المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الأشربة ــ كتاب الأشربة هي جمع: شراب، وهو: الذي يشرب، والشريب: المولع - النجم الوهاج في شرح المنهاج - جـ ٩

[الدميري]

الفصل: ‌ ‌كتاب الأشربة ــ كتاب الأشربة هي جمع: شراب، وهو: الذي يشرب، والشريب: المولع

‌كتاب الأشربة

ــ

كتاب الأشربة

هي جمع: شراب، وهو: الذي يشرب، والشريب: المولع بالشراب.

و (الشَّرْب) بفتح الشين وسكون الراء: الجماعة يشربون الخمرة، قالت القينة التي غنت حمزة رضي الله عنه في ذلك] من الوافر [:

ألا يا حمز بالشرف النواء .... وهن معقلات بالفناء

ضع السكين في اللبات منها .... وضرجهن حمزة بالدماء

وعجل من أطايبها لشرب .... طعامًا من قديد أو شواء

فأنت أبو عمارة والمفدى .... لكشف الضر عنا والبلاء

و (الخمر) بالإجماع: المسكر من عصير العنب وإن لم يقذف بالزبد، واشترط أبو حنيفة: أن يقذف به، فحينئذ يكون مجمعًا عليه.

واختلف أصحابنا في وقوع اسم الخمر على الأنبذة حقيقة:

فقال المزني وجماعة بذلك؛ لأن الاشتراك بالصفة يقتضي الاشتراك بالاسم، وهو قياس في اللغة، وهو جائز عند الأكثرين، وهو ظاهر الأحاديث.

ونسب الرافعي إلى الأكثرين: أنه لا يقع عليها إلا مجازًا.

أما في التحريم والحد

فهي كالخمر، لكن لا يكفر مستحلها؛ للخلاف فيها، وشربها من أكبر المحرمات بالإجماع، قال تعالى:{إِنَّمَا الْخَمْرُ} الآية، وقال:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ} ، وهو عند الأكثرين الخمر.

وفي (الصحيحين)[خ 242 - 2001م]: (كل شراب أسكر فهو حرام).

وفي (مسلم)[2003/ 73]: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام).

وفي (المستدرك)[4/ 145] عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

ص: 221

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

(اجتنبوا الخمر؛ فإنها مفتاح كل شر).

وقال عمر وعثمان: إنها أم الكبائر.

وكان المسلمون يشربونها في أول الإسلام.

واختلف أصحابنا في أن ذلك كان استصحابًا منهم لحكم الجاهلية أو بشرع في إباحتها على وجهين، رجح الماوردي الأول، والمصنف الثاني.

وكان تحريمها في السنة الثالثة من الهجرة بعد أحد.

وقال ابن خيران: حين كانت مباحة .. لم يثبت أن الإباحة كانت إلى حد يزيل العقل، وكذا قال المصنف في (شرح مسلم).

والأصل في تحريمها: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِر} إلى قوله: {فَاجْتَنِبُوهُ} .

وروى أبو داوود [3666]: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وآكل ثمنها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه).

وقال صلى الله عليه وسلم: (من شربها في الدنيا ولم يتب .. حُرِمَها في الآخرة)).

وروى مسلم [57]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمرة حين يشربها وهو مؤمن).

وانعقد الإجماع على تحريمها.

ص: 222

كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ كَثِيرُهُ .. حَرُمَ قَلِيلُهُ، وَحُدَّ شَارِبُهُ،

ــ

قال: (كل شراب أسكر كثيره .. حرم قليله) أي: وكثيره؛ لما روى النسائي [8/ 301] عن سعد بن أبي وقاص: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره).

وفي (الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البِتْع- وهو نبيذ العسل- فقال: (كل شراب أسكر .. فهو حرام).

وروى مسلم عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام).

وتناول قوله: (شراب) جميع الأنبذة المتخذة من التمر والزبيب والشعير والذرة وغير ذلك، وخرج به: النبات، كالحشيشة التي تأكلها الحرافيش، ونقل الشيخان في (باب الأطعمة) عن الروياني: أن أكلها حرام، ولا حد فيها.

وقال القرافي في (القواعد) يجب على آكلها التعزير الزاجر دون الحد، ولا تبطل بحملها الصلاة قال: وسئل بعض الفقهاء عنها، فأفتى بأنه إن حملها قبل أن تحمض أو تلصق .. صحت الصلاة، وإلا .. بطلت.

وقال في (الذخيرة) يجب على آكلها الحد والتعزير.

وقال الشيخ تقي الدين بن تيمية: إن الحشيشة أول ما ظهرت في آخر المئة السادسة من الهجرة حين ظهرت دولة التتار، وهي من أعظم المنكرات، وشر من الخمر من بعض الوجوه؛ لأنها تورث نشوة ولذة وطربًا كالخمر، ويصعب الفطام عنها أكثر من الخمر، وقد أخطأ القائل فيها [من التخفيف]:

حرموها مِن غيرِ عقلٍ ونقلٍ .... وحرامٌ تحريمُ غيرِ الحرامِ

وأما غير الأشربة مما يزيل العقل كالبنج .. فإنه حرام لا حد في تناوله؛ لأنه لا يطرب ولا يدعو قليله إلى كثيره.

قال: (وحُدَّ شاربه)، سواء سكر أم لا؛ لما روى الحاكم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شرب الخمر .. فاجلدوه)، وروى أحمد [2/ 136] والحاكم [4/ 371] عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شرب الخمر ..

ص: 223

إِلَاّ صَبِيًا وَمَجْنُونًاوَحَرْبِيًا

ــ

فاجلدوه)، وفيه القتل في الرابعة، وهو منسوخ بالإجماع المستند إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)).

قال الترمذي في آخر (كتابه)[5/ 736]: ليس في كتابي حديث أجمعت الأمة على ترك العمل به إلا حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر، وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة.

