المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كِتَابُ الأَطْعِمَةِ حَيَوَانُ الْبَحْرِ ــ   كتاب الأطعمة هي جمع طعام، والمراد: بيان ما يباح - النجم الوهاج في شرح المنهاج - جـ ٩

[الدميري]

الفصل: ‌ ‌كِتَابُ الأَطْعِمَةِ حَيَوَانُ الْبَحْرِ ــ   كتاب الأطعمة هي جمع طعام، والمراد: بيان ما يباح

‌كِتَابُ الأَطْعِمَةِ

حَيَوَانُ الْبَحْرِ

ــ

كتاب الأطعمة

هي جمع طعام، والمراد: بيان ما يباح أكله وشربه من المطعوم والمشروب.

وللإنسان في ذلك حالتا اضطرار واختيار؛ فلذلك عقد له هذا الكتاب.

والأصل فيه: قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} ، والمراد هنا: ما تستطيبه النفس وتشتهيه، ولا يجوز أن يراد الحلال؛ لأنهم سألوه عما يحل لهم فكيف يقول أحل لكم الحلال؟!

واسم الطيب يقع على أربعة أشياء:

الحلال، ومنه قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} .

والطاهر، ومنه قوله تعالى:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} .

وما لا أذى فيه كقولهم: هذا يوم طيب وليلة طيبة.

وما تستطيبه النفس كما يقال: هذا طعام طيب.

ومقصود الباب: الكلام في المطاعم ومعرفة أحكامها من المهمات، فإن الله تعالى أجرى العادة بالحاجة إليها.

وفي تناول الحرام جاء الوعيد الشديد، فمنه في (الترمذي) [614] و (ابن حبان) [5567] عن كعب بن عجرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا كعب بن عجرة؛ لا ينبت لحم من الحرام إلا كانت النار أولى به) وفي رواية: (لا يدخل الجنة لحم بنت من سحت).

قال: (حيوان البحر) وهو الذي لا يعيش إلا في الماء وعيشه خارجه كعيش المذبوح.

ص: 539

السَّمَكُ مِنْهُ حَلَالٌ كَيْفَ مَاتَ،

ــ

وهو قسمان: منه ما ليس له رئة كأنواع السمك، ومنه ما له رئة كالضفدع؛ فإنها تجمع بين الماء والهواء.

روى القزويني وغيره عن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى خلق في الأرض ألف أمة ست مئة في البحر، وأربع مئة في البر).

قال: (السمك منه حلال)؛ لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} أي: مصيده ومطعومه، وقال أبو بكر وعمر وابن عباس وجمهور الصحابة والتابعين: طعامه: ما طفا على وجه الماء، وإلى هذا يشير قوله صلى الله عليه وسلم:(هو الطهور ماؤه الحل ميتته).

قال: (كيف مات) أي: سواء كان ذلك بسبب ظاهر كصدمة حجر أو انحسار ماء أو ضرب من الصائد، أو مات حتف أنفه طافيًا أو راسبًا، خلافًا لأبي حنيفة.

لنا: عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (الحل ميتته) والصحيح في حديث العنبر: أنهم وجدوه بشاطئ البحر ميتًا فأكلوا منه وقدموا بوشائق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكله.

لكن يستثنى ما إذا انتفخ الطافي وصار بحيث يخشى أن يورث الأسقام .. فيحرم للضرر، قاله الشيخ أبو محمد في (التبصرة)، وإليه أشار القفال في (محاسن الشريعة).

فرعان:

أحدهما: وجدنا سمكة في جوف سمكة أو في جوف سبع .. حل أكلها، إلا أن تكون قد تقطعت وتغير لونها .. فتحرم في الأصح؛ لأنها كالروث والقيء، ولو استحالت حرمت جزمًا.

الثاني: صغار السمك التي تقلى من غير أن يشق جوفه في حل أكله وجهان:

ص: 540

وَكَذَا غَيْرُهُ فِي الأَصَحِّ، وَقِيلَ: لَا، وَقِيلَ: إِنْ أُكِلَ مِثْلُهُ فِي الْبَرِّ .. حَلَّ، وَإِلَاّ .. فَلَا، كَكَلْبٍ وَحِمَارٍ

ــ

صحح جماعة تحريمه بسبب ما في جوفه؛ فإن ينجس الدهن فيتنجس الجميع، قال الرافعي: وعلى المسامحة فيه جرى الأولون، قال الروياني: وبه أفتي، ورجيعها طاهر عندي، وفي طهارته وجه تقدم في (باب النجاسة).

قال: (وكذا غيره في الأصح) وهو ما غاير السمك في الصورة المشهورة؛ لأن صيد البحر يقع على الجميع.

وقال الشافعي: يؤكل فأر الماء وخنزيره، فعلى هذا: لا تشترط ذكاته في أصح القولين أو الوجهين كالسمك؛ لما روى البخاري عن أبي بكرة: (كل دابة تموت في البحر .. فقد ذكاها الله لكم).

وكلام المصنف اشتمل على مسألتين:

إحداهما: أصل الحل.

والثانية: عدم الاحتياج إلى التذكية، ويقابل الأصح في الثانية الاحتياج، ويقابله في الأولى الوجهان المذكوران عقبه.

قال: (وقيل: لا)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خص السمك والجراد بالحل، وهذا لا يسمى سمكًا.

قال: (وقيل: إن أكل مثله في البر .. حل) كالبقر والشاء، فعلى هذا: ما لا نظير له حلال أيضًا؛ لقصة العنبر إذ لا نظير لها في البر، ولذلك لما أعلموا بها النبي صلى الله عليه وسلم .. لم ينكر عليها، وأكل من بقية لحمها.

قال: (وإلا .. فلا، ككلب وحمار)؛ اعتبارًا لما في البحر بما في البر، ولأن

ص: 541

وَمَا يَعِيشُ فِي بَرٍّ وَبَحْرٍ كَضِفْدِعٍ وَسَرَطَانٍ وَحَيَّةٍ .. حَرَامٌ،

ــ

الاسم يتناوله فأجري عليه حكمه، وعلى هذا: لا يحل ما أشبه الحمار وإن كان في البر حمار الوحش.

وإذا حكمنا بحل ما سوى السمك .. فالأصح: أنه لا يشترط فيها الذكاة؛ لأنها حيوانات تعيش في الماء فأشبهت السمك.

قال: (وما يعيش في بر وبحر كضفدع وسرطان وحية .. حرام)، أما الضفدع .. فصح أن طبيبًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه يجعله في دواء فنهاه عن قتلها، رواه أبو داوود [5227] والنسائي [7/ 210] والحاكم [4/ 410/411]، فلو كان أكلها مباحًا .. لم ينه عن قتلها.

وصح عن ابن عمر أنه قال: (لا تقتلوا الضفادع؛ فإن نقيقها: تسبيح).

وقال بعض الفقهاء: إنما حرم؛ لأنه كان جار الله في الماء الذي كان عليه العرش قبل خلق السماوات والأرض ..

وقيل: إنما حرم؛ لأنه سم، وادعى الماوردي الاتفاق عليه.

وفي قول ضعيف: إنه حلال بشرط الذكاة.

وأما السرطان .. فلاستخباثه، وفيه قول ضعيف أيضًا: إنه حلال، وإليه ذهب الحليمي إذا ذبح.

وأما حيات الماء وعقاربه وما فيه من ذوات السموم الضارة التي تفضي إلى موت أو سقم .. فلا يحل أكلها بحال.

وخالف في (شرح المهذب) فقال: الصحيح المعتمد: أن جميع ما في البحر تحل ميتته إلا الضفدع، ويحمل ما ذكره الأصحاب أو بعضهم في الحية والسلحفاة والنسناس على ما يكون في غير البحر.

واحترز بقوله (كضفدع وسرطان) عن البط والإوز ونحوهما وسيأتي.

ص: 542

وَحَيَوانُ الْبَرِّ تَحِلُّ مِنْهُ الأَنْعَامُ

ــ

و (الضفدع) بكسر الضاد والدال على الأشهر، ويجوز فتح ضادها مع كسر الدال، وحكى ابن السيد ضم الضاد وفتح الدال، وهو شاذ.

وأما التمساح فحرام على الأصح؛ لخبثه، وعلله الشيخ في (التنبيه) بأنه يتقوى بنابه، ومقتضى هذه العلة أن يحرم القرش؛ لأنه في معناه، بل أشد منه ضررًا، وبه أجاب شيخنا رحمه الله، لكن أجاب الشيخ محب الدين الطبري فيه بالحل تبعًا لابن الأثير في (النهاية)، قال: ويقال له: اللخم بفتح اللام والخاء المعجمة.

والسلحفاة البحرية وهي اللجا بالجيم صرح في (شرح المهذب) بأنها غير مأكولة، وهو الأصح عند الأصحاب، وصرحوا بكراهة قتلها.

والأصح تحريم النسناس؛ لأنه على خلقة الناس، كذا قاله القاضي أبو الطيب وغيره، وقال الجوهري: هو جنس من الخلق، يثب أحدهم على رجل واحدة، وقال المسعودي: له عين واحدة تخرج من الماء ويتكلم، ومتى ظفر بالإنسان .. قتله، يوجد في جزائر الصين، يقفزون كما يقفز الطير، وفي (المحكم): أنه سبع من أخبث السباع.

وقال ابن قتيبة: النمس: ابن عرس، وقال الرافعي في (كتاب الحج): النمس أنواع، وبهذا يجمع بين هذه الأقوال.

فرع:

الدنيلس: نوع من الصدف، قال أرسطاطاليس: إنه أصل السرطان، وحكمه حل الأكل؛ لأنه من طعام البحر ولا يعيش إلا فيه، ولم يأت على تحريمه دليل، كذا أفتى به الشيخ شمس الدين بن عدلان وعلماء عصره وغيرهم، وما نقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام من الإفتاء بتحريم أكله لم يصح؛ فقد نص الشافعي على أن حيوان البحر الذي لا يعيش إلا فيه يؤكل لعموم الآية، ولقوله عليه الصلاة والسلام:(الحل ميتته).

قال: (وحيوان البر تحل من الأنعام) وهي الإبل والبقر والغنم؛ لقوله تعالى:

ص: 543

وَالْخَيْلُ وَبَقَرُ وَحْشٍ وَحِمَارُهُ، وَظَبْيٌ وَضَبْعٌ

ــ

{أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} ، وقوله:{وَمَنَافِع وَمِنْهَا تَاكُلُونَ} ، وأجمعت الأمة على ذلك.

