المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كتاب المسابقة والمناضلة - النجم الوهاج في شرح المنهاج - جـ ٩

[الدميري]

الفصل: ‌كتاب المسابقة والمناضلة

‌كِتَابُ الْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ

ــ

كتاب المسابقة والمناضلة

هذا الباب لم يسبق الشافعي أحد إلى تصنيفه.

و (المسابقة): مفاعلة من السبق بسكون الباء، وهو يطلق على الاستباق بالخيل وبالسهام، وقوله تعالى:{إنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} ، قيل: معناه: ننتضل بالسهام، وقيل: نجري على الأقدام.

و (النضال والمناضلة): المغالبة في رمي السهام على وجه مخصوص، قال الشاعر [من الطويل]:

ألا رب يوم لو رمتني رميتها .... ولكن عهدي بالنضال قريب

يقال: ناضل زيد عمرًا، أي: راماه.

والأصل في جوازها قبل الإجماع: قوله تعالى: {وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} الآية.

وفي (صحيح مسلم)[1917] عن عقبة بن عامر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن القوة الرمي ثلاثًا).

وفي (الصحيحين)[خ 421 - م1870] وغيرهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أجرى ما ضمر من الخيل من الحفياء إلى ثنية الوداع، وأجرى ما لم يضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق).

وكانت العضباء ناقته صلى الله عليه وسلم لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن حقًا على الله أن

ص: 583

هُمَا سُنَّةٌ، وَيَحِلُّ أّخْذُ عِوَضٍ عَلَيْهِمَا،

ــ

لا يرفع شيئًا من هذه الدنيا إلا وضعه) رواه البخاري [2872] عن أنس بن مالك، وكان ذلك في السنة السادسة من الهجرة.

ويكره كراهة شديدة لمن عرف الرمي أن يتركه، لما روى مسلم [1919] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من تعلم الرمي ثم تركه .. فليس منا أو فقد عصى) وفي رواية للحاكم [2/ 95]: (فهي نعمة كفرها).

قال: (هما سنة) يعني: الفروسية والرماية أدبان مستحبان، للحاجة إليهما في الجهاد، وهذا إذا قصد ذلك، فأن قصد يهما قطع الطريق .. عصى، وإن قصد غيرهما .. فمباحان، لأن الأعمال بالنيات، وما ذكره الشيخان من كونهما سنة .. فيه نظر، بل ينبغي أن يكونا من فروض الكفايات، لأنهما وسيلة إلى الجهاد، ومقدمة الواجب واجبة، وظاهر كلامهم تساويهما في الطلب.

وينبغي أن تكون المناضلة آكد، لأن السهم ينفع في السعة والضيق، بخلاف الفرس العتيق.

وعبارته تشمل النساء، وليس بمراد، لأن الصيمري صرح بمنعه ذلك لهن، ويلتحق بهن كل من له عذر يمنعه من الرمي أو الركوب.

قال: (ويحل أخذ عوض عليهما)، لقوله صلى الله عليه وسلم:(رهان الخيل طِلق) بكسر الطاء، أي: حلال، رواه أبو نعيم في (معرفة الصحابة) من رواية رفاعة بن رافع.

وروى البيهقي [10/ 21] عن أنس بن مالك وابن عمر أنه قيل لهما: أكنتم تراهنون

ص: 584

وَتَصِحُّ المُنَاضَلَةُ عَلَى السِّهَامِ، وَكَذَا مَزَارِيقُ وَرِمَاحٌ وَرَمْيٌ بِأَحْجَارٍ وَمْنَجَنِيقٍ وَكُلُّ نَافِعٍ فِي الْحَرْبِ عَلَى الْمَذْهَبٍ،

ــ

على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالا: نعم، راهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس له، فجاءت سابقة فهش لذلك وأعجبه.

والرهن لا يكون إلا بعوض، ولأن فيه حثًا على الاستعداد للجهاد.

وقال صلى الله عليه وسلم: (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل) رواه الشافعي [1/ 349] و (الأربعة)، وصححه ابن حبان [4689].

قال الرافعي: والأثبت في الروايات: السبق- بفتح الباء- وهو: المال الذي يأخذه السابق)، ويروى: السبق، بالتسكين وهو مصدر سبق يسبق.

وعن أبي حنيفة: لا يجوز شرط المال فيهما، ورآه قمارًا.

وقوله في الحديث: (أو نصل) يشمل نصل السيف والسكين والرمح والمزاريق والسهام، ويصح على جميع أنواع القسي، حتى على الرمي بالمسلات والإبر.

قال: (وتصح المناضلة على السهام) سواء فيها العربية وهي النبل والعجمية وهي النشاب، لعموم ما تقدم.

قال: (وكذا مزاريق ورماح ورمي بأحجار ومنجنيق، وكل نافع في الحرب على المذهب)، لأنها كالسهام، بل بعضها أنكى.

و (المزاريق): الرماح الصغار، وذكره الرماح بعده من ذكر العام بعد الخاص.

ص: 585

لَا عَلَى كُرَةِ صَوْلَجَانٍ، وَبُنْدُقٍ وَسِبَاحَةٍ وَشَطْرَنْجٍ وَخَاتَمٍ، وَوُقُوفٍ عَلَى رِجْلِ، وَمْعْرِفَةِ مَا بِيَدِهِ، ......

ــ

ووجه مقابله: قلة ما يرمى بها في الحروب.

وأما الرمي بالأحجار واليد والمقلاع والمنجنيق .. فقال الماوردي: هي كالسهام قطعًا، وحكى غيره فيها وجهين، أما مراماتها .. فهي الشلاق وسيأتي.

وقوله: (كل نافع في الحرب) يدخل فيه التردد بالسيوف والرماح، والأصح: جواز المسابقة عليها، لكن كان ينبغي له أن يعبر فيها بالأصح.

قال: (لا على كرة صولجان، وبندق وسباحة وشطرنج وخاتم، ووقوف على رجل، ومعرفة ما بيده) أي: من فرد وزوج، لأن هذه السبعة لا ينتفع بها في الحرب.

ووقع في (الشرح) و (الروضة) التمثيل بالبندق والجلاهق، وهو بضم الجيم: البندق الطين الذي يرمى به، واحدته: جلاهقة، وقد تقدم في (باب الوصية).

و (الكرة) بضم الكاف وتخفيف الراء، وجمعها كرى، وحكى أبو حنيفة الدينوري في (كتاب النبات): أكره بالهمزة في أوله، قال ابن سيده: وأحسبه غلطًا منه.

و (الصولجان) عصًا محنية الرأس، فارسي معرب، والجمع: الصوالجة، والهاء للعجمة، وكذلك كل كلمة فيها صاد وجيم، لأنهما لا يجتمعان في كلمة واحدة من كلام العرب، ومن هنا يؤخذ جواز اللعب بالخاتم، وبه صرح الصميري.

