ديته لأهله، وإن كان قبل وصوله إليهم .. فلا شيء عليه وإن قتله بعد المفاداة.

قال: (ولو أسلم أسير .. عصم دمه)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا قالوها عصموا مني دماءهم).

قال: (وبقي الخيار في الباقي)؛ لأن المخير بين أشياء إذا سقط بعضها لعذر .. لا يسقط الخيار في الباقي، كما إذا سقط العتق في الكفارة لتعذره، لكن إنما تجوز المفاداة به إذا كان له عز وعشيرة يسلم بها دينه ونفسه.

قال: (وفي قول: يتعين الرق) أي: بنفس الإسلام؛ لأنه أسير محرم القتل، فيمتنع المن عليه والفداء كالنساء والصبيان، وهل يقوم بذل الأسير الجزية وطلب عقد الذمة مقام الإسلام في تحريم القتل؟ فيه قولان: أصحهما: نعم.

فعلى هذا: يبقى على خيرته فيما عدا القتل وجهًا واحدًا، قاله الماوردي.

وعلى هذا: في جواز استرقاقه وجهان:

أصحهما: الجواز.

والثاني: لا، ويتعين عقد الذمة له.

فرع:

لم قتل مسلم أو ذمي الأسير قبل أن يرى الأمام رأيه فيه .. عزز ولا قصاص ولا دية؛ لأنه لا أمان له وهو حر إلى أن يسترق.

قال: (وإسلام كافر قبل ظفر به يعصم دمه وماله)؛ لقوله تعالى {فَإن تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} والمراد: التزامهم أحكامنا، بدليل قوله في الآية الأخرى:{فَإخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} .

ص: 344

وَصِغَارَ وَلَدِهِ لَا زَوْجَتَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ،

ــ

وفي (الصحيحين) (فإذا قالوها

عصموا مني دماءهم وأموالهم)، ولسنا مأمورين بالشق عن قلبه.

ولا فرق بين أن يسلم وهو محصور وقد قرب الفتح وبين أن يسلم في حال أمنه. وعن أبي حنيفة: أن إسلامه بعد المحاصرة ودنو الفتح لا يعصم نفسه عن الاسترقاق، ولا ماله عن الاغتنام.

ولا فرق بين مال ومال.

وعن أبي حنيفة: يجوز فيما في يده الحسية من الأموال دون العقارات.

ولا فرق بين أن يكون في دار الإسلام أو دار الحرب.

وقال مالك: إن أسلم في دار الإسلام .. عصم ماله الذي معه في دار الإسلام دون ما معه في دار الحرب.

لنا: إطلاق الخبر السابق.

قال: (وصغار ولده)، فيحكم بإسلامهم تبعًا له؛ لما روى الشافعي [أم7/ 349] والبيهقي [9/ 114]:(أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة فأسلم ثعلبة وأسيد ابنا سعية، فعصم إسلامهما أموالهما وأولادهما الصغار).

والحمل كالمنفصل، فلا يسترق تبعًا لأمه، وهل يعصم إسلام الجد ولد ابنه الصغير؟ فيه أوجه: أصحها: نعم، والثاني: لا، والثالث: إن كان الأب ميتًا

عصم، وإلا .. فلا.

والمجنون من اولاده كالصغير، فلو كان بلغ عاقلًا ثم جن .. عصمه أيضًا على الصحيح.

وفي المرأة قول شاذ: إن إسلامها لا يعصم أولادها الصغار، قال الرافعي: فإن صح .. فيشبه أنها لا تستتبع الولد في الإسلام.

قال: (لا زوجته على المذهب)، فلا يصونها من الاسترقاق ولو كانت حاملًا. ولابد من تقيد صغار ولده بالأحرار، والذي قاله المصنف هو المنصوص هنا،

ص: 345

فَإِنْ اسْتُرِقَّتْ .. انْقَطَعَ نِكَاحُهُ فِي الحَالِ، وَقِيلَ: إنْ كَانَ أَسْرُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ .. انْتَظَرَتْ الْعِدَّةَ، فَلَعَلَّهَا تَعْتِقُ فِيهَا .....

ــ

ونص على أن المسلم إذا أعتق كافرًا فالتحق بدار الحرب .. لا يرق كما سيأتي، وقيل: فيهما قولان، والمذهب: تقريرهما.

والفرق: أن الولاء ألزم من النكاح؛ لأن النكاح يقبل الرفع، بخلاف الولاء، ويجري الخلاف في زوجة المسلم الحربية كما سيأتي في كلام المصنف، وكذا زوجة الحربي إذا أسلم وتخلفت كما قاله في (الكفاية).

قال: (فإن استرقت

انقطع نكاحه في الحال)، سواء قبل الدخول أو بعده؛ لأنه زال ملكها عن نفسها، فلأن تزول العصمة بينها وبين الزوج أولى؛ لأنها صارت أمة كتابية، وهي لا تنكح هذا إذا قلنا: تسترق، ولذلك أتى بـ (الفاء)، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سبى أو طاس وبني المصطلق الرجال والنساء، فقسم السبي وأمر أن لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض، ولم يسأل عن ذات زوج ولا غيرها، ومعلوم أنه كان فيهم من لها زوج

قال: (وقيل: إن كان) أي: الاسترقاق (بعد الدخول .. انتظرت العدة فلعلها تعتق فيها) فيدوم النكاح، كما لو ارتدت بعد الدخول.

وعلى هذا: إن عتقت وأسلمت قبل انقضاء العدة .. استمر النكاح، وكذا إن عتقت ولم تسلم؛ لأن إمساك الحرة الكتابية للنكاح جائز، فلو أسلمت حامل تحت حربي

لم تسترق هي ولا ولدها؛ لأنهما مسلمان.

فائدة:

معنى (لعل) الترجي، ولا يترجى بها إلا ما هو مشكوك فيه، فلا تقول: لعل الميت يعود، ولكن: لعل المسافر يؤوب، وفيها عشر لغات: لعل، وعل

ص: 346

وَيَجُوزُ إرْقَاقُ زَوْجَةِ ذِمِّيٍّ، وَكَذَا عَتِيقُهُ فِيالْأَصَحِّ، لَا عَتِيقٍ مُسْلِمٍ وَزَوْجَتِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَإِذَا سُبِيَ الزَوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا .. انْفَسَخَ النِّكَاحُ إنْ كَانَا حُرَّيْنِ،

ــ

ولعنَّ، ورعنَّ، ورغنَّ، وعنَّ، ولأن، وأنَّ، ولغنَّ - باللام والغين المعجمة والنون- ولعلت، بزيادة التاء في آخرها.

قال: (ويجوز إرقاق زوجة ذمي) أي: إذا كانت حربية وينقطع به نكاحه؛ لأن محل الرق الرقبة وهي فارغة عن استحقاق الذمي؛ فإن حقه المنفعة.

فإن قيل: كلام الأصحاب هنا مخالف لقولهم: إن الحربي إذا بذل الجزية عصم نفسه وزوجته من الاسترقاق .. قلنا: المراد هناك: الزوجة الموجودة حين العقد فيتناولها العقد على جهة التبعية، والمراد هنا: الزوجة المتجددة بعد العقد؛ فإن العقد لم يتناولها، أو يحمل الأول على ما إذا كانت زوجته داخلة تحت القدرة حين عقد الذمة، والثاني على ما إذا لم تكن كذلك.

قال: (وكذا عتيقه في الأصح)؛ لأن الذمي لو نقض العهد والتحق بدار الحرب .. استرق، فعتيقه أولى.

والثاني: لا يسترق؛ لأن مال الذمي معصوم عن الاغتنام، والوجهان مفرعان على المنع في عتيق المسلم، فإن جوزناه .. فهنا أولى.

قال: (لا عتيق مسلم وزوجته على المذهب) المراد: إذا أعتق المسلم كافرًا فالتحق بدار الحرب؛ لأن الولاء بعد ثبوته لا يرتفع.

وأشار بقوله: (وزوجته) إلى أن المسلم إذا تزوج حربية في دار الحرب فسبيت .. ففي جواز استرقاقها طريقان: أظهرهما: المنع.

والفرق بينه وبين الذمي: أن المسلم يتحيل الأمان في نكاحه ولا أمان في الذمي، والذي رجحه المصنف في هذه الصورة تبع فيه (المحرر)، وكلام (الروضة) و (الشرحين) يقتضي: الجواز.

قال: (وإذا سبي الزوجان أو أحدهما .. انفسخ النكاح إن كانا حرين)، سواء كانا صغيرين أو كبيرين، وسواء كان ذلك قبل الدخول أم بعده؛ لأن الرق إذا حدث يزيل ملكها عن نفسها، فلأن تزول العصمة بينها وبين الزوج من باب أولى، ولأن

ص: 347

قِيلَ: أَوْ رَقِيقَيْنِ. وإِذَا أُرِقَّ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ

لَمْ يَسْقُطْ فَيُقْضَى مِنْ مَالِهِ إنْ غَنِمَ بَعْدَ إرْقَاقِهِ،

ــ

المسلمين امتنعوا يوم أوطاس من وطء المسبيات؛ لأن لهن أزواجًا، فأنزل الله تعالى:{والْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء} ِ أي: المتزوجات {إلَاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} رواه مسلم، فحرم المتزوجات إلا المملوكات، فدل على ارتفاع النكاح، وإلا .. لما حللن؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال:(ألا لا توطأ حامل حتى تضع) ولم يفصل بين متزوجة وغيرها.

وقال أبو حنيفة: لا ينفسخ النكاح إذا سبي الزوج وحده.

وقال: (قيل: أو رقيقين)؛ لحدوث السبي، ولإطلاق الحديث، وكما لو سبيت أم ولد؛ فإنها تصير قنة.

والأصح: لا ينقطع؛ لأنه لم يحدث رق، بل انتقال من شخص إلى شخص كالمبيع وغيره.

قال: (وإذا أرق) أي: الحربي (وعليه دين

لم يسقط)؛ لأن شغل الذمة قد حصل ولم يوجد ما يقتضي الإسقاط.

هذا إذا كان لمسلم وكذا لذمي على الأصح، وإن كان لحربي .. فالظاهر: سقوطه، وفيه احتمالان للإمام.

فلو كان للمسلم الذي سباه .. ففي سقوطه الوجهان فيما إذا كان له على عبد غيره دين فملكه .. هل يسقط؟ وهذا ظاهر في قدر حصته، أما الخمس .. فلا يملكه، فينبغي أن لا يسقط مقابلة قطعًا.

ولو كان الدين لبعض الغانمين .. فيظهر أن يقال: أن وقع في حصته

فعلى الوجهين، وإن وقع في حصة غيره

لم يسقط قطعًا.

قال: (فيقضي من ماله إن غنم بعد إرقاقه)، ويكون الدين مقدمًا على الغنيمة كما يقدم على الوصية وإن زال ملكه بالرق، كما أن الدين الذي على المرتد يقضي من ماله وإن حكمنا بزوال ملكه، ولأن الرق مالموت والحجر وكلاهما يعلق الدين بالمال.