قال: (والخيل) سواء كانت عربية أو عجمية أو متولدة منهما؛ لما روى جابر قال: (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر وأذن في لحوم الخيل) رواه الشيخان [خ 5520 - م 1941]، ولفظ البخاري:(وأرخص في لحوم الخيل).

وأما حديث خالد في النهي عن أكل لحوم الخيل .. فقال أحمد وغيره: منكر، وقال أبو داوود [3784]: منسوخ.

وأما قوله تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} ولم يذكر الأكل؛ لأنه في سياق الامتنان فرده البيهقي بأن الآية مكية بالاتفاق، ولحوم الخيل إنما أحلت يوم خيبر سنة سبع بالاتفاق.

وفي (الصحيحين)[خ 5095 - م 3597]: عن أسماء قالت: (نحرنا فرسًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه ونحن بالمدينة)، وفي (مسند أحمد) [6/ 346]:(فأكلناه نحن وأهل بيته).

قال: (وبقر وحش وحماره)؛ لأنهما من الطيبات.

وفي (الصحيحين)[خ 1821 - م 1196]: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل الحمار الوحشي) ويستوي في ذلك الأبل والوعل والتيتل وهو الذكر المسن من الأوعال، وكذلك تؤكل جميع كباش الجبل وغنمه، ولا فرق في حمار الوحش بين أن يتأنس أو يبقى على توحشه، كما لا فرق في تحريم الأهلي بين الحالين.

قال: (وظبي) بالإجماع.

قال: (وضبع)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الضبع صيد، فإذا أصابه المحرم .. ففيه كبش مسن، ويؤكل) رواه أبو داوود [3795] والحاكم [1/ 453] من حديث جابر وقال: صحيح الإسناد.

ص: 544

وَضَبٌّ

ــ

وروى الشافعي [1/ 341] بسنده عن عبد الرحمن بن أبي عمار قال: سألت جابرًا عن الضبع، أصيد هو؟ قال: نعم، قال الشافعي: ما زال الناس يأكلونها ويبيعونها بين الصفا والمروة من غير نكير.

ومن عجيب أمرها أنها تحيض وتكون سنة ذكرًا وسنة أنثى.

قال: (وضب)؛ لما في (الصحيحين)[خ 5391 - م 1945] عن ابن عباس قال: دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة، فأُتي بضب محنوذ، فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فقال بعض النسوة اللاتي في البيت: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقلت: أحرام هو؟ قال: (لا، ولكنه ليس بأرض قومي فأجدني أعافه) قال خالد: فاجتررته فأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر.

وبهذا قال مالك وأحمد.

ومعنى أعافه: أكرهه تقذرًا.

وهو حيوان معروف، للذكر ذكران وللأنثى فرجان، لا تسقط أسنانه إلى أن يموت، وهو واليربوع مستثنيان من الحشرات، وحرمه أبو حنيفة، فإن صح عنه .. فهو محجوج بالنصوص وإجماع من قبله.

وأما أم حبين .. فالأصح: أنها حلال، وهي دويبة صفراء كبيرة الجوف، وقال البندنيجي: إنها ضرب من الضباب.

ص: 545

وَأَرْنَبٌ وَثَعْلَبٌ وَيَرْبُوعٌ وَفَنَكٌ وَسَمُّورٌ،

ــ

قال: (وأرنب)؛ لما روى الشيخان [خ 2572 - م 1953]: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل منه وأمر بذلك).

وروى أبو داوود [3785] عن أنس قال: (كنت غلامًا حزوَّرًا، فصدت أرنبًا فشويتها وبعث معي أبو طلحة بعجزها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

و (الحزوَّرة) بالتشديد والتخفيف: المراهق.

ولم تبلغ أبا حنيفة الأحاديث فحرمها محتجًا بأنها تحيض كالضبع، وهي محرمة عنده أيضًا.

قال: (وثعلب)؛ لأنه من الطيبات ونابه ضعيف، وأوجب عمر فيه على المحرم جفرة، ولا يفدى إلا ما يؤكل.

وقال ابن حزم وابن الصلاح: لم يرد في تحليل الثعلب حديث.

وحكى العبادي في (طبقاته) عن أبي سعيد الدارمي صاحب البويطي أنه حرمه.

قال: (ويربوع)؛ لأن العرب تستطيبه، وأوجب فيه عمر جفرة على المحرم أيضًا.

وقال في (شرح المهذب): لا خلاف في حله، وفيه نظر؛ ففي (الشرح الصغير) وجه: أنه حرام، وصححه في (البيان)، وهي دويبة مثل الجرذ لها رأس مدور وعين ضخماء مستديرة، بيضاء الطرف، قصيرة اليدين والرجلين.

قال: (وفنك وسمور) هذان فيهما وجهان:

أصحهما –كما قاله المصنف-: الحل كالثعلب.

و (الفنك) بفتح الفاء والنون: دويبة يتخذ جلدها فروًا.

و (السمور) بفتح السين وضم الميم المشددة كسفود وكلوب: حيوان بري يشبه السنور، تتخذ من جلده الفراء للينها وخفتها، يألف المياه كثيرًا والمواضع المخصبة.

ص: 546

وَيَحْرُمُ بَغْلٌ

ــ

ووقع في (تهذيب الأسماء واللغات) أنه طائر، وهو سبق قلم.

وأعجب منه ما وقع لابن هشام السبتي في (شرح الفصيح) أنه ضرب من الجن، ونظيره وما قبله السنجاب والقاقم والحواصل، وفي الحَمَسَة وجه.

فروع:

الأصح: حل الوبر؛ لأن العرب تستطيبه، ويفديه المحرم، وهو دويبة أكبر من ابن عرس وأصغر من الهرة الوحشية، ليس لها ذنب، كَحلاء العينِ.

وأما الببر –ببائين موحدتين الأولى مفتوح والثانية ساكنة- فهو ضرب من السباع، يعادي الأسد من العدو لا من المعاداة، ويقال له: الفرانق، شبيه بابن آوى، يحرم أكله؛ لأنه يتقوى بنابه.

والقنفذ بالذال المعجمة حلال؛ لأنه مستطاب لا يتقوى بنابه، وقيل: حرام؛ لما روى أبو داوود [3793]: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عنده فقال: (خبيث من الخبائث).

وجوابه: أن إسناده غير قوي، ومثله في جريان الخلاف الدلدل، وهو دابة قدر السخلة ذات شوك طويل يشبه السهام، وفي (الصحاح): أنه عظيم القنافذ.

وأما ابن عرس –وجمعه بنات عرس- ففي (شرح المهذب): أنه حلال بلا خلاف، وفيه وجه في (الشرح الصغير)، وليست المسألة في (الروضة).

قال: (ويحرم بغل)؛ لتولده بين حرام وحلال.

وروى مسلم عن جابر قال: (ذبحنا في خيبر الخيل والحمر فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل).

ص: 547

وَحِمارٌ أَهْلِيٌّ، وَكُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَيْرِ،

ــ

فإن تولد بين فرس وحمار وحشي .. حل بلا خلاف، ويلتحق بـ (البغل) في التحريم كل حيوان متولد بين مأكول وغيره كالسِّمع وسيأتي.

وكذا الحمار المتولد بين الوحشي والأهلي، سواء كان المأكول الذكر أو الأنثى.

وجعل بعضهم الزرافة من ذلك وقال: هي متولدة بين مأكول وغيره فتحرم، وهي بفتح الزاي وضمها لغتان مشهورتان، وفي (شرح المهذب) أنها حرام بلا خلاف، والذي ذهب إليه المتولي فيها الحل، وبه أفتى البغوي وقال: إنها لا تتقوى بنابها كالثعلب.

وقال بعضهم: الذي يتقوى بنابه بالقاف، وفي (شرح التنبيه) لابن يونس في حلها وجهان.

قال: (وحمار أهلي)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، وأما حديث: (أطعم أهلك من سمين حمرك (فاتفق الحفاظ على ضعفه، ولو صح .. حمل على حال الاضطرار.

قال: (وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير) ففي (الصحيحين)[خ 5530 - م 1932]: أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وفي (مسلم) [1934]:(وكل مخلب من الطير) ودخل في عمومه الكلب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الكلب خبيث وخبيث ثمنه) وكذلك الخنزير؛ لعموم الآية والإجماع.

والمراد من (ذي الناب): الذي يعدو على الحيوان ويتقوى بنابه طالبًا غير مطلوب، والتحريم منوط بذلك على النص.

ص: 548

كَأَسَدٍ وَنَمِرٍ وَذِئْبٍ وَدُبٍ وَفِيلٍ وَقِرْدٍ وَبَازٍ وَصَقْرٍ وَشَاهِينٍ وَنَسْرٍ وَعُقَابٍ،

ــ

و (المخلب) بكسر الميم وإسكان الخاء المعجمة يكون للطير والسباع كالظفر للإنسان.

قال: (كأسد ونمر وذئب ودب وفيل وقرد وباز وصقر وشاهين ونسر وعقاب) وكذلك جميع جوارح الطير؛ لاستخباثها، خلافًا لمالك حيث قال: تكره.

وقال أحمد: ليس الفيل من أطعمة المسلمين، وعن البوشنجي أنه اختار لنفسه حل الفيل كمذهب مالك.

وقال البندنيجي: يحل القرد، ولم يعد جماعة النسر مما له مخلب، وقالوا: حرم لاستخباثه.

وذكر ابن خالويه للأسد خمس مئة اسم، وزاد علي بن جعفر عليه مئة وثلاثين اسمًا.

و (النمر) بفتح النون وكسر الميم ويجوز إسكانها: حيوان معروف، أخبث من الأسد، سمي بذلك لتنمره واختلاف لون جسده، يقال: تنمر فلان؛ أي: تنكر وتغير؛ لأنه لا يوجد غالبًا إلا غضبانَ، وهو ذو قهر وسطوات عتيدة، ووثبات شديدة، معجب بنفسه، فإذا شبع نام ثلاثة أيام، ورائحة فمه طيبة.

و (الذئب) بالهمز وعدمه معروف، يلتحم عند السفاد كالكلب، وهو موصوف بالانفراد والوحدة، ومن طبعه أنه لا يعود إلى فريسة شبع منها، وينام بإحدى عينيه والأخرى يقظى حتى تكتفي العين النائمة من النوم، ثم يفتحها وينام بالأخرى ليحرس باليقظى ويستريح بالنائمة، وهو أكثر الحيوان عواء إذا كان مرسلاً، فإذا أخذ وضرب .. لم يسمع له صوت، وفيه قوة حاسة الشم، فيشم الشيء من فرسخ.