قال المنصف: والذي قاله في حديث شارب الخمر صحيح، وأما حديث ابن عباس .. فلم يجمعوا على ترك العمل به، بل هو محمول على الجمع بعذر المرض ونحوه، وبه قال أحمد والقاضي حسين من أصحابنا والخطابي والمتولي والروياني، وهو المختار.

وخرج بقول المصنف: (حد شاربه) ما لو أحقن بالخمر أو استعط كما سيأتي، ودخل فيه الحنفي إذا شرب نبيذًا يعتقد حله على المذهب، وقيل: لا يحد لاعتقاده الإباحة.

فإن قيل: إذا وطئ الحنفي في نكاح بلا ولي معتقدًا حله لا حد عليه على الصحيح .. فالجواب: أن النكاح في عقد بلا ولي للواطئ سبيل إلى استباحته بولي فاقتصر في الزجر عنه على مجرد النهي، والنبيذ لا سبيل إلى استباحته فضم إلى النهي الحد؛ ليكون أبلغ في الزجر).

فلو فرض شخص لا تسكره الخمر .. حَرُم عليه شربها للنجاسة لا للإسكار، وفي وجوب الحد عليه نظره، والظاهر: وجوبه، كما لو شرب من تؤثر فيه قدرًا لا يسكر.

قال: (إلا صبيًا ومجنونًا)؛ لرفع القلم عنهما.

قال: (وحربيًا)؛ لعدم الالتزام.

ص: 224

وَذِمِّيًّا وَمُوجَرًا، وَكَذَا مُكْرَهٌ عَلَى شُرْبِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَمَنْ جَهِلَ كَوْنَهَا خَمْرًا .. لَمْ يُحَدَّ، وَلَوْ قَرُبَ إِسْلَامُهُ فَقَال: جَهِلْتُ تَحْرِيمَهَا .. لَمْ يُحَدَّ

ــ

قال: (وذميًا)؛ لأنه لا يعتقد تحريمها، وفي وجه: نقيمه عليه برضاه بحكمنا.

وكلام القاضي حسين يشعر بأن الخلاف إذا أظهروا الشرب، أما المعاهد .. فلا حد عليه قطعًا.

قال: (وموجَرًا)؛ لعدم تكليفه؛ لأنه صب في حلقه بغير اختياره.

قال: (وكذا مكره على شربه على المذهب)؛ للحديث المشهور.

وقيل: وجهان، ويمكن بناؤهما على أن الإكراه هل يبيحه أو لا؟ وفي ذلك أوجه: أصحها: نعم، وبه جزم الرافعي في (الجراح).

وقيل: لا.

وقيل: يجب، ومحل عدم الوجوب: إذا لم يخف على روحه أو ما يحل محل الروح.

ونص في (الأم) و (البويطي) على: أن عليه أن يتقيأ، ونقله في (شروط الصلاة) في (شرح المهذب) عن أكثر الأصحاب، وقيل: يستحب، وكذا حكم سائر المحرمات من المأكول والمشروب.

قال: (ومن جهل كونهما خمرًا .. لم يحد)؛ لأنه معذور بالجهل، فلو قال السكران بعد أن صحا: كنت مكرهًا، أو لم أعلم أن الذي شربته مسكر .. صدق بيمينه، قاله في (البحر) في (كتاب الطلاق).

قال: (ولو قرب إسلامه فقال: جهلتُ تحريمها .. لم يحد)؛ لأنه قد يخفى عليه ذلك والحدود تدرأ بالشبهات.

هذا بالنسبة إلى من نشأ في غير بلاد الإسلام، أما الناشئ بها المخالط للمسلمين إذا أسلم ثم ادعى ذلك .. فالظاهر: أنه لا تقبل دعواه في ذلك؛ لأن الظاهر: أنه يعلم تحريمها على المسلمين.

ص: 225

أَوْ جَهِلْتُ الْحَدَّ .. حُدَّ. وَيُحَدُّ بِدُرْدِيِّ خَمْرٍ، لَا بِخُبْزٍ عُجِنَ دَقِيقُةُ بِهَا وَمَعْجُونٍ هِيَ فِيهِ، وَكَذَا حُقْنَةٌ وَسَعُوطٌ فِي الأَصَحِّ، وَمَنْ غَصَّ بِلُقْمَةٍ .. أَسَاغَهَا بِخَمْرٍ إِنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا،

ــ

قال: (أو جهلتُ الحد .. حُدَّ)؛ لأنه إذا علم تحريمها .. كان من حقه أن يجتنبها.

قال: (ويحد بدُرْديِّ خمرٍ) وهو: كا يبقى في آخر الإناء من العكر، ومثله الثخين منه إذا أكله بخبز؛ لبقاء عين الخمر فيهما، ولا يحد بأكل اللحم المطبوخ بها؛ لأن عين الخمر لم تبق فيه.

قال: (لا بخبزٍ) عجن دقيقه بها ومعجون هي فيه)؛ للاستهلاك، وفيهما وجه.

ولو ثرد فيها خبزًا وأكله .. حد.

وقال الإمام: من شرب كوب ماء فيه قطراتخمر والماء غالب بصفاته .. لم يحد؛ لاستهلاكه.

قال: (وكذا حقنة وسعوط في الأصح)؛ لأن الحد للزجر ولا حاجة إلى الزجر عنهما.

والثاني: يحد، كما يحصل الإفطار بهما للصائم.

والثالث: يحد في السعوط؛ لأنه ربما أطرب، بخلاف الحقنة.

قال: (ومن غَص بلقمة .. أساغها بخمر إن لم يجد غيرها)؛ إنقاذًا للنفس من الهلاك، ويجب عليه ذلك في هذه الحالة؛ لأن السلامة به قطعية، بخلاف التداوي، وتقدم في (صلاة المسافر) أن هذه رخصة واجبة.

وحكى إبراهيم المروروذي في تحريم الإساغة وجهين، ورجح صاحب (االإستقصاء) أنه لا يجوز) ويجب الحد.

و (غَص) بفتح الغين لا بضمها كما قاله ابن الصلاح وغيره، ومعناها: شرق، لكن المشهور: استعمال شرق في الماء، وغص في غيره.