فإن غنم المال قبل استرقاقه .. ملكه الغانمون ولا يقضي منه الدين، كما لو انتقل

ص: 348

وَلَوْ اقْتَرَضَ حَرْبِيٌّ مِنْ حَرْبِيٍّ أَوْ اشْتَرَى مِنْهُ ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ قَبِلَا جِزْيَةً .. دَامَ الْحَقُّ، وَلَوْ أُتْلِفَ عَلَيْهِ فَأَسْلَمَا .. فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَصَحِّ

ــ

ملكه بوجه آخر، وإن غنم مع استرقاقه .. فوجهان:

أحدهما: يقدم الدين كما في التركة.

وأصحهما: تقدم الغنيمة؛ لتعلقها بالعين، كما يقدم حق المجني عليه على حق المرتهن، وليس من المعية أن يقع الاغتنام مع الأسر؛ لأن المال يملك بنفس الأخذ والرق لا يحصل بنفس الأسر في الرجال الكاملين، ولكن يظهر ذلك في النسوة وفيما إذا وقع الاغتنام مع إرقاق الإمام بعد الأسر، وإذا لم يوجد مال يقضي منه الدين .. فهو في ذمته إلى أن يعتق.

وإن كان المسبي مستأجرًا لمسلم .. لم تنفسخ الإجازة على الأصح، وإن كان مستأجرًا لحربي اتفسخت. وإن كان مستأجرًا لذمي .. فوجهان.

وفي حلول الدين المؤجل بالرق وجهان مرتبان على الخلاف في الحلول بالفلس، وأولى بالحلول؛ لأنه يشبه الموت من حيث إنه يزيل الملك ويقطع النكاح.

قال: (ولو اقترض حربي من حربي أو اشترى منه ثم أسلما أ، قبلا جزية) أي: معًا أو مرتبًا، وكذا إن قبلا أمانًا على الصحيح.

قال: (.. دام الحق)، كما إذا أسلم الزوجان قبل قبض المهر الصحيح دون الخمر والخنزير.

ولو سبق المقترض إلى الإسلام أو الأمان .. فالنص: أن الدين مستمر، كما لو أسلما.

قال: (ولو أتلف عليه) أي: ألف حربي على حربي شيئًا (فأسلما) وكذا لو غصب منه (.. فلا ضمان في الأصح)؛ لأنه لم يلتزم شيئًا، والإسلام يجب ما قبله، والإتلاف ليس عقدًا يستدام، ولأن الحربي إذا قهر حربيًا على مالع ملكه، والإتلاف نوع من القهر، ولأن إتلاف مال الحربي لا يزيد على إتلاف مال المسلم، وهو لا يوجب الضمان على الحربي.

والثاني: يجب الضمان؛ لأنه لازم لديهم فكأنهم تراضوا عليه.

ص: 349

وَالْمَالُ الْمَاخُوذُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ قَهْرًا غَنِيمَةً، وَكَذَا مَا أَخَذَهُ وَاحِدٌ أَوْ جَمْعٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ سَرِقَةً، أَوْ وُجِدَ كَهَيْئَةِ اللُّقَطَةِ فِي الأَصَحْ،

ــ

تنبيه:

تخصيص المتلف بكونه لحربي وكذا إسلامهما ليس شرطًا في عدم الضمان، بل لو أتلف الحربي على مسلم مالًا أو غصبه منه أو أسلم المتلف فقط .. لا ضمان أيضًا.

ولو قهر بعض أهل الحرب بعضًا

ملك القاهر المقهور، حتى لو قهر العبد سيده

عتق وصار السيد رقيقًا له، قاله القاضي أبو الطيب والإمام.

قال: (والمال المأخوذ من أهل الحرب قهرًا غنيمة)؛ لما تقدم في بابه، وإنما أعاده لضرورة التقسيم.

قال: (وكذا ما أخذه واحد أو جمع من دار الحرب سرقة، أو وجد كهيئة اللقطة في الأصح) اشتمل كلامه على مسألتين:

الأولى: ما أخذ من دار الحرب سرقة، والأصح عند الأكثرين: أنه غنيمة؛ لأن دخوله دار الحرب والتغرير بالنفس يقوم مقام القتال.

والثاني: أنه لمن أخذه خاصة؛ لأنه ليس مأخوذا بقوة الجند ولا بقوة الإسلام حتى يكون فيئًا ولا بالقتال حتى يكون غنيمة، وجزم به الرافعي في (باب زكاة المعدن)، والإمام هنا، وادعى الاتفاق عليه، والفوراني والغزالي.

ويوافقه ما ذكره البغوي وغيره: أن الرجل إذا دخل دار الحرب وأخذ منهم شيئًا على وجه السوم ثم جحده أو هرب به .. فهو له خاصة.

كل هذا إذا لم يؤمنوه، فإن أمنوه .. فالأصح: أنه لا يملكه، وعليه رده إلى صاحبه، ويجبر عليه إذا طلبه.

والثالث: أنه فيء، والتقييد بدار الحرب جرى فيه على الغالب؛ فإنه لا فرق بين دار الحرب وغيرها، فإنهم لو دخلوا دارنا فسرق منهم شيء

كان حكمه كما لو سرق في دار الحرب، وإليه أشار في (التهذيب)

ص: 350

فَإِنْ أَمْكَنَ كَوْنُهُ لِمُسْلِمٍ

وَجَبَ تَعْرِيفُهُ. وَلِلْغَانِمِينَ التَّبَسُّطُ فِي الْغَنِيمَةِ بِأَخْذِ الْقُوتِ وَمَا يَصْلُحُ بِهِ

ــ

المسألة الثانية: الذي يؤخذ على هيئة اللقطة .. الأصح- الذي أجاب به عامة الأصحاب-: انه غنيمة؛ لما تقدم.

والثاني- وبه قال الإمام والغزالي-: أنه لآخذه، وهو منهما بناء على قولهما: إن المسروق والمختلس يكونان لأحدهما، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في (باب اللقطة).

قال: (فإن أمكن كونه لمسلم)؛ بأن كان هناك مسلمون (.. وجب تعريفه)؛ لعموم أمره صلى الله عليه وسلم بتعريف اللقطة واحتمال كونها لحربي لا يمنع من ذلك، وبعد التعريف يعود الخلاف المذكور في أنه غنيمة أو للآخذ، ولم يصحح الشيخان شيئًا في قدر مدة التعريف.

وقال أبو حامد: يعرف يومًا أو يومين وعن بعضهم ثلاثة أيام.

وقال الإمام: يكفي أن يبلغ الخبر إلى الأجناد الذين هناك.

والذي نص عليه في (الأم) أنه يعرفه بين المسلمين الذين هناك، فإذا لم يعرفوه

رد في المغنم، وهو موافق لمقالة الإمام، وفي (المهذب) و (التهذيب) يعرف سنة كغيره.

قال: (وللغانمين التبسط في الغنيمة بأخذ القوت وما يصلح به) كالزيت والسمن؛ لما روى البخاري [3154] عن ابن عمر قال: (كنا نصيب في المغازي العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه).

و (في أبي داوود)[2694] عنه: (أن جيشًا غنموا طعامًا وعسلًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يؤخذ منهم الخمس) يعني: مما تناولوه.

والمعنى فيه: الحاجة الداعية إليه، فإن الطعام يعز في دار الحرب؛ فإنهم لا يبيعون منهم ويخبؤون أطعمتهم عنهم، فجعلها الشارع على الإباحة،

ص: 351

لَحْمٌ وَشَحْمٌ وَكُلُّ طَعَامٍ يُعْتَادُ أَكْلُهُ عُمُومًا،

ــ

ولأنه قد يفسد وقد يتعذر نقله، أو تتجاوز مؤنة النقل ثمنه، ومحل ذلك قبل القسمة كما ذكره في (المحرر).

ونبه بذكر (القوت) على أنه لا يجوز أخذ ما فوق حاجته، فلو أخذ فوق حاجته

فعن النص: أنه يؤدي إلى المغنم، ولو أضاف به غيره من الغانمين .. فلا بأس، أو غير الغانمين

فكما لو أضافه لمغصوب، وقد تقدم.

وأفهم: أنه لا يجوز أخذ شيء من الأموال للانتفاع بها كلبس وركوب، فإن فعل .. لزمته الأجرة كما تلزمه القيمة إذا أتلف عينًا؛ لما روى أحمد [4/ 108] وأبو داوود [2152] وابن حبان [4850] عن رويفع بن ثابت الأنصاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر .. فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها .. ردها إليه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر .. فلا يلبس ثوبًا من فيء المسلمين إذا أخلقه

رده إليه).

أما إذا احتاج إليه لبرد وغيره

فقال الماوردي: يستأذن الإمام ويحسب عليه من سهمه، ويجوز أن يأذن له في لبسه بالأجرة للحاجة ثم يرده، ولا يجوز أن يستعمل السلاح إلا أن يضطر إليه في القتال ثم يرده إلى المغنم.

قال: (ولحم وشحم وكل طعام يعتاد أكله عمومًا)، سواء أذن الإمام في ذلك أم لا؛ لما روى أبو داوود [2697] والحاكم [2/ 126] عن عبد الله بن أبي أوفى قال:(أصبنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر طعامًا، فكان كل واحد منا يأخذ منه قدر كفايته).

قال الرافعي: وفي رواية عنه: (كنا نأخذ من طعام المغنم ما شئنا).

والمراد بـ (الشحم) الذي يؤكل، فإن كان لدهن الدواب أو تصلب حوافرها .. فلا في الأصح المنصوص.

قال الرافعي: وعلى الجواز ينبغي أن يجوز الادهان بها.

ص: 352

وَعَلَفُ الدَّوَابِّ تِبْنًا وَشَعِيرًا وَنَحْوَهُمَا، وَذَبْحُ مَاكُولٍ لِلَحْمِهِ

ــ

وقوله: (عمومًا) احترز به عن نحو الفانيد والسكر والأدوية التي تندر الحاجة إليها، فالأصح فيها: المنع؛ لندرة الحاجة، فمن احتاج إليها .... أخذ بقدر حاجته بقيمته.

قال الرافعي: وينبغي مراجعة الأمير فيه، واعتبره في (الشرح الصغير).

فرع:

باع غانم ما أخذه لغانم آخر

فهو إبدال مباح بمباح كإبدال الضيفان لقمة بلقمة، وكل واحد منهما أولى بما صار إليه، ولو تبايعا صاعًا بصاعين .. لم يكن ذلك ربًا؛ لأنه ليس بمعاوضة محققة، واعترضه في (المهمات) بما فيه نظر.

قال: (وعلف الدواب تبنًا وشعيرًا ونحوهما)؛ للحاجة إلى ذلك، فأشبها قوته.

