المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر سلطنة الملك المنصور لا چين على مصر - النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة - جـ ٨

[ابن تغري بردي]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء الثامن]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 690]

- ‌ذكر ولاية الملك الأشرف خليل على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 691]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 692]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 693]

- ‌ذكر سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون الأولى على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 694]

- ‌ذكر سلطنة الملك العادل زين الدّين كتبغا على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 695]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 696]

- ‌ذكر سلطنة الملك المنصور لا چين على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 697]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 698]

- ‌ذكر سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 699]

- ‌ذكر من عدم فى هذه السنة فى وقعة حمص مع التّتار

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 700]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 701]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 702]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 703]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 704]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 705]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 706]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 707]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 708]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 709]

- ‌ذكر سلطنة الملك المظفّر بيبرس الجاشنكير على مصر

- ‌استدراكات على بعض تعليقات وردت فى الجزء السابع من هذا الكتاب لحضرة الأستاذ محمد رمزى بك

- ‌زاوية الشيخ أبى السعود بن أبى العشائر

- ‌الحد الذي كان ينتهى عنده النيل على شاطئه الشرقى تجاه مدينتى مصر القديمة والقاهرة وقت فتح العرب لمصر

الفصل: ‌ذكر سلطنة الملك المنصور لا چين على مصر

[ما وقع من الحوادث سنة 696]

‌ذكر سلطنة الملك المنصور لا چين على مصر

هو السلطان الملك المنصور حسام الدين لاچين بن عبد الله المنصورىّ سلطان الديار المصرية، تسلطن بعد خلع الملك العادل كتبغا المنصورىّ كما تقدّم ذكره فى يوم الجمعة عاشر صفر من سنة ست وتسعين وستمائة. وأصل لا چين هذا مملوك للملك المنصور قلاوون اشتراه وربّاه وأعتقه ورقّاه إلى أن جعله من جملة مماليكه، فلمّا تسلطن أمّره وجعله نائبا بقلعة دمشق. فلما خرج الأمير سيف الدين سنقر الأشقر عن طاعة الملك المنصور قلاوون وتسلطن بدمشق وتلقّب بالملك الكامل وملك قلعة دمشق قبض على لا چين هذا وحبسه مدّة إلى أن انكسر سنقر الأشقر وملك الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ دمشق أخرجه من محبسه، ودام لا چين بدمشق إلى أن ورد مرسوم الملك المنصور قلاوون باستقرار لاچين هذا فى نيابة دمشق دفعة واحدة؛ فوليها ودام بها إحدى عشرة سنة إلى أن عزله الملك الأشرف خليل بن قلاوون بالشّجاعىّ. ثم قبض عليه ثم أطلقه بعد أشهر، ثم قبض عليه ثانيا مع جماعة أمراء، وهم: الأمير سنقر الأشقر المقدّم ذكره الذي كان تسلطن بدمشق وتلقّب بالملك الكامل. والأمير ركن الدين طقصو الناصرىّ حمو لاچين هذا. والأمير سيف الدين جرمك الناصرىّ. والأمير بلبان الهارونىّ وغيرهم، فحنقوا الجميع وما بقى غير لاچين هذا، فقدّموه ووضعوا الوتر فى حلقه وجذب الوتر فانقطع، وكان الملك الأشرف حاضرا؛ فقال لاچين: ياخوند، إيش لى ذنب! ما لى ذنب إلا أنّ صهرى طقصوها هو قد هلك، وأنا أطلّق ابنته، فرقّ له خشداشيته وقبّلوا الأرض وسألوا السلطان فيه، وضمنوه فأطلقه وخلع عليه وأعطاه إمرة مائة فارس بالديار المصرية وجعله سلاح دار.

ص: 85

قلت: (يعنى جعله أمير سلاح) فإنّ أمير سلاح هو الذي يناول السلطان السلاح وغيره. قلت: لله درّ المتنبّى حيث يقول:

لا تخدعنّك من عدوّك دمعة

وارحم شبابك من عدوّ ترحم

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى

حتى يراق على جوانبه الدم

وذلك أنّ لاچين لمّا خرج من الحبس وصار من جملة الأمراء خاف على نفسه، واتّفق مع الأمير بيدرا نائب السلطنة وغيره على قتل الأشرف حتى تمّ لهم ذلك حسب ما تقدّم ذكره فى ترجمة الملك الأشرف. ثمّ اختفى لاچين أشهرا إلى أن أصلح أمره الأمير كتبغا وأخرجه وخلع عليه الملك الناصر محمد بن قلاوون كما تقدّم وجعله على عادته. كلّ ذلك بسفارة «1» الأمير كتبغا. ثم لمّا تسلطن كتبغا جعله نائب سلطنته بل قسيم مملكته، واستمرّ لاچين على ذلك حتى سافر الملك العادل كتبغا إلى البلاد الشاميّة وأصلح أمورها وعاد إلى نحو الديار المصريّة، وسار حتى نزل بمنزلة اللّجون «2» ، اتّفق لاچين هذا مع جماعة من أكابر الأمراء على قتل الملك العادل كتبغا ووثبوا عليه بالمنزلة المذكورة، وقتلوا الأميرين:[سيف الدين «3» ] بتخاص وبكتوت الأزرق العادليين، وكانا من أكابر مماليك الملك العادل كتبغا وأمرائه، واختبط العسكر وبلع الملك العادل كتبغا ذلك ففاز بنفسه، وركب فى خمسة من خواصّه وتوجّه إلى دمشق.