والمراد بـ (السباحة) أن تكون على عوض، وفيه وجه، وأما بلا عوض .. فيجوز قطعًا، وأما الغطس فيه .. فقال المروروذى: إن جرت العادة بالاستعانة به في الحرب .. فكالسباحة، وإلا .. امتنع.

ص: 586

وَتَصِحُّ الْمُساَبَقَةُ عَلَى خَيْلٍ، وَكَذَا فِيلُ وَبَغْلٌ َوِحِمَارٌ فِي الأَظْهَرِ،

ــ

والأصح: لا يجوز عقدها على إشالة الحجر ونحوه باليد، وتسمية العامة العلاج، وجوزه المروروذي، ولا تجوز على المراماة بالأحجار، وتسمية الفقهاء المداحاة، والعوام الشلاق وهو حرام مطلقًا، وهو غير الرمي بالأحجار المذكور في الكتاب.

والظاهر أن اللكام لا يجوز، وأما الثِّقاف .. فلا تقل فيه، والأشبه جوازه، لأنه ينفع في حال المسابقة، وقد يمنع خشية فساد بعض الأعضاء.

قال: (وتصح المسابقة على خيل)، للحديث السابق، ولأنها التي يقاتل عليها غالبًا، والمصنف هنا أطلقها، ونقل في زوائد (الروضة) عن الدارمي: أن الذي تجوز عليه المسابقة من الخيل قيل: ما يسهم له وهو الجذع أو الثني، وقيل: وإن كان صغيرًا.

تنبيه:

لم يتعرض للإبل هنا ولا في (المحرر)، وكأنهما أهملاها، لوضوح حكمها، والعجب أنهما قالا بعد ذلك: وسبق إبل الكتف.

وهي كالخيل بلا خلاف، ويدل له ما تقدم من المسابقة بناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعرب تقاتل عليها أشد قتال، وإنما لم يسهم لها من الغنيمة لأن السهم منوط بزيادة المنفعة، وسرعة الانعطاف في الخيل وأقدامها لا توجد في الإبل، والقصد هنا ما فيه غنى في القتال والإبل كذلك.

قال: (وكذا فيل وبغل وحمار في الأظهر)؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا في خف أو حافر)، ولأن الأصح عند الأصوليين: أن الصورة النادرة تدخل في العموم.

والثاني: لا، لعدم صلاحيتها للكر والفر.

وقيل: بالمنع قطعًا، وقيل: بالجواز قطعًا، فلذلك عبر في (الروضة) بالمذهب.

ص: 587

لَا طَيْرٌ وَصِرَاعٌ [فِي الأَصَحُ،]

ــ

وسكت عن البقر، لأن المذهب عدم جواز المسابقة عليها.

ولا تجوز على الكلاب ومهارشة الديكة ومناطحة الكباش بلا خلاف، لأن ذلك سفه، ومن فعل قوم لوط الذين أهلكهم الله بذنوبهم.

قال: (لا طير وصراع [في الأصح])، لعدم نفعهما في الحرب، وأما ما رواه أبو البختري وهب بن وهب بن وهب:(لاسبق إلا في خف أو نصل أو حافر أو جناح) .. فمن وضعه لما رأي هارون الرشيدي مولعًا بحب الحمام.

قال الخطيب أبو بكر في (تاريخه)[13/ 486]: قيل لأحمد: أتعرف من رواه؟ فقال: ما رواه إلا أبو البختري الكذاب.

وكان أبو البختري قاضي مدينة النبي صلى الله عليه وسلم بعد بكار بن عبد الله الزبيري، ثم تولى قضاء بغداد بعد أبي يوسف، وتوفي سنة مئتين للهجرة في خلافة المأمون.

وقال أبو خيثمة والشيخ تقي الدين القشيري في (الاقتراح): إنما وضع هذا الحديث غياث بن إبراهيم النخعي للمهدي، فلما قام من عنده .. قال: أشهد أن قفاه قفا كذاب.

والوجه الثاني: تصح المسابقة على الطيور؛ لأنه يحتاج إليها في الحرب لنقل الأخبار، وكذلك الصراع قد يحتاج إليه.

وفي (مراسيل أبي داوود)[308]: أن النبي صلى الله عليه وسلم صارع ركانة على شياه، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات.

ووقع في (المهذب): يزيد بن ركانة، والصواب: ركانة بن عبد يزيد القرشي.

وأجاب الأولون بأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يريد قوته، ولهذا لما أسلم .. ردها إليه، ولركانة وابنه يزيد صحبة.

وذكر ابن عبد البر [عاب 2/ 77] أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض غلمان الأنصار في كل عام، فمر به غلام فأجازه في البعث، وعرض عليه سمرة بن جندب فرده، فقال سمرة: يا رسول الله؛ أجزت هذا ورددتني ولو صارعته لصرعته؟!

ص: 588

وَالأَظْهَرُ: أَنَّ عَقْدَهُمَا لَازِمٌ لَا جَائِزٌ،

ــ

قال: (فصارِعه)، فصارَعه فصرَعه فأجازه في البعث.

وأفهمت عبارة المصنف: جواز المصارعة بلا عوض، وهو المعروف، وصحح البغوي عدم جوازها.

وإطلاقه (الطير) يقتضي العموم، وصور في (البحر) المسألة بالحمام خالصة وهو الظاهر، لأن غيرها لا يتأتى منه ذلك.

و (الصراع) بكسر الصاد معروف، ووقع في (الكفاية) بضمها وكأنه سبق قلم.

و (الصُّرَعة) الذي يملك نفسه عند الغضب؛ لأن حلمه يصرع غضبه.

فروع:

تجوز المسابقة بالسفن والزوارق بلا عوض، والأصح: منعها بعوض؛ لأن الحرب تقع فيها لا بها، وكذلك المسابقة على الأقدام بعوض الأصح منعها وبغيره جائزة، لما روى أبو داوود [2571] والنسائي [سك 8894] وابن ماجه [1979] عن عائشة أنها قالت: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فسابقته فسبقته على رجل، فلما حملت اللحم .. سابقته في سفرة أخرى فسبقني فقال:(هذه بتلك السبقة).

وعلى الأول في جوازه على المشابكة باليد وجهان، ولا خلاف في جواز هذه الأشياء بغير عوض.

وقال الروياني: ليس للولي صرف مال الصبي في تعليم المسابقة والمناضلة. اهـ

ويظهر في ولد المرتزق الذي أثبت اسمه في الديوان جواز ذلك، لما فيه من المصلحة.

قال: (والأظهر: أن عقدهما) أي: المسابقة والمناضلة (لازم لا جائز) كالإجارة.

والثاني: جائز كالجعالة؛ لأنه عقد يبذل العوض فيه على ما لا يوثق به.

والأصح: طرد القولين، سواء كان العوض منهما أو من أحدهما.

