المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كِتَابُ الْهُدْنَةِ عَقْدُهَا لِكُفَّارِ إِقْلِيمٍ يَخْتَصُّ بِالأِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ فِيهَا، ــ   كتاب الهدنة لفظها - النجم الوهاج في شرح المنهاج - جـ ٩

[الدميري]

الفصل: ‌ ‌كِتَابُ الْهُدْنَةِ عَقْدُهَا لِكُفَّارِ إِقْلِيمٍ يَخْتَصُّ بِالأِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ فِيهَا، ــ   كتاب الهدنة لفظها

‌كِتَابُ الْهُدْنَةِ

عَقْدُهَا لِكُفَّارِ إِقْلِيمٍ يَخْتَصُّ بِالأِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ فِيهَا،

ــ

كتاب الهدنة

لفظها مشتق من الهدون، وهو: اللين والسكون، ومنه قيل للمصالحة: المهادنة، لأنها ملاينة أحد الفريقين، ومنه قولهم: هدنة علي دخن.

قال الجاحظ: وهذا من كلمات النبي صل الله عليه وسلم لم يسبق إليها.

وهي في الشرع: معاقدة أهل الحرب علي ترك القتال مدة معلومة بعوض أو غيره، وتسمي: موادعة، ومعاهدة، ومسالمة.

وفي الحديث: (أن النبي صل الله عليه وسلم وادع اليهود علي غير جزية لما نزل المدينة حين كان في المسلمين قلة) و (وهادن قريشاَ عام الحديبية عشر سنين حين لم يقو الاسلام بعد.

والأصل فيه قبل الإجماع: قوله تعالي: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْض أَرْبَعَة أَشْهُر} أي: كونوا آمنين فيها أربعة أشهر، وقوله:

{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} .

قال: (عقدها لكفار افليم يختص بالإمام أو نائبه فيها) ، لما فيها من الخطر، والإمام هو الذي يتولي الأمور العظام، وهو أعرف بالمصالح من الآحاد وأقدر علي التدبير منهم، ولو جاز ذلك من الآحاد .. لأدي إلي تعطيل الجهاد، ولا يقوم إمام أهل البغي في ذلك مقام إمام أهل العدل، فلو عقدها واحد من الناس لأهل إقليم .. لم يغتالوا، بل يردوا إلي الأمن.

ص: 437

وَلِبَلْدَةٍ يَجُوزُ لِوَالِي الإِقْلِيمِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا تُعْقَدُ لِمَصْلَحَةٍ كَضَعْفِنَا لِقِلَّةِ عَدَدٍ وَأُهْبَةِ أَوْ رَجَاؤِ إِسْلَامِهِمْ أَوْ بَذْلٍ جِزْيَةٍ، .....

ــ

وعلم من تعبيره بـ (العقد) اعتبار الإيجاب والقبول، والمعتبر فيه ما تقدم في الأمان.

وفي (الإشراف) للهروي: لو عقدها رئيس الكفار لأهل بلد أو إقليم وسكت الباقون .. جاز.

وشروط الهدنة أربعة ذكرها المصنف:

أحدهما: أن يكون لكفار إقليم، وهو أحد إقاليم الأرض، أي: أقسامها، وهي سبع أقاليم في الربع المسكون من الأرض، أطولها وأعرضها الأول، وأقصرها طولا وعرضا السابع، وبقيتها مختلفة طولا وعرضآ، وهذه الأقاليم وضعها الملوك الأولون الذين طافوا الربع العامر

كالإسكندر وأزدشير.

والمراد بـ (الإقليم) هنا: بحر الروم والهند والعراق.

قال: (ولبلدة يجوز لوالي الإقليم أيضاَ) ، لأن الحاجة قد تدعو إلي ذلك، لاطلاعه علي مصالح ذلك الإقليم، ولقلة المفسدة فيه ولو أخطأ.

قال: (وإنما تعقد لمصلحة) ، فلا يكفي انتفاء المفسدة، لما فيه من موادعتهم بلا مصلحة، وقد قال الله تعالي:

{فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} .

قال: (كضعفنا لقلة عدد وأهبة) ، كما عقدها النبي صل الله عليه وسلم في الحديبية لكثرة عدد المشركين إذ ذالك ومنعهم من دخول مكة.

قال: (أو رجاء إسلامهم أو بذل جزية) ، لأنه صل الله عليه وسلم هادن صفوان بن أمية أربعة أشهر عام الفتح وقد كان مستظهراَ عليه، ولكنه فعل ذلك لرجاء إسلامه، فأسلم قبل مضيها.