وكلم الذئب ثلاثة من الصحابة: أهبان بن أوس الأسلمي، ورافع بن عميرة، وسلمة بن الأكوع.

و (الدب) من السباع، يحب العزلة، وإذا جاء الشتاء دخل وِجاره، ولا يخرج

ص: 549

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

إلا أن يطيب الهواء، وإذا جاع مص أصابع يديه ورجليه فيندفع عنه بذلك الجوع، ويخرج أسمن ما كان، ويسفد الذكر الأنثى مضطجعة على الأرض، وتضع جروها قطعة لحم غير مميز الجوارح، فلا تزال تلحسه حتى تتميز أعضاؤه.

و (الفيل) جمعه فيلة وأفيال، وكنيته أبو الحجاج، والفيل المذكور في القرآن كنيته أبو العباس واسمه محمود، والذكر ينزو إذا تم له خمس سنين، وتحمل الأنثى سنتين، وهو صاحب حقد ولسانه مقلوب، ولولا ذلك لتكلم، ويخاف من الهرة خوفًا شديدًا، وفيه من الفهم ما يقبل به التأديب والتعليم، والهند تعظمه؛ لما اشتمل عليه من الخصال المحمودة، ويعمر كثيرًا.

و (القرد) جمعه قردة وقرود، وهو حيوان قبيح مليح ذكي سريع الفهم، أهدى ملك النوبة إلى المتوكل قردًا خياطًا، تلد الأنثى في البطن الواحدة العشرة والاثني عشر، والذكر شديد الغيرة على الإناث، وهذا الحيوان شبيه بالإنسان في غالب حالاته، فإنه يضحك ويطرب، ويتناول الشيء بيده، ويأنس بالناس، ويمشي على أربع مشيه المعتاد، وعلى رجليه حينًا يسيرًا.

و (الباز) فيه ثلاث لغات: أفصحها بازي بتخفيف الياء، وثانيها: باز، وثالثها: بازي بالتشديد وأنكرها الجوهري، ولفظه يذكر بلا خلاف.

وهو من أشد الحيوان تكبرًا وأضيقها خلقًا.

وقيل: لا يكون إلا أنثى وذكرها من نوع آخر من الحدأة والشاهين، ولهذا اختلف أشكالها.

و (الصقر) بالصاد والزاي والسين، وكذلك كل كلمة فيها صاد وقاف فيها اللغات الثلاثة كالبصاق.

قال في (شرح المهذب): يقال للبزاة والشواهين وغيرهما مما يصيد: صقور، واحدها صقر، والأنثى صقرة.

و (الشاهين) جمعه شواهين، وليس بعربي، لكن تكلمت العرب به، وهو في الحقيقة من جنس الصقر، ولذلك قال في (التحرير): أنكر على الشيخ جعله الصقر

ص: 550

وَكَذَا ابْنُ آوَى وَهِرَّةُ وَحْشٍ فِي الأَصَحِّ

ــ

قسيمًا للبازي والشاهين مع أنه يتناولهما، قال: ويجاب عنه بأنه ذكر العام ثم الخاص وهو جائز، والمصنف وقع هنا في ذلك ويجاب عنه بما أجاب.

قال: (وكذا ابن آوى وهرة وحش في الأصح) أما ابن آوى .. فلأنه كريه الرائحة تستخبثه العرب؛ لأكله الميتة، وفيه شبه من الذئب وشبه من الثعلب، وهو فوق الثعلب ودون الكلب، وجمعه بنات آوى، ولا ينصرف؛ لأنه على أفعل وهو معرفة، وصياحه يشبه صياح الصبيان، وهو طويل المخالب والأظفار، يعدو ويأكل مما يصيد من الطيور وغيرها، وخوف الدجاج منه أشد من خوفها من الثعلب؛ لأنه إذا مر تحتها وهي على جدار تساقطت.

وأما هرة الوحش .. فلأنها تصطاد بنابها فأشبهت الأسد.

وقيل: يحل ابن آوى؛ لضعف نابه، والهرة؛ لأنها حيوان تنوع إلى أهلي ووحشي، حرم الأهلي منه فيجعل الوحشي كالحمار، وأصل الخلاف التردد في أنه وحشي الأصل أو إنسي توحش وتوالد عند خلو القرى في سني القحط، فيحل على الأول دون الثاني.

واحترز بـ (الوحشية) عن الأهلية، فإنها حرام أيضًا على الصحيح؛ ففي الحديث أنها سبع، وفي (سنن البيهقي) [9/ 317]:(أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الهر).

ولأن لها نابًا تصطاد به وتأكل الجيف.

وقيل: يحل أكلها؛ لضعف نابها، فلو قال المصنف:(وهرة) وحذف لفظ وحش .. كان أشمل وأخصر.

أما ابن مقرض – وهو الدلق بفتح الدال واللام- فالصواب: أنه حلال كما وقع في (الشرح) و (الحاوي) الصغيرين، وهو دويبة أكحل اللون طويل الظهر ذو قوائم أربع، أصغر من الفأرة، يقتل الحمام ويقرض الثياب.

وأما النمس الذي يأوي الخراب من الدور ونحوها .. فهو نوع من القردة، فالظاهر أنه حرام؛ لأنه يفترس الدجاج، فهو كابن آوى.

ص: 551

وَيَحْرُمُ مَا نُدِبَ قَتْلُهُ كَحَيَّةٍ وَعَقْرَبٍ وَغُرَابٍ أَبْقَعَ وَحِدَأَةٍ وَفَارَةٍ وَكُلِّ سَبُعٍ ضَارٍ، وَكَذَا رَخَمَةٌ وَبُغَاثَةٌ، وَالأَصَحُّ: حِلُّ غُرَابٍ زَرْعٍ،

ــ

قال: (ويحرم ما ندب قتله كحية وعقرب وغراب أبقع وحدأة وفأرة وكل سبع ضار)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور) متفق عليه [خ 3314 - م 1198].

ولأن هذه مستخبثات شرعًا وطبعًا، لكن يستثنى من عموم تحريم ما أمر بقتله البهيمة المأكولة اللحم إذا وطئها آدمي؛ فإنها تؤكل مع الأمر بقتلها.

وأما الغراب الأبقع .. فلا خلاف في تحريمه.

وأما الغداف الصغير وهو بدال مهملة رمادي اللون صغير الجثة .. فصحح في (أصل الروضة) و (التصحيح) و (الكفاية) تحريمه، وحاصل كلام الرافعي فيه الحل.

والحية الذكر والأنثى، والعقرب الأنثى والذكر عقربان بضم العين والراء.

قال: (وكذا رخمة)؛ لخبث غذائها، وروى البيهقي [9/ 317] عن ابن عباس:(أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكلها).

وهي طائر أبقع يشبه النسر في الخلقة، يقال له: الأنوق، والجمع رخم، ويقال لها: ذات الاسمين.

قال: (وبغاثة)؛ لاستخباثها، وباؤها مثلثة، وهو طائر أبيض بطيء الطيران أصغر من الحدأة ذات مخلب ضعيف.

وكذلك يحرم العقعق على الصحيح، والبوم والضوع على الأصح، وهو بضم الضاد المعجمة وفتح الواو وبالعين المهملة، قيل: إنه ذكر البوم، فإن صح ذلك .. جرى الخلاف فيه كما جرى في البومة.

قال: (والأصح: حل غراب زرع) وهو أسود صغير، يقال له الزاغ، وقد يكون

ص: 552

وَتَحْرِيمُ بَبَّغَا وَطَاوُوسٍ،

ــ

محمر المنقار والرجلين؛ لأنه مستطاب، وقيل: حرام؛ لأنه من جنس الغربان.

وحكم بيض ما ذكرناه حكم لحم.

قال: (وتحريم ببغا)؛ لخبث لحمها، وهي بفتح الباء الأولى وتشديد الثانية، هذا الطائر المعروف الأخضر الذي يقال له: الدرة بدال مهملة مضمومة، كذا قال الصاغاني وغيره، ولا يعرف اسم ذكر من لفظها، وليست من طير العرب، بل من اليمن والنوبة.

وقيل: هي حلال؛ لكلها الطيبات، ولأنها ليست من ذوات السموم ولا من ذوات المخالب، ولا أمر بقتلها ولا نهي عنه.

وهو حيوان دمث الخلق ثاقب الفهم، له قوة على حكاية الأصوات وقبول التلقين، ويتناول مأكوله برجله كما يتناول الإنسان الشيء بيده، من أكل لسانها .. صار فصيحًا جريئًا في الكلام.

قال: (وطاووس)؛ لخبث لحمه، وقيل: حلال؛ لعدم أكله المستقذرات واللحوم، وهو مع حسنه يتشاءم به.

وأما الشقراق – ويقال له الشرقراق- فجزم البغوي بحله والصيمري والعجلي بتحريمه وهو قول الأكثرين.

ص: 553

وَتَحِلُّ نَعَامَةٌ وَكُرْكِيٌّ وَبَطٌّ وَإِوَرٌّ

ــ

وهو طائر يسمى الأخيل، والعرب تتشاءم به، وهو أخضر ملون حسن المنظر على شكل الحمام، كثير ببلاد الشام والروم.

وأما ملاعب ظله .. فقال أبو عاصم يحرم، وهو طائر يسبح في الجو مرارًا كأنه ينقض على طائر.

والنهاس حرام كالسباع التي تنهس.

واللقاط حلال إلا ما استثناه النص وهو ذو المخلب.

قال البوشنجي: وما يتقوت بالطاهرات حلال بالإجماع إلا ما استثناه النص، وما يتقوت بالجيف حرام.

قال: (وتحل نعامة) بالإجماع، ولأن الصحابة قضوا فيها إذا قتلها المحرم ببدنة.

وهي تذكر وتؤنث، والنعام اسم جنس مثل حمام وحمامة وجراد وجرادة.

وتوصف بالحمق ولا سمع لها، لكنها تدرك بالشم ما تحتاج فيه إلى السمع فتشم رائحة القناص من بعد، وهي كثيرة الصبر على العطش، وتبتلع العظم الصلب والحجر والحديد فيذوب في جوفها كالماء.

قال: (وكركي) بلا خلاف، وما أوهمه كلام العبادي من جريان الخلاف فيه لأنه من طير الماء الأبيض شاذ.