قال الشيخ أبو محمد والأئمة: والقولان فيمن التزم المال، أما من لم يلتزم

ص: 589

فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا فَسْخُهُ، وَلَا تَرْكُ الْعَمَلِ قَبْلَ شُرُوعِ وَبَعْدَهُ، وَلَا زِيَادَةٌ وَنَقْصٌ فِيهِ، وَلَا فِي مَالٍ. وَشَرْطُ الْمُسَابَقَةِ: عِلْمُ المَوْقِفِ وَالغَايَةِ، وَتَسَاوِيهمَا فِيهِمَا،

ــ

شيئًا .. فجائز في حقه قطعًا، وقد يكون العقد لازمًا من جانب وجائزًا من جانب كالرهن والكتابة.

وقيل بطردهما فيمن لم يلتزم، لأنه يقصد بمعاقدته تعلم الفروسية والرمي فيكون كالأجير.

قال: (فليس لأحدهما فسخة)، لأن الفسخ من شأن العقود الجائزة، لكن يستثنى ما لو ثبت بالعوض المعين عيب يثبت حق الفسخ.

قال: (ولا ترك العمل قبل شروع وبعده)، سواء كان مفضولاً أو فاضلاً؛ لأن ذلك ثمرة اللزوم.

قال: (ولا زيادة ونقص فيه) كغيرة من العقود اللازمة.

قال: (ولا في مال)، اللهم إلا أن يفسخا العقد الأول ويستأنفا عقدًا جديدًا، فإن فرعنا على الجواز .. انعكست هذه الأحكام.

قال: (وشرط المسابقة: علم الموقف والغاية) كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما سابق بالخيل كما تقدم.

قال: (وتساويهما فيهما)، فإن شرطا تقدم موقف أو تقدم غاية .. لم يجز؛ لأن المقصود معرفة فروسية الفارس وجودة سير الفرس، وهو لا يعرف مع تفوت المسافة.

فلو لم يعينا غاية وشرطا المال لمن يسبق منهما .. لم يجز كما جزم به في (المحرر).

ولو عينا غاية وقالا: إن اتفق السبق دونها كفى .. لم يجز في الأصح، أو إن لم يتفق السبق عندها فإلى غاية أخرى عيناها .. جاز في الأصح.

وسكت الشيخان عن تعيين الفارسين، وقد صرحوا به، وكأن المصنف تركه لوضوحه.

ص: 590

وَتَعْيِينُ الْفَرسَيْنِ وَيَتَعَيَّنَانِ، وَإِمْكَانُ سَبْقِ كُلُّ وَاحِدٍ، وَالعِلْمُ بِالْمَالِ الَمْشُروطِ.

ــ

قال: (وتعيين الفرسين)؛ لأن المقصود امتحانهما ولو كان ذلك بالوصف على الأصح، لأن الوصف يقوم مقام التعيين كما في السلم والصرف.

فإن هلك أحد الفرسين .. انفسخ العقد، فإن عقد على الوصف ثم أحضر فرس .. فينبغي أن لا ينفسخ بهلاكه كما قال الرافعي.

قال: (ويتعينان) فيمتنع إبدالهما.

قال: (وإمكان سبق كل واحد) أي: من الفرسين، فإن كان أحدهما يقطع بتخلفه أو بتقدمه .. لم يجز؛ لأن هذا العقد أدخل فيه المال للحث على السبق الذي يمرن في الحروب ويهذب الخيل، وإذا علم سبق أحدهما .. زال المعنى، ويصير من أكل المال بالباطل.

ومراده بـ (الإمكان): الغالب، فإن أمكن نادرًا .. لم يصح في الأصح.

وعلم من هذا أنه لا تجوز المسابقة بين الخيل والإبل، ولا بين الخيل والحمير، وهو الأصح، لكن يجوز بين البغل والحمار على الأصح، لتقاربهما.

وقال الشيخ أبو إسحاق: إذا تباعد النوعان كالعتيق والهجين والنجيب والبختي .. لم يجز، ومال إليه الرافعي.

وقال المصنف: إطلاق الأكثرين محمول على ما إذا لم يقطع بسبق العتيق والنجيب، فقول أبي إسحاق ضعيف إن لم يرد به هذا، فإن أراده .. ارتفع الخلاف.

قال: (والعلم بالمال المشروط) أي: جنسًا وقدرًا وصفة كسائر الأعواض، ويجوز كونه عينًا ودينًا، وحالاً ومؤجلاً، وبعضه كذا وبعضه كذا، فإن كان معينًا .. كفت مشاهدته، وإن كان في الذمة .. وصف.

فلو عقدا على مجهول .. فسد العقد، وفي استحقاق السابق أجرة المثل وجهان.

ص: 591

وَيَجُوزُ شَرْطُ الْمَالِ مِن غَيْرِهِمَا، بِأَنْ يَقُولَ الإِمَامُ أَوْ أَحَدُ الرَّعِيَّةِ: مَنْ سَبَقَ مِنْكُمَا .. فَلَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ عَلَيَّ كَذَا. وَمِنْ أَحَدِهِمَا، فَيَقُولُ: إِنْ سَبَقْتَنِي .. فَلَكَ عَلَيَّ كَذَا، وَإِنْ سَبَقْتُكَ .. فَلَا شّيْءَ عَلَيْكَ، فَإِنْ شَرَطَ أَنَّ مَنْ سَبَقَ مِنْهُمَا فَلَهُ عَلَى الآخَرِ كَذَا .. لَمْ يَصِحَّ إِلَاّ بِمُحَلَّل فَرَسُهُ كُفْءٌ لِفَرَسَيْهِمَا،

ــ

تنبيه:

عد في (الروضة) شرط السبق عشرة، اشتمل الكتاب منها على سبعة.

والثامن: ما استدركه الرافعي على (الوجيز) وأهمله في (المحرر): أن يستبقا على الدابتين، فلو شرطا إرسالهما ليجريا بأنفسهما .. فالعقد باطل؛ لأنها تنفر ولا تقصد الغاية، بخلاف الطيور إذا جوزنا المسابقة عليها، لأن لها هداية إلى الغاية.

والتاسع: أن تكون المسافة بحيث يمكن للفرسين قطعها غالبًا، فإن لم يكن كذلك .. بطل العقد.

والعاشر: اجتناب الشروط الفاسدة.

قال: (ويجوز شرط المال من غيرهما؛ بأن يقول الإمام أو أحد الرعية: من سبق منكما .. فله من بيت المال أو علي كذا)؛ لما في ذلك من التحريض على تعلم الفروسية، وسواء تسابق اثنان أو أكثر، وخص مالك جوازه بالإمام.

قال: (ومن أحدهما، فيقول: إن سبقتني .. فلك علي كذا، وإن سبقتك .. فلا شيء عليك)؛ لأن المقصود خلو العقد عن القمار، فإن المخرج حريص على أن يسبق كيلا يغرم والآخر حريص عليه ليأخذ.