قال القفال في (محاسن الشرية) لما هادن أهل مكة .. اتسع الناس في التصرف وتلاقي المسلمون والمشركون، فسمع المشركون القرآن، فذكر أهل

ص: 438

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ .. جَازَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَا سَنَةً،

ــ

المغازي: أنه أسلم في تلك السنين من المشركين أكثر مما أسلم قبل ذلك، وهذا هو الشرط الثاني وهو حاجة المسلمين إليه.

وعبارة (الروضة) و (المحرر) أن يكون للمسلمين إليه حاجة وفيه مصلحة وهو الصواب في التعبير

فإذا طلب الكفار الهدنة، فإن كان فيها ضرر علي المسلمين .. لم يجابوا، وإلا .. فوجهان:

أحدهما: تجب إجابتهم.

والصحيح: لا تجب، بل يجتهد الإمام ويفعل الأصلح.

قال الإمام: وما يتعلق باجتهاد الإمام لا يعد واجبًاوإن كان يتعين عليه رعاية الأصلح.

قال: (فإن لم يكن) أي: بنا ضعف) .. جازت أربعة أشهر) وهذا هو الشرط الثالث. وهو المدة، لقوله تعالي:

{فَسِيحُوا فِي الْأَرْض أَرْبَعَة أَشْهُر} ، وكذلك هادن النبي صل الله عليه وسلم صفوان بن أمية.

قال الشافعي: وكانت مهادنة النبي صل الله عليه وسلم للمشركين أربعة أشهر أقوي ما كان عند منصرفه من تبوك.

وحكي الفوراني قولَا: إنها تجوز سنة فما فوقها إلي ما دون سنتين، وغلطه الإمام.

قال: (لاسنة) ، لأنها مدة تجب فيها الجزية فلا يجوز تقريرهم فيها بغيرها، ولقوله تعالي:

{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وهي عامة إلا فيما خص الدليل، وهو أربعة أشهر.

ص: 439

وَكَذَا دُونَهَا فِي الأَظْهَرِ، وَلِضَعْفٍ تَجُوزُ عَشْرَ سِنِينَ فَقَطْ، وَمَتَى زَادَ عَلَى الْجَائِزِ .. فَقَوْلَا تَفْرِيِقِ الصَّفْقَةِ، وَإِطْلَاقُ الْعَقْدِ يُفْسِدُهُ،

ــ

قال: (وكذا دونها في الأظهر) ، لزيادتها علي مدة السياحة.

والثاني: يجوز، وبه قطع أبو إسحاق، لنقصها عن مدة الجزية.

قال الماوردي: هذا كله بالنسبة إلي نفوس المعقود لهم، أما أموالهم .. فيجوز العقد لها مؤبداَ، وفي جوازه_ كذلك_ للذرية وجهان.

وإذا طلب الكافر الأمان ليسمع كلام الله تعالي .. وجبت إجابته قطعاَ، ولا يمهل لذلك أربعة أشهر علي الأصح، بل لا بد من مجالس يحصل فيها البيان، ثم يقال له: الحق بمأمنك.

قال: (ولضعف تجوز عشر سنين فقط) ، لأنه النبي صل الله عليه وسلم هادن قريشاَ هذه المدة، رواه أبو داوود.

وقوله: (فقط) يفهم: أنه لا تجوز الزيادة.

نعم، يجوز في هذه الحالة أن يعقد علي عشر ثم عشر قبل انقضاء الأولي، كما جزم به الفوراني وغيره.

وقيل: تجوز الزيادة للحاجة، وبه قال أبو حنيفة، وهو نظير القول بأن المسافر إذا أقام ببلد لشغل يرجو تجارة يقصر أبداَ.

وقيل: لا يجوز أكثر من سنة.

وقيل: لا يجوز أكثر من أربعة أشهر.

أما إذا لم تدع الحاجة إلي العشر .. فلا يجوز إلا ما تدعو الحاجة إليه.

قال: (ومتي زاد علي الجائز .. فقولا لا تفريق الصفقة) ، لأنه جمع بين ما يجوز وما لا يجوز في عقد واحد، فيبطل القدر الزائد بلا خلاف.

وفي القدر الجائز قولا تفريق الصفقة.

وقيل: يصح في غير الزائد قطعاَ، لعدم العوض، ولسهولة العقد مع الكفار.