وهو طائر كبير، وكنيته أبو العيزار، وفي طبعه الحذر والتحارس بالنوبة في الليل، وإذا كبر أبواه عالهما، ولا يمشي على الأرض إلا بإحدى رجليه ويعلق الأخرى، وإذا وضعها .. وضعها وضعًا خفيفًا مخافة أن تنخسف به الأرض.

قال: (وبط وإوز)؛ لأنهما من الطيبات.

و (البط): هو الإوز الذي لا يطير، والإوز بكسر الهمزة وفتح الواو.

وتحل الحبارى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكلها، وكذلك كل

ص: 554

وَدَجَاجٌ وَحَمَامٌ

ــ

ما أشبهها، ولم يحك المصنف فيها خلافًا، والرافعي جعل الجميع من طير الماء وجميعه حلال إلا اللقلق، وإلا طير الماء الأبيض؛ فإن الصميري قال: إنه حرام لخبث لحمه.

قال أبو عاصم: طير الماء أكثر من مئتي نوع، لا يوجد لأكثرها اسم عند العرب؛ لأنها لا توجد ببلادهم.

ويحل من طير الماء مالك الحزين، وهو البلشون، قاله ابن بري، وهو الطويل العنق والرجلين من أعاجيب الدنيا؛ لأنه لا يزال يقعد بقرب المياه ومواضع نبعها من الأنهار وغيرها، فإذا نشفت يحزن لذهابها، وكلما نقصت .. حزن، ولا يشرب منها عند ذلك خوفًا من زيادة نقصها، ويبقى على ذلك حزينًا كئيبًا، وربما ترك الشرب حتى مات عطشًا.

والبجع – وهو الحوصل، وجمعه حواصل-: طائر كبير الحوصلة، تتخذ منها الفراء، وهو حلال كما جزم به الرافعي وغيره عمومًا.

واللقلق حرام على الأصح؛ لأنه يأكل الحيات ويصف، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(كل ما دف ودع ما صف) كذا استدل به الرافعي وغيره، وهو غريب.

يقال: دف الطائر بجناحيه إذا حركهما، وصف إذا لم يحركهما، قال الله تعالى:{وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} .

قال: (ودجاج) بالإجماع، سواء أنسية ووحشية، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أكله، رواه الشيخان [خ 4385 - م 1649/ 9].

والدجاج يقع على الذكر والأنثى، وفي داله ثلاث لغات: أفصحها: الفتح.

قال: (وحمام)؛ لأنه من الطيبات.

ص: 555

- وَهُوَ كُلُّ مَا عَبَّ وَهَدَرَ- وَمَا عَلَى شَكْلِ عُصْفُورٍ وَإِنْ اخْتَلَفَ لَوْنُهُ وَنَوْعُهُ كَعَنْدَلِيبٍ وَصَعْوَةٍ وَزُرْزُورٍ،

ــ

قال: (وهو كل ما عب وهدر).

(العب) شدة جرع الماء من غير تنفس.

(والهدير) ترجيع الصوت ومواصلته من غير تقطيع له، والمصنف تبع (المحرر) في الجمع بين هذين الوصفين.

وفي (الروضة) في (جزاء الصيد) قال: المراد بالحمام: كل ما عب الماء وهو أن يشربه جرعًا، ولا حاجة إلى وصفه بالهدير – أي: مع العب- فإنهما متلازمان، ولهذا اقتصر الشافعي على العب.

وفي (الروضة) هنا: كل ذي طوق من الطير حلال، واسم الحلال يشمل الجميع، فيدخل فيه القمري والدبسي واليمام والفواخت والورشان – وهو ساق حر - والقطا والحجل واليعاقيب – وهي ذكور الحجل- واسم الجنس القبج بفتح القاف وإسكان الباء الموحدة والجيم، والقبجة يقع على الذكر والأنثى حتى تقول: يعقوب، فيختص بالذكر، وكذا النعامة حتى تقول: ظليم، والنحلة حتى تقول: يعسوب ومثل هذا كثير.

قال: (وما على شكل عصفور وإن اختلف لونه ونوعه كعندليب وصعوة وزرزور)، وكذلك النغر والحمرة والبلبل؛ لأنها من الطيبات.

روى الشافعي [315]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من إنسان يقتل عصفورًا فما فوقها بغير حقها .. إلا سأله الله عنها) قيل وما حقها؟ قال: (أن يذبحها ويأكلها، ولا يقطع رأسها فيطرحها).

ص: 556

لَا خُطَّافٌ وَنَمْلٌ وَنَحْلٌ

ــ

وفي وجه: أن العندليب حرام، وجزم البندنيجي بتحريم الزرزور، وعده الرافعي في البيع مما يصح بيعه للانتفاع بصوته، ولم يعلله بكونه مأكولاً.

و (الصعوة) من صغار العصافير وهي بصاد مهملة مفتوحة وعين مهملة ساكنة.

قال: (لا خطاف)؛ للنهي عن قتله، وهو في (البيهقي)[9/ 318] بإسناد مرسل،

وحكى أبو عاصم العبادي عن محمد بن الحسن حله؛ لأنه يتقوت بالطاهرات غالبًا، وحكاه في (شرح المهذب) قولاً عندنا، وجمعه: خطاطيف، ويسمى زوار الهند، وتعرف عند الناس الآن بعصفور الجنة؛ لأنه زهد فيما في أيديهم من الأقوات.

ومن عجيب أمره أن عينه تقلع فتعود، ولا تفرخ في عش عتيق حتى تطينه بطين جديد.

وأما الخفاش – ويقال له الخشاف والوطواط - فقطع الشيخان بتحريمه مع جزمهما في (محرمات الإحرام) بوجوب قيمته إذا قتله المحرم أو في الحرم مع تصريحهما بأن ما لا يؤكل لا يجب ضمانه، وقد تقدم بيانه في (الحج).

قال: (ونمل ونحل)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قتلهما، رواه أبو داوود [5225] وابن ماجه [3224] من حديث ابن عباس، وصححه ابن حبان [5646]، ولأنهما من الحشرات المستخبثة وفيهما وجه، والخلاف جار في الهدهد.

والصرد – وهو بالحروف المهملة - طائر فوق العصفور يصيد العصافير.

وأطلق الرافعي والمصنف في (كتاب الحج) تحريم قتل النمل وكراهة تحريقها بالنار.

قال الخطابي: إن النهي الوارد في قتل النمل المراد به النمل السليماني، وهو الكبير، أما الصغير .. ففي (الإستقصاء) نقلاً عن (الإيضاح) للصيمري: أنه لا يحرم قتله؛ لأنه مؤذٍ، وذكره البغوي في (شرح السنة) أيضًا، ووافق عليه في

ص: 557

وَذُبَابٌ وَحَشَرَاتٌ كَخُنْفُسَاءَ وَدُودٍ،

ــ

(شرح المهذب)، قال: وسئل ابن عباس عن قتل المحرم لها فقال: تلك ضالة لا شيء فيها.

قال: (وذباب)؛ لقوله تعالى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} ، وسمي ذبابًا لأنه كلما ذب آب؛ أي: رجع، وواحدته: ذبابة، ولا تقل ذبانة، وكنيته أبو جعفر.

والذباب أجهل الخلق؛ لأنه يلقي نفسه في الهلكة، وضرب الله به المثل في القرآن، وهو أصناف كثيرة.

قال: (وحشرات)؛ لاستقذارها، وهي صغار حيوان الأرض وصغار هوامها، الواحدة حشرة بالتحريك، فمنه ذات السموم والإبر والذر والقراد.

ووافق على تحريم الحشرات أبو حنيفة وأحمد وداوود، وقال مالك: هي حلال؛ لقوله تعالى: {قُل لَاّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية، ولحديث التلب بن ثعلبة بن ربيعة قال: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أسمع لحشرة الأرض تحريمًا، رواه أبو داوود [3792]، واحتج الشافعي والجمهور بعموم ما تقدم.

قال: (كخنفساء ودود)؛ لاستخباثهما

وكنية الخنفساء أم الفسو، وهي أنواع منها: الجعل وحمار قبان وبنات وردان والصرصار والحنطب ذكر الخنافس.

و (الدود) جمع دودة، وجمع الجمع ديدان، وهي أنواع كثيرة يدخل فيها اليساريع والأرضة والحلم ودود القز ودود الفواكه الذي تقدم في (باب الصيد والذبائح).

ولا يستثنى من الحشرات إلا اليربوع والضب كما تقدم.

والأوزاغ كلها محرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتلها، ووقع في

ص: 558

وَكَذَا مَا تَوَلَّدَ مِنْ مَاكُولٍ وَغَيْرِهِ. وَمَا لَا نَصَّ فِيهِ: إِنِ اسْتَطَابَهُ أَهْلُ يَسَارٍ وَطِبَاعٍ سَلِيمَةٍ مِنَ الْعَرَبِ فِي حَالِ رَفَاهِيَةٍ .. حَلَّ،

ــ

(الرافعي) أنه نهى عن قتلها وهو سبق قلم.

ويحرم سام أبرص وهو كبار الأوزاغ.

وتحرم حرباء الظهيرة، والعضاة وهي بالعين المهملة والضاد المعجمة: دويبة أكبر من الوزغ، وقال الأزهري: دويبة ملساء تتردد تشبه سام أبرص إلا أنها لا تؤذي، وهي أحسن منه.

ومنها: اللحكاء بضم اللام وفتح الحاء المهملة: دويبة كأنها سمكة ملساء مشربة بحمرة، توجد في الرمل، فإذا أحست بالإنسان .. دارت في الرمل وغاصت.

قال: (وكذا ما تولد من مأكول وغيره) كالسمع وهو بكسر السين وسكون الميم: حيوان متولد بين الذئب والضبع، فغلب فيه جانب التحريم، وهو سبع مركب، فيه شدة الضبع وجرأة الذئب، أسرع من الريح عدوًا، كثير الوثبات، وعد منه في (شرح المهذب) الزرافة وقد تقدمت عند ذكر البغل. قال:(وما لا نص فيه) أي: لا خاصًا ولا عامًا بتحريم ولا تحليل، ولا ورد في شرعنا أمر بقتله ولا نهي عن قتله، فإن ثبت تحريمه في شرع من قبلنا فهل يستصحب تحريمه؟ قولان: أظهرهما: لا، وهو مقتضى كلام عامة الأصحاب.

قال: (إن استطابه أهل يسار وطباع سليمة من العرب في حال رفاهية .. حل)؛ لأن الله تعالى أناطَ الحلَ بالطيب، والتحريمَ بالخبيث.