وعن مالك: لا يجوز، لأنه نوع من القمار.

قال: (فإن شرط أن من سبق مهما فله على الآخر كذا .. لم يصح إلا بمحلل فرسه كفء لفرسيهما)؛ لأن ذلك يخرج العقد عن صورة القمار.

وفي (سنن أبي داوود)[2572] عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

ص: 592

فَإِنْ سَبَقَهُمَا .. أَخَذَ الْمَالَيْنِ، وَإِنْ سَبَقَاهُ وَجَاآ مَعًا. فَلَا شَيْءَ لِأَحَدِ،

ــ

(من أدخل فرسًا بين فرسين- يعني: وهو لا يؤمن أن يسبق- فليس بقمار، ومن أدخل فرسًا بين فرسين وهو آمن أن يسبق .. فهو قمار) وصححه ابن حبان).

وقيل: لا يجوز، ولا اعتبار بالمحلل، لأن كلاً منهما قد يغنم وقد يغرم، وذلك قمار، والمذهب الأول.

وينبغي للمحلل أن يجري فرسه بين فرسيهما، فإن أجراها بجنب أحدهما .. جاز إن تراضيا به، والحديث خرج مخرج الغالب.

وإنما سمي محللاً، لأن العوض صار حلالاً، ولهذا يشترط أن يكون مكافئًا لفرسيهما، فلو كان ضعيفًا عنهما أو أفره منهما .. لم يصح.

ولا يشترط أن يكون بين كل اثنين محلل كما تفهمه عبارة المصنف، بل يكفي محلل واحد بين المتسابقين ولو بلغوا مئة.

وقوله: (فرسه) مثال؛ فإن البعير وجميع ما يتسابق عليه كذلك.

و (المحلل) بكسر اللام: من حلل الشيء إذا جعله حلالاً.

قال: (فإن سبقهما .. أخد المالين) لسبقه، هذا إذا جاء بعده معًا، إن ترتبا .. فله ما أخرجه الثاني، وفيما أخرجه الثالث أوجه:

أصحها: للمحلل أيضًا، فعلى هذا عبارة الكتاب على إطلاقها؛ أي: سواء جاءا معًا أو مرتبًا.

والثاني: للثاني.

والثالث: لهما.

قال: (وإن سبقاه وجاءا معًا .. فلا شيء لأحد)؛ لعدم سبقه وعدم سبق أحدهما الآخر، وكذلك الحكم لو ترتبا وجاء هو مع الثاني، أما لو جاءا مرتبًا وهو مشكل .. فالسابق يجوز ما أخرجه وله على الأصح المنصوص ما أخرجه الثاني، خلافًا لابن خيران، ولا شيء للمحلل جزمًا.

ص: 593

وَإِن جَاءَ مَعَ أَحَدِهِمَا .. فَمَالُ هَذَا لِنَفْسِهِ، وَمَالُ الآخَرِ لِلْمُحَلَّلِ وَلِلَّذِي مَعَهُ. وَقِيلَ: لِلْمُحَلَّل فَقَطْ. وَإِنْ جَاءَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ المُحَلَّلُ ثُمَّ الآخَرُ .. فَمَالُ الآخَرِ لِلأوَّلِ فِي الأَصَحَّ. وَإِنْ تَسَابَقَ ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا وَشْرَط لِلثَّانِي مِثْلُ الأَوَّلِ .. فَسَدَ،

ــ

قال: (وإن جاء مع أحدهما .. فمال هذا لنفسه، ومال الآخر للمحلل وللذي معه)، لأنهما سبقا، (وقيل: للمحلل فقط)، هذا قول ابن خيران، لأنه منع فيما إذا شرطا أن المحلل يأخذ السبقين إن سبق، وأن كل واحد منهما إن سبق .. أحرز ما أخرجه وأخذ ما أخرجه الآخر، لكن الصحيح المنصوص الجواز.

قال: (وإن جاء أحدهما ثم المحلل ثم الآخر .. فمال الآخر للأول في الأصح)؛ لأن المحلل مسبوق.

والثاني: أنه له وللمحلل معًا، لأنهما سبقا الآخر.

والثالث: أنه للمحلل خاصة، وهذا ضعيف إذا قلنا بالمنصوص، فإن فرعنا على قول ابن خيران فهل هو للمحلل أو يحرزه مخرجه ولا يستحقه المحلل ولا السابق؟ وجهان، ولا خلاف أن الأول يحرز ما أخرجه.

وحاصل ما ذكره أن الصور الممكنة ثمانية:

أن يسبقهما وهما معًا، أو مرتبين، أو يسبقاه وهما معًا، أو مرتبين، أو يتوسط بينهما، أو يكون مع أولهما، أو ثانيهما، أو ثاني الثلاثة معًا، ولا يخفى الحكم في الجميع.

قال: (وإن تسابق ثلاثة فصاعدًا وشرط للثاني مثل الأول .. فسد)؛ لأن كل واحد منهما يؤخر نفسه ولا يجهد في السبق؛ لوثوقه به سَبق أو سُبق، وكذلك لو شرط له أكثر بطريق الأولى على الأصح.

ص: 594

وَدُونَهُ يَجُوزُ فِي الأَصَحُ. وَسَبْقُ إِبِلٍ بِكَتِفٍ،

ــ

وقيل: يجوز، لأن ضبط الفرس في شدة عدوه ليكون ثانيًا يحتاج إلى حذق.

والذي جزم به المصنف تبع فيه (المحرر)، والصحيح في (الشرحين) و (الروضة): الجواز، لأن كل واحد منهما يجتهد ويسعى أن يكون سابقًا أو مصليًا.

قال: ودونه يجوز في الأصح)؛ لأنه يسعى ويجتهد ليفوز بالأكثر.

والثاني: المنع؛ لأنه إذا كان يتحصل على شيء .. فقد يتكاسل فيفوت مقصود العقد.

فلو كانوا عشرة مثلاً، وشرط لكل واحد سوى الفسكل مثل المشروط لمن تقدمه .. جاز في الأصح على ما في (الروضة)، وامتنع على ما في (المنهاج).

ولو تسابق اثنان وشرط كل المال أو الأكثر أو نصفه للثاني .. لم يصح، أو الأقل .. صح في الأصح.

وأسماء خيل السباق ذكرها الرافعي، ولم يتعرض لها المصنف في (الروضة)، وأشرت إلى ذلك في (المنظومة) بقولي [من الرجز]:

مُهمةٌ خيلُ السباق عشَرة .... في (الشرح) دون (الروضة) المعتبرة

وهي مجل ومصل تالي .... والبارع المرتاح بالتوالي

ثم حظي عاطف مؤمل .... ثم السكيت والأخير الفسكل

قال: (وسبق إبل بكتف) تبع (المحرر) في لفظة (كتف)، عبارة (الشرح) و (الروضة) والجمهور:(بكتد) بالدال المهملة، وفتح تائها أشهر من كسرها، وهو: مجتمع الكتفين بين أصل العنق والظهر.