قال: (وإطلاق العقد يفسده) ، لأن الإطلاق يقتضي التأبيد.

ص: 440

وَكَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ عَلَى الصَّحِيحِ؛ بِأَنْ شُرِطَ مَنْعُ فَكِّ أَسْرَانَا، أَوْ تَرْكُ مَالِنَا لَهُمْ، أَوْ لِيَعْقِدَ لَهُمْ ذِمَّةً بِدُونِ دِينَارٍ، أَوْ بِدَفْعِ مَالٍ إِلَيْهِمْ

ــ

وقيل: يحمل مطلقه عند الضعف علي عشر سنين، وعند القوة قولان: أحدهما: علي سنة.

والثاني: علي أربعة أشهر، وبه جزم الماوردي والروياني.

لكن يستثني من إطلاقه: ما إذا قال الإمام: أقركم ما شئت، كما سيأتي.

قال: (وكذا شرط فاسد علي الصحيح، بأن شرط منع فك أسرانا) ، وكذلك رد مسلم أسروه وأفلت منهم) أو ترك مالنا لهم، أو ليعقد لهم ذمة بدون دينار، أو بدفع مال إليهم) ، وكذلك عليأن يقيموا بالحجاز ويدخلوا الحرم، أو يظهروا الخمر في دارنا، أو رد نسائهم إذا جئن مسلمات، وهذا هو الشرط الرابع، وهو: أن لا يتقترن العقد بمفسد، فإن ذلك مفسد للعقد، لقوله تعالي:{لَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ} ، وفي شرط ذلك إهانة ينبو الإسلام عنها.

ويقابل الصحيح: أنه يصح ويلغو الشرط، وبه جزم المحاملي في (اللباب) والماوردي، وكان ينبغي للمصنف أن يعبر بالأصح، لقوة الخلاف.

والمراد بقوله: (مالنا) مال المسلمين، وينبغي أن يلتحق به مال أهل ذمتنا.

لكن يستثني من دفع المال إليهم: ما تقتضي الضرورة دفعه إليهم، بأن كانوا يعذبون الأساري ففديناهم، أو أحاطوا بنا وخفنا الاصطلام، فيجوز الدفع، بل يجب علي الأصح.

وذكر ابن إسحاق وغيره: أن النبي صل الله عليه وسلم لما بلغه اجتماع الأحزاب .. قال للأنصار: (إن العرب قد كالبتكم ورمتكم عن قوس واحدة، فهل ترون أن ندفع شيئاَ من ثمار المدينة إليهم) فقالوا: يا رسول الله، إن قلت عن وحي .. فسمعاَ وطاعة، وإن قلت عن رأي .. فرأيك متبع، وإلا .. [فكنا]

بالإسلام؟! فسر صل الله عليه وسلم بقولهم. لا ندفع إليهم ثمرة إلا بشراء أو قريَ ونحن كفار، فكيف وقد أعزنا الله تعالي

واستنبطوا منه جواز إعطاء المال للعدو إذا كانت فيه مصلحة.

ص: 441

وَتَصحُّ الْهُدْنَةُ عَلَى أَنْ يَنْقُضَهَا الإِمَامُ مَتَى شَاءَ، وَمَتَى صَحَّتْ .. وَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُمْ حَتَّى تَنْقَضِي أَوْ يَنْقُضُوهَا بِتَصْرِيحٍ، أَوْ قِتَالِنَا، أَوْ مُكَاتَبَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِعَوْرَةٍ لَنَا، أَوْ قَتْلِ مُسْلِمٍ،

ــ

قال: (وتصح الهدنة علي أن ينقضها الإمام متي شاء)، لأن النبي صل الله عليه وسلم وادع أهل خيبر وقال:(أقركم علي ما أقركم الله) رواه البخاري من حديث ابن عمر.

لكن لو اقتصر الإمام اليوم علي هذه اللفظة، أو قال: هادنتكم إلي أيشاء الله .. فسد العقد، لأن النبي صل الله عليه وسلم يعلم بالوحي ما عند الله، بخلاف غيره.

ولو قال: هادنتكم ما شاء فلان، وهو مسلم عدل ذو رأي .. جاز، فإذا نقضها .. انتقضت.

ولو قال: ما شاء فلان منكم .. لم يجز، لأن الكافر ليس له علي المسلمين سبيل.