والمراد: الدواب التي لا يستغني عنها في الحرب، كفرسه والبهيمة التي تحمل سلاحه وماءه؛ لأن أمير جيس لعمر كتب إليه يستأذنه في طعام بلد دخلوه، فكتب إليه: أن يأكلوا ويعلفوا دوابهم ولا يبيعوا.

وقيل: لا يأخذ إلا علف واحدة، ولو كان معه دابة أخرى يستظهر بها لركوبة أو لحمولته

فله علفها في الأصح، وأما البزاة والفهود والنمور

فلا يجوز إطعامها. و (العلف) هنا بفتح اللام.

قال: (وذبح مأكول للحمه)؛ لأنه مأكول عادة فكان كتناول الأطعمة، وسواء في ذلك الغنم وغيرها، وأشار الإمام إلى تخصيصه بالغنم، وصرح به الغزالي؛ لأن الأغنام كالأطعمة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في ضالتها:(هي لك أو لأخيك أو للذئب).

وقيل: لا يجوز الذبح؛ لندور الحاجة، فإن اضطر

جاز قولًا واحدًا.

ونبه بقوله: (للحمه) على أنه يجب رد جلد المذبوح إلى المغنم إلا ما يؤكل مع اللحم، ولا يجوز أن يتخذ من الجلد سقاء ولا حذاء ولا شراكًا، فإن فعل

وجب

ص: 353

والصحيح: جواز الفاكهة، وأنه لا تجب قيمة المذبوح، وأنه لا يختص الجواز بمحتاج إلى طعام وَعَلَفٍ،

ــ

رد المصنوع لذلك، زلا شيء له إن زادت قيمته بالصنعة، فإن نقص

لزمه أرشه، وإن استعمله ..... لزمته أجرته.

قال: (والصحيح: جواز الفاكهة) رطبًا ويابسًا؛ لحديث ابن عمر المتقدم الذي ذكر فيه العنب.

والثاني: لا؛ لعدم الحاجة إليها.

قال الإمام: ويمكن الفرق بين ما يتسارع إليه الفساد ويشق نقله وبين غيره، والجمهور لم يفرقوا.

قال صاحب (المهذب) وتباح الحلوى كالفواكه.

قال: (وأنه لا تجب قيمة المذبوح) كما لاتجب قيمة الطعام المأخوذ للأكل، وأشار الغزالي إلى القطع به إذا تعذر سوقه.

والثاني: تجب القيمة لبقية الغانمين وأهل الخمس؛ لأن الأخبار التي وردت إنما هي في الطعام، والحيوان ليس بطعام، ولهذا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلًا كما تقدم.

وفائدة إباحة الذبح مع التضمين: نفي الإثم، وعدم ضمان ما نقص بالذبح، وأنه يضمن قيمة اللحم خاصة، وذلك دون قيمة الحيوان.

قال: (وأنه لا يختص الجواز بمحتاج إلى طعام وعلف)؛ لإطلاق الأحاديث والآثار الواردة في الباب، فصار كالماء المباح يستوي فيه الغني والفقير.

لكن نقل الإمام عن المحققين فيما إذا قل الطعام وازدحموا عليه: أن الإمام يضع يده عليه: ويقسمه على ذوي الحاجات، ويقول لمن معه ما يكفيه: اكتفي بما معك ولا تزاحم ذوي الحاجات.

والثاني: يختص بالمحتاج؛ لاستغناء غيره عن أخذ حق الغير.

قال البغوي: ولهم التزود لقطع مسافة بين أيديهم، والذي يأخذه لا يملكه

ص: 354

وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِمَنْ لَحِقَ الْجَيْشَ بَعْدَ الْحَرْبِ وَالحِيَازَةِ، وَأَنَّ مَنْ رَجَعَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَمَعَهُ بَقِيَّةٌ .. لَزِمَهُ رَدُّهَا إلَى الْمَغْنَمِ

ــ

بالأخذ، لكنه كالضيف أبيح له الأخذ للأكل، وفي (الحاوي الصغير) أنه يملكه، ولا يعرف لغيره.

قال: (وأنه لا يجوز ذلك لمن لحق الجيش بعد الحرب والحيازة)؛ لأنه أجنبي عنهم، كغير الضيف مع الضيف.

والثاني: الجواز؛ للحاجة لحضور دار الحرب التي هي مظنة عزة الطعام.

وعبارة (الكتاب) و (المحرر) و (الروضة) تفهم جواز التبسط قبل الحيازة، فيحتاج إلى الفرق بينه وبين الغنيمة.

وعطف المسألة على التي قبلها يقتضي ضعف الخلاف، وهو خلاف ما في (الروضة).

قال: (وأن من رجع إلى دار الإسلام ومعه بقية .. لزمه ردها إلى المغنم)؛ لزوال الحاجة، ولتعلق حق الجميع بها.

والثاني: لا؛ لإباحة الأخذ.

والثالث- وبه قالمالك وأحمد-: إن كان قليلًا لا يبالي به ككسر الخبز وبقية التبن في المخالي .. لا يرد، وإلا .. فيرد.

وقال أبو حنيفة: إن قسمت الغنيمة .. باعه وتصدق بثمنه، وإلا .. رده إلى المغنم.

والوصول إلى دار يسكنها أهل الذمة أو العهد وهي في قبضتنا كدار الإسلام كما قاله في (الكفاية)؛ لأن الرافعي جعلها كذلك في منع التبسط فيها.

ومحل ما ذكره المصنف: ما إذا كان قبل القسمة، فإن كان بعدها وأمكن افرقته كما فرقت الغنيمة .. فرق، وإن لم يمكن لقلته أو لتفرق الغانمين

فعن الصيدلاني: جعله في المصالح، وخطأه الإمام، وقال: إخراج الخمس منه ممكن، وإنما هذا في الأربعة الأخماس.

ص: 355

وَمَوْضِعُ التَّبَسُّطِ دَارُهُمْ، وَكَذَا مَا لَمْ يَصِلْ عُمْرَانُ الْإِسْلَامِ فِي الْأَصَحِّ. وَلِغَانِمٍ رَشِيدٍ وَلَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِفَلَسِ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ القِسْمَةٍ،

ــ

ثم عطف المسألة على ما قبلها يقتضي: أن الخلاف أوجه، وهو في (الروضة) أقوال.

و (المغنم) الموضع الذي تجتمع فيه أموال الغنيمة.

قال: (وموضع التبسط دارهم)؛ لأنها موضع العزة، فإن انتهوا إلى عمران دار الإسلام وتمكنوا من الشراء

فإنه لا يجوز التبسط قطعًا.

قال: (وكذا ما لم يصل عمران الإسلام في الأصح)؛ لبقاء الحاجة إليه.

وروى ابن أبي شيبة [7/ 684] عن ابن عباس: أنه لم ير بأسًا أن يأكل الرجل الطعام في دار الشرك حتى يرحل منه.

والثاني: المنع؛ لأن مظنة الحاجة دار الحرب فيناط الحكم بها.

فعلى الأصح: لو وجدوا في دار الحرب سوقًا وتمكنوا من الشراء .. ففي جواز التبسط وجهان؛ لانعكاس التوجيهين، وقطع الإمام بالجواز فيها، وقال: لم أر أحدًا منعه بهذا السبب، وجعل دار الحرب مظنة الحاجة كما أن السفر مظنة المشقة، فيجوز الترخص وإن عدمت في وقت.

قال ابن الرفعة: وينبغي أن يكون الخلاف هنا مرتبًا على الخلاف فيمن ملك قدر كفايته، وأولى بالجواز.

والمراد بـ (عمران الإسلام) ما يجدون فيه حاجتهم من الطعام والعلف كما هو الغالب، فلو لم يجدوا فيها ذلك .. فلا أثر له في منع التبسط في الأصح.

قال: (ولغانم رشيد ولو محجور عليه بفلس اإعراض عن الغنيمة قبل القسمة)؛ لأن الغرض الأعظم من الجهاد إعلاء كلمة الله تعالى والذب عن الملة، والغنائم تابعة، فمن أعرض عنها .. فقد جرد قصده للغرض الأعظم.

وصورة الإعراض: أن يقول: أسقطت حقي من الغنيمة.

فإن قال: رهبت نصيبي منها للغانمين وأراد التمليك .. فأقوى الوجهين في

ص: 356

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

(الشرح) و (الروضة) المنع؛ لأنه مجهول.

وجعلوا المحجور عليه بالفلس كغيره؛ لمعنى الإخلاص، ولأن اختيار التملك كابتداء الاكتساب وهو لا يجب عليه، وأيضًا الغنيمة لا تملك قبل القسمة كما سيأتي، وإنما ملك أن يتملك كالشفعة فيسقط نصيبه بالإعراض.

وتقييد (الغانم) بكونه رشيدًا ليس في (المحرر)، ولابد منه؛ فلا يصح إعراض الصبي والمجنون.

وقوله: (بفلس) خرج به المحجور عليه بسفه كما أظهر احتمالي الإمام، ورجح في (المهمات) جواز إعراضه، لكن لو رشد الصبي أو المحجور عليه بسفه قبل القسمة .. صح إعراضه.

وبقي من الشروط: أن يكون حرًا، فلا يصح إعراض العبد ويصح إعراض سيده؛ لأن الحق له، وكذا وارث من مات من غير إعراض، بخلاف ولي الصبي والمجنون، وإن قلنا: لا ملك للصبي وإنما له حق التملك بخلاف حق الشفعة

فإن للولي إسقاطه إذا رأي المصلحة فيه.

وكان ينبغي للمصنف أن يقول: (قبل القسمة وقبل قوله: اخترت القسمة)؛ فإن ذلم يمنع من الإعراض كما هو أشبه الوجهين.

وأما إذا قسم الإمام قسمة بحكم؛ بأن خص بعضهم ببعض الأنواع والأعيان أو أفرز لكل طائفة شيئًا أو لكل واحد نصيبًا

فالأصح: جواز الإعراض قبل الاختيار أيضًا؛ بناء على عدم الملك بذلك؛ إذ لابد مناختيار التملك كما صححه الرافعي، لكن نص الشافعي وجماعة على أنهم يملكون بإفراز الإمام مع قبضهم له، وكذا مع حضورهم.

وسكت الأصحاب عما لو رجع بعد إعراضه، ويشبه أن له ذلك قبل القسمة لا بعدها، ويصير إعراضه كالهبة والقسمة كالقبض، وهذا كما لو أعرض عن كسر الخبز والسنابل ونحوها؛ فإن له تملكها قبل أن يأخذها غيره.

ص: 357

وَالْأَصَحُّ جَوَازُهُ بَعْدَ فَرْزِ الْخُمُسِ وَجَوَازِهِ لِجَمِيعِهِمْ، وَبُطْلَانُهُ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى وَسَالِب،

ــ

قال: (والأصح: جوازه) أي: الإعراض (بعد فرز الخمس) أي: وبعد إفراز ما يخرج من رأس مال الغنيمة؛ لأن إفراز الخمس لا يتعين به حق كل واحد من الغانمين، بل كل واحد على ما كان عليه وإن تميز به حقهم عن الجهات العامة.