وعلم بالعقل أنه لم يرد ما يستطيبه ويستخبثه كل العالم؛ لاستحالة اجتماعهم على ذلك عادة لاختلاف طبائعهم وشهواتهم، فاعتبر أن يكون المراد بعضهم، والعرب بذلك أولى؛ لأن بلغتهم نزل القرآن، وهم المخاطبون به.

وعلى هذا أيضًا: فطباع العرب مختلفة لاختلاف الأزمنة والأمكنة والشدة

ص: 559

وَإِنْ اسْتَخْبَثُوهُ .. فَلَا، وَلَوْ جُهِلَ اسْمُ حَيَوَانٍ .. سُئِلُوا وَعُمِلَ بِتَسْمِيَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْمٌ عِنْدَهُمُ اعْتُبِرَ بِالأَشْبَهِ بِهِ. وَإِذَا ظَهَرَ تَغَيُّرُ لَحْمِ جَلَاّلَةٍ .. حَرُمَ، وَقِيلَ: يُكْرَهُ

ــ

والرخاء، فقيل: يرجع في ذلك إلى من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، والأشبه: أن يرجع في كل عصر إلى الموجودين فيه، ويعتبر فيهم أن يكونوا من سكان البلاد والقرى، ومن أهل اليسار والرفاهية والسعة. فلا يعتبر أجلاف البوادي الذين يأكلون ما دب ودرج، ولا أهل الجدب والشدة فما استطابوه .. فهو حلال.

قال: (وإن استخبثوه .. فلا)؛ لما تقرر.

قال: (ولو جهل اسم حيوان .. سئلوا وعمل بتسميتهم)، فإن سموه باسم حيوان حلال .. حل، أو حرام .. حرم؛ لأن المرجع في ذلك إلى الاسم، وهم أهل اللسان.

قال: (وإن لم يكن له اسم عندهم .. اعتبر بالأشبه به) إما صورة أو طبعًا أو طعمًا، فإن تساوى الشبهان أو لم نجد ما يشبهه .. فوجهان: أصحهما في (الروضة) و (شرح المهذب): الحل.

قال: (وإذا ظهر تغير لحم جلالة .. حرم) وبه قال أحمد؛ لأنها صارت من الخبائث.

وقد روى النهي عن أكلها وشرب لبنها وركوبها أبو داوود [3779 و3781] وغيره، وهي التي تأكل الجلة بفتح الجيم وهي العذرة والبعر وغيرهما من النجاسات، وتكون من الإبل والبقر والغنم والدجاج، والحكم منوط – كما قاله المصنف - بالتغير على الأصح.

وقيل: إن كان أكثر علفها نجاسة .. ثبت، وإلا .. فلا، وهو ظاهر كلام المصنف في (التحرير).

قال: (وقيل: يكره) وبه قال أبو حنيفة ومالك؛ لأن النهي الوارد فيه إنما هو لتغير اللحم، وذلك لا يوجب التحريم، كالمذكى إذا نتن وتروح .. فإنه يكره أكله على الصحيح، وقال الغزالي: يحرم.

ص: 560

قُلْتُ: الأَصَحُّ: يُكْرَهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ

ــ

قال: (قلت: الأصح: يكره والله أعلم) هذا الذي ذهب إليه الأكثرون.

وبيضها ولبنها كلحمها، ويكره ركوبها؛ لما تقدم من النهي عنه.

تنبيه:

إطلاق التغير يقتضي أنه لا فرق بين اليسير والكثير، لكن الماوردي خص الخلاف بما إذا وجدت رائحة النجاسة بتمامها أو قريبًا منها، فإن كانت يسيرة .. لم يعتبر بها جزمًا.

وإطلاقه يشمل الأوصاف الثلاثة، والرافعي إنما قيده بالرائحة، والظاهر أنه ليس بقيد؛ فإن تغير الطعم أشد.

وقد صرح الشيخ أبو محمد في (التبصرة) بأنه لا فرق بين تغير الطعم واللون أو الرائحة.

وتخصيصه التغير باللحم جرى فيه على الغالب، وإلا .. فتغير جلدها ولبنها وبيضها كذلك وفاقًا وخلافًا.

فروع:

الأول: السخلة المرباة بلبن كلبة أو خنزيرة حتى نبت لحمها كالجلالة.

وقال الشيخ عز لدين: لو غذى شاة عشر سنين بمال حرام لم يحرم عليه أكلها ولا على غيره. اهـ

وهذا هو أشبه احتمالي البغوي؛ لأن الأعيان لا توصف بحل ولا حرمة.

وفي (الإحياء) في الباب الثالث من (الشبهات): ترك الأكل من شاة أعلفت بعلف مغصوب من الورع.

ص: 561

فَإِنْ عُلِفَتْ طَاهِرًا فَطَابَ .. حَلَّ

ــ

الثاني: لا تحرم الزروع والثمار التي سقيت بالمياه النجسة وإن كثر الزبل والنجاسة في أصولها؛ لأنه لا يظهر أثر النجاسة ورائحتها فيه.

والذي أصاب البقل من ذلك الماء النجس يطهر بالغسل، ولذلك قيل: كل البقل ولا تسأل عن المبقلة.

الثالث: قال الشيخ عز الدين: لا يحرم أكل النقانق والشواء والهرائس وإن كانت لا تخلو من الدم غالبًا؛ فإن دم المذكاة لا يتحقق له انصباب عن محل الذكاة إلى سائر الجسد، ومحل الذكاة واجب الغسل ولم تجر العادة بأنه لا يغسل.

الرابع: الجبن الصقلي: إن تحققنا نجاسته وأن فيه أنفحة خنزير .. لم يؤكل، وإن لم نتحقق ذلك .. جاز أكله؛ لما روى أبو داوود [3815] عن ابن عمر:(أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بجبنة من تبوك، فدعى بسكين فسمى وقطع).

وروى [10/ 12] البيهقي عن سلمان قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال: (إن الله أحل حلالاً وحرم حرامًا، فما أحل .. فهو حلال، وما حرم .. فهو حرام، وما سكت عنه .. فهو عفو)

وفي هذه النصوص ما يدل على جواز أكله وبيعه، ومن قصد الورع بترك ذلك .. فقد استبرأ لدينه وعرضه، لكن الورع لا يلزم كل الناس.

والخامس: قال أبو حيان التوحيدي في كتاب (الإمتاع والمؤانسة): إن الكلب الكلِب إذا عض حيوانًا وذبح ذلك الحيوان .. لا يحل أكله؛ لأن من أكله .. كَلِب.

قال: (فإن علفت طاهرًا فطاب .. حل)؛ لزوال العلة، ولا تقدير للعلف، وحده الماوردي بأربعين يومًا في البعير وثلاثين في البقرة وسبعة في الشاة وثلاثة في الدجاجة؛ لأن الغالب زوال التغير بذلك، والقائل بهذا لا يرى ذلك محتومًا، بل متى زال النتن .. زال.

فإن زالت الرائحة لا بالعلف بل بالغسل أو الطبخ أو التشميس أو بمضي الزمان .. لم يَزُل التحريم ولا الكراهة، وعلى هذا: يشكل الفرق بين هذا وبين الماء النجس إذا زال تغيره بنفسه .. فإنه يطهر، وهذه لا يزول حكمها.

ص: 562

وَلَوْ تَنَجَّسَ طَاهِرٌ كَخَلٍّ وَدُبْسٍ ذَائِبٍ .. حَرُمَ. وَمَا كُسِبَ بِمُخَامَرَةِ نَجِسٍ كَحِجَامَةً وَكَنْسٍ .. مَكْرُوهٌ،

ــ

وظاهر كلام المصنف: أن المراد بالنجس الذي أكلته: نجس العين، أما المتنجس كالشعير والتبن ونحوهما .. فلا تسمى الدابة بأكله: جلالة.

وجلدها يطهر بالدبغ؛ لأنه نجس كاللحم، وقيل: إن لم يظهر فيه نتن .. فهو طاهر.

قال: (ولو تنجس طاهر كخل ودبس ذائب .. حرم)؛ لما روى أبو داوود [3838] وابن حبان [1393] عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: (إن كان جامدًا .. فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا .. فلا تقربوه).

ولا ينافيه حديث ميمونة في (الصحيحين)[خ5538]: أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن فماتت فقال: (ألقوها وما حولها وكلوه)، فإن المراد به: الجامد؛ لأن إلقاء ما حولها لا يمكن إذا كان ذائبًا، والرواية الأولى تفسره.

هذا إذا قلنا بتعذر تطهيره وهو الأصح كما تقدم في النجاسة والبيع، فإن قلنا: يمكن تطهيره بالغسل فإذا غسل .. حل.

ويجوز أن يطعم بعيره ونحوه الخبز المعجون بماء نجس، نص عليه، وفي (فتاوى) صاحب (الشامل) أنه يكره أن يطعم الحيوان المأكول نجاسة.

قال المصنف: وهذا لا يخالف النص؛ لأن العجين ليس بنجس العين، ولا يكره أكل البيض المصلوق بماء نجس، كما لا يكره الوضوء بماء سخن بالنجاسة.

قال: (وما كسب بمخامرة نجس كحجامة وكنس .. مكروه) سواء كسبه حر أو عبد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة فأمر له بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا عن خراجه، رواه الشيخان [خ 2210 - م1577/ 62].

قال ابن عباس: فلو كان حرامًا .. لم يعطه؛ لأنه حيث حرم الأخذ حرم الإعطاء كأجرة النائحة، إلا عند الضرورة كما إذا أعطى الشاعر ليدع هجوه والظالم كي لا يمنعه حقه .. فإنه يحرم الأخذ دون الإعطاء.

ص: 563

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وقال ابن خزيمة: يحرم كسب الحجام على الحر دون العبد؛ لما روى مسلم [1568]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كسب الحجام خبيث) والنبي صلى الله عليه وسلم أعطى الأجرة لأبي طيبة وهو رقيق، والمذهب الأول.

والجواب: أنه أراد بـ (الخبيث): الدنيء، كقوله تعالى:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} أراد به الرديء؛ لقوله: {وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَاّ أَن تُغْمِضُوا فِيهِ} ، ولأن الناس لم يزالوا في عصره صلى الله عليه وسلم وإلى وقتنا هذا يكتسبون به من غير نكير.

وسئل ابن عباس عن كسب حجام له ما يصنع به؟ فقال: كله.

وقال القاضي حسين إذا أكل الحجام كسب نفسه لا يكره؛ لأنه لابد له منه، وإنما يكره إذا كان له عبيد يخارجهم وهم حجامون، أو أكل غير سيدهم من كسبهم، والمشهور الأول، وفي علة الكراهة وجهان:

أصحهما: مباشرة النجاسة.