قال: (ومتي صحت .. وجب الكف عنهم) أي: علي العاقد ومن بعده من الأئمة، وفاء بالعهد، قال تعالي:

{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} ، لكن لو رأي الإمام الثاني العقد فاسداَ، فإن كان فساده بطريق الاجتهاد .. لم يفسخه، وإن كان بنص أو إجماع .. فسخه.

وعلي الإمام أن يدفع عنهم الأذية من جهة المسلمين وأهل الذمة، لا من جهة أهل الحرب، لأن الهدنة للكف عنهم لا لحفظهم، بخلاف أهل الذمة.

فرع:

قال الماوردي في (الأحكام) يجوز شراء أولاد المعاهدين منهم ولا يجوز سبيهم.

قال: (حتي تنقضي أو ينقضوها بتصريح، أو قتالنا، أو مكاتبة أهل الحرب بعوره لنا، أو قتل مسلم)، لقوله تعالي:

{فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} ، وقال تعالي:

ص: 442

وَإِذَا انتَقَضَتْ .. جَازَتْ الإِغَارَةُ عَلَيْهِمْ وَبَيَاتُهُمْ

ــ

{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} ، فمتي صرحوا بنقض العهد، أو قاتلوا المسلمين، أو آووا عيون المشركين، أو كاتبوا أهل الحرب بعورة المسلمين، أو قتلوا مسلماَ، أو أخذوا مالآ، أو سبٌوا رسول الله صل الله عليه وسلم .. انتقض عهدهم كما تنتقض الذمه به.

وإنما ينتقض العهد بقتالهم لنا إذا كانوا مختارين له، فلو أكرههم عليه البغاة وثبت ذلك .. فلا.

وأفهمت عبارة المصنف: أنها لا تنفسخ بموت الإمام الذي عقدها ولا بعزله، وهو كذلك، ولهذا ينبغي للإمام أن يكتب عقد الهدنة ويشهد به ليعمل به من بعده، ولا بأس أن يقول فيه: لكم ذمة الله وذمة رسوله وذمتي.

وقوله: (قتل مسلم) يفهم: أنهم لو قتلوا ذمياَ في دارنا أن الحكم يختلف، وليس كذلك.

قال: (وإذا انتقضت .. جازت الإغارة عليهم وبياتهم)، لقوله تعالي:{وَإِن نَّكَثُو اأَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} الآية، ولأنهم صاروا حينئذ كما كانوا قبل الهدنة.

هذا إذا علموا أن ما فعلوه ناقضاَ، فإن لم يعلموا .. فهل يقاتلون في الحال أو يتوقف علي الإنذار؟ فيه وجهان، الموافق لإطلاق المعظم: الأول.

والثاني: إن لم يعلموا لم يقاتلوا حتي ينذروا، لما روي الترمذي [1580] وأبو داوود [2753] والنسائي [سك 8679] عن سليم بن عامر- رجل من حمير- قال: كان بين معاوية وبين الروم عهد، فكان يسير نحو بلادهم، حتي [إذا] انقضي العهد .. غزاهم، فجاء رجل علي دابة يقول: الله أكبر، وفاء لا غدر، فإذا هو عمرو بن عبسة السلمي، فأرسل إليه معاوية فسأله، فقال: سمعت رسول الله صل الله عليه وسلم يقول: (من كان بينه وبين قوم عهد .. فلا يشد عقدة ولا يحلها حتي ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم علي سواء) ، فرجع معاوية والناس.

ص: 443

وَلَوْ نَقَضَ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يُنْكِرِ الْبَاقُونَ يِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ .. انْتَقَضَ فِيهِمْ أَيْضَا، وَإِنْ أَنْكَرُوا باعْتِزَالِهِمْ أَوْ إِعِلَامِ الإِمَامِ بِبَقَائِهِمْ عَلَى الْعَهْدِ .. فَلَا

ــ

ومحل الإغارة والبيات: إذا كانوا في بلادهم، فأما في بلادنا .. فلا يغتال، بل يبلغ المأمن.

و) البيات) بفتح الباء: الإغارة علي العدو ليلَا، قال تعالي:{بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} فخص وقتي الدعة والسكون، لأن مجئ العذاب فيهما أفظع وأهول، لما فيه من البغتة والفجأة.

قال: (ولو نقض بعضهم ولم ينكر الباقون بقول ولا فعل .. انتقض فيهم أيضاَ) ، لأن سكوتهم يشعر بالرضا فجعل نقضاَ منهم، كما أن هدنة البعض وسكوت الباقين هدنة في حق الجميع.