والثاني: لا يجوز؛ لأن بالإفراز يصير الباقي لهم كسائر الأموال المشتركة.

ولا فرق في جريان الخلاف بين أن يطلب الغانمون القسمة من الإمام أو يقسم بنفسه، وخصه الإمام بحالة طلب القسمة.

قال: (وجوازه لجميعهم)؛ لأن المعنى الذي لأجله صح إعراض الواحد موجود في الجميع، وحينئذ تصرف الأخماس الأربعة إلى مصارف الخمس.

والثاني: لا يجوز؛ لأنه يلزم منه صرف حقوقهم إلى مصارف الخمس، وليس لتلك المصارف إلا الخمس للآية فلا يبقى مصرف.

قال: (وبطلانه من ذوي القربى)؛ لأنهم يستحقون سهمهم بلا عمل، وهو منحة من الله من غير تعب وشهود وقعة، فأشبه الإرث.

والثاني: يصح كإعراض الغانمين، ومال إليه ابن الرفعة.

والوجهان فيما إذا أعرضوا كلهم، فإن أعرض بعضهم

فينبغي أن يكون الحكم كذلك، بخلاف إعراض بعض الغانمين؛ فإنه يصح قطعًا.

ومقتضى كلام (الحاوي الصغير) أنه يصح إعراض بعض ذوي القربى، وليس كذلك.

وإنما خص ذوي القربى بالذكر دون بقية أهل الخمس كاليتامى؛ لأنها جهات عامة لا يفرض فيها إعراض كالفقراء والصدقات.

قال: (وسالب)؛ لأن السلب متعين له كالإرث.

وقيل: يصح كإعراض بقية الغانمين، ولأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قتل عمرو بن عبد ود فقال له عمر: (هلا استلبته درعه؛ فإنه ليس للعرب درع خير

ص: 358

وَالْمُعْرِضُ كَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ، وَمَنْ مَاتَ

فَحَقُّهُ لِوَارِثِهِ، وَلَا تُمْلَكُ إلَّا بِقِسْمَةٍ، وَلَهُمْ التَّمَلُّكْ، وَقِيلَ: يَمْلِكُونَ، وَقِيلَ إنْ سَلِمَتْ إلَى الْقِسْمَةِ .. بَانَ مِلْكُهُمْ، وَإِلَّا

فَلَا، وَيُمْلَكُ الْعَقَارُ بِالِاسْتِيلَاءِ كَالْمَنْقُولِ

،

ــ

منها؟)، فقال:(إني لما ضربته .. اتقاني بسوءته؛ فلم أسلبه).

قال: (والمعرض كمن لم يحضر)، فيضم نصيبه إلى المغنم ويقسم أخماسًا.

وقيل: يرجع إلى أهل الخمس خاصة؛ لأن الغنائم في الأصل لله تعالى، قال تعالى: قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ، فمن أعرض .... رجعت حصته إلى أصلها.

قال: (ومن مات

فحقه لوارثه)؛ لأنه حق ثبت للمورث فينتقل للوارث كغيره من الحقوق، ولا يخفي أن المراد: إذا لم يعرض؛ لأن المعرض لا حق له.

قال: (ولا تملك) أي: الغنيمة (إلا بقسمة)؛ لأنهم لو ملكوا بالاستيلاء ..... لم يصح إعراضهم كالمحتطب ونحوه، ولأنها لو تأخرت حولًا .... لم تجب الزكاة.

قال: (ولهم التملك) أي: بين الحيازة والقسمة. وليس المراد: تجويز التملك قبل القسمة باختيارهم، بل المراد: أن لهم حق التملك شرعًا وإن لم يتمكلوا.

قال: (وقيل: يملكون) أي: بانقضاء الحرب وحيازة المال؛ لأنه قبل الحيازة معرض للاسترداد فلم يكمل الاستيلاء والحيازة.

و (الحوز) الجمع والضم.

قال: (وقيل: إن سلمت إلى القسمة

بان ملكهم، وإلا .... فلا)، فعلى هذا: الملك موقوف؛ لأن قصد الاستيلاء على المال لا يتحقق إلا بالقسمة، فإذا اقتسموا

تبينا قصد التملك بالاستيلاء فتبين حصول الملك.

قال: (ويملك العقار بالاستيلاء كالمنقول)، فيختص الغانمون به كاختصاصهم بالمنقول المملوك بجامع المالية.

وعن أبي حنيفة: يتخير الإمام فيها بين أن يقسمها بين الغانمين وبين أن يقفها على المسلمين كما فعل عمر.

وحجتنا عليه: القياس على المنقول بجامع المالية، ولعموم قوله تعالى:

ص: 359

وَلَوْ كَانَ فِيهَا كَلْبٌ أَوْ كِلَابٌ تَنْفَعُ وَأَرَادَهُ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يُنَازَعْ .... أُعْطِيَهُ، وَإِلَّا .... أُعْطِيَهُ، وَإِلَّا إنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا

أُقْرِعَ

ــ

{واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ} ؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم قسم خيبر بين الغانمين، وهذا مراد المصنف بالتشبيه، وإلا

فقد سبق أن المنقول لا يملك إلا بالقسمة. ولم يذكر في (الروضة) هذا التشبيه.

ومراده بـ (العقار) العامر، أما الموات

فلا يملك بالاستيلاء كما صرحوا به في باب (إحياء الموات)؛ لأن الكفار لم يملكوه، فكيف يتملك عنهم؟! وبه صرح الجرجاني في (التحرير) في (باب الغنيمة).

ومراد المصنف: أنه يختص به الغانمون كاختصاصهم بالمنقول بجامع المالية، وليس المراد: أنه يملك بمجرد الاستيلاء؛ فإن في ملكهم العقار الأوجه الثلاثة السابقة.

قال: (ولو كان فيها كلب أو كلاب تنفع وأراده بعضهم) أي: بعض الغانمين أو بعض أهل الخمس (ولم ينازع .. أعطيه)؛ إذ لا ضرر في ذلك على غيره.

قال: (وإلا) أي: وإن نوزع (.. قسمت إن أمكن)؛ وذلك بأن توجد عدة كلاب وأمكن قسمتها عددًا.

وذكروا في (الوصية) اعتبار قيمتها عند من يراها واعتبار منافعها، فيمكن القول به هنا.

قال: (وإلا .. أقرع)؛ لأن القرعة تقطع المنازعة.

وصرح الجرجاني بأن الكلب لا يدخل في القسمة، غير أنه لا مناسبة لذكر هذه المسألة هنا، وهي في (المحرر) قبل (فصل نساء الكفار وصبيانهم) عقب ذكر إتلاف الحيوان، وهو مناسب.

والمراد بـ (النفع) الاصطياد وحراسة الزرع أو الماشية، وكذا حراسة الدور على الأصح.

ص: 360

وَالصَّحِيحُ أَنْ سَوَادَ الْعِرَاقِ فُتِحَ عَنْوَةً وَقُسِّمَ ثُمَّ بَذَلُوهُ وَوُقِفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ،

ــ

قال: (والصحيح: أن سواد العراق فتح عنوة وقسم) روى أبو عبيد في كتاب (الأموال) بإسناد صحيح: أن سواد العراق فتحه عمر، وحكى الشيخ أبو حامد فيه الإجماع.

وإنما اختلفوا في كيفية فتحه:

فقال الجمهور: فتح عنوة؛ إذ لو كان صلحًا لم يقسم.

وقيل: فتح صلحًا، وأنه رده عليهم بخراج يؤدونه كل سنة.

وقيل: بعضه كذا، وبعضه كذا.

وقيل: بالوقف، وهو رأي أبي الطيب بن سلمة؛ فإنه قال: لا أدري كيف كان. وتعبير المصنف بـ (الأصح) يقتضي: أن يكون الخلاف وجهين، وحكاهما الماوردي قولين منصوصين.

وإضافة (السواد) إلى (العراق) من باب إضافة الجنس إلى بعضه؛ فإن السواد أزيد من العراق بخمسة وثلاثين فرسخًا كما قاله الماوردي.

سمي سوادًا؛ لأنهم خرجوا من البادية فرأوا خضرة الزرع بين الأشجار الملتفة فقالوا: ما هذا السواد؟

وقيل: سمي بذلك؛ لكثرة ما حكي من سواد القوم.

وقيل: لعدم طلوع الشمس فيه على الأرض.

والصحيح: أن عمر فتحه عنوة وقسمه بين الغانمين، ثم خاف أن يتعلقوا بأذناب البقر ويتركوا الجهاد، فاستمال قلوبهم عنها بعوض، ووقفها على المسلمين، ثم آجرها من سكان العراق يؤدونه كل سنة بإجازة مؤبدة، واحتمل ذلك للمصلحة العامة.

قال: (ثم بذلوه ووقف على المسلمين) أي: ثم القسمة بذلة الغانمون ووقفه

ص: 361

وَخَرَاجُهُ أُجْرَةٌ تُؤَدَّى كُلَّ سَنَةٍ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ،

ــ

عمر؛ لما روى البيهقي [9/ 141]: أن عتبة بن فرقد اشترى أرضًا من أرض السواد، فأتى عمر فأخبره، فقال:(ممن اشتريتها؟) قال: (من أهلها)، فلما حضر المهاجرون والأنصار .... قال له عمر:(هؤلاء أربابها، أبعتموه شيئًا؟) قالوا: (لا)، قال:(ارجع فرد الأرض على من باعك، وخذ الثمن منه) فدل على أنها وقف، وإلا

لم يرد الشراء.

وعن سفيان الثوري قال: أرض العراق لا يجوز بيعها.

قال: (وخراجه أجرة تؤدى كل سنة لمصالح المسلمين)، فيقدم الأهم فالأهم. وعلى هذا: لا يجوز رهنه ولا هبته ولا بيعه، ويجوز لأربابها إجارتها إجارة مؤقتة، وفي إجارتها لهم مؤبدة وجهان: الأصح: المنع.

وليس لأحد من المسلمين أن يأخذ قطعة منها ممن اتصلت إليه من آبائه وأجداده، ويقول: أنا أعطي غلته؛ لأن عمر رضي الله عنه آجرها منهم على التأبيد، ولا تنفسخ الإجارة بموت العاقدين.

وقال أبو حنيفة: لم يتملكه عمر، بل ضرب عليهم خراجًا مع تقرير ملكهم، وزعم أن ذلك خراج لا يسقط بالإسلام.

وفي وجه- اختاره ابن سريج-: أنه يصح بيع أرض العراق؛ لأن عمر باعها من سكانها ليؤدوا الثمن على ممر الأيام، إلا أن هذا ثمن غير مقدر ولا آخر له.

وعلى الجملة: لا يخلو مذهب من إشكال، وهو: أن لا يتقدر الثمن أو تتأبد الإجازة أو لا يسقط الخراج بالإسلام، لكن الاعتماد على النقل، والشافعي أعلم القوم بالأخبار والتواريخ.