وقد حكينا ذلك كلّه فى ترجمة كتبغا. فاستولى عند ذلك لاچين على الخزائن

ص: 86

والدهليز وبرك «1» السلطنة، وساق الجميع أمامه إلى مدينة غزّة «2» . وبايعوه الأمراء بالسلطنة بعد شروط اشترطوها الأمراء عليه حسب ما يأتى ذكرها فى محلّه. وسار الجميع إلى نحو الديار المصريّة حتى دخلوها وملكوا القلعة بغير مدافع، وجلس لاچين هذا على كرسىّ المملكة فى يوم الجمعة المقدّم ذكره. وتم أمره وخلع على الأمراء بعدّة وظائف، وهم: الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصورىّ بنيابة السلطنة بالديار المصريّة عوضا عن نفسه. وخلع على الأمير قبجق المنصورىّ بنيابة الشام عوضا عن الأمير أغزلوا «3» العادلى. وعلى عدّة أمراء أخر. ثم ركب الملك المنصور لاچين بعد ذلك من قلعة الجبل فى يوم الاثنين العشرين من صفر بأبّهة السلطنة وعليه الخلعة الخليفتيّة، وخرج إلى ظاهر القاهرة إلى جهة قبّة «4» النصر، ثم عاد من باب النصر وشقّ القاهرة إلى أن خرج من باب زويلة، والأمراء والعساكر بين يديه؛ وحمل الأمير بدر الدين بيسرى الجتر على رأسه وطلع إلى القلعة. وخلع أيضا على الأمراء وأرباب الوظائف على العادة. واستمرّ فى السلطنة وحسنت سيرته، وباشر الأمور بنفسه وأحبّه الناس لولا مملوكه منكوتمر، فإنّه كان صبيا مذموم السيرة. ولمّا

ص: 87

كان يوم الثلاثاء منتصف ذى القعدة من سنة ست وتسعين وستمائة قبض السلطان الملك المنصور لاچين على الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصورىّ نائب السلطنة وحبسه، وولّى مملوكه منكوتمر المذكور نيابة السلطنة عوضه، فعظم ذلك على أكابر الأمراء فى الباطن. ثم بعد أيام ركب السلطان الملك المنصور لاچين ولعب الكرة بالميدان «1» فتقنطر به الفرس فوقع من عليه وتهشّم جميع بدنه وانكسرت يده وبعض أضلاعه ووهن عظمه وضعفت حركته، وبقى يعلّم عنه مملوكه ونائبه سيف الدين منكوتمر وأيس من نفسه. كلّ ذلك والأمراء راضون بما يفعله منكوتمر لأجل خاطره إلى أن منّ الله تعالى عليه بالعافية وركب، ولمّا ركب زيّنت له القاهرة ومصر والبلاد الشاميّة لعافيته، وفرح الناس بعافيته فرحا شديدا خصوصا الحرافيش «2» .

فإنه لمّا ركب بعد عافيته قال له واحد من الحرافشة: يا قضيب الذهب، بالله أرنى يدك، فرفع إليه يده وهو ماسك المقرعة وضرب بها رقبة الحصان الذي تحته. وكان ركوبه فى حادى عشرين صفر من سنة سبع وتسعين وستمائة. ولمّا كان لعب الكرة وكبا به فرسه ووقع وانكسرت يده قال فيه الأديب شمس الدين محمد [المعروف بابن البيّاعة «3» ] :

حويت بطشا وإحسانا ومعرفة

وليس يحمل هذا كلّه الفرس

ولمّا تعافى الملك المنصور لاچين قال فيه شمس الدين المذكور نثرا وهو: أسفر ثغر صباحه عن محيّا القمر الزاهر، وبطش الأسد الكاسر، وجود البحر الزاخر؛ فياله يوما

ص: 88

نال به الإسلام على شرفه شرفا، وأخذ كلّ مسلم من السرور العامّ طرفا؛ فملئت كلّ النفوس سرورا، وزيدت قلوب المؤمنين وأبصارهم ثباتا ونورا. ثم أنشد أبياتا منها:

فمصر والشام كلّ الخير عمّهما

وكلّ قطر علت فيه التّباشير

فالكون مبتهج والخلق مبتسم

والخير متّصل والدّين مجبور

ومنها:

وكيف لا وعدوّ الدّين منكسر

بالله والملك المنصور منصور

والشرك قد مات رعبا حيث صاح به التو

حيد هذا حسام الدين مشهور

ثم بعد ذلك بمدّة قبض السلطان على الأمير بدر الدين بيسرى، واحتاط على جميع موجوده فى سادس شهر ربيع الآخر. ثم جهّز السلطان الملك المنصور العساكر إلى البلاد الشاميّة لغزو سيس «1» وغيرها، وعليهم الأمير علم الدين سنجر الدّوادارى وغيره من الأمراء، وسارت العساكر من الديار المصرية إلى البلاد الشامية، وفتحت تلّ «2» حمدون وتلّ «3» باشر وقلعة «4» مرعش؛ وجاء الأمير علم الدين سنجر الدّوادارى حجر فى رجله عطّله عن الركوب فى أيّام الحصار. واستشهد الأمير علم الدين سنجر المعروف بطقصبا، وجرح جماعة كثيرة من العسكر والأمراء. ثم إنّ الملك المنصور قبض على الأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ المعزول عن نيابة دمشق قبل تاريخه بمدّة

ص: 89

سنين وعلى الأمير سنقر شاه الظاهرى لأمر بلغه عنهما. ثم فى أواخر صفر أخرج السلطان الملك المنصور لاچين الملك الناصر محمد بن قلاون من الديار المصريّة إلى الكرك ليقيم بها، وفى خدمته الأمير جمال الدين آقوش أستاذ دار الملك المنصور، فنزل الملك الناصر محمد بحواشيه من قلعة الجبل، وسافر حتى وصل إلى الكرك.

ثم بدا للسلطان الملك المنصور هذا أن يعمل الرّوك «1» بالديار المصريّة وهو الروك الحسامىّ. فلمّا كان يوم سادس جمادى الأولى من سنة سبع «2» وتسعين وستمائة ابتدأ عمل الروك والشروع فيه فى إقطاعات «3» الأمراء وأخباز الحلقة والأجناد وجميع

ص: 90

عساكر الديار المصريّة، واستمرّوا فى عمله إلى يوم الاثنين ثامن «1» شهر رجب من سنة سبع وتسعين وستمائة، وفرّقت المثالات «2» على الأمراء والمقدّمين. وفى اليوم العاشر شرع نائب السلطنة الأمير سيف الدين منكوتمر فى تفرقة المثالات على الحلقة والبحريّة ومماليك السلطان وغير ذلك، فكان كلّ من وقع له مثال لا سبيل له إلى المراجعة فيه، فمن الجند من سعد ومنهم من شقى، وأفرد للخاصّ «3» أعمال الجيزيّة «4» بتمامها وكمالها، ونواحى الصّفقة الإتفيحيّة «5» وثغر دمياط «6» والإسكندريّة «7» ونواحى معيّنة من البلاد القبليّة والبحريّة، وعيّن لمنكوتمر من النّواحى ما اختاره لنفسه وأصحابه؛ وكان الحكم فى التعيين لدواوين منكوتمر، والاختيار لهم فى التفرقة. وكان الذي باشر هذا الرّوك وعمله من الأمراء الأمير بدر الدين بيليك «8» الفارسىّ الحاجب والأمير بهاء الدين قراقوش الطّواشىّ «9» الظّاهرىّ.