وهذا بخلاف عقد الذمة، فليس نقضه من بعضهم نقضاَ من الباقين، لأن النبي صل الله عليه وسلم لما هادن بني قريظة .. أعان بعضهم أبا سفيان بن حرب علي حرب رسول الله صل الله عليه وسلم، وهو حيي بن أخطب وأخوه وآخر، فنقض النبي صل الله عليه وسلم عهدهم وغزاهم.

وكذلك لما هادن قريشاَ عام الحديبية .. دخل بنو خزاعة في عهده عليه الصلاة والسلام، وبنو بكر في عهد قريش، فقتل رجل من بكر رجلا من خزاعة وأعانه ثلاثة نفر من قريش، وسكت الباقون، فجعل النبي صل الله عليه وسلم ذلك نقضاَ للعهد، وسار إلي مكة ففتحها.

ولا فرق في الحكم بين السوقة وغيرهم كما قاله الجمهور.

وحكي ابن كج وجهين فيما إذا نقضها السوقة ولم يعلم بهم الرؤساء.

ولو نقض الرؤساء وامتنع الأتباع .. ففي الانتقاض أيضاَ وجهان قال: (وإن أنكروا باعتزالهم أو إعلام الإمام ببقائهم علي العهد .. فلا)، لقوله تعالي:{أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} ، وإنما ذكر مثالين، لأن الأول إنكار فعلي، والثاني قولي.

ص: 444

وَلَوْ خَافَ خِيَانَتَهُمْ .. فَلَهُ نَبْذ عَهْدِهِمْ إِلَيْهِم وَيُبَلِّغُهُمُ الْمَامَنَ، وَلَا يَنْبُذُ عَقْدَ الذِّمَّةِ بِتُهَمَةٍ .. وَلَا يَجُوزُ شَرْطُ رَدِّ مُسْلِمَةٍ تَاتِينَا مِنْهُمْ

ــ

قال: (ولو خاف خيانتهم .. فله نبذ عهدهم إليهم)، لقوله تعالي:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} الآية، ويخالف عقد الذمة حيث لا يجوز نبذه بالتهمة كما سيأتي، لأنهم في قبضة الإمام، فمتي تحققت خيانتهم .. أمكنه تداركها، بخلاف أهل الحرب.

وفي قول: لا ينبذ كالجزية، وقول: إنه ينبذ عقد الذمة أيضاَ.

تنبيهان:

أحدهما: لا يكتفي بمجرد الخوف، بل لا بد من أمارة تدل عليه، فلو لم تظهر أمارة يخاف بسببها .. لم يجز نبذ العهد ولا اعتبار بالوهم المجرد، ونص عليه، وجزم به الماوردي والقاضي أبو الطيب وغيرهما.

الثاني: اعتبر ابن الرفعة في النقض حكم الحاكم، لأنه يحتاج إلي نظر واجتهاد، وبه صرح الماوردي، فلا ينتقض بنفس الخوف، بل لا بد من الحكم به.

قال: (ويبلغهم المأمن) أي: يلزمه ذلك وفاء بالعهد، ولأن العقد لازم قبل ذلك كما صرح به الأصحاب.

قال: (ولا ينبذ عقد الذمة بتهمة) كما تقدم، والفرق بينهما: أن عقد الذمة آكد، لأنه مؤبد ولأنه معارضة.

قال: (ولا يجوز شرط رد مسلمة تأتينا منهم)، لقوله تعالي:{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} .

وروي أبو داوود في قصة الحديبية: أنه جاءت نسوة مؤمنات مهاجرات، فنهاهم الله تعالي أن يردوهن، ولأنه لا يؤمن أن يصيبها زوجها الكافر أو أن تتزوج كافراَ، ولأنها عاجزة عن الهرب منهم، ولأنها أقرب إلي الافتتان، لنقصان عقلها وقلة معرفتها.

وفي (البخاري)[2713]: (أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت مسلمة في مدة الهدنة، فجاء أخواها عمارة والوليد في طلبها، وجاءت سبيعة بنت الحارث

ص: 445

فَإِنْ شُرِطَ .. فَشَدَ الْشَّرْطُ، وَكَذَا الْعَقْدُ فِي الأَصَحِّ، وَإِنْ شُرِطَ ؤَدُّ مَنْ جَاءَ، أَوْ لَمْ يَذْكُرْ رَدًا فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ .. لَمْ يَجِبْ دَفْعُ مَهْرٍ إِلَى زَوْجِهَا فِي الأَظْهَرِ،

ــ

الأسلمية مسلمة، فجاء زوجها في طلبها، وقالوا: يامحمد، قد شرطت لنا رد النساء فاردد علينا نساءنا، فتوقف رسول الله صل الله عليه وسلم توقفاَ لأمر الله تعالي حتي نزلت:

{إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ}

إلي قوله: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} فامتنع صل الله عليه وسلم من ردهما ورد النساء كلهن).