ص: 226

وَالأَصَحُّ: تَحْرِيمُهَا لِدَوَاءٍ وَعَطَشٍ

ــ

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن اللبن لم يشرق به أحد أبدًا؛ فإن الله جعله سائغًا للشاربين).

قال: (والأصح: تحريمها لدواء وعطش)، ففي (صحيح مسلم) [1984] عن وائل بن حجر الكندي: أن طارق بن سويد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر فقال: إني أصفه للدواء؟ فقال: (إنه ليس بدواء، لكنه داء).

ورى البيقهي [10/ 5] وأبو يعلي الموصلي [6966] بإسناد حسن عن أم سلمة أنها قالت: نبذت نبيذًا في كوز، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغلي، فقال: ما خذا؟ قلت: اشتكت ابنة لي فنقعت لها هذا، فقال صلى الله عليه وسلم:(إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم).

والثاني: يجوز- وبه قال أبو حنيفة- كما يجوز شرب البول والدم وسائر النجاسات للتداوي.

والثالث: يجوز للتداوي دون الجوع والعطش؛ فإنه يزيد عطشًا.

والرابع: عكسه.

والخامس: يجوز للعطش دون الجوع.

والسادس: لا يجوز شربها للتداوي، ويجوز شرب الجديد منها للعطش دون العتيق.

قال القاضي أبو الطيب: سألت بعض أهل المعرفة بها، فقال: يروي في الحال ثم يثير عطشًا عظيمًا، واستشكله في (الذخائر) في (كتاب الأطعمة) بأنها رواية فاسق لا يقبل، وهذا عجيب؛ لاحتمال إخباره بعد التوبة.

ثم الخلاف بالتداوي مخصوص بالقليلِ الذي لا يسكر، وإخبار طبيب مسلم، أو معرفةِ المريض، وأن لا يجد ما يقوم مقامها، وتعجيلِ الشفاء كرجائه في الأصح.

وأطلق الرافعي والمصنف الخلاف، ومحله: إذا لم ينته الأمر به إلى الهلاك، فإن أشفى عليه ولم يجد غيرها .. تعين شربها كما يتعين على المضطر أكل الميتة، وكذا نقله الإمام عن إجماع الأصحاب.

ص: 227

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فروع:

قال القاضي حسين والماولادي والغزالي وصاحب (الحاوي الصغير) لا حد على المتداوي بالخمر وإن حكمنا بتحريمها، واختاره المصنف في (التصحيح).

وإذا احتيج في قطع اليد المتأكِّلة أو السلعة إلى ما يزيل العقل من غير الأشوبة) كالبنج .. خرجه الرافعي على جواز التداوي بالخمر، وصحح المصنف الجواز، وهو المنصوص المفتى به.

وإنما يحرم التداوي بصرفها، أما الترياق المعجون بها .. فإنه جائز قطعًا، ولو وجد العطشان خمرًا وبولًا .. شرب البول، وهل يشرب ما يرويه أو يسد رمقه؟ فيه قولان كما في أكل الميتة.

فائدة:

كان الشيخ يقول: (كل ما يقوله الأطباء في الخمر من المنافع .. فهو شيء كان عند شهادة القرآن بأن فيها منافع للناس قبل التحريم، وأما بعد نزول آية (المائدة) .. فإن الله الخالق لكل شيء سلبها المنافع جملة، فليس فيها شيء من المنافع، قال: ويهذا تسقط مسألة التداوي بالخمر ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها) اهـ

والذي قاله منقول عن الربيع والضحاك، وفيه حديث أسنده الثعلبي وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لما حرم الخمر .. سلبها المنافع).

وكان قيس بم عاصم شرابًا لها في الجاهلية، ثم حرمها على نفسه وقال] من الوافر [:

رأيت الخمر صالحة وفيها .... خصال تفسد الرجل الحليما

فلا والله أشربها صحيحًا .... ولا أشفي بها أبدًا سقيمًا

ص: 228

وَحَدُّ الْحُرِّ أَرْبَعُونَ،

ــ

ولا أعطي بها ثمنًا حياتي .... ولا أدعو لها أبدًا نديمًا

فإن الخمر تفضح شاربيها .... وتُجنيهم بها الأمر العظيما

ويروى: أن هذه الأبيات لأبي محجن الثقفي، قالها في ترك الخمر، وهو القائل] من الطويل [:

إذا مت فادفني إلى أصل كرمة .... تروي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفنني في الفلاة فإنني .... أخاف إذا ما مت ألا أذوقها)

وكان عمر قد جلده في الخمر مرارًا ثم تاب وحسنت توبته.

وذكر الهيثم بن عدي: أنه أخبره من رأى قبر أبي محجن بأذربيجان- أو قال: بنواحي جرجان- وقد نبت عليه ثلاث أصول كرم، وقد طالت وأثمرت، وهي معرشة على قبره.

قال: (وحد الحر أربعون)؛ لما روى مسلم [1707] عن حضين بن المنذر أبي ساسان قال: شهدت عثمان أُتي بالوليد، فشهد عليه رجلان: أحدهما حمران: أنه شرب خمرًا، وشهد آخر: أنه رآه يتقيؤها، فقال عثمان:(إنه لم يتقيأها حتى شربها)، فقال:(يا علي؛ قم فاجلده)، فقال علي:(قم يا حسن فاجلده)، فقال الحسن:(ولِّ حارها من تولَّى قارها)، فكأنه وجد عليه، فقال:(يا عبد الله بن جعفر؛ قم فاجلده)، فجلده وعلي رضي الله عنه بعد حتى بلغ أربعين، فقال:(أمسك)، ثم قال:(جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر رضي الله عنه أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سنة، وهذا أحب إلي).

ولا نعرف من يسمى (حضينًا) بالضاد المعجمة غير أبي ساسان، وهو تابعي ثقة، كان إذا رأى زوج ابنته .. قام من مجلسه وقال: مرحبًا بمن ستر العورة وكفى المؤنة، مات سنة تسع وتسعين.