ص: 91

وقال الشيخ صلاح الدين الصفدىّ: وكان مدّة عمل الرّوك ثمانية أشهر إلا أيّاما قلائل. ثم تقنطر السلطان الملك المنصور لاچين عن فرسه فى لعب الكرة.

انتهى كلام الصّفدىّ.

وقال القطب اليونينىّ: حكى بعض كتّاب الجيش بالديار المصريّة فى سنة سبعمائة قال لى: أخدم فى ديوان الجيش بالديار المصريّة أربعين سنة، قال: والديار المصريّة أربعة وعشرون قيراطا، منها: أربعة قراريط للسلطان ولما يطلقه وللكلف والرواتب وغير ذلك، ومنها عشرة للأمراء والإطلاقات والزيادات، ومنها عشرة قراريط للحلقة. قال: وذكروا للسلطان ولمنكوتمر أنّهم يكفون الأمراء والجند بأحد عشر قيراطا «1» ، يستخدم عليها حلقة بمقدار الجيش، فشرعوا فى ذلك وطلبونا وطلبوا الكتّاب الجياد فى هذه الصّناعة، فكفينا الأمراء والجند بعشرة قراريط، وزدنا الذين تضرّروا قيراطا فبقى تسعة، فاتّفق قتل السلطان ومنكوتمر.

وكان فى قلوب الأمراء من ذلك همّ عظيم، فأنعم على كلّ أمير ببلد وبلدين من تلك التسعة قراريط، وبقى الجيش ضعيفا ليس له قوّة. وكانت التسعة قراريط التى بقيت خيرا من الأحد عشر قيراطا المقطعة.

قلت: يعنى أنّ هذا خارج عن الأربعة قراريط التى هى برسم السلطان خاصّة. انتهى.

وقيل فى الرّوك وجه آخر؛ قال: لمّا كان فى ذى الحجّة سنة سبع وتسعين وستّمائة قصد السلطان الملك المنصور حسام الدين لاچين المنصورىّ أن يروك البلاد المصريّة وينظر فى أمور عساكر مصر، فتقدّم التاج «2» الطويل مستوفى الدولة

ص: 92

بجمع الدواوين لعمل أوراق بعبرة «1» إقطاع الأمراء والجند وقانون البلاد، وندب الأمير بهاء الدين قراقوش الظّاهرىّ والأمير بدر الدين بيليك الفارسىّ الحاجب، فجمع سائر الكتّاب لذلك؛ وأخذوا فى عمله فلم يحكموا العمل، وذلك أنّهم عمدوا إلى الإقطاعات الثقيلة المتحصّلة من إقطاعات الأمراء والجند، وأبدلوها بإقطاعات دونها فى العبرة والمتحصّل، وأصلحوا ما كان من الإقطاعات ضعيفا، وأفرد للعسكر بأجمعه أربعة عشر قيراطا، وللسلطان أربعة قراريط، وأرصد لمن عساه يتضرّر من الأمراء والجند ويشكو قلّة المتحصّل قيراطان، فتمّ بذلك عشرون قيراطا. وقتل الملك المنصور لاچين ولم يستخدم أحدا وأوقف برسم عسكر أخر يستجدّ أربعة قراريط.

وأفرد لخاصّ السلطان الجيزيّة والإتفيحيّة ومنفلوط «2» وهو «3» والكوم «4» الأحمر ومرج «5»

ص: 93

بنى هميم وحرجة «1» سمطا، واتفو «2» (أدفو) بأعمال قوص «3» وإسكندريّة ودمياط، وأفرد لمنكوتمر مملوكه نائب السلطنة من الجهات ما لم يكن لنائب قبله، وهو عبرة نيّف عن مائة «4» ألف دينار. فلمّا فرغت الأوراق على ما ذكرنا جلس السلطان الملك المنصور لاچين لتفرفة المثالات على الأمراء والمقدّمين فأخذوها وهم غير راضين بذلك، وتبيّن للسلطان من وجوه الأمراء الكراهة، فأراد زيادة العبرة فى الإقطاعات فمنعه «5» نائبه منكوتمر من ذلك وحذّره فتح هذا الباب، فإنّه يخشى أن يعجز السلطان عن سدّه، وتكفّل له منكوتمر بإتمام العرض فيما قد عمل برسم السلطان. [و]«6» ] لمن كان له تعلّق فى هذا العمل من الأمراء وغيرهم أن يرفعوا شكايتهم إلى النائب؛ وتصدّى منكوتمر لتفرقة إقطاعات أجناد الحلقة، فجلس فى شبّاك النيابة بالقلعة ووقف الحجّاب بين يديه، وأعطى لكلّ تقدمة مثالاتها فتناولوها على كره منهم، وخافوا أن يكلّموا منكوتمر لسوء خلقه وسرعة بطشه؛ وتمادى الحال على ذلك عدّة أيام. وكانت أجناد الحلقة قد تناقصت أحوالهم عن أيّام الملك المنصور قلاوون، فإنّهم كانوا على أنّ أقل عبرة الإقطاعات وأضعف متحصّلاتها عشرة آلاف درهم وما فوق ذلك إلى ثلاثين ألف درهم وهى أعلاها، فرجع الأمر فى هذا الرّوك إلى أن استقرّ أكثر الإقطاعات عشرين ألفا إلى ما دونها؛ فقلّ لذلك رزق الأجناد؛ فإنّه صار من كان متحصّله