وأفهم تقييده بـ) المسلمة) جواز شرط رد الكافرة ورد الرجل المسلم، والفرق: أن المرأة أقرب إلي الافتتان كما تقدم.

قال: (فإن شرط .. فسد الشرط) ، لأنه أحل حراماَ، والشريعة استقرت علي منع الرد، سواء كان لها عشيرة أم لا.

قال: (وكذا العقد في الأصح) كالشرط الفاسد إذا اقترن بالعقد.

والثاني: لا، لأنها ليست بآكد من النكاح، وهو لا يفسد بالشروط الفاسدة.

وهذا الخلاف هو عين الخلاف المتقدم أول الباب حيث قال: وكذا شرط فاسد علي الصحيح، لكنه ضعفه هناك وقواه هنا، فخالف، وسلم من هذا في (الروضة) ، فإنه عبر أولَا بالأصح، ثم أحال عليه ثانياَ.

قال: (وإن شرط رد من جاء، أو لم يذكر رداَ فجاءت امرأة .. لم يجب دفع مهر إلي زوجها في الأظهر) ، وهو مذهب الأئمة الثلاثة، لأن البضع ليس بمال حتي يشمله الأمان كما لا يشمل الأمان زوجته، ولأنه لو وجب بدل البضع .. لكان ذلك مهر المثل لا ما أنفق الزوج.

والثاني: يجب، لقوله تعالي:{وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} والمراد: الصداق، ولأن البضع متقوم، وهو حقه، وقد حيل بينه وبينه، فوجب بدله روخص بعضهم القولين بما إذا دخل بها وقطع بوجوبه قبل الدخول.

ويجري الخلاف أيضاَ فيما إذا جاءت كافرة ثم أسلمت عندنا، فلا نردها ولا غرم، وقيل: في رد المهر وجهان، والزوج العبد كالحر.

واحترز المصنف عما إذا شرط ترك الرد، فإنه لا غرم قطعاَ، والمراد: جاءت امرأه حرة بالغة.

ص: 446

وَلَا يُرَدُّ صَبِيٌّ وَمَجْنُونٌ، وَكَذَا عَبْدٌ

ــ

والمغروم: هو الذي بذله الزوج.

فإن لك يكن دفع إليها شيئاَ، أو كان غير متمول، أو جاء في طلبها غير الزوج ووكيله .. فلا غرم، وهي المصدقة في عدم القبض.

وإذا جاءت مميزة تصف الإسلام .. لم ترد علي الصحيح، وإن لم نحكم بصحة إسلامها احتياطاَ، ولا غرم في الحال في الأصح، فإن بلغت ووصفت الكفر ..

ردت، وإلا غرمنا حينئذ علي قول الغرم.

ولو جاءت أمة مسلمة .. لم ترد علي سيد ولا زوج وعتقت، وفي قيمتها لسيدها ومهرها لزوجها من المصالح قولان، وقيل: لا قيمة قطعاَ.

ولو كان تحت المهادن عشر نسوة فأسلمن وهاجرن وجاء الزوج يلطلبهن ..

قيل له: اخر أربعاَ منهم، فإذا اختارهن .. أعطي مهورهن، قاله الماوردي والروياني.

ومحل الغرم: خمس الخمس المرصد للمصالح علي المذهب.

وفي وجه: إن كان للمرأة مال .. أخذ منه.

ولو جاءت بعد انقضاء مدة الهدنة .. لم تغرم لزوجها شيئاَ بلا خلاف.

قال: (ولا يرد صبي ومجنون) ، لضعفهما، ولا يجوز الصلح بشرط ردهما أيضاَ، ولا فرق بين أن يطلبه أبوه أو غيره.

وما صرحوا به من امتناع الرد .. يخالف ما رجحاه في (باب اللقيط) أن الحيلولة بين الصبي إذا أسلم وبين أهله مستحبة لا واجبة.