ص: 595

وَخَيْلٍ بِعُنُقٍ، وَقِيلَ: بِالقَوَائِمِ فِيهِمَا. وَيُشْتَرَطُ لِلْمُنَاضَلَةِ بَيَانُ أَنْ الرَّمْيَ مُبَادَرَةٌ- وَهِيَ: أَنْ يَبْدُرَ أَحَدُهُمَا بِإِصَابَةِ العَدَدِ الْمَشْرُوِط -

ــ

وقال الماوردي: فيه تأويلان: أحدهما: هذا.

والثاني: الكتف، وكأن المصنف رأى ترادفهما، وأن الكتف أشهر فعبر به.

قال: (وخيل بعنق) ويسمى الهادي، فمتى سبق أحدهما الآخر بعنقه أو ببعضه .. فهو السابق.

والسبب في ذلك: أن الإبل ترفع أعناقها في العدو فلا يمكن اعتبارها، والخيل تمدها، فينظر في الفرسين: إن استويا في حلقة العنق طولاً وقصرًا .. فالذي تقدم بالعنق أو ببعضه هو السابق، وإن اختلفا فإن تقدم أقصرهما عنقًا .. فهو السابق، وإن تقدم الآخر .. نظر، إن تقدم بقدر زيادة الحلقة فما دونها .. فليس بسابق، وإن تقدم بأكثر .. فسابق، ووراء ذلك سبعة أوجه في (الشرح) و (الروضة) وغيرهما.

قال: (وقيل: بالقوائم فيهما) أي: في الخيل والإبل؛ لأن العدو بهما، وهذا أقيس عند الإمام، والأول الموجود لعامة الأصحاب.

هذا كله إذا أطلقا العقد، فإن شرطا في السبق أقدامًا معلومة .. لم يحصل السبق بما دونها.

ولو سبق أحدهما في وسط الميدان والآخر في آخره .. فهو السابق.

ولو عثر أو ساخت قوائمه في الأرض فتقدم الآخر .. لم يكن سابقًا، وكذا لو وقف بعد جريه لمرض ونحوه، فإن وقف بلا علة .. فهو مسبوق.

قال: (ويشترط للمناضلة بيان أن الرمي مباردة، وهي: أن يبدر أحدهما بإصابة العدد المشروط) أي: مع استوائهما في العدد المرمي، ولا بد من هذا القيد، وهو يرد على إطلاق الكتاب و (التنبيه).

فإذا شرطا أن من سبق إلى عشرة من عشرين فله كذا، فرمي كل واحد عشرين وأصاب أحدهما العشرة والآخر دونها .. فالأول ناضل، وإن أصاب كل منهما عشرة .. فلا ناضل منهما.

ص: 596

أَوْ مُحَاطَّةٌ- وَهُوَ: أَنْ تُقَابَلَ إِصَابَاتُهُمَا وَيُطْرَحَ الْمُشْتَرَكُ، فَمَنْ زَادَ بِعَدَدِ كَذَا .. فَنَاضِلٌ- وَبَيَانُ عَدَدِ نُوَبِ الرَّمْيِ،

ــ

قال: (أو محاطة) أي: بتشديد الطاء (وهو: أن تقابل إصاباتهما ويطرح المشترك، فمن زاد بعدد كذا .. فناضل).

مثاله: إذا شرطا خلوص خمسة من عشرين، فإذا رميا عشرين وأصاب كل واحد خمسة .. لم ينضل أحدهما الآخر، وإن أصاب أحدهما خمسة والآخر عشرة .. فالثاني ناضل.

وما جزم به المصنف من اشتراط كون الرمي مبادرة أو محاطة تبع فيه (المحرر)، وهو كذلك في (التنبيه)، وأقره عليه في (التصحيح).

وصحح في (الروضة) و (الشرح الصغير) أنه لا يشترط التعرض لهما في العقد، فإن أطلقا .. حمل على المبادرة، ونقله في (الكبير) عن البغوي فقط.

وخصهما الماوردي بما إذا كان لهم عرف في ذلك، فإن لم يكون .. اشترط قطعًا، وعليه يحمل اختلاف الكلامين.

قال: (وبيان عدد نوب الرمي) أي: في المحاطة والمبادرة جميعًا لينضبط العمل، فهي في المناضلة كالميدان في المسابقة.

و (نوب الرمي): هي الأرشاق، وهي جمع رشق بكسر الراء، كأن يرموا سهمًا سهمًا، أو خمسة خمسة، أو عشرة عشرة.

ويجوز أن يتفقا على أن يرمي أحدهما الجميع ثم الآخر كذلك، والإطلاق محمول على سهم سهم، فلو رمى أحدهما أكثر من النوبة المستحقة له إما باتفاق أو بإطلاق العقد .. لم تحسب الزيادة له إن أصاب فيها، ولا عليه إن أخطأ.

فلو عقدا على عدد كثير على أن يرميا بُكْرةَ كل يوم كذا وعشية كذا .. جاز، ولا يفترقان كل يوم إلا بعد استكمال عدده إلا أن يعرض عذر كمرض أو ريح عاصف، ثم يرميان على ما مضى في ذلك اليوم أو بعده، ويجوز أن يشترطا الرمي طول النهار فيلزمهما الوفاء به.

وتستثنى أوقات الضرورة كالصلاة والطهارة والأكل والشرب وقضاء الحاجة كما في

ص: 597

وَالإِصَابَةِ، وَمَسَافَةِ الرَّمْيِ،

ــ

الإجارة، وليس عروض الحر بعذر.

وإذا غربت الشمس قبل الفراغ من وظيفة ذلك اليوم .. لم يرميا ليلاً إلا أن يشترطاه، فيحتاجون إلى ما يستضيئون به، وقد يكتفون بضوء القمر.

قال: (والإصابة) فيشترط بيان عددها كخمسة من عشرين، ويشترط أن يكون ذلك ممكنًا لا نادرًا كتسعة من عشرة أو عشرة من عشرة، فإنه لا يصح في الأصح.

فإن كان ممتنعًا كمئة متوالية .. لم يصح، أو متيقنًا كإصابة الحاذق واحدة من مئة .. فوجهان.

قال: (ومسافة الرمي)؛ لاختلاف الغرض بها.

وقيل: لا يشترط، وينزل على العادة الغالبة للرماة في تلك الجهة إن كانت، فإن لم تكن عادة .. وجب قطعًا.

قال الرافعي: وعلى هذا يحمل ما أطلقه الأكثرون من اشتراط إعلام المسافة.

ولو تناضلا على أن يكون السبق لأبعدهما رميًا ولم يقصدا غرضًا .. صح العقد على الأصح.