ص: 94

عشرين ألفا رجع إلى عشرة آلاف، ومن كان عبرة إقطاعه عشرة آلاف بقيت خمسة آلاف، فشقّ ذلك على الجند ولم يرضوه إلّا أنهم خشوا التنكيل من منكوتمر؛ وكانت فيهم بقيّة من أهل القوّة والشجاعة، فتقدّموا إلى النائب منكوتمر وألقوا مثالاتهم، وقالوا: إنّا لا نعتد قطّ بمثل هذه الإقطاعات، ونحن إمّا أن نخدم الأمراء وإلّا بطّلنا، فعظم قولهم على النائب وأغضبه، وأمر الحجّاب بضربهم وساقهم الى السجن؛ فشفع فيهم الأمراء فلم يقبل شفاعتهم، وأقبل منكوتمر على من حضر من الأمراء والمقدّمين وغيرهم فأوسعهم سبّا وملأهم تقريعا وتعنيفا حتّى وغّر صدورهم وغيّر نيّاتهم فانصرفوا، وقد عوّلوا على عمل الفتنة؛ وبلغ السلطان ذلك فعنّف منكوتمر ولامه وأخرج الأجناد من السجن بعد أيام. وكان عمل هذا الرّوك وتفرقته من أكبر الأسباب وأعظمهما فى فتك الأمراء بالسلطان الملك المنصور لاچين وقتله وقتل نائبه منكوتمر المذكور. على ما سيأتى ذكره.

وكان هذا الرّوك أيضا سببا كبيرا فى إضعاف الجند بديار مصر وإتلافهم، فإنه لم يعمل فيه عمل طائل ولا حصل لأحد منهم زيادة يرضاها، وإنما توفّر من البلاد جزء كبير. فلمّا قتل الملك المنصور لاچين تقسّمها الأمراء زيادة على ما كان بيدهم. انتهى.

ثم إنّ السلطان الملك المنصور لاچين جهّز الأمير جمال الدين آقوش الأفرم الصغير والأمير سيف الدين حمدان [بن سلغيه «1» ] إلى البلاد الشاميّة، وعلى أيديهم مراسيم شريفة بخروج العساكر الشامية، وخروج نائب الشام الأمير قبجق المنصورىّ بجميع أمراء دمشق حتى حواشى الأمير أرجواش نائب قلعة دمشق،

ص: 95

فوصلوا إلى دمشق وألحوّا «1» فى خروج العسكر ونوّهوا بأنّ التّتار قاصدون البلاد، فخرج نائب الشام بعساكر دمشق فى ليلة الخميس رابع عشر المحرّم من سنة ثمان وتسعين وستمائة. ووقع لقبجق نائب الشام المذكور فى هذه السّفرة أمور أوجبت عصيانه وخروجه من البلاد الحلبيّة بمن معه من الأمراء ومماليكه إلى غازان ملك التّتار.

وكان الذي توجّه معه من أكابر الأمراء: بكتمر «2» السّلاح دار وألبكى «3» وبيغار «4» وغيرهم فى جمع كثير، وكان خروجهم فى ليلة الثلاثاء ثامن شهر ربيع الآخر. وسبب خروج قبجق عن الطاعة وتوجّهه أنه كان ورد عليه «5» مرسوم السلطان بالقبض على هؤلاء الأمراء المذكورين وغيرهم، ففطن الأمراء بذلك فهرب منهم من هرب وبقى هؤلاء، فجاءوا إلى قبجق وهو نازل على حمص، فطلبوا منه أمانا فأمّنهم وحلف لهم، وبعث قبجق إلى السلطان يطلب منه أمانا لهم فأبطأ عليه الأمان، ثم خشّن عليه بعض أكابر أمراء دمشق فى القول بسببهم فعلم قبجق أنّ ذلك الكلام من قبل السلطان فغضب، وخرج على حميّة وتبعه الأمير عز الدين بن صبرا، والملك الأوحد [ابن الزاهر «6» ] وجماعة من مشايخ الأمراء يسترضونه فلم يرجع؛ وركب هو ومن معه من حواشيه ومن الأمراء

ص: 96

المذكورين وسار حتى وصل ماردين «1» ، والتقى مع مقدم التّتار فخدمهم مقدّم التتار، وأخذهم وتوجّه بأطلاب التتار وعساكره إلى أن وصلوا إلى غازان ملك التتار وهو نازل بأرض السّيب «2» من أعمال واسط «3» . فلمّا قدم قبجق ومن معه على غازان سرّ بهم وأكرمهم ووعدهم ومنّاهم وأعطى لكلّ أمير عشرة آلاف دينار، ولكل مملوك مائة دينار، وللمماليك الصّغار مع الرّكبدارية «4» خمسين دينارا، وكلّ دينار من هذه الدنانير

ص: 97

صرفه باثنى عشر درهما؛ ثم أقطع الأمير قبجق المذكور مدينة همذان «1» وأعمالها، فلم يقبل قبجق واعتذر أن ليس له قصد إلّا أن يكون فى صحبة السلطان الملك غازان ليرى وجهه فى كلّ وقت! فأجابه غازان إلى ما سأله وأعجبه ذلك منه.

وكان لمّا خرج قبجق من حمص إلى جهة التتار، وبلغ أمراء دمشق ذلك خرج فى طلبه الأمير كجكن والأمير أيدغدى شقير بمماليكهم ومعهم أيضا جماعة من عسكر الشام، فوجدوه قد قطع الفرات ولحقوا بعض ثقله. وعند وصول قبجق ومن معه إلى غازان بلغه قتل السلطان الملك المنصور لاچين بالديار المصرية وكان خبر قتل السلطان أيضا بلغ الأمير كجكن والأمير أيدغدى لمّا خرجوا فى أثر قبجق فآنحلّت عزائمهم عن اللّحوق بقبجق ورجعوا عنه وإلا كانوا لحقوه وقاتلوه.

وأمّا أمر السلطان الملك المنصور حسام الدين لاچين صاحب الترجمة فإنه لمّا أخذ فى قبض من استوحش منهم من الأمراء وغيرهم، وزاد فى ذلك بإشارة مملوكه منكوتمر، استوحش الناس منه ونفرت قلوبهم وأجمعوا على عمل فتنة.