وقول الحسن: (ولِّ حارها من تولى قارها) مثل مشهور، معناه: (ولِّ شدتها

ص: 229

وَالرَّقِيقِ عِشْرُونَ بِسَوْطٍ أَوْ يَدٍ أَوْ نِعَالٍ أَوْ أَطْرَافِ ثِيَابٍ، وَقِيلَ: يَتَعَيَّنُ سَوْطٌ

ــ

وأوساخها من تولى هنيها ولذاتها، والضمير عائد إلى الخلافة والولاية، أي: كما أن عثمان وأقاربه يتولون هنيَّ الخلافة ويختصون به يتولون نكدها وقاذوراتها، وهذه الرواية وقع فيها: أن عليًا عد على الوليد بن عقبة أربعين.

وفي (صحيح البخاري)[3696] من رواية عبد الله بن عدي بن الخيار: أن عليًا جلده ثمانين، والقصة واحدة، وجُمع بينهما بأنه ضربه بسوط له رأسان، فضربه برأسه أربعين، فجملتها ثمانون، ولا يخفى ما فيه، وكذلك قال الأئمة الثلاثة وابن المنذر: الحد ثمانون، ونقله ابن عبد البر قولًا للشافعي.

قال: (والرقيق عشرون)؛ لأنه حد يتبعض، فكان العبد فيه على النصف من الحر كالزنا وحد القذف، وفي (البيقهي) [8/ 321] عن عمر وعثمان وعبد الله بن عمر: أنهم جلدوا عبيدهم نصف حد الحر في الخمر.

وهل يكون المبعض كالحر أو كالقن؟ فيه نظر، والظاهر: أنه كالرقيق كما صرحوا به في حد القذف.

قال: (بسوط أو يد أو نعال أو أطراف ثياب)؛ لما روى الشيخان [خ 6781] عن أبي هريرة قال: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم بسكران، فأمر بضربه، فمنا من ضربه بيده، ومنا من ضربه بنعله، ومنا من ضربه بثوبه).

ورويا [خ 6773 - م 1706/ 36] عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد والنعال).

وليس المراد ب (طرف الثوب) الضرب به على هيئته، إنما المراد: أنه يُفتل حتى يشتد، ثم يضرب به، صرح به المَحاملي في (التجريد)، والبغوي في (تعليقته)، وغيرهما.

قال: (وقيل: يتعيَّن سوط)؛ لإجماع الصحابة على الضرب به.

وفي وجه ثالث: يتعين ما عدا السوط.

ومثار الخلاف: أن ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بالثياب ونحوها كان لعذر في

ص: 230

وَلَوْ رَأَى الإِمَامُ بُلُوغَهُ ثَمَانِين .. جَازَ فِي الأَصَحِّ، وَالزِّيَادَةُ تَعْزِيرَاتٌ، وَقِيلَ: حَدٌّ

ــ

الشارب من مرض أو نحافة، أو كان شرعًا خفف في صفته كما خفف في قدره؟ وجهان).

قال: (ولو رأى الإمام بلوغه ثمانين .. جاز في الأصح)؛ لما روى مسلم [1706/ 35] عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بشارب فجلده بجريدتين نحو أربعين) – قال-: وفعله أبو بكر، فلما كان عمر ودنى الناس من الريف والقرى .. استشار الناس، فقال عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر) ولم ينكر عليهم أحد.

والثاني: لا تجوز الزيادة؛ لأن عليًا رجع عن ذلك، وكان يجلد في خلافته أربعين.

قال: (والزيادة تعزيرات)؛ لأنها لو كانت حدًا .. لم يجز تركها.

وعبارة المصنف أحسن من قول (المحرر)(تعزير)؛ لأن القائل الثاني أورد أن التعزير لا يجوز أن يبلغ أربعين، فأجاب عنه بأنها تعزيرات على أنواع تصدر عنه؛ من هذيان، وتسببه في إزالة عقله، وفي تعرضه للقذف، وأنواع الإيذاء، وترك الصلاة، وغير ذلك.

قال: (وقيل: حد)؛ لأن التعزير لا يكون إلا على جناية محققة، وسيأتي في الباب الذي بعده حكم ما إذا ضربه أكثر من أربعين فمات بذلك.

ص: 231

وَيُحَدُّ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، لَا بِرِيحِ خَمْرٍ وَسُكْرٍ وَقَيْءِ، وَيَكْفِي فِي إِقْرَارٍ وَشَهَادَةٍ: شَرِبَ خَمْرًا،

ــ

تذنيب:

في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يحثى عليه التراب وأن يبكت، فلما ولى .. شرع القوم يسبونه ويدعون عليه، ويقول القائل منهم: اللهم العنه، فقال صلى الله عليه وسلم:(لا تقولوا هذا، ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه)).

وظاهر عبارة الماوردي في (الإقناع) أن الترتيب والتبكيت واجب.

وروى البيهقي [8/ 321]: أن عمر رضي الله عنه اتي بشيخ قد شرب الخمر في شهر رمضان، فضربه ثمانين ونفاه إلى الشام، وقال:(أفي شهر رمضان وصبياننا صيام)، قال: وأتي علي بشيخ يسكر في شهر رمضان، فضربه ثمانين، ثم أخرجه من الغد وضربه عشرين، ثم قال:(إنما ضربتك هذه العشرين لجراءتك على الله، وإفطارك في شهر رمضان).

قال: (ويحد بإقراره أو بشهادة رجلين)؛ لأن ذلك حجة شرعية.

قال: (لا بريح خمر وسكر وقيء)؛ لاحتمال أن يكون شرب غالطًا أو مكرهًا.

وعن أبي حنيفة: يقام الحد بمجرد الرائحة؛ لأن ابن مسعود جلد بها.

روى أبو داوود [4431] عن بريدة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استنكه ماعزًا).

وقال ابن أبي هريرة: أحدُّه بالرائحة، إلا أن يدعي ما يسقط الحد.