والذي يؤخذ من خراج هذه الأرض يصرفه الإمام في مصالح المسلمين كما ذكره المصنف، ويجوز صرفه إلى الفقراء والأغنياء من أهل الفيء.

وقدره في كل سنة على كل جريب شعير درهمان، وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم، وجريب الشجر وقصب السكر سبعة، والنخل ثمانية، والكرم عشرة، وقيل: النخل عشرة، والزيتون اثنا عشر.

ص: 362

وَهُوَ مِنْ عَبَّادَانَ إِلَى حَدِيثَةِ الْمَوْصِلِ طُولًا، وَمِنَ الْقَادِسِيَّةِ إِلَى حُلْوَانَ عَرْضًا. قُلْتُ: الصَّحِيحُ: أَنَّ الْبَصْرَةَ وَإِنْ كَانَتْ دَاخِلَةً فِي حَدِّ السَّوَادِ .. فَلَيْسَ لَهَا حُكْمُهُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ غَرْبِيِّ دِجْلَتِهَا وَمَوْضِعِ شَرْقِيِّهَا،

ــ

و (الجريب): عشر قصبات في مثلها، و (القصبة): ستة أذرع، فالجريب مساحة مربعة من الأرض بين كل جانبين منها ستون ذراعًا.

فائدة:

أطراف السواد فتح في أيام أبي بكر، وهو أزيد من العراق؛ لأن مساحة العراق مئة وخمسة وعشرون فرسخًا في عرض ثمانين، والسواد مئة وستون فرسخًا وعرضه ثمانون.

وسمي عراقًا؛ لاستواء أرضه وخلوها من الجبال والأودية، والعراق في كلام العرب: الاستواء.

قال: (وهو من عبّادان إلى حديثة الموصل طولًا، ومن القادسية إلى حُلوان عرضًا) بإجماع أهل التاريخ ومصنفي الفتوح ومن عرف أسماء البلدان.

والذي قاله المصنف تبع فيه (المحرر). وقال في (الشرح): إن فيه تساهلًا؛ لأن البصرة كانت سبخة أحياها عثمان بن أبي العاصي وعتبة بن غزوان بعد فتح العراق، وهي داخلة في هذا الحد، فلذلك استدركه المصنف على إطلاق (المحرر)، فقال:

(قلت: الصحيح: أن البصرة وإن كانت داخلة في حد السواد .. فليس لها حكمه إلا في موضع غربيِّ دِجلتها وموضع شرقيها)، وأشار بذلك إلى موضعين في البصرة، أدخلهما في الحد صاحب (المهذب) وغيره.

فالموضع شرقي دجلة يسمى: الفرات، والموضع الغربي يسمى: نهر المراة.

قال الماوردي رحمه الله: حضرت الشيخ أبا حامد وهو يدرس في تحديد السواد، وأدخل فيه البصرة، ثم أقبل علي وقال: هكذا تقول؟ قلت: لا، قال: ولم؟ قلت: لأنها كانت مواتًا وأحياها المسلمون، فأقبل على أصحابه وقال: علقوا ما يقول؛ فإن أهل البصرة أعرف بها.

ص: 363

وَأَنَّ مَا فِي السَّوَادِ مِنَ الدُّورِ وَالْمَسَاكِنِ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ

ــ

قال الرافعي: وكان مبلغ ارتفاع العراق في زمن عمر رضي الله عنه مئة ألف ألف وسبعة وثلاثين ألف ألف درهم، ثم تناقص إلى أن بلغ في أيام الحجاج ثمانية عشر ألف ألف درهم؛ لظلمه وغشمه، فلما ولي عمر بن عبد العزيز .. ارتفع بعدله وعمارته في السنة الأولى إلى ثلاثين ألف ألف درهم، وفي الثانية إلى ستين ألف ألف درهم، وقال: إن عشت .. لأردنه إلى ما كان في أيام عمر رضي الله عنه، فمات في تلك السنة.

فائدة:

(عبّادان): بقرب البصرة.

و (حديثة الموصل) قيدت بذلك؛ لإخراج حديثة أخرى عند بغداد، سميت الموصل؛ لأن نوحًا ومن معه في السفينة لما نزلوا على الجودي .. أرادوا أن يعرفوا قدر الماء المتبقي على الأرض، فأخذوا حبلًا وجعلوا فيها حجرًا ثم دلوه في الماء، فلم يزالوا كذلك حتى بلغوا مدينة الموصل، فلما وصل الحجر .. سميت: الموصل.

و (القادسية): بينها وبين الكوفة نحو مرحلتين، وبين بغداد نحو خمس مراحل، سميت بذلك؛ لأن قومًا من قادس نزلوها.

ويقال: إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم دعا لها بالقدس، وأن تكون محلة للحاج، حكاه الجوهري.

و (حلوان) بضم الحاء: بلد معروف.

و (البصرة) مثلثة الباء، حكاه الأزهري وغيره، أفصحها: الفتح، بناها عتبة بن غزوان في خلافة عمر سنة سبع عشرة، ويقال لها: قبة الإسلام وخزانة العرب، لم يعبد صنم قط بأرضها، وهي أقوام البلاد قبلة.

قال: (وأن ما في السواد من الدور والمساكن يجوز بيعه والله أعلم)؛ لأن أحدًا لم يمنع من شرائها، ولأن وقفها يؤدي إلى خرابها.

ص: 364

وَفُتِحَتْ مَكَّةُ صُلْحًا، فَدُورُهَا وَأَرْضُهَا الْمُحْيَاةُ مِلْكٌ يُبَاعٌ

ــ

والثاني: يمنع كالمزارع، كذا أطلقه الرافعي والمصنف.

والظاهر: أن موضع الخلاف في الأبنية التي كانت موجودة يوم ردها عمر إلى أهلها، فأما ما حدث بعد ذلك .. فيجوز بيعه بالاتفاق.

واستثنى أبو الفرج الزاز في (تعليقه) الخانات ونحوها، فلا يجوز بيعها؛ لأن عمر وقفها كالأراضي، ويستثنى أيضًا: أبنية البصرة؛ فإنها وإن دخلت في حد السواد .. فيجوز بيعها بالاتفاق كما تباع أراضيها إلا الموضعان المستثنيان.

وإذا أراد الإمام اليوم أن يقف أرض الغنيمة كما فعل عمر رضي الله عنه .. جاز إذا استطاب قلوب الغانمين في النزول عنها بعوض أو دونه، فإن أبَوا أو بعضهم .. فلا، وهو أحق بها، ولا يجوز له رد شيء من النساء والصبيان إلى الكفار إلى باستطابة قلوبهم.

قال: (وفتحت مكة صلحًا)؛ لقوله تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} يعنى: أهل مكة، فدل على أنهم لم يقاتلوا، وقال:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ} ، وصح: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من دخل المسجد .. فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان .. فهو آمن، ومن ألقى سلاحه .. فهو آمن، ومن أغلق بابه .. فهو آمن) رواه مسلم [1780]، واستثنى أناسًا أمر بقتلهم كما تقدم، فدل على عموم الأمان للباقي.

وقال تعالى: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ} فأضاف الدور إليهم وحقيقتها الملك.

وقال أكثر أهل المغازي: إنها فتحت عَنوة، وبه قال أبو حنيفة ومالك.

وقال الماوردي: أسفلها دخله خالد عَنوة، وأعلاها دخله الزبير صلحًا، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من جهته، فصار حكم جهته الأغلب.

قال: (فدُورها وأرضها المُحياة مِلك يباع)؛ لحديث أسامة بن زيد قال: قلت: يا رسول الله؛ أتنزل غدًا بدارك بمكة؟ فقال: (وهل ترك لنا عقيل من رباع) وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب، ولم يرثه جعفر ولا علي؛ لأنهما كانا مسلمين،

ص: 365

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وترجم عليه البخاري (باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها).

وروى البيهقي [6/ 34]: أن عمر اشترى دار السجن بمكة من صفوان بن أمية بأربع مئة، وفي رواية: بأربعة آلاف.

وباع حكيم بن حزام دار الندوة بمكة من معاوية بمئة ألف، رواه الزبير بن بكار. وحديث:(مكة لا تباع رباعها، ولا تؤجر دورها) ضعيف وإن رواه الحاكم [2/ 53].

تنبيهان:

أحدهما: محل الخلاف بين العلماء في بيع نفس الأرض، أما البناء .. فهو مملوك يجوز بيعه بلا خلاف.

الثاني: قال الروياني: يكره بيع دور مكة وإجارة رباعها، ونازعه المصنف في (شرح المهذب) في دعوى الكراهة، وقال: الأحسن أن يقال: إن ذلك خلاف الأولى؛ لأن المكروه ما ثبت فيه نهي مقصود، ولم يثبت في هذا شيء.

واعترض على المصنف بأنه صرح بكراهة بيع المصحف والشطرنج، ولم يثبت فيها نهي.

تتمة:

الصحيح: أن مصر فتحت عَنوة، وممن نص عليه مالك في (المدونة) وأبو عبيد والطحاوي وغيرهم، وأن عمر وضع على أراضيهم الخراج.

وقيل: فتحت صلحًا ثم نكثوا، ففتحها عمر ثانيًا عَنوة.

وفي (وصية الشافعي) في (الأم) ما يقتضي: أنها فتحت صلحًا؛ فإنه أوصى على أرض له بمصر، على أنه يحتمل أن تكون من الموات الذي أحيي، ولا منع فيه، أو من أرض اتصلت بالشافعي من غير بيت المال.

ص: 366

فَصْلٌ:

يَصِحُّ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ أَمَانُ حَرْبِيٍّ وَعَدَدٍ مَحْصُورٍ فَقَطْ،

ــ

وفي (تاريخ بغداد) للخطيب: كان الليث بن سعد اشترى شيئًا من أرض مصر، قال: وإنما استجاز ذلك؛ لأنه كان يحدِّث عن يزيد بن أبي حبيب: أنها فتحت صلحًا. والأكثرون على خلاف قولهما.

وكان مالك وجماعة من أهل عصره ينكرون على الليث ذلك الفعل؛ لأنها عندها عَنوة.

والليث ويزيد بن أبي حبيب مصريان، وهما أعرف بحال مصر من غيرهما.

وأما الشام .. فنقل الرافعي عن الروياني: أن مدنها فتحت صلحًا وأرضها عَنوة، وقد أشكل حالها على من حضرها وعلى عمر بن الخطاب، فتورعوا وأعطوها حكم الصلح.

وقال الجرجاني: لا خلاف أنه يجوز بيع أراضي الخراج بالشام؛ لأنها غير موقوفة، وإنما صالح الإمام أهلها على أن تكون الأرض لهم بخراج معلوم يؤدونه كل سنة.

ورجح الشيخ: أن دمشق فتحت عَنوة.

قال: (فصل:

يصح من كل مسلم مكلف مختار أمان حربي وعدد محصور فقط).

(الأمان) ضد الخوف والأصل فيه: قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} الآية، أي: استأمنك فأمنه، أو استعانك فأعنه.