وثانيهما: دناءة الحرفة، فعلى الأول يكره كسب الكناس الذي يستخرج العذرة من المراحيض، والزبال والقصاب والدباغ، وألحق الماوردي بهم السماك، وكذلك الجرائحي والفاصد.

وقيل: لا يكره كسب الفاصد، ورجحه المصنف؛ لأنه قلما يباشر النجاسة.

وعلى الثاني: تتعدى الكراهة إلى كسب أصحاب الحرف الدنيئة كالحلاق وقيّم الحمام.

وفي الحمامي وجهان من حيث مشاهدته العورات، أما الكسب باستئجار الحمامات واستغلالها .. فأخف، والعرف قاض بدنائته أيضًا.

وفي كسب الحائك وجهان: أصحهما: لا يكره.

وفي كسب الصباغين والصواغين وجهان؛ لكثرة إخلافهم الوعد، والوقوع في الربا، وفي (مسند أبي داوود الطيالسي) [2574]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكذب الناس الصباغون والصواغون).

ص: 564

وَيُسَنُّ أَنْ لَا يَاكُلَهُ وَيُطْعِمَهُ رَقِيقَهُ وَنَاضِحَهُ

ــ

وسئل الحسن البصري عن كسب الماشطة فقال: حرام؛ لأن فعلها غالبًا لا يخلو عن حرام أو تغيير لخلق الله، وبه أجاب ابن عقيل الحنبلي في كتاب (الفنون).

قال: (ويسن أن لا يأكله ويطعمه رقيقه وناضحه)؛ لما روى مالك [2/ 974] وأبو داوود [3415] والترمذي [1277] عن ابن محيصة عن أبيه أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في أجرة الحجام فنهاه، فلم يزل يسأله حتى قال له:(اعلفه ناضحك ورقيقك).

ولأن دناءة العبد تناسب دناءة الكسب.

وذكره (الناضح) تبع فيه الحديث، والمراد: دوابه.

وفي كراهة التصديق به احتمال، وهل الكراهة مقصورة على الأكل حتى لو اشترى به ثوبًا .. لم يكره؟ الظاهر: التعميم، لكن كلام الأكثرين مخصوص بالأكل.

فائدة:

الأشبه بمذهب الشافعي: تفضيل التجارة على الزراعة وعمل اليد؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يكتسبون بها.

وفضل الماوردي والمصنف الزراعة؛ لأنها أقرب إلى التوكل، ورد بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بعض دور الأنصار آلة حرث فقال:(ما دخل هذا دار قوم إلا دخلها الذل) رواه البخاري [2321].

وقيل: الصناعة أطيب؛ لأن الكسب فيها يحصل بكد اليمين، وروى الخطيب البغدادي في (المتشابه) [1/ 124] عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الذنوب ما لا تكفره الصلاة ولا الصوم ولا الحج ولا العمرة)، قيل: فما يكفرها يا رسول الله؟ قال: (عَرَق الجبين في الحرفة) وفي رواية: (تكفرها الهموم في طلب المعيشة).

وفي (الصحيحين)[خ 2072]: (ما أكل أحد طعامًا خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وأن نبي الله داوود كان يأكل من عمل يده).

ص: 565

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وفي (تاريخ أصبهان) لأبي نعيم في ترجمة عمرو بن سعيد عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت ملحمة ومرحمة، ولم أبعث تاجرًا ولا زارعًا، ألا وإن شرار هذه الأمة التجار والزراعون، إلا من شح على دينه).

وفي (أدب الشاهد) لابن سراقة: (أفضل المكاسب: المأخوذ من الكفار، ثم الاحتطاب، ثم التجارة، وأفضلها البز، ثم العطر، ثم باقي التجارات، ثم الصنائع. اهـ

وقال في (الإحياء): التجارة محك الرجال، وبها يمتحن دين الإنسان وروعه، قال: ويكره بيع الطعام وبيع الأكفان وشراء الحيوان.

وكره ابن سيرين الدلالة والصرف.

وقال القاضي والماوردي: يمنع المحتسب من يكتسب بالكهانة واللهو، ويؤدب عليه الآخذ والمعطي.

فروع:

يحرم أكل ما يضر البدن كالرمل والزجاج والسم القاتل والطين والطَفل، ومن هذا تناول الأدوية في غير وقتها؛ لأنها تزيل الصحة.

ويجوز شرب الدواء الذي فيه قليل سم إذا احتيج إليه وكان الغالب السلامة.

وقال الإمام: لو تصور شخص لا يضره السم .. لم يحرم عليه.

وقال إلكيا: من أكل الطين حتى اصفر لونه وأضر ببدنه .. عصى الله تعالى، وردت شهادته، وقد تقدم في أوائل (الربا) حكم أكله، وقد روى النهي عنه علي وعائشة وأبو هريرة وأنس وغيرهم، وكلها أحاديث لا أصل لها كما قاله العقيلي.

وقال أحمد: لا أعلم فيه شيئًا يصح، إلا أنه يضر البدن، وأطبق الحفاظ على ذلك حتى ذكرها ابن الجوزي من (الموضوعات).

ومن أكل شيئًا يضره .. لزمه أن يتقيأه إذا كان دافعًا لضرره أو لشيء منه.

وكل طاهر لا ضرر في أكله يحل إلا جلد ما يؤكل لحمه إذا مات ودبغ .. فإنه

ص: 566

وَيَحِلُّ جَنِينٌ وُجِدَ مَيْتًا فِي بَطْنِ مُذَكَّاةٍ

ــ

لا يجوز أكله في القديم؛ لعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ، ولقوله صلى الله عليه وسلم:(إنما حرم من الميتة أكلها) وصححه المصنف.

وفي الجديد: يؤكل؛ لتحقق الضابط المذكور.

وأما جلد ما لا يؤكل إذا دبغ .. فيحرم قولاً واحدًا؛ لأن الدبغ لا يزيد على الذكاة، والذكاة لا تفيده الحل.

ويستثنى أيضًا: المستقذرات الطاهرة كالمني والمخاط، واستثنى المحاملي: الماء المستقذر

والجواب: أن الاستقذار فيه عارض.

قال: (ويحل جنين وجد ميتًا في بطن مذكاة)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ذكاة الجنين ذكاة أمه) رواه أبو داوود [2821] والترمذي [1476] وحسنه، وابن ماجه [3199] وابن حبان [5889] وأحمد [3/ 93] عن أبي سعيد الخدري، والحاكم [4/ 114] من حديث أبي هريرة وقال: صحيح الإسناد.

وقال الإمام في (الأساليب) والغزالي في (الإحياء): إنه صح صحة لا يتطرق احتمال إلى متنه ولا ضعف إلى سنده.

وقال أبو حنيفة: لا يحل إلا أن يخرج حيًا فيذبح، وروى الحديث بالنصب؛ أي: يذكى كذكاة أمه.

ص: 567

وَمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مَوْتًا أَوْ مَرَضًا مَخُوفًا وَوَجَدَ مُحَرَّمًا .. لَزِمَهُ أَكْلُهُ، وَقِيلَ: يَجُوزُ، فَإِنْ تَوَقَّعَ حَلَالاً قَرِيبًا .. لَمْ يَجُزْ غَيْرُ سَدِّ الرَّمَقِ، وَإِلَاّ .. فَفِي قَوْلٍ: يَشْبَعُ،

ــ

واستدل الجويني بأنه لو لم يحل الجنين بذكاة الأم .. لما جازت ذكاتها مع ظهور الحمل كما لا تقتل الحمل قصاصًا.

وقال مالك: إن أشعر تشترط ذكاته، وإلا .. فيحل بذكاة الأم.

ولا يخفى أن مراد الأصحاب إذا مات بذكاة أمه، فلو مات قبل ذكاتها .. كان ميتة لا محالة؛ لأن ذكاة الأم لم تؤثر فيه.

قال: (ومن خاف على نفسه موتًا أو مرضًا مخوفًا ووجد محرمًا) كميتة ودم ولحم خنزير وما في معناه.

قال: (.. لزمه أكله) كما يجب دفع الهلاك بأكل الحلال، وخوف طول مدة المرض كخوف الموت، وكذا خوف الضعف عن المشي أو الركوب أو الانقطاع عن الرفقة، وكذا يحل له الأكل إذا عيل صبره أو أجهده الجوع.

ولا يشترط فيما يخاف منه تيقن وقوعه لو لم يأكل، بل تكفي غلبة الظن.

ولا خلاف أنه لا يجب الوصول إلى الإشراف على الموت؛ فإن الأكل حينئذ لا ينفع، لكن يستثنى العاصي بسفره، فليس له الأكل حتى يتوب.

ثم الذي يأكله المضطر الظاهر أنه حلال، لكن قال العبادي: لو حلف لا يأكل حرامًا فأكل ميتة وهو مضطر .. حنث؛ لأنه حرام ولكن رخص فيه الشارع، ولعل هذا منه بناء على أن الأعيان توصف بالحل والحرمة.

قال: (وقيل: يجوز) ولا يجب؛ لأنه قد يريد التورع عن الحرام لتردده في الانتهاء إلى حد الضرورة، كالمصول عليه يتردد في القدر الدافع للصائل فيتورع.

قال: (فإن توقع حلالاً قريبًا .. لم يجز غير سد الرمق)؛ لاندفاع الضرورة به.

و (الرمق) بقية الروح، وقيل: القوة، فـ (سد الرمق) على هذا بالشين المعجمة، نبه عليه الشيخ محب الدين الطبري، وصوبه في (المهمات).

قال: (وإلا) أي: وإن لم يتوقع حلالاً قريبًا (.. ففي قول: يشبع)؛ لأنه

ص: 568

وَالأَظْهَرُ: سَدُّ الرَّمَقِ، إِلَاّ أَنْ يَخَافُ تَلَفًا إِنْ اقْتَصَرَ. وَلَهُ أَكْلُ آدَمِيٍّ مَيْتٍ، ....

ــ

طعام جاز منه ما يسد الرمق فجاز الشبع كالمذكى، والاضطرار علة لابتداء الأكل دون استدامته، كما أن فقد طول الحرة علة لابتداء نكاح الأمة دون استدامته.

وعلى هذا: ليس المراد بالشبع أن يمتلئ حتى لا يبقى للطعام مساغ؛ فإنه حرام قطعًا، وإنما المراد أن يأكل حتى يكسر سورة الجوع بحيث لا ينطلق عليه اسم جائع.