ثم فوّض لمملوكه منكوتمر جميع أمور المملكة فاستبدّ منكوتمر بوظائف الملك ومهمّاته.

وانتهى حال أستاذه الملك المنصور معه إلى أن صار إذا رسم الملك المنصور لاچين مرسوما أو كتب لأحد توقيعا وليس هو بإشارة منكوتمر يأخذه منكوتمر من يد المعطى له ويمزّقه فى الملأ، ويردّه ويمنع أستاذه منه؛ فعند ذلك استثقل الأمراء وطأة منكوتمر وعلموا أن أستاذه الملك المنصور لا يسمع فيه كلام متكلّم، فعملوا على قتل أستاذه الملك المنصور لاچين.

ص: 98

قلت: الولد الخبيث يكون سببا لاستجلاب اللّعنة لوالده! انتهى:

وقال الأمير بيبرس الدّوادار فى تاريخه: وكان سبب قتل لاچين أمور، منها: أنّه لمّا أراد أن يتسلطن جاءه جماعة من الأمراء واشترطوا عليه شروطا فالتزمها لاچين، منها أنه يكون كأحدهم ولا ينفرد برأى عنهم، ولا يسلّط يد أحد من مماليكه فيهم. وكان الأعيان الحاضرون فى هذه المشورة، والمتفقون على هذه الصورة: الأمير بدر الدين بيسرى الشمسىّ. والأمير قرا سنقر المنصورىّ. والأمير سيف الدين قبجق. والأمير الحاج بهادر أمير حاجب الحجّاب. والأمير كرت «1» .

والأمير حسام الدين لاچين السّلاح دار الرومى الأستادار. والأمير بدر الدين بكتاش الفخرىّ أمير سلاح. والأمير عز الدين أيبك الخازندار. والأمير جمال الدين آقوش الموصلى. والأمير مبارز الدين أمير شكار. والأمير بكتمر السّلاح دار. والأمير سيف الدين سلّار «2» . والأمير طغجى. والأمير كرجى. والأمير طقطاى. والأمير برلطاى وغيرهم. ولمّا حلف لهم الملك المنصور لاچين على ما شرطوا قال الأمير سيف الدين قبجق: نخشى أنّك إذا جلست فى المنصب تنسى هذا التقرير وتقدّم الصغير من مماليكك على الكبير، وتفوّض لمملوك منكوتمر فى التحكم والتدبير، فتنصّل لاچين من ذلك، وكرّر لاچين الحلف أنّه لا يفعل، فعند ذلك حلفوا له. ورحلوا نحو الديار المصريّة (يعنى أنّ ذلك كان بعد هروب الملك العادل كتبغا وعند دخول لاچين إلى غزّة) فوقّع هذه الشروط كلّها بمدينة غزّة. انتهى.

ص: 99

قال بيبرس: فلمّا تسلطن رتّب الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصورىّ نائبا.

والأمير الحاجّ بهادر حاجبا على عادته. والأمير سلّار أستادارا. والأمير بكتمر السّلاح دار أمير آخور. واستقرّ بالصاحب فخر الدين بن الخليلى فى الوزارة؛ ورتّب الأمير قبجق نائب الشام، ثم بعد مدّة أفرج عن الأمير برلغى فأعطاه إقطاعا بدمشق. ثم أفرج عن الأمير بيبرس الجاشنكير وجماعة من الأمراء، وأعطى بيبرس الجاشنكير إمرة بالقاهرة.

قلت: وبيبرس هذا هو الذي تسلطن فيما بعد حسب ما يأتى ذكره.

ثم برز مرسومه باستقرار الملك العادل كتبغا فى نيابة صرخد، وكتب له بها منشورا. انتهى كلام بيبرس باختصار، لأنه خرج فى سياق الكلام إلى غير ما نحن بصدده.

وقال غيره: ولمّا تسلطن لاچين وثبتت قدمه ورسخت نسى الشروط وقبض على أكابر خشداشيته من أعيان أمراء مصر وأماثلهم، مثل: الأمير قرا سنقر والبيسرى وبكتمر السّلاح دار وغيرهم، وولّى مملوكه منكوتمر نيابة السلطنة بل صار منكوتمر هو المتصرّف فى الممالك. فعند ذلك نفرت قلوب الأمراء والجند من الملك المنصور لاچين ودبرّوا عليه، واستوحش هو أيضا منهم واحترز على نفسه، وقلّل «1» من الركوب ولزم القعاد بقلعة الجبل متخوّفا؛ وكان كرجى خصيصا به وهو أحد من كان أعانه على السلطنة، فقدّمه لاچين لمّا تسلطن على المماليك السلطانية، فكان يتحدّث فى أشغالهم ويدخل للسلطان من أراد، لا يحجبه عنه حاجب؛ فحسده منكوتمر مع ما هو فيه من الحلّ والعقد فى المملكة؛ وسعى فى إبعاد كرجى عن السلطان الملك المنصور لاچين. فلمّا ورد البريد يخبر بأمر القلاع التى فتحها عسكر السلطان

ص: 100

ببلاد الأرمن حسن منكوتمر إلى السلطان أن يرسل كرجى المذكور إليها نائبا ليقيم فيها، فوافقه السلطان على ذلك، وكلّم كرجى فاستعفى كرجى من ذلك فأعفاه السلطان بعد أمور فكمن كرجى فى نفسه. ثم أخذ مع هذا منكوتمر يغلظ على المماليك السلطانية وعلى الأمراء الكبار فى الكلام، فعظم ذلك عليهم وتشاكوا فيما بينهم من منكوتمر، وقالوا: هذا متى طالت مدّته أخذنا واحدا بعد واحد، وأستاذه مرتبط به، ولا يمكن الوثوب عليه أيّام أستاذه، فلم يجدوا بدّا من قتل أستاذه الملك المنصور لاچين قبله، ثم يقتلونه بعده، واتفقوا على ذلك.