وقول المصنف: (بإقرار أو بشهادة) يفهم: أنه لا يثبت باليمين المردودة، وأن القاضي لا يقضي فيه بعلمه، وهو كذلك فيهما، لكن تقدم: أن الصحيح: أن سيد العبد يقضي فيه بعلمه في حدود الله تعالى، وكأن الفرق: تعلق حق الآدمي به، والحاجة إلى صلاح ملكه.

قال: (ويكفي في إقرار وشهادة: شَرِب خمرًا) أي: ولا يحتاج أن يقول: وهو

ص: 232

وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ: وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ مُخْتَارٌ، وَلَا يُحَدُّ حَالَ سُكْرِهِ، وَسَوْطُ الْحَدِّ: مَا بَيْنَ قَضِيبٍ وَعَصًا وَرَطْبٍ وَيَابِسٍ، .....

ــ

مختار عالم؛ لأن الأصل عدم الإكراه، والظاهر من حال الأكل والشرب: العلم بما يتناوله، كما أن الإقرار بالبيع والطلاق وغيرهما والشهادة عليها لا يشترط فيها التعرض للعلم والاختيار.

قال: (وقيل: يشترط: وهو عالم به مختار)؛ لاحتمال الجهل والإكراه، كما أنه لابد من التفصيل في الزنا.

والفرق: ان الزنا يعبر به عن مقدماته، كقوله صلى الله عليه وسلم:(العينان تزنيان، واليدان تزنيان))، فاحتيج فيه إلى الاحتياط، بخلاف هذا.

قال: (ولا يحد حال سكره)؛ لأن المقصود منه الردع والزجر وذلك لا يحصل حالة السكر، وفي هذا التعليل نظر؛ ففي (البخاري) [6786]:(ان النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسكران فأمر بضربه)).

والحكم لا يختص بالشرب، بل جميع حدود الله تعالى كذلك.

فلو حد حال سكره .. ففي الاعتداد به وجهان: أصحهما: نعم؛ للحديث المذكور.

قال: (وسوط الحد: ما بين قضيب وعصًا ورطب ويابس)؛ لما في (الموطأ)[2/ 825] عن زيد بن أسلم مرسلًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يجلد رجلًا، فأتي بسوط خلق، فقال:(فوق هذا)، فأتي بسوط جديد، فقال:(بين هذين).

ص: 233

وَيُفَرِّقُهُ عَلَى الأَعْضَاءِ إِلَاّ الْمَقَاتِلَ وَالْوَجْهَ، قِيلَ: وَالرَّاسَ، وَلَا تُشَدُّ يَدُهُ، وَلَا تُجَرَّدُ ثِيَابُهُ،

ــ

قال ابن الصلاح: و (السوط) هو: المتخذ من سيور تلوى وتلف، وقال علي رضي الله عنه: سوط الحد بين سوطين، وضربه بين ضربين، ذكره الرافعي، وهو غريب، قال: ولا يرفع الضارب يده فوق رأسه، ولا يضع السوط عليه وضعًا).

وقوله: (سوط الحد) ليس للتقييد؛ فإن سوط التعزير كذلك.

قال: (ويفرقه على الأعضاء)؛ لئلا يعظم ألمه بالموالاة في موضع واحد؛ لما روى ابن أبي شيبة [6/ 538] وعبد الرزاق [13617] والبيقهي [8/ 327] عن علي رضي الله عنه أنه قال للجلاد: (أعط كل عضو حقه واتق الوجه والمذاكير).

والمعنى في التفريق: أن الضرب في الموضع الواحد مهلك للموالاة.

قال: (إلا المقاتل) وهي المواضع التي يسرع القتل إليه بضربه فيها، كالصلب والفرج ونقرة النحر ونحوها.

قال: (والوجه)؛ لما روى مسلم [2612/ 112:] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ضرب أحدكم. ز فليتق الوجه)، ولأنه يجمع المحاسن، وأثر الشين يعظم فيه، بل اتقاء الوجه مطلوب في ضرب كل حيوان.

قال: (قيل: والرأس)؛ لنه عضو شريف، وهو أولى من الوجه في الاتقاء، ويخشى من ضربها نزول الماء فى العين.

واحتج لعدم اتقاء الرأس بما روى ابن أبي شيبة [6/ 591] عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال للجلاد: (اضرب الرأس؛ فإن الشيان فيه).

قال: (ولا تشدُّ يدُه)، بل تترك ليتقي بها، وإذا وضعها على موضع ضرب غيره.

قال: (ولا تجرد ثيابه)، بل يبقى عليه قميص ونحوه مما لا يمنع ألم الضرب،

ص: 234

وَيُوَالِي الضَّرْبَ بِحَيْثُ يَحْصُلُ زَجْرٌ وَتَنْكِيلٌ

ــ

فأما ما يمنع كالجبنة ونحوها .. فينزع عنه؛ مراعاة لمقصود الحد، والذي جزم به المصنف هو المعروف في المذهب.

وحكى ابن عبد البر في (التمهيد) عن الشافعي الضرب في الحدود والتعازير مجردًا قائمًا غير ممدود، إلا حد القذف؛ فإنه يضرب وعليه ثيابه، وقال الشافعي: إن كان مدُّهُ صلاحًا مدَّه.

قال: (ويوالي الضرب بحيث يحصل زجر وتنكيل)، فلا يجوز أن يضرب في كل يوم سوطًا أو سوطين؛ لأنه لا يحصل المقصود، وهذا بخلاف ما لو حلف لأضربن فلانًا كذا كذا سوطًا؛ فإنه يبرأ إذا فرقها على الأيام؛ لأن المتبع هناك مدلولات الألفاظ، وفي الحد التنكيل والزجر.

ويجلد الرجل قائمًا، والمرأة جالسة، وتلف عليها أثوابها، ويتولى لف ثيابها امرأة.

قال الماوردي: وإذا كان المحدود متهاتفًا على ارتكاب المعاصي .. ضربه في الملأ، وإن كان من ذوي الهيئات. ضربه في الخلوات.