ولو ذكرا غاية لا تبلغها السهام .. بطل العقد، وكذا لو كانت الإصابة فيه نادرة على الأرجح.

والغالب: أن الإصابة تقع في مئتين وخمسين ذراعًا، لما روى أبو نعيم والطبراني في (أكبر معاجمه) [5/ 34] عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: كيف تقاتلون العدو؟ قال: إذا كانوا على مئتين وخمسين ذراعًا .. قاتلناهم بالنبل، فإن كانوا على أقل من ذلك .. قاتلناهم بالحجارة.

والمراد بـ (بعض الصحابة): عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح بـ (القاف)، وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب لأمه، وهو حمي الدبر.

وقيل: إلى ثلاث مئة وخمسين ذراعًا، لأن الإصابة في ذلك ممكنة.

وهذا الذراع لم يذكره الأصحاب، والظاهر أن المراد: ذراع اليد المعتبر في مسافة الإمام والمأموم وفي القلتين.

ص: 598

وَقَدْر الْغَرضِ طُولاً وَعَرْضًا إِلَاّ أَنْ يَعْقِدَ بِمَوْضِعٍ فِيهِ غَرضٌ مَعْلُومٌ .. فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَيهِ، وَلْيُبَينَا صِفَةَ الرَّمْيِ مِنْ قَرْعٍ- وَهُوَ: إِصَابَةُ الشَّنُ بِلَا خَدْشٍ- أَوْ خَزْقٍ- وَهُوَ: أَنْ يَثقُبَهُ وَلَا يَثْبُتَ فِيهِ- أَوْ خَسْقٍ- وَهُوَ: أَنْ يَثْبُتَ- أَوْ مَزْقٍ، وَهَوَ: أَنْ ينْفُذَ

ــ

قال: (وقدر الغرض) وهو بفتح الغين المعجمة والراء: العلامة التي يرمي إليها من خشب أو قرطاس أو دائرة.

قال: (طولاً وعرضًا)؛ لاختلاف الغرض باختلاف الأغراض.

قال: (إلا أن يعقد بموضوع فيه غرض معلوم .. فيحمل المطلق عليه) كما تقدم في المسابقة، وكذا الحكم في سمكه وارتفاعه من الأرض.

وقوله: (عليه) يمكن عوده إلى المسألتين، أعني: مسافة الرمي وقدر الغرض، ليوافق ما تقدم ترجيحه في المسافة، فإن لم تكن عادة جارية أو غالبة .. فلا بد من الإعلام بلا خلاف.

فلو قال أحدهما: ينصب الغرض حيث يستقبل الشمس، وقال الآخر: يستدبرها .. أجيب الثاني، لأنه أصلح للرمي.

قال: (وليبينا صفة الرمي) المراد: صفة الإصابة كما عبر به في (الشرحين) و (الروضة) و (المحرر).

والعجب أن المصنف في (التحرير) استدركه على (التنبيه) فقال: كان الأولى أن يقول: صفة الإصابة؛ لأن الأشياء المذكورة صفة للإصابة لا للرمي، ثم اعتذر عنه فقال: لكنها من توابع الرمي ومتعلقاته، فأطلق عليها اسمه مجازًا، فكان الأولى له أن يعبر بالإصابة كأصله، وهذا البيان مندوب إليه، وظاهر ما في (التنبيه) وغيره اشتراطه.

قال الرافعي: والأصح: أنه لا يشترط التعرض لشيء منها.

قال: (من قرع- وهو: إصابة الشن بلا خدش- أو خزق – وهو: أن يثقبه ولا يثبت فيه – أو خسق – وهو: أن يثبت – أو مرق وهو: أن ينفذ)، لأن الأغراض تختلف بهذه الصفات.

ص: 599

فَإِنْ أَطْلَقَا .. اقْتَضَى القَرْعَ، وَيَجُوزُ عِوَضُ المُنَاضَلَةِ مِنْ حَيْثُ يَجُوزُ عِوَضُ المُسَابَقَةِ وَبِشَرْطِهِ

ــ

وهذه الألفاظ الأربعة مفتوحة الأول ساكنة الثاني.

فـ (القرع): مأخوذ من قرعت الباب، ومنه قول المتلمس [من الطويل]:

لذي الحكم قبل اليوم لا تَقرِع العصا .... وما عُلِّم الإنسانُ إلا ليعلما

و (الخزق): من خزقت الثوب وخزقته، والخزق بالخاء والزاي المعجمتين: الطعن، و (الخسق) لغة فيه، وأنما يتصور في الشن المعلق.

لكن بقي (الخرم) وهو: أن يقطع طرف الشن، ويكون بعض النصل فيه وبعضه خارجه.

و (الشن) بفتح الشين هو الغرض، وأصله: الجلد البالي، وجمعه شنان، ككلب وكلاب.

قال: (فإن أطلقا .. اقتضى القرع)؛ لأنه المتعارف.

قال: (ويجوز عوض المناضلة من حيث يجوز عوض المسابقة وبشرطه) فيخرجه أحد المتناضلين أو كلاهما أو الإمام أو غيره.

فإن كانا حزبين .. فكل حزب كشخص، فإن أخرجه أحد الحزبين أو أجنبي .. جاز، وإن أخرجاه .. اشترط محلل إما واحد وإما حزب، وإن أخرج الحزبان وشرطوا لواحد من أحد الحزبين: أنه إن كان الفوز لحزبه .. شاركهم في أخذ المال، وإن كان للحزب الآخر .. فلا شيء على ذلك الواحد، بل يغرم أصحابه، واشتمل كل حزب على محلل على هذه الصورة .. فثلاثة أوجه:

أصحها: لا يجوز، لأن المحلل من إذا فاز .. استبد بالمال، وهذا يشارك أصحابه فيه.

والثاني: الصحة.

والثالث: يصح في الصورة الثانية دون الأولى.

ولو شرط كل حزب كل المال لمحللهم .. بطل قطعًا؛ لأنه يكن فائزًا بغيره.

ص: 600

وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ قَوْسِ وَسَهْمٍ، فَإِنْ عُيِّن .. لَغَا، وَجَازَ إِبْدَالُهُ بِمِثْلِهِ، فَإِنْ شُرِطَ مَنْعُ إِبْدَالِهِ .. فَسَدَ الْعَقْدُ .. وَالأَظْهَرُ: اشْتِرَاطُ بَيَانِ الْبَادِئِ بِالَّرمْيِ

ــ

قال: (ولا يشترط تعيين قوس وسهم)؛ لأن اختلاف أنواع القسي والسهام لا يضر هنا.

قال: (فإن عين .. لغا، وجاز إبداله بمثله) سواء حدث فيه خلل يمنع استعماله أم لا، بخلاف الفرس.