قال الشيخ مجد الدين الحرمىّ وكيل بيت المال: كان الملك المنصور لاچين متزوّجا ببنت الملك الظاهر بيبرس، وكانت ديّنة عفيفة، فحكت أنها رأت فى المنام، ليلة الخميس قبل قتل السلطان بليلة واحدة، كأنّ السلطان جالس فى المكان الذي قتل فيه، وكأنّ عدّة غربان سود على أعلى المكان، وقد نزل منهم غراب فضرب عمامة السلطان فرماها عن رأسه، وهو يقول: كرج كرج؛ فلمّا ذكرت ذلك للسلطان، قالت له: أقم الليلة عندنا؛ فقال السلطان: ما ثمّ إلّا ما قدّره الله! وخرج من عندها إلى القصر بعد أن ركب فى أوّل النهار على العادة، وكان صائما وهو يوم الخميس عاشر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وستمائة، فأفطر بالقصر.

ثم دخل إلى القصر الجوّانى بعد العشاء الآخرة وأخذ فى لعب الشّطرنج وعنده خواصّه وهم: قاضى القضاة «1» حسام الدين الحنفى، والأمير عبد الله، وبريد البدوى، وإمامه محب الدين «2» بن العسال؛ فأوّل من دخل عليه كرجى، وكان نوعيه السّلاح دار من

ص: 101

جملة المتّفقين، وهو فى نوبته عند السلطان. وكان كرجى مقدّم البرجيّة والسلطان مكبّ على لعب الشّطرنج، فأوهم كرجى أنّه يصلح الشمعة فرمى الفوطة على النّيمچاه ثم قال السلطان لكرجى: رحت بيّت البرجيّة وغلّقت عليهم؟ والبرجيّة هم الآن مماليك الأطباق «1» ، فقال كرجى: نعم يا خوند. وقد كان أوقف كرجى أكثرهم فى دهليز القصر، فشكره السلطان وأثنى عليه من حضر، فقال السلطان: لولا الأمير سيف الدين كرجى ما وصلت أنا إلى السلطنة. فقبّل كرجى الأرض، وقال:

يا خوند، ما تصلّى العشاء؟ فقال السلطان: نعم وقام حتّى يصلّى فضربه كرجى بالسيف على كتفه، فطلب السلطان النّيمچاة فلم يجدها، فقام من هول الضربة ومسك كرجى ورماه تحته؛ وأخذ نوغيه السّلاح دار النّيمچاة وضرب بها رجل السلطان فقطعها، فانقلب السلطان على قفاه يخور فى دمه. انتهى ما ذكره وكيل بيت المال.

وقال القاضى حسام الدين الحنفىّ: كنت عند السلطان فما شعرت إلّا وستة أو سبعة أسياف نازلة على السلطان، وهو مكبّ على لعب الشّطرنج، فقتلوه ثم تركوه وأنا عنده، وغلّقوا علينا الباب، وكان سيف الدين طغجى قد قصد بقيّة البرجيّة المتّفقين معه ومع كرجى فى الدّركاه، فقال لهم: قضيتم الشغل؟ فقالوا: نعم. ثم إنهم توجّهوا جميعا إلى دار سيف الدين منكوتمر وهو بدار النّيابة من قلعة الجبل، فدقّوا عليه الباب وقالوا له: السلطان يطلبك، فأنكر حالهم وقال لهم: قتلتم السلطان؟

فقال له كرجى: نعم يا مأبون وقد جئناك نقتلك، فقال: أنا ما أسلم نفسى إليكم إنما أنا فى جيرة الأمير سيف الدين طغجى، فأجاره طغجى وحلف له أنه لا يؤذيه ولا يمكّن أحدا من أذيّته؛ ففتح داره فتسلّموه وراحوا به إلى الجبّ «2» فأنزلوه إلى

ص: 102

عند الأمراء المحبوسين. فلمّا دخل إلى الجبّ قام إليه الأمير شمس الدين سنقر الأعسر «1» وتلقاه متهكّما عليه، ثم قام إليه الأمير عز الدين أيبك الحموى وشتمه، وأراد قتله، لأنّ منكوتمر هذا كان هو السبب فى مسك هؤلاء الأمراء، وإقلاب الدولة من حرصه على أنّ الأمر يفضى إليه ويتسلطن بعد أستاذه. فأقام منكوتمر نحو ساعة فى الجبّ وراح الأمير طغجى إلى داره حتى يقضى شغلا له، فآغتنم كرجى غيبته وأخذ معه جماعة وتوجّه إلى باب الحبس وأطلع منكوتمر صورة أنهم يريدون تقييده كما جرت العادة فى أمر المحتبسين، فامتنع من الطلوع فألحوا عليه وأطلعوه وذبحوه على باب الجبّ، ونهبوا داره وأمواله. ثم اتّفقوا كما هم فى الليل على سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون وعوده إلى ملكه كونه ابن استاذهم، وأن يكون سيف الدين طغجى نائب السلطنة، ومهما عملوه يكون باتّفاق الأمراء، وحلفوا على هذا الأمر.

كلّ ذلك فى تلك الليلة قبل أن يطلع الفجر وأصبح نهار الجمعة حلّفوا الأمراء والمقدّمين والعسكر جميعه للملك الناصر محمد بن قلاوون ونائب السلطنة طغجى. وسيّروا فى الحال خلف الملك الناصر محمد يطلبونه من الكرك، وركب الأمير طغجى يوم السبت فى الموكب والتفّ عليه العسكر وطلع إلى قلعة الجبل، وحضر الأمراء الموكب ومدّ السّماط كما جرت العادة به من غير هرج ولا غوغاء وكأنّه لم يجر شىء، وسكنت الفتنة، وفرح غالب الناس بزوال الدولة لأجل منكوتمر. ودام ذلك إلى أن كان يوم الاثنين رابع عشر شهر ربيع الآخر من سنة ثمان وتسعين المذكورة، وصل الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح عائدا من الشام من فتوح سيس، وصحبته العساكر المتوجّهة معه، وكان قد راح إليه جماعة من أمراء مصر لتلقيه إلى بلبيس

ص: 103

وأعلموه بصورة الحال، وقالوا له: الذي وقع من قتل الملك المنصور ليس هو عن رضاهم ولا علموا به، وأغروه على قتل طغجى واتّفقوا معه على ذلك، وكانوا الأمراء المذكورون قد أشاروا قبل خروجهم على طغجى أن يخرج يلتقى الأمير بكتاش أمير سلاح، فركب طغجى بكرة يوم الاثنين وتوجّه نحوه حتى التقاه وتعانقا وتكارشا.