و (كَلامَ اللَّهِ) قيل: جميع القرآن، وقيل: سورة براءة.

{ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَامَنَهُ} أي: بعد انقضاء مدة الأمان.

وفي (الصحيحين)[خ 3180 - م 1371] عن علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم –أي: عبيدهم- فمن أخفر مسلمًا –أي: نقض عهده- فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).

ص: 367

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

و (الذمة) العهد والأمان والحرمة والحق، وسمي أهل الذمة بذلك؛ لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم.

ومعنى: (يسعى بها أدناهم) إذا أعطى العبد الأمان .. جاز ذلك على جميع المسلمين؛ لأن عمر أجاز أمان عبد على جميع الجيش.

وأمَّنت به أم هانئ بنت أبي طالب يوم الفتح رجلين من أحمائها؛ وهما: الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية، فقال صلى الله عليه وسلم:(قد أجرنا مَن أجرت، وأمَّنا مَن أمَّنت) رواه الترمذي [1579].

فيصح أمان الحر والعبد –وإن كان سيده كافرًا- والمرأة والخنثى والفقير والمحجور عليه لسفه والمريض والشيخ والهرم والفاسق.

وفي وجه: لا؛ لأنه نوع ولاية، وليس هو من أهلها.

وفي وجه ثالث: إن كان فسقه بسبب إعانته على المسلمين .. لم يصح أمانه، وإلا .. فيصح.

وقال أبو حنيفة: لا يصح أمان العبد إلا إذا كان مأذونًا له في القتال.

واحترز عن أضداد ما ذكر فلا يصح أمان كافر؛ لأنه متَّهم، ولا أمان الصبي وإن راهق، ولا المجنون؛ لأنه عقد فأشبه سائر العقود، لكن لا يقتل مَن أمَّناه إن جهل فساد أمانهما، بل يعرَّف أنه لا أمان له ليرجع، وكذا حكم أمان المكره.

وأطلق (الحربي) ومراده: غير الطليعة والجاسوس ونحوه ممن لا يصح أمانه كما سيأتي.

وشمل إطلاقه: مَن عيّن الإمام قتلّه وعدمَ المَنِّ عليه، فظفر به بعض الرعية وأمَّنه، والظاهر: النفوذ كما أفتى به الطوسي وغيره.

ثم إنما يجوز من الآحاد لكافر أو كفار محصورين كعشرة ومئة، ولا يجوز لهم أمان ناحية وبلدة؛ لئلا يتعطل الجهاد.

قال الإمام: ولو أمن مئة ألف منا مئة ألف .. فكل واحد لم يؤمن إلا واحدًا، لكن إذا ظهر الانسداد .. رد الجميع.

ص: 368

وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ أَسِيرٍ لِمَنْ هُوَ مَعَهُمْ فِي الأَصَحِّ، وَيَصِحُّ بِكُلِّ لَفْظٍ يُفِيدُ مَقْصُودَهُ،

ــ

قال الرافعي: وهو ظاهر إن أمنوهم دَفعة، فإن وقع مترتبًا .. فينبغي صحة الأول فالأول إلى ظهور الخلل، واختاره المصنع، وقال: إنه مراد الإمام، وسواء كان الكافر المؤمن في دار الحرب أو في حال القتال أو الهزيمة.

قال: (ولا يصح أمان أسير لمن هو معهم في الأصح)؛ لأنه مقهور معهم، ولا يعرف وجه النظر والمصلحة، وهو غير آمن على نفسه، ولأن الأمان يقتضي أن يكون آمنًا، والأسير في أيديهم ليس بآمن.

والثاني: يصح؛ لأنه مسلم مكلف مختار أمن أمانًا ليس فيه إضرار.

والذي صححه الشيخان تبعا فيه صاحب (المهذب)، ونقله في (البيان) عن القفال.

والمنصوص في (الأم) صحة أمان الأسير الموثق والمخلى، وجرى عليه الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهم.

ثم محل الوجهين: إذا كان مختارًا، فإن أكره على عقده .. لم يصح قطعًا، وخصهما الإمام بما إذا أمن غير من أسره، فإن أمن من أسره .. فلا خلاف في عدم الصحة، وإطلاق المصنف شامل للأمرين.

ومراده بقوله: (معهم) الذي هو في أيديهم بالحبس والقيد كما قال ابن الرفعة؛ ليخرج أسير الدار، وهو الذي أطلق من القيد والحبس وأمنوه على أن لا يخرج من دارهم وبقي عاجزًا عن الخروج؛ فيصح أمانه قطعًا، كما جزم به في (التنبية) وغيره

ثم على القول بصحة الأمان مقتضى عبارته: أن يعتبر مطلقًا، وليس كذلك؛ فقد قال الماوردي: حيث قلنا بصحة أمانه، فإن أطلقه .. لم يكن آمنًا من المسلمين إلا في دار الحرب؛ لأن إطلاق العقد يتوجه إلى دار العقد لاختلاف الدارين.

قال: (ويصح بكل لفظ يفيد مقصوده)، سواء كان صريحًا كأجرتك، أو أمنتك، أو أنت آمن، أوفي أماني، أولا بأس عليك، أو لا خوف عليك، وكذا

ص: 369

وَبِكِتَابَةٍ وَرِسَالَةٍ

ــ

لا تخف؛ لما روى الشافعي والبيهقي: أن الهرمزان لما حمله أبو موسى الأشعري إلى عمر .. قال له عمر: (تكلم لا بأس عليك) فتركه.

واعترض بأن الهرمزان كان أسيرًا، والأسير لا يجوز أمانه.

وأجيب بأن الآحاد هم الذين لا يؤمنون الأسير، أما الإمام .. فله الأمان كما له المن.

ويصح بالكناية مع النية، كأنت على ما تحب، وكن كيف شئت.

وكذا لو قال بالعجمية: مَتَرْس، كما قال في (المحرر)، وهي بفتح الميم والتاء وسكون الراء، ومعناه: لا تخف؛ لما روى ابن مسعود قال: (إن الله يعلم كل لسان، فمن أتى منكم أعجميًا فقال: مَتَرْس .. فقد أمنه) رواه البيهقي عن عمر بمعناه [9/ 96].

قال: (وبكتابة)؛ لما روى البيهقي [9/ 94] عن فضل بن زيد الرقاشي قال: جهز عمر جيشًا كنت فيهم فحصرنا قرية رام هرمز، فكتب عبد أمانًا في صحيفة وشدها في سهم رمى به إلى المشركين، فجاؤوا وقالوا: قد أمنتمونا، قالوا: لم نؤمنكم، إنما أمنكم عبد، فكتبوا بذلك إلى عمر، فكتب إليهم عمر: إن العبد من المسلمين، وذمته ذمتهم.

وتصح بالإشارة، سواء كان قادرًا على العبارة أم لم يكن؛ لما روي عن عمر أنه قال:(والذي نفسي بيده؛ لو أن أحدكم أشار بيده إلى مشرك فنزل على ذلك ثم قتله .. لقتلته) كذا استدل به الرافعي، وهو غريب.

وإهمال المصنف الإشارة في الإيجاب مع ذكره لهما في القبول يقتضي عدم الاكتفاء بها، وهو خلاف المذهب، وكأنه تبع (المحرر) في ذلك.

قال: (ورسالة)؛ لأنها أقوى من الكتابة، سواء كان الرسول كافرًا أو مسلمًا؛ لأن بناء الباب على التوسعة في حقن الدم، ومقتضى هذا: جواز كون الرسول صبيًا، وينبغي تقييده بالموثوق بخبره.

ص: 370

وَيُشْتَرَطُ عِلْمُ الْكَافِرِ بِالأَمَانِ، فَإِنْ رَدَّهُ .. بَطَلَ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَقْبَلْ فِي الأَصَحِّ،

ــ

قال: (ويشترط علم الكافر بالأمان) كسائر العقود، فلو قتله مسلم قبل علمه .. جاز وإن كان القاتل هو الذي أمنه، كذا صرح به الإمام وبعض المراوزة وتبعهم الشيخان، ولم يذكر الشافعي والعراقيون هذا الشرط وهو الصواب، بل إذا علم المسلم بالأمان حَرُم عليه قتله وإن لم يعلم الكافر، ويدل لذلك ما روى الشيخان عن أم هانئ أنها قالت: يا رسول الله؛ زعم علي أنه قاتلٌ رجلًا أَجرْته، فقال صلى الله عليه وسلم:(قد أجرنا مَن أجرت يا أم هانئ).

قال: (فإن ردَّه .. بطل)؛ لأن ثابت بن قيس بن شماس أمَّن الزبير بن باطا يوم قريظة فلم يقبل فقتله، رواه ابن إسحاق كذلك، وهذا بخلاف ما تقدم عند قول المصنف:(ويحل قتل راهب وأجير وشيخ وأعمى)، فلينظر في ذلك.

والزبير بفتح الزاي وكسر الباء كما تقدم، وباطا بموحدة بلا مد ولا همز، وهو والد عبد الرحمن بن الزبير، قتل الزبير بن باطا يوم بني قريظة، قتله الزبير بن العوام.

قال: (وكذا إن لم يقبل) أي: ولم يرد (في الأصح) الأمانُ لا يصح من أحد الطرفين دون الآخر كغيره من العقود.

والثاني: يكفي السكون؛ لأن مبنى الباب على التوسعة.

وليست المسألة ذات وجهين كما اقتضته عبارة المصنف، إنما هو تردد للإمام، والترجيح بحث له.

والمنقول عن (التهذيب) و (تعليق الشيخ إبراهيم والمَروروذي) وغيرهما: الاكتفاء بالسكون، وهو ظاهر نص (الأم)، ومقتضى كلام العراقيين وغيرهم.

نعم؛ يشترط مع السكون ما يشعر بالرضا، وهو الكف عن القتال، كما صرح به الماوردي.

ومحل الخلاف: إذا كان سكوته لا لغباوة ودهشة، فإن كان عن ذلك .. لم يبطل قطعًا، بل يعرَّف بذلك.

فلو قال الكافر: قبلت أمانك فخذ حذرك مني .. فهو رد للأمان.

ص: 371

وَتَكْفِي إِشَارَةٌ مُفْهِمَةٌ لِلْقَبُولِ، وَيَجِبُ أَنْ لَا تَزِيدَ مُدَّتُهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَفِي قَوْلٍ: يَجُوزُ مَا لَمْ تَبْلُغْ سَنَةً، وَلَا يَجُوزُ أَمَانٌ يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ كَجَاسُوسٍ. وَلَيْسَ لِلإِمَامِ نَبْذُ الأَمَانِ إِنْ لَمْ يَخَفْ خِيَانَةً،

ــ

قال: (وتكفي إشارة مفهمة للقبول)، سواء أشار بها ناطق أو أخرس؛ لما تقدم عن عمر، والفرق بينها وبين الإشارة بالطلاق والرجعة وسائر العقود: أن المقصود حقن الدم، فكانت الإشارة شبهة.