واحترز بقوله: (بمثله) عن الانتقال من نوع إلى نوع كالقسي الفارسية والعربية، فإنه لا يجوز إلا بالرضا، لأنه ربما كان به أرمى.

قال: (فإن شرط منع إبداله .. فسد العقد) كسائر الشروط الفاسدة.

وقيل: لا.

والخلاف مفرع على الأصح، وهو فساد الشرط؛ لأن الرامي قد تعرض له أحوال خفية تحوجه إلى الإبدال، وفي منعه منه تضييق عليه.

قال: (والأظهر: اشتراط بيان البادئ بالرمي)؛ لأن الأغراض تختلف بذلك، وللرماة فيه تنافس ظاهر؛ لأن المبتديء بالرمي يجد الغرض نقيًا لا خلل فيه، فعلى هذا: لو أطلقا العقد .. فسد كما صرح به في (المحرر) وأفهمه لفظ الكتاب.

والثاني: لا يشترط، وعلى هذا وجهان:

أحدهما: يقرع بينهما.

والثاني: ينزل على عادة الرماة.

قال ابن كج: من رمى من غير استئذان أصحابه .. لم يحسب ما رماه أصاب فيه أم أخطأ، اتباعًا لعرفهم، وقال ابن القطان: يحسب ولا يشترط الاستئذان.

تنبيهان:

أحدهما: إذا شرط تقديم واحد أو اعتمدناه في القرعة .. هل يقدم في كل رشق

ص: 601

وَلَوْ حَضَرَ جَمْعٌ لِلْمُنَاضَلَةِ فَانْتَصَبَ زَعِيمَانِ يَخْتَارَانِ أَصْحَابًا .. جَازَ،

ــ

أو في الرشق) الأول فقط؟ وجهان.

ولو شرط في العقد أن يرمي فلان أولاً ثم فلان بعدة وهكذا في الحزب الآخر .. لم يجز، لأن التقديم إلى الزعيم.

الثاني: تعيين الموقف للمتناضلين مشترط، فيشترط تساويهما فيه. فلو شرط أن يكون أحدهما أقرب إلى الهدف .. بطل العقد.

ولو قدم أحدهما أحد قدميه عند الرمي .. لم يضر.

وإذا وقف الرماة صفًا قبالة الهدف .. فالواقف في الوسط أقرب إلى الغرض لكنه مغتفر.

قال: (ولو حضر جمع للمناضلة فانتصب زعيمان يختاران أصحابًا .. جاز) تجوز المناضلة بين حزبين فصاعدًا، لما روى البخاري [2899] عن سلمة بن الأكوع: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على قوم من أسلم يتناضلون بالسوق فقال: (ارموا يا بني إسماعيل؛ فإن أباكم كان راميًا، وأنا مع بني فلان) أحد الفريقين، فأمسكوا أيديهم، فقال:(ما لكم؟) قالوا: كيف نرمي وأنت مع بني فلان؟! قال: (ارموا وأنا معكم كلكم).

وفي (ابن حيان)[4695] و (الحاكم)[2/ 94]: أنه قال لهم: (ارموا وأنا مع ابن

ص: 602

وَلَا يَجُوزُ شَرْطُ تَعْيِينِهَا بِقُرْعَةٍ، فَإِنِ اخْتَارَ غَرِيبًا ظَنَّهُ رَامِيًا فَبَانَ خِلَافُهُ

ــ

الأذرع) قال: فأمسك القوم أيديهم، فقال:(ما لكم؟) قالوا: لا والله! لا نرمي وأنت معه يا رسول الله، إذن ينضلنا، فقال صلى الله عليه وسلم:(ارموا وأنا معكم جميعًا) فرموا عامة يومهم، ثم تفرقوا على السواء لم ينضل بعضهم بعضًا.

وابن الأذرع: هو محجن بن الأذرع الأسلمي، مات في آخر خلافة معاوية.

فإذا حضر جمع للمناضلة فانتصب زعيمان واختار أصحابًا .. جاز على الصحيح، ويكون كل حزب فيما يتفق لهم من الخطأ والصواب كالشخص الواحد.

ومنع ابن أبي هريرة جواز ذلك؛ لئلا يأخذ بعضهم برمي بعض، وللجواز أربعة شرائط.

أحدها: أن يكون لكل حزب زعيم كما ذكره المصنف، فلا يكفي أن يكون لهما زعيم واحد كما لا يجوز أن يتولى واحد في طرفي البيع، ولا يجوز أن يعقدا قبل تعيين الزعيمين.

الثاني: تعيين رماة كل حزب، فيعين هذا واحدًا وهذا واحدًا، وهكذا إلى أن يتم العدد، ولا يجوز أن يختار واحد جميع حزبه أولاً، لئلا يأخذ الحذاق.

الثالث: استواء عدد الحزبين عند العراقيين، وبه أجاب البغوي.

وقال الإمام وأتباعه: لا يشترط التساوي في الرمي والإصابة، ومحل ذلك قبل العقد.

الرابع: إمكان قسمة السهام بلا كسر.

فرع:

لابد من تساوي القوسين والسهمين في اللين والخفة والرزانة؛ لأن ذلك يؤثر في القرب والبعد تأثيرًا عظيمًا.

قال: (ولا يجوز شرط تعيينها بقرعة)؛ لأنها قد تجمع الحذاق من جانب وغيرهم من جانب فيفوت المقصود.

قال: (فإن اختار غريبًا ظنه راميًا فبان خلافه) أي: بأن لا يحسن الرمي أصلاً.

ص: 603

بَطَلَ العَقْدُ فِيهِ، وَسَقَطَ مِنَ الْحِزْبِ الآخَرِ وَاحِدٌ، وَفِي بُطْلَانِ الْبَاقِي قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَإِنْ صَحَّحْنَا. فَلَهُمُ جَمِيعًا الخِيَارُ، فَإِنْ أَجَازُوا وَتَنَازعُوا فِيَمْن يَسْقُطُ بَدَلُهُ .. فَسخَ الْعَقْدُ. وَإِذَا نَضَلَ حِزْبٌ .. قُسِمَ الْمَالُ بِحَسَبِ الإِصَابَةِ، وَقِيلَ: بِالسَّويَّةِ،

ــ

قال: (.. بطل العقد فيه، وسقط من الحزب الآخر واحد)، ليحصل التساوي كما إذا خرج أحد العبدين المبيعين مستحقًا، فإنه يسقط من الثمن ما يقابله.

تنبهان:

أحدهما: عبارة المصنف تقتضي أن الذي يسقط من الحزب الآخر لا يتعين، وقال ابن الصباغ وصاحب (المهذب): يسقط من الحزب الآخر من اختاره الزعيم في مقابلة الذي لا يحسن الرمي.

الثاني: من عبارته يؤخذ اشتراط كونه يحسن الرمي، فلو بان ضعيف الرمي أو قليل الإصابة .. فلا فسخ لأصحابه، ولو بان فوق ما ظنوه .. في فسخ للحزب الآخر، كذا أطلقوه.