ثم قال أمير سلاح لطغجى: كان لنا عادة من السلطان إذا قدمنا من السفر يتلقانا، وما أعلم ذنبى الآن ما هو، كونه ما يلقانى اليوم! فقال له طغجى: وما علمت بما جرى على السلطان؟ السلطان قتل. فقال أمير سلاح: ومن قتله؟ قال له: بعض الأمراء [وهو «1» الأمير سيف الدين كرت أمير حاجب: قتله] سيف الدين طغجى وكرجى، فأنكر عليه وقال: كلّما قام للمسلمين ملك تقتلونه! تقدّم عنى لا تلتصق بى، وساق عنه أمير سلاح؛ فتيقّن طغجى أنّه مقتول، فحرّك فرسه وساق فانقضّ عليه بعض الأمراء وقبض عليه بشعر دبوقته «2» ، ثم علاه بالسيف وساعده على قتله جماعة من الأمراء، فقتل وقتل معه ثلاثة نفر، ومرّوا سائقين إلى تحت القلعة. وكان كرجى قد قعد فى القلعة لأجل حفظها، فبلغه قتل رفيقه طغجى، فألبس البرجيّة السلاح وركب فى مقدار ألفى فارس حتى يدفع عن نفسه، فركبت جميع أجناد الحلقة والأمراء والمقدّمين فى خدمة أمير سلاح إلى الرابعة من النهار؛ ثم حملوا العساكر على جماعة كرجى فهزموهم، وساق كرجى وحده، واعتقد أنّ أصحابه يتوجّهون حيث توجّه، فلم يتبعه غير تبعه ونوغيه الكرمونىّ أمير سلاح دار الذي كان أعانه على قتل الملك المنصور لاچين. فلمّا أبعدوا والقوم فى أثرهم لحقه بعض خشداشيته وضربه بالسيف حلّ كتفه، ثم ساعده بعض الأمراء حتى قتل، وقتل

ص: 104

معه نوغيه الكرمونىّ السّلاح دار الذي كان أعانه على قتل لاچين المقدّم ذكره، واثنا عشر نفرا من مماليكهما وأصحابهما، وبطلت الغوغاء وسكنت الفتنة فى الحال؛ واستقرّ الأمر أيضا على تولية السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون كما كان دبّره طغجى وكرجى. وسيّروا بطلبه وحثّوا الطلب فى قدومه من «1» الكرك إلى الديار المصريّة، وبقى يدبّر الأمور ويعلّم على الكتب المسيّرة إلى البلاد ثمان أمراء إلى أن حضر السلطان، وهم: الأمير سيف الدين سلّار، والأمير سيف الدين كرت، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير عزّ الدين أيبك الخازندار، والأمير جمال الدين آقوش الأفرم الصغير؛ والأمير حسام الدين لاچين أستاذ الدار، والأمير سيف الدين بكتمر أمير جاندار، والأمير جمال الدين عبد الله [السّلاح دار «2» ] وجميعهم منصوريّة قلاوونيّة، وغالبهم قد أخرج من السجن بعد قتل لاچين. يأتى ذلك كلّه فى ترجمة الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية عند عوده إلى السلطنة إن شاء الله تعالى.

وأمّا السلطان الملك المنصور حسام الدين لاچين فإنّه أخذ بعد قتله وغسّل وكفّن ودفن بتربته»

بالقرافة الصغرى بالقرب من سفح المقطّم، ودفن مملوكه منكوتمر تحت رجليه. وقتل الملك المنصور لاچين وهو فى عشر الخمسين أو جاوزها بقليل. وقد تقدّم التعريف به فى عدّة تراجم ممّا تقدّم؛ ونذكر هنا أيضا من أحواله ما يتّضح التعريف به ثانيا:

كان لاچين ملكا شجاعا مقداما عارفا عاقلا حشيما وقورا معظّما فى الدّول، طالت أيّامه فى نيابة دمشق أيّام أستاذه فى السعادة، وهو الذي أبطل الثّلج الذي كان

ص: 105

ينقل فى البحر من الشام إلى مصر؛ وقال: أنا كنت نائب الشام وأعلم ما يقاسى الناس فى وسقه من المشقّة. وكان- رحمه الله تامّ القامة أشقر فى لحيته طول يسير وخفّة، ووجه رقيق معرّق، وعليه هيبة ووقار، وفى قدّه رشاقة. وكان ذكيّا نبيها شجاعا حذورا.

ولمّا قتل الملك الأشرف خليل بن قلاوون هرب هو وقرا سنقر، فإنهما كانا أعانا الأمير بيدرا على قتله حسب ما ذكرناه فى ترجمة الملك الأشرف المذكور، بل كان لاچين هذا هو الذي تمّم قتله، ولمّا هرب جاء هو وقرا سنقر إلى جامع أحمد بن طولون «1» وطلعا إلى المئذنة واستترا فيها. وقال لاچين: لئن نجّانا الله من هذه الشدّة وصرت شيئا عمّرت هذا الجامع.

ص: 106

قلت: وكذا فعل رحمه الله تعالى، فإنه لمّا تسلطن أمر بتجديد جامع أحمد ابن طولون المذكور ورتب فى شدّ عمارته وعمارة أوقافه الأمير علم الدين أبا موسى سنجر بن عبد الله الصالحىّ النّجمىّ الدّوادارى المعروف بالبرنلى، وكان من أكابر أمراء الألوف بالديار المصريّة، وفوّض السلطان الملك المنصور لاچين أمر الجامع المذكور وأوقافه إليه فعمّره وعمّر وقفه وأوقف عليه عدّة قرى، وقرّر فيه دروس الفقه والحديث والتفسير والطّبّ وغير ذلك، وجعل من جملة ذلك وقفا يختص بالدّيكة التى تكون فى سطح الجامع المذكور فى مكان مخصوص بها، وزعم أن الدّيكة تعين الموقّتين وتوقظ المؤذّنين فى السّحر، وضمّن ذلك كتاب الوقف؛ فلمّا قرئ كتاب الوقف على السلطان وما شرطه أعجبه جميعه. فلما انتهى إلى ذكر الدّيكة أنكر السلطان ذلك، وقال: أبطلوا هذا لئلّا يضحك اناس علينا، وأمضى ما عدا ذلك من الشروط. والجامع المذكور عامر بالأوقاف المذكورة إلى يومنا هذا، ولولاه لكان دثر وخرب، فإنّ غالب ما كان أوقفه صاحبه أحمد بن طولون خرب وذهب أثره، فجدّده لاچين هذا وأوقف عليه هذه الأوقاف الجمّة، فعمّر وبقى إلى الآن. انتهى.