واحترز بـ (المفهمة) عن المجردة عن الإفهام؛ فلا يصح بها الأمان، ثم محل اعتبار القبول: إذا لم يسبق منه استيجاب، فإن تقدم .. كفى، ولا يحتاج بعده إلى قبول قطعًا.

قال: (ويجب أن لا تزيد مدته على أربعة أشهر، وفي قول: يجوز ما لم تبلغ سنة)؛ لما سيأتي في الهدنة، ويؤخذ منه أنه لا يجوز التأييد من طريق أولى.

ويجوز دون أربعة أشهر قطعًا، فلو زاد الجائز .. بطل الزائد، ولا يبطل في الباقي على الأصح تخريجًا على تفريق الصفقة.

هذا فر الرجال، أما النساء .. فلا يحتاج فيهن لتقييد بمدة كما نص عليه في (الأم)؛ فإذا أقامت ببلاد الإسلام .. لم تمنع؛ لأن الأربعة أشهُر إنما هي للرجال، ومنعوا من السنة؛ لئلا تترك الحرب، والمرأة ليست من أهله.

قال: (ولا يجوز أمان يضر المسلمين كجاسوس)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام).

فلو أمنه .. لم ينفذ، قال الإمام: وينبغي أن لا يستحق تبليغ المأمن؛ لأن دخول مثله خيانة فينبغي أن يغتال، والطليعة كالجاسوس.

و (الجاسوس) صاحب سر الشر، بخلاف الناموس؛ فإنه صاحب سر الخير، كما يقال: تجسس في الشر، وتحسس في الخير بالمهملة.

قال: (وليس للإمام نبذ الأمان إن لم يخف خيانة)؛ لأنه لازم من جهة المسلمين، فإن خافها .. نبذه كالهدنة، وأولى، وهذا بخلاف عقد الجزية؛ فإنه لا يرفعه إلا إذا تحققنا الخيانة.

ص: 372

وَلَا يَدْخُلُ فِي الأَمَانِ مَالُهُ وَأَهْلُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَا مَا مَعَهُ مِنْهُمَا فِي الأَصَحِّ إِلَّا بِشَرْطٍ

ــ

وعبارة المصنف تفهم اختصاص النبذ بالإمام، وليس كذلك، بل للمؤمن نبذه إذا ظهرت خيانته، كما قاله البغوي.

قال: (ولا يدخل في الأمان ماله وأهله بدار الحرب)؛ لأن فائدة الأمان تحريم قتله واسترقاقه ومفاداته، لا أهله وماله، فيجوز اغتنام أمواله هناك وسبي أولاده المخلفين، وزعم في (البسيط) أنه لا خلاف فيه.

قال: (وكذا ما معه منهما في الأصح إلا بشرط)؛ لقصور اللفظ عن العموم.

والثاني: يدخل ما معه منهما؛ لاحتياجه إلى ذلك.

نعم؛ يدخل ثيابه التي لا يستغني عنها، وما يستعمله من الآلة التي لابد له منها، وما ينفقه في مدة أمانه؛ لضرورته إلى ذلك.

فلو أمنه على نفسه وماله، فإن كان ماله حاضرًا .. صح، وإن كان غائبًا .. لم يصح إلا من الإمام أو من قام مقامه.

وإفصاح المصنف بـ (التصحيح) لم يتبع فيه (المحرر)، فإنه قال: رجح منهما المنع، وكذلك عبر في (الشرح الصغير)، ولم ينقل الترجيح في (الكبير) إلا عن الإمام.

ووقع في المسألة اختلاف ترجيح للرافعي والمصنف، والمنصوص في (الأم) في (سير الواقدي) الدخول من غير شرط، وعليه جرى العراقيون.

والمراد بـ (ما معه) في دار الإسلام وإن لم يكن في حوزته.

والمراد بـ (الأولاد) صغار ولده، وأما زوجته .. فلا تدخل إلا إذا صرح بها.

وكلام المصنف وغيره يقتضي: أن الذي معه لغيره لا يدخل قطعًا، وليس كذلك؛ فقد نص في (الأم) على التسوية بين ما معه من ماله ومال غيره.

وإذا صح الأمان .. عصم من القتل والسبي، فلو قتل .. قال الإمام: الوجه عندنا: أنه يضمن بما يضمن به الذمي.

ص: 373

وَالْمُسْلِمُ بِدَارِ الْكُفْرِ إِنْ أَمْكَنَهُ إِظْهَارُ دِينِهِ .. اسْتُحِبَّ لَهُ الْهِجْرَةُ، وَإِلَّا .. وَجَبَتْ إِنْ أَطَاقَهَا

ــ

قال: (والمسلم بدار الكفر إن أمكنه إظهار دينه)؛ لكونه ذا عشيرة يحمونه ولم يخف فتنة في دينه) .. استحب له الهجرة)؛ لئلا يكثر سوادهم أو يميل إليهم أو يكيدوا له، وإنما لم تجب؛ لقدرته على إظهار دينه، ولهذا بعث النبي صلى الله عليه وسلم عثمان يوم الحديبية إلى مكة؛ لقوة عشيرته، ولأن الله تعالى لما أوجبها على المستضعفين .. دل على أنها لا تجب على غيرهم.

وفي وجه: تحرم الإقامة؛ لعموم ما سيأتي من الأحاديث، ولأنه بينهم ذليل وإن كفوا عنه، ولا يأمن أذاهم.

وقال الماوردي: إن رجا ظهور الإسلام هناك بمُقامه .. فهو أفضل، وإن قدر على الامتناع والاعتزال .. وجب أن يقيم؛ لأن موضعه دار إسلام، فيحرم أن يصيرها باعتزاله عنها دار حرب.

فإن تساوى حاله في المُقام والهجرة .. تخيَّر بينهما.

ولا فرق في وجوب الهجرة بين الرجل والمرأة وإن لم تجد محرمًا، ولم يقيدوه بحالة الأمن، والظاهر: أنه مقيد بها.

قال: (وإلا .. وجبت إن أطاقها)، وتحرم عليه الإقامة؛، مع قوله صلى الله عليه وسلم:(لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) روا أبو داوود [2471] والنسائي [سك 8658].

وفي (سنن أبي داوود)[2638] و (الترمذي [1604]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين).

وأما حديث ابن عباس في (الصحيحين)[خ 1834 - م 1353]: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية) ففي معناه قولان:

أحدهما: لا هجرة كاملةُ الفضلِ كالتي قبل الفتح.

والثاني: لا هجرة من مكة؛ لأنها صارت دار إسلام.

ص: 374

وَلَوْ قَدَرَ أَسِيرٌ عَلَى هَرَبٍ .. لَزِمَهُ،

ــ

وسميت هجرة؛ لأنهم هجروا ديارهم فرارًا بدينهم، وقيل في حقهم:{لَقَد تَّابَ اللَّه عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ}

تنبيهان:

أحدهما: يستثنى من الوجوب: من في إقامته مصلحة للمسلمين؛ فقد حكى ابن عبد البر وغيره: أن إسلام العباس كان قبل بدر وكان يكتمه ويكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار المشركين، وكان المسلمون يتقوون به، وكان يحب القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب النبي صلى الله عليه وسلم إليه: أن مُقامك بمكة خير، ثم أظهر إسلامه يوم فتح مكة.

الثاني: لا تختص الهجرة بدار الكفر، بل كل من أظهر حقًّا ببلد من بلاد الإسلام ولم يقبل منه ولم يقدر على إظهاره .. لزمته الهجرة منه، قال صاحب (المعتمد) والبغوي في (تفسير سورة العنكبوت)، ويدل لذلك قوله تعالى:{فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .

وقال الزمخشري: إن كان الرجل ببلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه لبعض الأسباب والعوائق، أو علم انه في غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة .. حقت عليه المهاجرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(من فر بدينه من أرض إلى أرض ولو كان شبرًا من الأرض .. استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام).

قال: (ولو قدر أسير على هرب .. لزمه)؛ إقامة لدينه، سواء كان في حبس أو قيد.

وحكى الإمام وجهًا: أنه لا يجب إذا أمكنه إقامة شعار دينه، قال: والأصح: المنع؛ فإن المسلم بين الكفار مقهور مهان.

ص: 375

وَلَوْ أَطْلَقُوهُ بِلَا شَرْطٍ .. فَلَهُ اغْتِيَالُهُمْ، أَوْ عَلَى أَنَّهُمْ فِي أَمَانِهِ .. حَرُمَ، فَإِنْ تَبِعَهُ قَوْمٌ .. فَلْيَدْفَعْهُمْ وَلَوْ بِقَتْلِهِمْ، وَلَوْ شَرَطُوا أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ دَارِهِمْ .. لَمْ يَجُزِ الْوَفَاءُ

ــ

قال: (ولو أطلقوه بلا شرط .. فله اغتيالهم) أي: قتلًا وسبيًا وأخذ مال؛ لأنهم لم يستأمنوه.

وقتل الغيلة: أن يخدعه فيذهب به إلى موضع، فإذا صار إليه .. قتله.

قال: (أو على أنهم في أمانه .. حرم)؛ عملًا بما التزمه، وكذا لو أطلقوه على أنه في أمان منهم على الًاصح المنصوص؛ لأنهم إذا أمنوه .. وجب أن يكونوا في أمان منه.

وقيل: له اغتيالهم.

قال: (فإن تبعه قوم .. فليدفعهم ولو بقتلهم) كالصائل، ويكون الدفع واجبًا.

قال: (ولو شرطوا أن لا يخرج من دارهم .. لم يجز الوفاء)، بل يجب عليه الخروج ويحرم الوفاء بالشرط؛ لأن في ذلك ترك إقامة الدين.

هذا إذا لم يمكنه إظهار دينه، فإن أمكنه .. لم يحرم الوفاء؛ لأن الهجرة حينئذ مستحبة لا واجبة، فتستثنى هذه الصورة من إطلاق المصنف.

فإن حلفوه: أن لا يخرج، فحلف مكرهًا .. خرج ولا كفارة عليه؛ لأنه لم تنعقد يمينه، ولا طلاق عليه إن حلفوه بالطلاق.

وإن حلف بغير إكراه ابتداء بلا تحليف ليثقوا به ولا يتهموه بالخروج .. نظر: إن حلف بعد ما أطلقوه .. لزمته الكفارة بالخروج، وإن حلف وهو محبوس: أن لا يخرج إذا أطلق .. فالأصح: أنه ليس بيمين إكراه.

قال البغوي: ولو قالوا: لا نطلقك حتى تحلف: أنك لا تخرج، فحلف، فأطلقوه .. لم تلزمه كفارة بالخروج، ولو حلف بالطلاق .. لم يقع، كما لو أخذ اللصوص رجلًا وقالوا: لا نتركك حتى تحلف بالطلاق: أنك لا تخبر بمكاننا، فحلف، ثم أخبر بمكانهم .. لا تلزمه الكفارة؛ لأنه يمين إكراه.