ولا تجلد الحامل حتى تضع وتبرأ من ألم الولادة.

تتمة:

لا يجوز للإمام العفو عن الحد ولا تجوز الشفاعة فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الشافع والمشفع)).

وتستحب الشفاعة الحسنة إلى ولاة الأمور من أصحاب الحقوق ما لم يكن في حد أو أمر لا يجوز تركه، كالشفاعة إلى ناظر يتيم، أو وقف في ترك بعض الحقوق التي في ولايته، فهذه شفاعة سوء محرمة.

واستدل للشفاعة الحسنة بقوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} الآية، وبما في (الصحيحين) [خ 1432 - م 2637] عن أبي موسى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا

ص: 235

فَصْلٌ:

يُعَزَّزُ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ

ــ

أتاه طالب حاجة .. أقبل على جلسائه وقال: (اشفعوا .. تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء).

وفي (البيقهي)[6/ 82] عن ابن عمر: ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى .. فقد ضاد الله في حكمه).

قال: (فصل)

عقب المصنف رحمه الله الجنايات السبع الموجبة للحدود بفضل في التعزير.

وهو في اللغة: التأديب، وفى الشرع: تأديب على ذنب لا حد فيه.

وأصله من العزر، وهو: المنع، ومنه قوله تعالى:{وَتُعَزِّرُوهُ} أي: تدفعوا العدو عنه وتمنعوه، وهو مخالف للحد من ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه يختلف باختلاف الناس، فتعزير ذوي الهيئات أخف، ويستوون في الحدود.

والثاني: تجوز الشفاعة فيه والعفو، بل يستحبان.

والثالث: التالف به مضمون في الأصح، خلافًا لأبي حنيفة ومالك.

قال: (يعزز في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة) بالإجماع، سواء كانت حقًا لله تعالى أو لآدمي، وسواء كانت مقدمة لما فيه حد، كمباشرة أجنبية بغير الوطء، وسرقة ما لا قطع فيه، والسب والإيذاء بغير قذف، أو لم تكن، كشهادة الزور، والضرب بغير حق، والتزوير، وسائر المعاصي، وقد أشار المصنف إلى هذا في آخر الفصل.

والأصل فيه قبل الإجماع: قال تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} الآية، فأباح الضرب عند المخالفة، فكان فيه تنبيه على التعزير.

وقال صلى الله عليه وسلم في سرقة التمر: (إذا كان دون نصاب .. فيه غرم

ص: 236

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مثله) وجلدات نكال) رواه أبو داوود [1707] والنسائي [8/ 85] بمعناه.

وفي (الرافعي) أن عمر عزر رجلًا زوَّر كتابًا.

وروى البيقهي [8/ 253]: أن عليًا سئل عمن قال لرجل: يا فاسق، يا خبيث، فقال:(يعزر).

ويستثنى مما فيه كفارة: الجماع في نهار رمضان؛ فيجب فيه التعزير مع الكفارة، كما صرح به شارح (التقرير) والرافعي في (شرح المسند)، ونقل البغوي في (شرح السنة) فيه الإجماع.

ويستثنى ما في (الشامل) في أوائل (الجراح) أن كل موضع قلنا: لا يجب القصاص فيه كقتل الولد والعبد .. فإن القاتل يعزر، ويلزمه البدل والكفارة، وهو المنصوص في (الأم).

ونقل أيضًا في (باب جامع السير) عن الشافعي: أن المسلم إذا كتب إلى المشركين بخبر الإمام: إن كان فاعل ذلك من ذوي الهيئات .. لم يعزر؛ لخبر حاطب بن أبي بلتعة)، وإن لم يكن من ذوي الهيئات .. عزر، وهذا يشهد لقول الشيخ عز الدين: إن الأولياء إذا صدرت منهم صغائر .. لا يعزرهم عليها الحاكم، بل تقال عثراتهم، وتستر زلاتهم، قال: وقد جهل أكثر الناس، فزعموا: أن الولاية تسقط بالصغيرة، ويشهد لذلك حديث:(أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) رواه أبو داوود [4375] والنسائي [7254]، وصححه ابن حبان [94] بغير استثناء، لكن في رجال إسناده عبد الملك بن يزيد وعطاف بن خالد، وهما ضعيفان.

قال الشافعي: والمراد ب (ذوي الهيئات) الذين لا يعرفون الشر، فتترك لأحدهم الزلة.

وحكى الماوردي في ذلك وجهين:

أحدهما: أنهم أصحاب الصغائر دون الكبائر.

ص: 237

بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ صَفْعٍ أَوْ تَوْبِيخٍ،

ــ

والثاني: من إذا أذنب تاب.

وفي عثراتهم وجهان:

أحدهما: الصغائر.

والثاني: أول معصية زل فيها مطيع.

والزيادة على الأربعين في الخمر إلى الثمانين تعزير على الصحيح كما تقدم، والأربعون حد، فاجتمع الحد والتعزير.

وقال الفوراني: تقطيع يد السارق ويعزر، قال مجلي: إذا أراد به: تعليق يده في عنقه .. ، أو غيره .. فمنفرد به.

واليمينن الغموس فيها الكفارة والتعزير كما جزم به صاحب (المهذب)، وقول من قال: لا تستثنى هذه؛ لأن في اليمين الغموس جهتين الكذب وانتهاك الاسم المعظم، كما ذكره ابن الصباغ وابن عبد السلام .. مردود؛ لأن اختلاف الجهة لا يخرجها على الاستثناء.

ولنا: معصيته ليس فيها حد ولا تعزير ولا كفارة، وهي إذا حمى رجل من عوام المسلمين مواتًا؛ ومنع الناس منه زمانًا، ورعاه، ثم علم الإمام به .. رفع يده عنه ولم يغرمه ما رعاه؛ لأنه ليس بمالك، ولا يعزره؛ لأنه أحد مستحقيه، وإنما ينهاه عن مثل تعديه، كذا قاله الماوردي.