قال الرافعي: وينبغي أن يكون فيه الخلاف في اشتراط تداني المتناضلين، وقد يستدل بإطلاقهم على أن ذلك لا يعتبر.

قال: (وفي بطلان الباقي قولا تفريق الصفقة) كغيره من العقود، وقطع فيه بعضهم بالبطلان.

قال: (فإن صححنا .. فلهم جميعًا الخيار) أي: بنفس الفسخ والإجازة لهذا الحزب والحزب الآخر، فإن شاؤوا .. فسخوا العقد، وإن شاؤوا أجازوه.

قال: (فإن أجازوا وتنازعوا فيمن يسقط بدله .. فسخ العقد)؛ لتعذر إمضائه.

قال: (وإذا نضل حزب .. قسم المال بحسب الإصابة)؛ لأنهم استحقوا بها، فمن لا إصابة له لا شيء له، وهذا الذي جعله في (المحرر) أشبه فتبعه المصنف، وكأنه سبق قلم؛ فإن الأشبه في (الشرح) و (الروضة): الثاني، وقطع به بعضهم.

قال: (وقيل: بالسوية) كما يجب على المنضولين بالسوية، وهذا هو المفتى به.

ص: 604

وَيُشْتَرَطُ فِي الإِصَابَةِ الْمَشْرُوطَةِ أَنْ تَحْصُلَ بِالنَّصْلِ، فَإِنْ تَلِفَ وَتَرٌ أَوْ قَوْسٌ، أَوْ عَرَضَ شَيْءٌ انْصَدَمَ بِهِ السَّهْمُ وَأَصَابَ .. حُسِبَ لَهُ عَلَى الأَصّحِّ، وَإِلَاّ .. لَمْ يُحْسَبْ عَلَيْهِ، وَلَوْ نَقَلَتِ الرِّيحُ الغَرَضَ فَأَصَابَ مَوْضِعَهُ .. حُسِبَ لَهُ، وَإِلَاّ فَلَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ،

ــ

قال: (ويشترط في الإصابة المشروطة أن تحصل بالنصل)؛ لأنه المفهوم من الإصابة عند الإطلاق، فإن أصاب بالفوق وهو موضع الوتر من السهم أو العرض .. لم يحسب له وحسب عليه.

وفي وجه: إذا أصاب بالفوق .. لا يحسب عليه، وهو ضعيف.

قال: (فإن تلف وتر أو قوس، أو عرض شيء انصدم به السهم وأصاب .. حسب له على الأصح)، لأن الإصابة مع ذلك تدل على جودة الرمي.

ومحل ما ذكره المصنف إذا كان انقطاع الوتر أو انكسار القوس قبل خروج السهم من القوس، أما بعده .. فلا أثر له.

قال: (وإلا) أي: وإن لم يصب (.. لم يحسب عليه) إحالة على السبب العارض.

قال: (ولو نقلت الريح الغرض فأصاب موضعه .. حسب له) هذا إذا كان الشرط الإصابة، وعن ابن القاص خلافه؛ لأنه زال المرمي إليه.

قال: (وإلا .. فلا يحسب عليه) أي: إن لم يصب موضعه .. لم يحسب عليه؛ إحالة على السبب العارض.

وعبارة (المحرر): وإلا .. فلا؛ أي: لم يحسب له، والذي في (الروضة) و (أصلها): فلو أصاب الغرض في الموضع المنتقل إليه .. حسب عليه لا له، فإن

ص: 605

وَلَوْ شُرِطَ خَسْقٌ فَثَقَبَ وَثَبَتَ ثُمَّ سَقَطَ، أَوْ لَقِيَ صَلَابَةً فَسَقَطَ .. حُسِبَ لَهُ

ــ

أراد في (المنهاج) هذه .. فهي مخالفة لما فيه مخالفة لما فيه، وإن أراد غيرها .. ففيه نظر.

قال: (ولو شرط خسق فثقب وثبت ثم سقط، أو لقي صلابة فسقط .. حسب له).

أما في الأولى .. فكما لو نزعه غيره، وأما في الثانية .. فلظهور سبب الرجوع عن الخسق وهو الصلابة، فلو خدشه ولم يثقبه .. فليس بخاسق، وكذا إن ثقبه ولم يثبت في الأظهر.

وفي الصورة الثانية قول: إنه لا يحسب لا له ولا عليه.

تتمة:

قال ابن كَجّ: لو تراهن رجلان على قوة يختبران بها أنفسهما كالقدرة على رقي جبل أو إقلال صخرة أو أكل كذا أو الظهور من أحد جانبي النهر إلى الآخر .. فهذا كله من أكل الأموال بالباطل، وكله حرام.

ومن هذا النمط ما يفعله العوام في الرهان على حمل كذا من موضع كذا إلى مكان كذا، وإجراء الساعي من طلوع الشمس إلى الغروب، كل ذلك ضلالة وجهالة مع ما يشتمل عليه من ترك الصلوات وفعل المنكرات.

* * *

خاتمة

يستحب أن يكون عند الغرض شاهدان؛ ليشهدا على ما وقع من إصابة وخطأ، وليس لهما أن يمدحا المصيب ولا أن يذما المخطاء؛ لأن ذلك يخل بالنشاط.

* * *

ص: 606

فهرس الكتاب

كتاب دعوى الدم والقسامة

7

فصل: فيما يثبت موجب القصاص وموجب المال

29

كتاب البغاة

43

فصل: في شروط الإمام الأعظم وما معه

59

كتاب الردة

77

كتاب الزنا

101

كتاب حد القذف

137

كتاب قطع السرقة

149

فصل: فيما لا يمنع القطع وما يمنع وفيما يكون حرزًا لشخص دون آخر

174

فصل: في شروط السارق وفيما تثبت به السرقة

184

باب قاطع الطريق

202

فصل: في اجتماع عقوبات

214

كتاب الأشربة

221

فصل: في التعزير

236

كتاب الصيال وضمان الولاة

249

فصل: في ضمان ما تتلفه البهائم

274

كتاب السير

285

فصل: فيما يكره من الغزو ومن يحرم قتله من الكفار وما يجوز قتالهم به

316

فصل: في حكم ما يؤخذ من أهل الحرب

239

فصل: في الأمان

367

كتاب الجزية

385

فصل: في مقدار مال الجزية

403

ص: 607

فصل: في أحكام الجزية الزائدة على ما مر

415

كتاب الهدنة

437

كتاب الصيد والذبائح

453

فصل: في آلة الذبح

472

فصل: فيما يملك به الصيد

487

كتاب الأضحية

499

فصل: في العقيقة

523

كتاب الأطعمة

539

كتاب المسابقة والمناضلة

583

فهرس الكتاب

607

* * *

ص: 608