ص: 376

وَلَوْ عَاقَدَ الإِمَامُ عِلْجًا يَدُلُّ عَلَى قَلْعَةٍ وَلَهُ مِنْهَا جَارِيَةٌ .. جَازَ،

ــ

قال الرافعي: وليكن هذا تفريعًا على أن التخويف بالحبس إكراه.

قال المصنف: قلت: ليس هو كالتخويف بالحبس؛ فإنه هناك تلزمه الهجرة والتوصل إليها بما أمكنه، ثم على الأحوال لا يغتالهم؛ لأنهم أمنوه.

قال: (ولو عاقد الإمام عِلْجًا) وهو الكافر الغليظ الشديد، يقال: استعلج خلقه، أي: غلظ، سمي بذلك؛ لدفعه عن نفسه، ومنه العلاج؛ لدفعه الداء، وجمعه: عُلوج وأَعلاج ومَعْلوجاء، وفي الحديث:(الدعاء والبلاء يتعالجان إلى يوم القيامة) أي: يتصارعان، رواه البزار والحاكم [1/ 492] من حديث عائشة.

قال: (يدل على قلعة) أي مسماة معينة خفي طريقها، أو ليدلهم على طريق إليها خال من الكفار أو سهل أو كثير الماء والكلأ.

و (القلعة) –في (الصحاح) بسكون اللام، وفي (المحكم) بفتحها-: الحصن المنيع في جبل، وجمعها: قِلاع وقِلَع.

قال: (وله منها جارية .. جاز) وهي جعالة بجُعل مجهول غير مملوك، احتملت؛ للحاجة، كالعقد على المنافع قبل أن تخلق يجوز وإن كان في غرر؛ للحاجة، وسواء كانت الجارية معينة أو مبهمة، وفي المبهمة وجه.

وسواء كانت المعينة حرة أو أمة؛ لأن الحرة ترق بالأسر، ويجب كون الجُعل منها، فلو قال: أعطيك جارية مما عندي أو من مالي .. لم يصح؛ لكون مجهولًا كسائر الجُعالات.

وفي (سنن البيهقي) –بإسناد على شرط الصحيح- عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثلت لي الحيرة كأنياب الكلاب، وإنكم ستفتحونها) فقام رجل فقال: يا رسول الله؛ هب لي ابنة بقيلة، قال:(هي لك)، فأعطوه إياها لمّا فتحت، فجاء أبوها فقال: أتبيعنيها؟ قال: نعم، قال: بكم؟ قال: احكم بما شئت، قال: ألف درهم، قال: قد أخذتها، قالوا له: لو قلت: ثلاثين ألفًا .. لأخذتها، قال: وهل عدد أكثر من الألف؟!

وبقيلة المذكور جاهلي قديم من المعمَّرين، عاش ثلاث مئة وخمسين سنة، أدرك

ص: 377

فَإِنْ فُتِحَتْ بِدِلَالَتِهِ .. أُعْطِيَهَا،

ــ

الإسلام ولم يسلم، وعاش إلى أن غزا خالد الحيرة في خلافة الصديق رضي الله عنه، واسمه: عبد المسيح.

والرجل الذي قال: (وهل عدد أكثر من الألف) خريم بن أوس الطائي.

وابنة بقيلة اسمها: الشيماء.

فرع:

لا تجوز هذه المعاقدة مع مسلم في الأصح عند الإمام، وتبعه (الحاوي الصغير).

والذي أورده العراقيون الجواز، وقال في (البحر) إنه المشهور، وهو مقتضى كلام الرافعي في (الغنائم).

قال في (الروضة)(ولأن المسلم قد يكون أعرف وهو أنصح) اهـ، أراد: أنصح من النصح، فالتبس على شيخنا في (التنقيح)(أنصح) بـ (أصح)، فعزا الصحة إلى الرافعي، وهو وهم.

قال: (فإن فتحت بدلالته .. أعطيها)، ولا يكون لغيره فيها حق، سواء فتحت عَنوة أو صلحًا؛ لأنه استحقها بالشرط،

وشملت عبارته: ما إذا لم يوجد فيها إلا تلك الجارية، وهو الأصح؛ وفاء بالشرط.

وقيل: لا تعطى له؛ لأنه تنفيل، ولا يجوز للإمام أن ينفل جميع الغنيمة.

هذا إذا فتحها من شارطه، فإن فتحها طائفة أخرى بالطريق التي دلنا عليها .. فلا شيء له [عليهم]؛ لأنه لم يجر معهم شرط، وهذا يرد على إطلاق المصنف.

وكلامه يفهم: أنه يعطى متى فتحت بدلالته في تلك المرة أو غيرها، وفي الثانية وجهان.

ص: 378

أَوْ بِغَيْرِهَا .. فَلَا فِي الأَصَحِّ، وَإِنْ لَمْ تُفْتَحْ .. فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَقِيلَ: إِنْ لَمْ يُعَلِّقِ الْجُعْلَ بِالْفَتْحِ .. فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا جَارِيَةٌ أَوْ مَاتَتْ قَبْلَ الْعَقْدِ .. فَلَا شَيْءَ لَهُ، أَوْ بَعْدَ الظَّفَرِ قَبْلَ التَسْلِيمِ .. وَجَبَ بَدَلٌ،

ــ

وقال في (الروضة) إن تركناها ثم عدنا ففتحناها بدلالته .. فله الجارية على الصحيح، فإن فتحناها بطريق آخر .. فلا شيء له على الصحيح.

قال: (أو بغيرها .. فلا في الأصح) صورة المسألة: أن يدل العلج على قلعة فيتجاوزها الإمام ثم يعود إليها بعد الانصراف عنها ويفتحها عَنوة .. ففي استحقاق الدليل الجاريةَ وجهان:

أصحهما: لا يستحق؛ لأنها لم تفتح بدلالته.

والثاني: يستحق؛ لأن الوصول إلى فتحها بدلالته.

فلو فتحها طائفة أخرى بدلالته .. فلا شيء عليهم؛ لعدم الشرط معهم.

ثم إذا فتحت بدلالته ولم يوجد في القلعة سواها .. سلمت إليه، ولا حق فيها لغيره إن كانت مبهمة، وكذا إن كانت معينة على الصحيح؛ وفاء بالشرط، وفي وجه: لا تسلم إليه؛ لأن تنفيل كل الغنيمة ممتنع كما تقدم.

قال: (وإن لم تفتح .. فلا شيء له)؛ لأن تسليمها لا يمكن إلا بالفتح.

أما إذا أمكننا الفتح فلم نقاتل .. ففي استحقاقه شيئًا تردد للإمام.

قال: (وقيل: إن لم يعلِّقِ الجُعلَ بالفتحِ .. فله أجره المثل)؛ لوجود الدلالة.

وفي (الحاوي) يستحب أن يضرخ له.

قال: (فإن لم تكن فيها جارية أو ماتت قبل العقد .. فلا شيء له)؛ لفقد المشروط فيها.

قال: (أو بعد الظَّفَر قبل التسليم .. وجب بدل)؛ لأنها حصلت في يد الإمام وحوزه، فكان التلف من ضمانه.

وقيل: لا يجب؛ لأن الجارية ليست من حقائق الأعراض، وإنما جرى وعد يفي به عند الإمكان.

ص: 379

أَوْ قَبْلَ ظَفَرٍ .. فَلَا فِي الأَظْهَرِ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ .. فَالْمَذْهَبُ: وُجُوبُ بَدَلٍ، وَهُوَ أُجْرَةُ مِثْلٍ، وَقِيلَ: قِيمَتُهَا

ــ

قال في (الروضة) وبدل الجارية حيث حكمنا به، هو أجرة المثل إن قلنا بضمان العقد، وقيمتها إن قلنا بضمان اليد، هكذا قال الإمام، ولكن الأظهر من قولي الصداق: وجوب مهر المثل، والموجود لجمهور الأصحاب هنا: قيمة الجارية.

قال: (أو قبل ظفر .. فلا في الأظهر)؛ لعدم القدرة عليها، فأشبه ما إذا لم تكن.

والثاني: نعم؛ لأن العقد تعلق بها وهي حاصلة، ثم تعذر التسليم وصار كما إذا قال: من رد عبدي فله هذه الجارية، فرده وقد ماتت الجارية .. يلزمه بدلها.

قال: (وإن أسلمت .. فالمذهب: وجوب بدل)؛ لأن إسلامها يمنع استرقاقها، فيعطى قيمتها من بيت المال، كما لو فسخ البائع بعيب في الثمن وقد أعتق المشتري المبيع، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم عاقد أهل مكة على أن يرد إليهم من جاء من المسلمات، فنسخ الله تعالى ذلك وأمر برد مهورهن.

والطريقة الثانية: القطع بالوجوب، وهو فيمن أسلمت بعد الظفر أظهر منه فيمن أسلمت قبله.

قال: (وهو أجره مثل، وقيل: قيمتها) هذا الخلاف حكاه في (المحرر) فيما إذا ماتت كما سبق، ولم يتعرض له في صورة الإسلام، وكذا فعل في (الشرحين) و (الروضة).

والموجود لعامة الصحاب: وجوب القيمة لا جَرَم، جزم به صاحب (الحاوي الصغير)، وصححه في (التنجيز)، ونقله في (المهمات) عن النص، فهو المفتى به، عكس ما في (المنهاج).

ومحل الخلاف: إذا كانت معينة، فإن كانت مبهمة ومات كل من فيها وأوجبنا

ص: 380

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

البدل .. فتجب أجرة المثل قطعًا؛ لتعذر تقويم المجهول، كذا قاله الرافعي، وهو حسن.

تتمة:

قال: من دلني على القلعة .. فله كذا، وهي بقربه، فقال شخص: ها هي ذه .. ففي استحقاقه الجُعل وجهان: قال ابن كَج: المذهب: الاستحقاق، كما لو رد عبده من البلد التي هو فيها.

ولو شرط الإمام: أن من قتل فرسه في المعركة كان له مثلها أو ثمنها .. جاز، ويلزم الوفاء من خمس الخمس، ويجوز المثل وإن لم يكن للدابة مثل؛ للمصلحة، قاله الروياني.

خاتمة

حاصرنا قلعة فصالح زعيمها على أمان مئة شخص منهم .. صح؛ للحاجة، ويعيّن الزعيم مئة، فإن عدد مئة وأغفل نفسه .. جاز قتله.

واستدل له الرافعي وغيره بأن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه حاصر مدينة السوس وهو في الأهواز، فصالحه دهقانها على أن يفتح له المدينة ويؤمن مئة رجل من أهلها، فقال أبو موسى:(اللهم؛ أنسه نفسه)، فلما عزلهم قال له أبو موسى:(أفرغت؟) قال: نعم، فأمنهم وأمر بقتل الدهقان، فقال: أتغدرني وقد أمنتني؟!

قال: (أمنت العدة التي سميت، ولم تسم نفسك)، فنادى بالويل وبذل مالًا فلم يقبله منه وقتله.

***

ص: 381

كِتَابُ الجِزْيَةِ

ص: 383