وعلى هذا: لو وجد لقمة حلالاً بعد سد الرمق حرمت الميتة حتى يأكل تلك اللقمة، فإذا أكلها .. فله بعد ذلك إتمام الشبع على الأصح؛ لأنه إذا لم يشبع .. لم يقو على السير، ويحتاج إلى ملازمة الحرام والعود إليه مرة بعد أخرى.

قال: (والأظهر: سد الرمق)؛ لأنه بعد غيره مضطر فزال الحكم بزوال علته.

وفي قول ثالث: إذا كان قريبًا من العمران .. اقتصر على سد الرمق، وإلا شبع؛ ليقوى على قطع المسافة.

وقال الإمام والغزالي: إن كان ببادية ويخاف إن لم يشبع لم يقطعهما ويهلك .. وجب القطع بالشبع، وإن كان ببلد وتوقع الحلال قبل عود الضرورة .. اقتصر على سد الرمق، وإن احتمل واحتمل .. فهو موضع الخلاف.

وقال المصنف: هذا التفصيل هو الراجح، والأصح من الخلاف الاقتصار على سد الرمق.

قال: (إلا أن يخاف تلفًا إن اقتصر) أي: على سد الرمق، فيجب أن يشبع محافظة على إبقاء الروح.

فرع:

يجوز التزود من الميتة إن لم يرج الوصول إلى الحلال، وإن رجاه .. ففي (التهذيب) وغيره: يحرم، وصحح المصنف جوازه، بل قال القفال: من حمل الميتة من غير ضرورة .. لم يمنع ما لم يتلوث بالنجاسة.

قال: (وله أكل آدمي ميت)؛ لأن حرمة الحي أعظم من حرمته، وقيل:

ص: 569

وَقَتْلُ مُرْتَدٍّ وَحَرْبِيٍّ، لَا ذِمِّيٍّ وَمُسْتَامَنٍ وَصَبِيٍّ حَرْبِيٍّ

ــ

لا يحل لقوله صلى الله عليه وسلم: (كسر عظام الميت ككسره حيًا) رواه أبوداوود [3199] وابن ماجه [1616] من حديث عائشة وصححه ابن حبان [3167].

وأجاب الأول بأنه محمول على غير حالة الضرورة.

ويستثنى ما إذا كان الميت مسلمًا والمضطر ذميًا .. فالأصح: المنع؛ لكمال شرف الإسلام، ومن باب أولى إذا كان الميت نبيًا؛ فإن إبراهيم المروروذي قال: لا يجوز.

وأفهم كلام المصنف: أنه ليس له قتل الحي ثم أكله؛ لأنه معصوم، لكن إطلاقه الأكل يقتضي مجيء التفصيل السابق.

وقال الماوردي: إنما يأكل منه سد الرمق قطعًا حفظًا للحرمتين، ولا يجوز طبخه ولا شيه إن أمكن أكله نيئًا، بخلاف سائر الميتات.

وإن وجد ميتة آدمي وميتة غيره .. أكل الميتة ولو كانت خنزيرًا كما جزم به في (الروضة) تبعًا لـ (الشرح)، وحكى القاضي حسين وجهين في حل ميتة الآدمي في هذه الحالة.

وإن وجد المحرم صيدًا ولحم آدمي .. أكل الصيد.

قال: (وقتل مرتد وحربي)؛ لأنهما ليسا معصومين؛ وإنما يعتبر إذن الإمام في غير محل الضرورة أدبًا، وكذلك الزاني المحصن والمحارب وتارك الصلاة على الأصح فيهن.

وله قتل من عليه قصاص وأكله وإن لم يحضره السلطان.

قال: (لا ذمي ومستأمن وصبي حربي)؛ لحرمة قتلهم، ولهذا لا يجوز للوالد قتل ولده للأكل ولا للسيد قتل عبده؛ لأنه تلزمه الكفارة بقتله.

قال ابن الرفعة: هذا في العبد المسلم، أما الذمي .. فيشبه أن يكون كالحربي.

ص: 570

قُلْتُ: الأَصَحُّ: حِلُّ قَتْلِ الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ الْحَرْبِيَّيْنِ لِلأَكْلِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ وَجَدَ طَعَامَ غَائِبٍ .. أَكَلَ وَغَرِمَ، أَوْ حَاضِرٍ مُضْطَرٍّ .. لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُهُ إِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْهُ،

ــ

قال: (قلت: الأصح: حل قتل الصبي والمرأة الحربيين للأكل والله أعلم)؛ لأنهما ليسا بمعصومين، ولأن منع قتلهم لم يكن لحرمة أزواجهم، بل لصيانة ناموس الولاية وحفظ توقع المالية، ولهذا: لا كفارة بقتلهم.

قال: (ولو وجد طعام غائب) أي: ولم يجد غيره (.. أكل وغرم)؛ لأنه قادر على أكل الطاهر بعوض مثله، وسواء قدر على البدل أو كان عاجزًا عنه؛ لأن الذمم تقوم مقام الأعيان، وقيل: لا غرم.

وأغرب الزنجاني في (الترغيب) فقال: وإن لم يكن حاضرًا .. ينادي ثلاثًا وله أكله؛ لما روى أبو داوود [2612] عن الحسن عن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتى أحدكم على ماشية، فإن كان فيها صاحبها .. فليستأذنه، فإن أذن له .. فليحلب وليشرب، وإن لم يكن فيها .. فليصوت ثلاثًا، فإن أجاب .. فليستأذنه، فإن أذن له، وإلا .. فليحلب وليشرب ولا يحمل).

ولو كان الطعام لصبي أو مجنون ووليه غائب .. فكذلك، وإن كان حاضرًا .. فهو في مالهما كالكامل في ماله، وهذه من الصور التي يجوز فيها بيع ماله نسيئة، ومن المعسر بلا رهن للضرورة، وفي القدر المأكول وفي وجوب الأكل ما سبق من الخلاف.

قال: (أو حاضر مضطر .. لم يلزمه بذله إن لم يفضل عنه)؛ إبقاء لمهجته، ولقوله صلى الله عليه وسلم:(ابدأ بنفسك)، اللهم إلا أن يكون غير المالك نبيًا .. فإنه يجب على المالك بذله له.

ص: 571

فَإِنْ آثَرَ مُسْلِمًا .. جَازَ،

ــ

وهذه مسألة علمية، وصورها بعضهم في زمن عيسى عليه السلام أو الخضر على القول بحياته.

قال الشيخ عز الدين: ولو وجد مضطرين ومعه ما يكفي أحدهما، فإن تساويا في الضرورة والقرابة والصلاح .. احتمل أن يتخير بينهما وأن يقسمه عليهما، فإن كان أحدهما أولى مثل الوالد والقريب أو وليًا لله تعالى أو إمامًا مقسطًا .. قدم الفاضل على المفضول، قال: فإن تساويا ومعه رغيف لو أطعمه لأحدهما عاش يومًا وإن قسمه بينهما عاشا نصف يوم .. دفعه إليهما ولا يجوز التخصيص.

قال: (فإن آثر مسلمًا .. جاز)؛ لقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .

وكلامه يفهم عدم الاستحباب، والمذهب: أنه مستحب.

قال حذيفة العدوي: طلبت يوم اليرموك ابن عم لي في الجرحى ومعي شيء من الماء، فوجدته فقلت: أسقيك؟ فأشار برأسه أن نعم، فسمع رجلاً يتأوه فأشار إلي أن انطلق إليه، فجئته فإذا هو هشام بن العاصي، فقلت: أتشرب؟ قال: نعم، فإذا آخر يقول: آه فأشار هشام أن انطلق إليه، فجئته فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات، فعجبت من إيثارهم رحمهم الله.

واحترز بـ (المسلم) عن الكافر؛ فلا يجوز إيثاره وإن كان ذميًا، وكذلك البهيمة.

فرع:

في (فتاوى القاضي حسين): لو كان بيد المضطر ميتة .. لم يكن أحق بها من مضطر آخر؛ لأن اليد لا تثبت عليها لذي اليد، وكذلك لو قال: له علي شيء، وفسره بالميتة .. لم يقبل. اهـ

ص: 572

أَوْ غَيْرَ مُضْطَرٍّ .. لَزِمَهُ إِطًعَامُ مُضْطَرٍّ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، فَإِنْ مَنَعَ .. فَلَهُ قَهْرُهُ وَإِنْ قَتَلَهُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِعِوَضٍ نَاجِزٍ إِنْ حَضَرَ، وَإِلَاّ .. فَبِنَسِيئَةٍ،

ــ

وفيما قاله نظر، والظاهر: الجزم باختصاصه بقدر الضرورة منها كسائر المباحات؛ لحديث: (من سبق إلى ما لم يسبق إليه .. فهو أحق به).

قال: (أو غير مضطر .. لزمه إطعام مضطر مسلم أو ذمي)، وكذلك المستأمن والبهيمة المحترمة وإن كانت ملكًا لغير صاحب الطعام دون الحربي والمرتد والكلب العقور، وكذا لو كان يحتاج إليه في ثاني الحال في الأصح.

ولو كان للإنسان كلب مباح المنفعة جائع وشاة .. لزمه ذبح الشاة لإطعام الكلب، وله أن يأكل من لحمها؛ لأنها ذبحت للأكل.

قال: (فإن منع .. فله قهره)، وكذلك لو بذله بأكثر من ثمن المثل.

قال: (وإن قتله) ويكون بذلك مهدرًا؛ لأنه صال عليه بمنع الطعام.

فإن قتل المالك المضطر في الدفع .. لزمه القصاص، وإن منعه فمات جوعًا .. لم يضمنه، وفيه احتمال للماوردي، وفيما على المالك بذله وما للمضطر أخذه من سد الرمق والشبع ما تقدم من الخلاف في الميتة.

قال: (وإنما يلزمه بعوض ناجز إن حضر، وإلا .. فبنسيئة) فلا يلزمه البذل مجانًا على الأصح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:

ص: 573

فَلَوْ أَطْعَمَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ عِوَضًا .. فَالأَصَحُّ: لَا عِوَضَ

ــ

(لا ضرر ولا ضرار في الإسلام).

واعترض في (المهمات) على بيعه نسيئة وقال: الصواب: أنه يبيعه بثمن حال، غير أنه لا يطالب وهو معسر كما تقدم في بيع الولي مال الطفل للمضطر.

وفي وجه: يجب بذله مجانًا، كمن خلص مشرفًا على الوقوع في ماء أو نار .. فإنه لا أجرة له.