وفي زوائد (الروضة) هناك: لو رعى واحد من أهل القوم ماشيته في الحمى .. لا تعزير عليه ولا غرم، قاله أبو حامد مع كونه ارتكب معصية.

قال: (بحبس أو ضرب)؛ لأن المقصود الردع، وهو حاصل بكل من ذلك، وله الجمع بينهما إن رآه، لكن لا يبلغ في الحبس سنة، نص عليه الشافعي ومعظم الأصحاب، ووهم الإمام في (الغياثي) حيث نقله عن بعضهم وضعفه.

قال: (أو صفع أو توبيخ) أي: باللسان إن رآه، ولا يرقى إلى مرتبةٍ وهو يرى ما دونها كافيًا.

ص: 238

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

و (الصفع) الضرب بجميع الكف، قيل: الضرب بكف مبسوط، وقال الجوهري: الصفع كلمة مولَّدة، والرجل صفعان.

قال الماوردي: ويعزر بالإعراض عنه.

قال القرطبي: في قوله تعالى: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} دليل على أن العقوبة على قدر الذنب لا على قدر الحسد.

وللإمام أن يقتصر على التوبيخ إن رآه مصلحة، وله إشهاره في الناس زيادة على النكال، وهذا محثوث عليه في شاهد الزور، فيشهر على باب المسجد، وفي سوقه وقبيلته، وينادى عليه: هذا شاهد زور فاعرفوه.

وإنما تثبتشهادة الزور بإقرار الشاهد، أو بيقين القاضي؛ بأن شُهد بأن فلانًا زنى بالكوفة يوم كذا وقد رآه القاضي في ذلك اليوم ببغداد. قال الرافعي: كذا أطلقه الشافعي والأصحاب، ولم يخرجوه على قضاء القاضي بعلمه.

وله أن يجرد المعزر من ثيابه ما سوى العورة.

وقال الماوردي: لا يجوز حلق لحيته، ويجوز حلق رأسه، وفي جواز تسويد وجهه وجهان: الأكثرون على الجواز، وقال ابن الصباغ تبعًا لأبي الطيب: لا يجوز أن يركبه ويطاف به؛ للنهي عن المثلة.

وقال الماوردي والروياني: يجوز أن يعزر بالصلب ثلاثة أيام فما دونها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلب رجلًا على جبل يقال له: ذُباب، كذا هو في كتب الغريب)، قال البكري: وهو جبل بجبانة المدينة).

ولا يمنع من الطعام والشراب والوضوء، ويصلي موميًا ويعيد إذا أرسل، ولا وجه لمنعه الصلاة على الأرض.

ص: 239

وَيَجْتَهِدُ الإِمَامُ فِي جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ،

ــ

وفي القديم: يجوز التعزير بالمال، وسكت الرافعي هنا عن التعزير بالنفي، وذكره في (باب حد الزنا)، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نفى المخنثين من المدينة)، ونفى الحكم بن أبي العاصي بن أمية إلى الطائف)، وسيأتي خبره في الباب الذي بعد هذا، ونفى رجلًا خضب يديه ورجليه بالحناء كما تقدم في (باب ترك الصلاة).

قال: (ويجتهد الإمام في جنسه وقدره)؛ لأنه يحتاج إلى نظر واجتهاد، وعلم من هذا: أنه لا يستوفيه إلا الإمام، وهو كذلك؛ لعموم ولايته، ومعنى تخييره فيه: أنه يجتهد في سلوك الأصلح؛ لاختلاف ذلك باختلاف مراتب الناس وباختلاف المعاصي.

وليس له أن يفوضه إلى مستحقه ولا إلى المستحق عليه ولا إلى أبيه ولا ابنه، وليس ذلك لغيره إلا ثلاثة:

الأب؛ فله تأديب ولده الصغير للتعليم والزجر عن سيئ الأخلاق، والظاهر: أن الأمم ومَن الصبيُّ في كفالته كذلك للأمر بالصلاة والضرب عليها، وليس للأب تعزير البالغ وإن كان سفيهًا على الأصح.

الثاني: السيد يعزر رقيقه في حق نفسه، وكذا في حق الله على الأصح.

الثالث: الزوج له تعزير زوجته في أمر النشوز على الوجه المتقدم في بابه، وهل له تأديبها إذا كانت تؤذيه بالشتم والبذاءة؟ فيه تردد تقدم.

قال القمولي: رأيت فيما علق عن بعض مشايخ عصرنا: أن الظاهر أن للزوج تأديب زوجته الصغيرة للتأديب، والتعليم، واعتياد الصلاة، واجتناب المساوئ.

وأفتى جمال الإسلام عمر ابن البَزْري بأنه يجب على الزوج أمر زوجته بالصلاة في أوقاتها، ويجب عليه ضربها على ذلك).

ص: 240

وَقِيلَ: إِنْ تَعَلَّقَ بِآدَمِيٍّ .. لَمْ يَكْفِ تَوْبِيخٌ، فَإِنْ جَلَدَهُ .. وَجَبَ أَنْ يَنْقُصَ فِي عَبْدٍ عَنْ عِشْرِينَ جَلْدَةً، وَحُرٍّ عَنْ أَرْبَعِينَ، وَقِيلَ: عِشْرِينَ،

ــ

قال: (وقيل: إن تعلق بآدمي .. لم يكف توبيخ)؛ لتأكد حقه.

قال في (الروضة) إن تعلقت الجناية بحق آدمي .. فهل يجب التعزير إذا طالب وجهان:

أحدهما: يجب، وهو مقتضى كلام صاحب (المهذب) كالقصاص.

والثاني: لا يجب، كالتعزير لحق الله تعالى، وهذا هو الذي أطلقه الشيخ أبو حامد وغيره، ومقتضى كلام البغوي ترجيحه.

وقال الإمام: وقدر التعزير وما به التعزير إلى رأي الإمام، ولا تكاد تظهر جنايته عند الإمام إلا ويوبخه ويغلظ له القول، فيؤول الخلاف إلى أنه هل يجوز الاقتصار على التوبيخ؟

قال: (فإن جلده .. وجب أن ينقص في عبد عن عشرين جلدة، وحر عن أربعين)؛ لما روى البيهقي [8/ 327] عن النعمان بن بشير: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بلغ حدًا في غير حد .. فهو من المعتدين)، ثم قال: والمحفوظ إرساله.