ولا فرق في المجنون بين من بلغ مجنوناَ، ومن طرا جنونه بعد البلوغ، فإن بلغ أو أفاق ووصف كفراَ لا يقر أهله عليه .. بلغ المأمن، وإن وصف ما يقر أهله عليه وبذل الجزية .. قبلت منه، وإلا .. بلغ المأمن.

قال: (وكذا عبد) ، لأنه جاء مسلماَ مراغماَ لهم، والظاهر: أنهم يهينون العبد ويسترقونه ولا عشيرة له تحميه.

والثاني: يرد عملَا بعموم الشرط.

ومراد المصنف بـ (العبد) الذكر البالغ العاقل، أما الأمة .. فلا ترد قطعاَ كالحرة، وكذا المستولدة والمكاتبة.

ص: 447

وَحُرُّ لَا عَشِيرَةَ لَهُ عَلَى المَذْهَبِ، وَيُرَدُّ منْ لَهُ عَشِيرَةٌ طَلَبتهُ إلَيهَا لَا إلي غَيرِهَا، إلَاّ أَنْ يَقدِرَ الْمَطلُوبُ عَلَى قَهْرِ الطَالِبِ الَهَرَبِ مِنهُ، وَمَعْنَي الرَّدَّ: أَنْ يُخَليِ بَيْنهُ وَبَيْنَ طَالبِهِ،

ــ

وهل يعتق العبد الذي جاء مسلمًا .. قال في (الحاوي) إن غلبهم على نفسه ثم أسلم وهاجر .. عتق؛ لأن الهدنة لا توجب أمان بعضهم من بعض، وأن أسلم ثم غلبهم على نفسه وجاءنا، فإن فعل ذلك قبل أن هادناهم .. فكذلك؛ لأنه غالب في حالة الإباحة، وإن فعله بعد الهدنة .. لم يعتق؛ لأن أموالهم محرمة حينئذ لا يملكها بالقهر، ثم لا يرد للسيد، بل يبيعه الإمام لمسلم أو يدفع قيمته من بيت المال ويعتقه عن المسلمين كافة وولاؤه لهم.

قال: (وحر لا عشيرة له علي المذهب)؛ لأنه مستذل عندهم كالعبد.

والثاني: يرد؛ لعموم الأدلة.

كل هذا إذا شرط لهم الرد، وإلا .... فلا يجوز بلا خوف فيهما كما قلناه.

قال: (ويرد من له عشيرة طلبته إليها)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد أبا جندل علي أبيه سهيل بن عمرو، كما رواه الشيخان [خ 2734 - م 1785]، كذا استدلوا به، وفيه نظر؛ لأن ذلك كان قبل العقد، والمعنى فيه: أنهم يذبون عنه ويحمونه.

واسلم أبي جندل العاصي، وغلط من سماه عبد الله، إنما عبد الله أخوه.

واحترز هنا عما إذا لم يطلبه؛ فإنه لا يرد ولو شرطوه، كذا نص عليه في (البويطي)، كما لا يجب الغرم إذا لم تطلب المرأة، ثم هل الاعتبار في الطلب بحضور العشيرة أو واحد منهم أو يكفي بعث رسولهم إذا غلب الاعتبار في الطلب بحضور العشيرة أو واحد منهم أو يكفي بعث رسولهم إذا غلب الظن صدقة؟ لم يتعرضوا له، والظاهر: الثاني.

قال: (لا إلى غيرها)؛ إذ لا فائدة في ردة إلى غير عشيرته.

قال: (إلا أن يقدر المطلوب علي قهر الطالب والهرب منه)، وعلى ذلك حمل رد النبي صلي الله عليه وسلم أبا بصير؛ فإنه قد جاء في طلبه رجلان، فرده إليهما، فقتل أحدهما في الطريق، وأفلت الآخر.

قال: (ومعني الرد: أن يخلي بينه وبين طالبه)؛ عملًا بقضية الشرط، ولا يبعد

ص: 448

وَلَا يُجْبَرُ عَلْي الرُّجُوعِ، وَلَا يلَزَمُهُ اَلرُّجُوعُ، وَلَهُ قَتلُ الطَّالِبِ، وَلنَا التَّعرِيضُ لَهُ بِهِ لَا التَّصريحُ. وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَرُدُّوا مَنْ جَاَءَهُم مُرتَدًا مِنَّا .. لَزِمَهُمُ اٌلَوَفَاءُ .....

ــ

تسمية التخلية ردًا كما في الوديعة.