كل هذا إذا كان المضطر قادرًا على الثمن ولم يؤد تشاغله به إلى تلفه، فإن أدى إلى التلف .. وجب الإطعام مجانًا على الأصح.

قال: (فلو أطعمه ولم يذكر عوضًا .. فالأصح: لا عوض) حملاً على المسامحة المعتادة في الطعام، لا سيما في حق المضطر.

والثاني: يلزمه؛ لتخليصه من الهلاك، فيرجع بالبدل كالعفو عن القود، كذا في (الرافعي) هنا.

والصحيح في (الجنايات): أنه إذا عفا مستحق القصاص ولم يذكر مالاً .. لا شيء له.

ويشكل على الصحيح: أن في (الشرح) و (الروضة) بعد هذا: أنه لو أوجز

ص: 574

وَلَوْ وَجَدَ مُضْطَرٌّ مَيْتَةً وَطَعَامَ غَيْرِهِ، أَوْ مُحْرِمٌ مَيْتَةً وَصَيْدًا .. فَالْمَذْهَبُ: أَكْلُهَا،

ــ

المالك طعامه المضطر قهرًا .. استحق قيمته في أحسن الوجهين، وهو نظير مسألة الغسال إذا لم يشترط له أجرًا.

ولو قال المالك: أطعمته بعوض، وقال المضطر: بلا عوض .. صدق المالك على الأصح.

قال: (ولو وجد مضطر ميتة وطعام غيره، أو محرم ميتة وصيدًا .. فالمذهب: أكلها) أما الأولى .. فلأن إباحة الميتة للمضطر بالنص وإباحة مال الغير بالاجتهاد، ولأن حق الله تعالى أوسع.

والثاني: يأكل طعام الغير ويضمن بدله؛ لأنه قادر على أكل الطعام الطاهر بعوض فوجب عليه أكله.

والثالث: يتخير بينهما، والخلاف أوجه، وقيل: أقوال.

فإن كان المالك حاضرًا فبذله مجانًا أو بثمن مثله أو بزيادة يتغابن بمثلها ومعه ثمنه أو رضي بذمته .. لزمه القبول.

وإن لم يبعه إلا بزيادة كثيرة .. لم يلزمه شراؤه على المذهب، لكن يستحب.

وإذا لم يلزمه الشراء .. فهو كما لو لم يبذله أصلاً، وإذا لم يبذله .. لا يقاتله عليه المضطر إن خاف المقاتلة على نفسه أو خاف إهلاك المالك في المقاتلة، بل يأكل الميتة.

وإن كان لا يخاف لضعف المالك وسهولة دفعه .. فهو على الخلاف المذكور فيما إذا كان غائبًا.

وقال البغوي: يشتريه بالغالي ولا يأكل الميتة، ثم يأتي الخلاف في لزوم المسمى أو ثمن المثل.

وأما المسألة الثانية – وهي إذا اضطر محرم أو حلال في الحرم ووجد صيدًا حرامًا وميتة- ففيها أيضًا ثلاثة أقوال:

أصحها: يأكل الميتة؛ لأن في الصيد تحريم ذبحه وتحريم أكله، وفي الميتة تحريم واحد، وما خف تحريمه أولى.

ص: 575

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

والثاني: يأكل الصيد؛ لأن تحريمه أخف، إذ يختص ببعض الناس في حالة الاختيار دون بعض، بخلاف الميتة؛ فإنها حرام على الكافة.

والثالث: يتخير.

فروع:

إذا لم يجد المضطر المحرم إلا الصيد .. ذبحه وأكله وافتدى، وإن وجد صيدًا وطعام الغير .. فثلاثة أوجه:

أحدها: يتعين الصيد.

والثاني: طعام الغير.

والثالث: يتخير.

هذا مع غيبة المالك، فإن حضر ومنعه .. تعين الصيد، وإن بذله .. تعين الطعام.

ولو وجد ميتة وصيدًا وطعام الغير .. فالأصح: تتعين الميتة، وقيل: طعام الغير، وقيل: الصيد، وقيل: يتخير بين الثلاثة، وقيل .. بين الميتة وطعام الغير، وقيل: بين الميتة والصيد، وقيل: بين الصيد وطعام الغير ويترك الميتة.

ولو وجد ميتتين إحداهما من جنس ما يؤكل كالشاة والأخرى مما لا يؤكل كالذئب فهل يتخير أو يأكل مما يأكل جنسه؟ وجهان يجريان فيما إذا كانت إحداهما طاهرة في الحياة كالحمار والأخرى نجسة كالكلب، والأصح: الأول في الأولى، وفي الثانية يتعين الطاهر.

وفي (تعليق البغوي): أن المضطر يجب عليه السؤال والإخبار بحاله حتى يضجر عن السؤال.

ولو عم الحرام الأرض بحيث لم يبق حلال .. جاز أن يستعمل من ذلك ما تدعو الحاجة إليه، قال الإمام: ولا ينبسط فيه كما ينبسط في الحلال، بل يقتصر على ما تمس حاجته إليه دون أكل الطيبات وشرب المستلذات ولبس الناعمات.

ص: 576

وَالأَصَحُّ: تَحْرِيمُ قَطْعِ بَعْضِهِ لِأَكْلِهِ. قُلْتُ: الأَصَحُّ: جَوَازُهُ، وَشَرْطُهُ: فُقْدَانُ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا،

ــ

قال الشيخ عز الدين: وصورة ذلك: أن يكون المستحقون بحيث يتوقع معرفتهم في المستقبل، فلو أيسنا منه .. لم تتصور هذه المسألة؛ لأن المال حينئذ يكون للمصالح العامة.

ولو اضطرت امرأة إلى الطعام وامتنع المالك من بذله إلا بوطئها .. قال الشيخ محب الدين الطبري: لم أر فيه نقلاً، والذي ظهر لي أنه لا يجوز لها تمكينه، وصوبه المتأخرون، وخالف إباحة الميتة؛ فإن الاضطرار فيها إلى نفس المحرم، وهنا الاضطرار ليس إلى نفس المحرم، وإنما جعل المحرم وسيلة إليه، وقد لا تندفع به الضرورة؛ لأنه قد يصر على المنع بعد وطئها، وهذه تقدمت الإشارة إليها في (باب حد الزنا).

والمنصوص: أنه لا يجوز للإنسان أكل الترياق المعجون بلحوم الحيات إلا في حالة الضرورة بحيث يجوز له أكل الميتة.

قال: (والأصح: تحريم قطع بعضه لأكله)؛ لأنه قد يهلك بذلك، ولأنه كقطعه من غيره.

والثاني: لا؛ لأنه إتلاف بعض لاستبقاء الجميع فأشبه قطع اليد بسبب الأَكِلَة.

قال الرافعي: ويشبه أن يكون هذا أظهر، وبه قال الشيخ أبو حامد وغيره، فلذلك قال المصنف:

(قلت: الأصح: جوازه، وشرطه) أي: شرط قطع بعضه لأكله (فقدان الميتة ونحوها)، فإن وجد شيئًا يأكله .. حرم قطعًا، وهذا الشرط صرح به في (الشرحين).

ص: 577

[وَأَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ فِي قَطْعِهِ أَقَلَّ]، وَيَحْرُمُ قَطْعُهُ لِغَيْرِهِ وَمِنْ مَعْصُومٍ، وَاللهُ أَعِلَمُ.

ــ

[قال: (وأن يكون الخوف في قطعه أقل)].

قال: (ويحرم قطعه لغيره ومن معصوم والله أعلم)؛ لأن قطعه لغيره ليس فيه قطع البعض لإصلاح الكل.

تتمة:

من مر ببستان إنسان أو زرعه .. لم يجز أن يأكل منه بغير إذنه إلا أن يكون مضطرًا كما تقدمت الإشارة إليه قريبًا، وحكم الثمار الساقطة من الأشجار حكم سائر الثمار إن كانت داخل الجدار، وكذلك إذا كانت خارجه إلا أن تجري عادتهم بإباحتها، فإن جرت بذلك .. فالأصح: الإباحة.

ويجوز أن يأكل طعام قريبه بغير إذنه إذا غلب على ظنه أنه لا يكره ذلك، ويختلف ذلك بالأشخاص والأحوال والأزمان، فإن شك .. فحرام بلا خلاف.

*

*

*

ص: 578

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

خاتمة

يكره أن يأكل فوق شبعه، واختار الشيخ عز الدين والشيخ تحريمه؛ لإضرار البدن وإضاعة المال، سواء كان ذلك بقلاً أو مشروبًا أو غير ذلك.

وفي (فتاوى قاضي خان): أن المرأة إذا أكلت الفتيت للسمن .. يجوز إن لم يكن زائدًا على الشبع.

وروى الحاكم [4/ 311] وابن عدي [7/ 74] عن أبي جحيفة أنه قال: أكلت ثريدة بلحم وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أتجشئ فقال: (اكفف عنا جشاءك يا أبا جحيفة؛ فإن أكثر الناس شبعًا في الدنيا أطولهم جوعًا يوم القيامة)، قال: فما أكل أبو جحيفة ملئ بطنه حتى فارق الدنيا، كان إذا تعشى لا يتغدى، وإذا تغدى لا يتعشى.

ويكره أن يعيب الطعام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما عاب طعامًا قط، إن أعجبه .. أكله، وإلا .. تركه.

قال الحليمي: هذا في غير المصنوع للآدمي، أما المصنوع إذا عاب صناعته .. فلا كراهة، وإنما كره عيب الطعام لأنه نعمة الله، وعيب النعمة مخالف للشكر، فمن أكل من نعمة الله .. شكره؛ إذ مكنه منه وأوصل منفعته إليه.

وإذا استضاف مسلم لا اضطرار به مسلمًا .. لم تجب عليه ضيافته، والأحاديث الواردة في ذلك محمولة على الاستحباب.

وعن أحمد والليث: أنها واجبة.

ويكره أن يشرب من فم القربة، ويسن أن يحمد الله في آخره وفي آخر الأكل.

ويستحب أن يأكل اللقمة الساقطة، وأن يلعق أصابعه، ويلعق القصعة؛ لما روى

ص: 579

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الترمذي [1804] وابن ماجه [3271] عن نبيشة الأسلمي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل في قصعة ثم لحسها .. استغفرت له القصعة).

وروى البزار أنها تقول: (اللهم؛ أجره من النار كما أجارني من لعق الشيطان).

*

*

*

ص: 580

كتاب المسابقة والمناضلة

ص: 581