قال: (وقيل: عشرين)؛ لأنها حد العبد.

وفي وجه ثالث: لا يبلغ أربعين فيهما.

وفي رابع: لا يزاد على عشرة أسواط؛ للحديث الثابت في (الصحيحين)[خ 6848 - م 1708] وغيرهما: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى).

وجوابه: أنه منسوخ بعمل الصحابة على خلافه من غير إنكار).

ص: 241

وَتَسْتَوِي فِي هَذَا جَمِيعُ الْمَعَاَصِي فِي الأَصَحِّ

ــ

وقال صاحب (التقريب) لو بلغ الخبر الشافعي .. لقال به؛ فإنه قال: إذا صح الحديث .. فهو مذهبي.

وفي خامس: أنا نعتبر كل معصية بما يناسبها مما يوجب الحد، فلا يبلغ بتعزير مقدمات الزنا حد الزنا، وله أن يزيده على حد القذف؛ فله في الحر تسعة وتسعون، وفي العبد تسعة وأربعون، وفي التعريض للقذف تسعة وسبعون للحر، وتسعة وثلاثون للعبد.

قال: (وتستوي في هذا جميع المعاصي في الأصح)؛ لعموم الأدلة، سواء كانت من مقدمات ما فيه حد أم لا كما تقدم.

والثاني: يعتبر في كل معصية ما يناسبها كالوجه الخامس.

فائدة:

أهل بدر إذا عمل أحد منهم ذنبًا يقتضي حدًا أو غيره .. أقيم عليه بالإجماع.

وأما قوله في حديث حاطب بن أبي بلتعة ما قال) .. فقيل: معناه الغفران لهم في

ص: 242

وَلَوْ عَفَا مُسْتَحِقُّ حَدٍّ .. فَلَا تَعْزِيرَ لِلإِمَامِ فِي الأَصَحِّ، أَوْ تَعْزِبرٍ .. فَلَهُ فِي الأَصَحِّ

ــ

الدار الآخرة؛ فقد أقام عمر الحد على قدامة بن مظعون في الخمر)، وحد النبي صلى الله عليه وسلم نعيمان فيه أيضًا) وكانا بدريين، وضرب صلى الله عليه وسلم مسطحًا الحد كما تقدم) وكان بدريًا.

وقال الخطابي وغيره: المراد الماضي لا المستقبل، وتقديره: أي عمل كان لكم .. فقد غفر؛ لأنه لو كان للمستقبل .. كان جوابه: فسأغفر، ولأنه لو كان للمستقبل .. لكان إطلاقًا في الذنوب، ولا وجه لذلك.

وتوضيح هذا: أن القوم خافوا من العقوبة فيما بعد، فقد قال عمر: يا حذيفة؛ هل أنا منهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أسر إليه أمر اثني عشر رجلًا من المنافقين).

قال: (ولو عفا مستحق حدٍّ .. فلا تعزير للإمام في الأصح، أو تعزيرٍ .. فله في الأصح)؛ لأن الحد مقدر لا نظر للإمام فيه، وإذا أسقطه .. لم يعدل إلى غيره، والتعزير يتعلق أصله بنظره فلم يؤثر فيه إسقاط غيره.

والثاني: له ذلك مطلقًا؛ لأن فيه حقًا لله تعالى.

والثالث: لا مطلقًا؛ لأن مستحقه أسقطه، واستدل الرافعي لتركه التعزير بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عن جماعة استحقوه، كالذي غل من الغنيمة)،

ص: 243

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

والذي لوى شدقه حين حكم النبي صلى الله عليه وسلم للزبير في شراج الحرة).

وخرج بـ (الإمام) السيد، فلو عفا مستحق التعزير عن العبد .. كان لسيده أن يعزره قطعًا؛ للحاجة إلى إصلاح ملكه.

تتمة:

يعزر من وافق الكفار في أعيادهم، ومن يمسك الحية، ويدخل النار ومن قال لذمي: يا حاج، ومن هنأه بعيد، ومن سمى زائر قبور الصالحين حاجًا، والساعي بالتميمة؛ لكثرة إفسادها بين الناس، قال يحيى بن أبي كثير: يفسد النمام في ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة.

خاتمة

لا تقام التعزيرات في المسجد، فإن فعلت .. وقعت الموقع، كالصلاة في الدار المغصوبة، كذا قاله الرافعي هنا، وهو يفهم: أن فعل ذلك حرام، وصرح في (أبواب القضاء) بكراهته وفاقًا لابن الصباغ، وسيأتي ذكره هناك.

وقال الروياني: إن كان فيه تلويث كقطع يد السارق .. حرم.

قال الشيخ: وجمهور العلماء على كراهة ذلك أو تحريمه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقام الحدود في المساجد) رواه ابن ماجه [2599].

وكان الشعبي وشريح وابن أبي ليلى يرون إقامة الحدود فيها.

ويحكى: أن ابن أبي ليلي مر على امرأة ضربها شاب وهي تقول له: يا ابن

ص: 244

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الزانيين، فأخذها وأدخلها المسجد وضربها حدين في مجلس واحد بغير محضر الأبوين، فقال أبو حنيفة: أخطأ القاضي في خمسة أحكام: كونه عاد إلى مجلسه في غير وقته، وفي إقامة الحد في المسجد، وفي توالي الحدين، وفي استيفاء الحد بغير طلب صاحبه، وفي ضربها قائمة، فشكاه إلى أمير المؤمنين، فمنع أبا حنيفة الفتيا، فاتفق أن سألته ابنته عن مسألة في الحيض فلم يجبها وقال: سلي أخاك حمادًا؛ فإني ممنوع من الفتيا.

***

ص: 245

كِتَابُ الصِّيَالِ وَضَمَانِ الوِلَاةِ

ص: 247