ص: 107

وكان المنصور لاچين فهما كريم الأخلاق متواضعا. يحكى أن القاضى شهاب الدين محمود كان يكتب بين يديه فوقع من الحبر على ثيابه، فأعلمه السلطان بذلك؛ فنظم فى الحال بيتين وهما:

ثياب مملوكك يا سيّدى

قد بيّضت حالى بتسويدها

ما وقع الحبر عليها بلى

وقّع لى منك بتجديدها

فأمر له المنصور بتفصيلتين وخمسمائة درهم. فقال الشهاب محمود: يا خوند، مماليك الجماعة رفاقى يبقى ذلك فى قلوبهم، فأمر لكلّ منهم بمثل ذلك، وصارت راتبا لهم فى كلّ سنة.

وقال الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصّفدىّ فى تاريخه: حكى لى الشيخ فتح «1» الدين بن سيّد الناس: لمّا دخل عليه لم يدعه يبوس الأرض، وقال: أهل العلم منزّهون عن هذا وأجلسه عنده، وأظنّه قال: على المقعد، ورتّبه موقّعا فباشر ذلك أيّاما، واستعفى فأعفاه وجعل المعلوم له راتبا فتناوله إلى أن مات. ولمّا تسلطن مدحه القاضى شهاب الدين محمود بقصيدة أوّلها:

أطاعك الدهر فأمر فهو ممتثل

واحكم فأنت الذي تزهى بك الدّول

ولمّا تسلطن الملك المنصور لاچين تفاءل الناس واستبشروا بسلطنته، وجاء فى تلك السنة غيث عظيم بعد ما كان تأخّر؛ فقال فى ذلك الشيخ علاء الدين الوداعىّ:

يأيّها العالم بشراكم

بدولة المنصور ربّ الفخار

فالله قد بارك فيها [لكم «2» ]

فأمطر الليل وأضحى النهار

وكانت مدّة سلطنة المنصور لاچين على الديار المصرية سنتين وثلاثة شهور.

ص: 108

قال الأديب صلاح الدين الصّفدىّ: وكان ديّنا متقشّفا كثير الصوم قليل الأذى، قطع أكثر المكوس، وقال: إن عشت ما تركت مكسا واحدا.

قلت: كان فيه كلّ الخصال الحسنة، لولا توليته مملوكه منكوتمر الأمور ومحبته له، وهو السبب فى هلاكه حسب ما تقدّم. وتسلطن من بعده ابن أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون طلب من الكرك وأعيد إلى السلطنة. انتهت ترجمة الملك المنصور لاچين. رحمه الله تعالى.

السنة الأولى من سلطنة الملك المنصور لاچين على مصر، وهى سنة ستّ وتسعين وستمائة. على أنّ الملك العادل كتبغا حكم منها المحرّم وأياما من صفر.

فيها كان خلع الملك العادل كتبغا المنصورىّ من السلطنة وتوليته نيابة صرخد، وسلطنة الملك المنصور لاچين هذا من بعده حسب ما تقدّم ذكره.

وفيها فى ذى القعدة مسك الملك المنصور لاچين الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصورىّ نائب السلطنة بديار مصر وحبسه، وولّى عوضه مملوكه منكوتمر.

وفيها ولى قضاء دمشق قاضى القضاة إمام الدين القزوينىّ «1» عوضا عن القاضى بدر الدين بن جماعة، واستمرّ ابن جماعة المذكور على خطابة جامع دمشق.

وفيها تولّى سلطنة اليمن الملك المؤيد هزبر الدين داود ابن الملك المظفّر شمس الدين يوسف ابن الملك المنصور نور الدين «2» عمر بن علىّ بن رسول، بعد موت أخيه الأشرف.

ص: 109

وفيها توفّى الشيخ الإمام العلّامة مفتى المسلمين محيى الدين أبو عبد الله محمد بن يعقوب ابن إبراهيم بن هبة الله بن طارق بن سالم بن النّحاس الحلبى الأسدىّ الحنفىّ فى ليلة سلخ المحرّم «1» ببستانه بالمرّة «2» ودفن بتربته بالمزّة، وحضر جنازته نائب الشام ومن دونه، وكان إماما مفتنا فى عاوم، وتولّى عدة تداريس ووظائف دينيّة، ووزر بالشام للملك المنصور قلاوون، وحسنت سيرته ثم عزل ولازم الاشتغال والإقراء وانتفع به عامّة أهل دمشق. ومات ولم يخلّف بعده مثله.

وفيها توفّى الملك لأشرف ممهّد الدين عمر ابن الملك المظفر يوسف ابن الملك المنصور نور الدين «3» عمر بن علىّ بن رسول ملك اليمن، وتولّى بعده أخوه هزبر الدين داود المقدّم ذكره، وكانت مدّة ملكه دون السنتين.

وفيها توفّى القاضى تاج الدين عبد القادر ابن القاضى عزّ الدين محمد السّنجارىّ الحنفى قاضى قضاة الحنفيّة بحلب فى يوم الخميس ثامن عشرين شعبان، كان إماما فقيها عالما مفتيا ولى القضاء بعدّة بلاد وحمدت سيرته.

وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أزدمر بن عبد الله العلائىّ فى ذى القعدة بدمشق، وكان أميرا كبيرا معظّما الا أنّه شرس الأخلاق قليل الفهم رسم له الملك الظاهر بيبرس أنّه لا يركب بسيف [فبقى أكثر من عشرين سنة لا يركب بسيف «4» ] ، وهو أخو الأمير علاء الدين طيبرس الوزيرىّ.

ص: 110