قال: (ولايجبر علي الرجوع)؛ لأن إجبار المسلم علي الإقامه بدار الحرب لا يجوز، ولأن النبي صلي الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بصير امتناعه ولا قتله طالبه، بل سره ما فعل، وعرض له بذلك، ولو كان واجبًا .. لأمره بالرجوع إلى مكة.

قال: (ولا يلزمه الرجوع)؛ لما تقدم، فإن اختار الإقامة في دار الإسلام

لم يمنع، ويقول الإمام للطالب: لا أمنعك منه إن قدرت عليه، ولا أعينك إن لم تقدر.

قال: (وله قتل الطالب)؛ لقصة أبي بصير.

قال في (الدقائق)(قول المحرر والظاهر: أن له قتل الطالب .... فيه إشارة إلي احتمال له، ولم يرد إثبات خلاف؛ فإنه لا خلاف فيه) اه

والاحتمال للإمام، وآقامه الرافعي وجهًا، وصرح في (الروضة) بنقله عن الإمام، وقد أقام في (الروضة) و (المنهج) و (أصليهما) ما لا يحصى من احتمالات للإمام وجوهًا كما تقدم.

قال: (ولنا التعريض له به لا التصريح)؛ لما تقدم، ولأن عمر قال لأبي جندل حين رده إلى أبيه:(اصبر أبا جندل؛ فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب) يعرض له بقتل أبيه، رواه أحمد في [مسند 4/ 325].

وفي جواز التعريض احتمال للإمام بالمنع لا يلزم بعقد الهدنة ما لزمنا، وحمل قتل أبي بصير علي أنه قتله دفعًا عن نفسه، واستدل الإمام لجواز التعريض بقوله صلي الله عليه وسلم لأبي بصير:(ويل أمه! مسعر حرب) وهو مشكل؛ لأنه عليه السلام لم يكن له خائنة الأعين، وهو الإضمار الذي يخالف الأظهار.

قال: (ولو شرط أن يردوا من جاءهم مرتدا منا

لزمهم الوفاء) به؛ عملًا بالشرط، سواء كان رجلًا أو إمرأة، حرًا أو رقيقًا.

ص: 449

فَإِنْ أَبَوْا .... فقد نَقَضُوِاٌ، وَالْأَظْهَرُ: جَوَازُ شَرْطِ أَنْ لَا يَرُدُّوا

ــ

قال: (فإن أبوا

فقد نقضوا)؛ لمخالفتهم الشرط، وهل يكون الرد في حقهم معناه التخليه كما سبق في حقنا أو لابد من التسليم؟ فيه نظر، وكلام المصنف يقتضي الأول.

قال: (والأظهر: جواز شرط أن لا يردوا)؛ لأنه عليه السلام شرط ذلك لسهيل بن عمرو.

والثاني: المنع، ولابد من استرداده لإعلاء الإسلام، قال الماوردي: والصحيح عندي: صحة هذا الشرط في الرجال دون النساء احتياطًا للأبضاع، وحاول تنزيل القولين عليهما، فإن أبطلنا الشرط

فالواجب عليهم التمكين دون التسليم، وعلى هذا جرى الإمام والغزالي وصاحب (الحاوي الصغير).

تتمة:

لو جاءتهم امرأة منا مرتدة وهاجرت إلينا امرأة منهم مسلمة وطلبها زوجها

لا يغرم لها مهرًا، بل نقول: هذه بهذه، ونجعل المهرين يتقاصا، ويدفع الإمام المهر إلى زوج المرتدة ويكتب إلى زعيمهم ليدفع مهرها إلي الزوج.

هذا إن تساوس القدران، فإن كان مهر المهاجرة أكثر .. صرفنا مقدار مهر المرتدة منه إلي زوجها والباقي إلي زوج المهاجرة، وإن كان مهر المرتدة أكثر

صرفنا مقدار مهر المهاجرة إلي زوجها والباقي إلي زوج المرتدة، وبهذة المقاصة فسر مفسرون قوله تعالى:{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} الآية.

***********

خاتمة

حكم قيمة من ارتد من عبيدنا وإمائنا وقيمة من أسلم من عبيدهم وإمائهم حكم المهر في الوجوب علينا وعليهم والتقاص، إلا في شئ واحد، وهو: أن المرتدين إذا عادوا إلي الإسلام

لم نرد على أهل الذمة ما أخذناه منهم من مهور النساء، ونرد ما أخذناه من قيمة العبيد والإماء، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

***********

ص: 450

كتاب الصيد والذبائح

ص: 451