الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ما وقع من الحوادث سنة 709]
ذكر سلطنة الملك المظفّر بيبرس الجاشنكير على مصر
السلطان الملك المظفّر ركن الدين بيبرس بن عبد الله المنصورىّ الجاشنكير، أصله من مماليك الملك المنصور قلاوون البرجيّة، وكان جركسىّ الجنس، ولم نعلم أحدا ملك مصر من الجراكسة قبله إن صحّ أنه كان جركسيّا. وتأمّر فى أيّام أستاذه المنصور قلاوون، وبقى على ذلك إلى أن صار من أكابر الأمراء فى دولة الملك الأشرف خليل بن قلاوون. ولما تسلطن الملك الناصر محمد بن قلاوون بعد قتل أخيه الأشرف خليل صار بيبرس هذا أستادارا «1» إلى أن تسلطن الملك العادل زين الدين كتبغا عزله عن الأستادارية بالأمير بتخاص، وقيل: إنّه قبض على بيبرس هذا وحبسه مدّة، ثم أفرج عنه وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصريّة.
واستمرّ على ذلك حتّى قتل الملك المنصور حسام الدين لاچين فكان بيبرس هذا أحد من أشار بعود الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى الملك. فلمّا عاد الناصر إلى ملكه تقرّر بيبرس هذا أستادارا على عادته وسلّار نائبا، فأقاما على ذلك سنين إلى أن صار هو وسلّار كفيلى الممالك الشريفة الناصرية، والملك الناصر محمد معهما آلة فى السلطنة إلى أن ضجر الملك الناصر منهما وخرج إلى الحجّ فسار إلى الكرك وخلع نفسه من الملك. وقد ذكرنا ذلك كلّه فى ترجمة الملك الناصر محمد. فعند ذلك وقع الاتّفاق على سلطنة بيبرس هذا بعد أمور نذكرها؛ فتسلطن وجلس على تخت الملك فى يوم السبت الثالث والعشرين من شوّال من سنة ثمان وسبعمائة. وهو السلطان الحادى
عشر من ملوك الترك والسابع ممن مسّهم الرّقّ، والأوّل من الجراكسة إن صحّ أنه جركسىّ الجنس، ودقّت البشائر وحضر الخليفة أبو الربيع سليمان وفوّض إليه تقليد السلطنة، وكتب له عهدا وشمله بخطّه، وكان من جملة عنوان التقليد: إنّه من سليمان وإنّه بسم الله الرحمن الرحيم. ثم جلس الأمير بتخاص والأمير قلّى والأمير لاچين الجاشنكير لاستحلاف الأمراء والعساكر، فحلفوا الجميع وكتب بذلك إلى الأقطار.
والآن نذكر ما وعدنا بذكره من سبب سلطنة بيبرس هذا مع وجود سلار وآقوش قتّال السّبع وهما أكبر منه وأقدم وأرفع منزلة، فنقول:
لمّا خرج الملك الناصر محمد بن قلاوون من الديار المصريّة إلى الحجّ ثم ثنى عزمه عن الحج وتوجّه إلى الكرك خلع نفسه، فلمّا حضر كتابه الثانى «1» بتركه السلطنة، وقد تقدّم ذكر ذلك فى أواخر ترجمة الناصر بأوسع من هذا، أثبت الكتاب على القضاة.
فلمّا أصبح نهار السبت الثالث والعشرين من شوّال جلس الأمير سلّار النائب بشبّاك دار النيابة بالقلعة وحضر إلى عنده الأمير بيبرس الجاشنكير هذا وسائر الأمراء واشتوروا فيمن يلى السلطنة، فقال الأمير آقوش قتّال السّبع، والأمير بيبرس الدّوادار، والأمير أيبك الخازندار وهم أكابر الأمراء المنصوريّة:
ينبغى استدعاء الخليفة والقضاة وإعلامهم بما وقع، فخرج الطّلب لهم وحضروا وقرئ عليهم كتاب السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وشهد عند قاضى القضاة زين الدين بن مخلوف «2» الأميران: عز الدين أيدمر الخطيرىّ والأمير الحاج آل ملك ومن كان توجّه معهم إلى الكرك فى الرسليّة بنزول الملك الناصر عن الملك
وتركه مملكة مصر والشام فأثبت ذلك، وأعيد الكلام فيمن يصلح للسلطنة من الأمراء، فأشار الأمراء الأكابر بالأمير سلّار، فقال سلّار: نعم على شرط، كلّ ما أشير به لا تخالفوه، وأحضر المصحف وحلّفهم على موافقته وألّا يخالفوه فى شىء، فقلق البرجيّة من ذلك ولم يبق إلّا إقامتهم الفتنة، فكفّهم الله عن ذلك وانقضى الحلف، فعند ذلك قال الأمير سلّار: والله يا أمراء، أنا ما أصلح للملك ولا يصلح له إلّا أخى هذا، وأشار إلى بيبرس الجاشنكير ونهض قائما إليه، فتسارع البرجيّة بأجمعهم: صدق الأمير سلّار وأخذوا بيد الأمير بيبرس، وأقاموه كرها وصاحوا بالجاويشية فصرخوا باسمه، وكان فرس النوبة عند الشباك فألبسوه تشريف السلطنة الخليفتى، وهى فرجيّة أطلس سوداء وطرحة سوداء وتقلّد بسيفين، ومشى سلّار والأمراء بين يديه من عند سلّار من دار النيابة بالقلعة وهو راكب، وعبر من باب القلعة «1» إلى الإيوان «2» بالقلعة، وجلس على تخت الملك وهو يبكى بحيث يراه الناس. وذلك فى يوم السبت المذكور، ولقّب بالملك المظفر. وقبّل الأمراء الأرض بين يديه طوعا وكرها، ثم قام إلى القصر وتفرّق الناس بعد ما ظنّوا كلّ الظنّ من وقوع الفتنة بين السّلّاريّة والبيبرسيّة. وقيل فى سلطنته وجه آخر وهو أنّه لما اشتوروا الأمراء فيمن يقوم بالملك، فاختار الأمراء سلّار لعقله وتؤدته، واختار البرجيّة
بيبرس؛ فلم يجب سلّار إلى ذلك وانفضّ المجلس، وخلا كلّ من أصحاب بيبرس وسلّار بصاحبه، وحسّن له القيام بالسلطنة وخوّفه عاقبة تركها، وأنه متى ولى غيره لا يوافقوه بل يقاتلونه. وبات البرجية فى قلق خوفا من ولاية سلّار، وسعى بعضهم إلى بعض، وكانوا أكثر جمعا من أصحاب سلّار، وأعدّوا السلاح وتأهّبوا للحرب. فبلغ ذلك سلّار فخشى سوء العاقبة، واستدعى الأمراء إخوته وحفدته ومن ينتمى إليه، وقرّر معهم سرا موافقته على ما يشير به، وكان مظاعا فيهم فأجابوه؛ ثم خرج فى شباك النيابة ووقع نحو ممّا حكيناه من عدم قبوله السلطنة وقبول بيبرس الجاشنكير هذا، وتسلطن حسب ما ذكرناه وتمّ أمره واجتمع الأمراء على طاعته ودخلوا إلى الخدمة على العادة فى يوم الاثنين خامس عشرين شوّال، فأظهر بيبرس التغمّم بما صار إليه. وخلع على الأمير سلار خلعة النيابة على عادته بعد ما استعفى وطلب أن يكون من جملة الأمراء، وألحّ فى ذلك حتى قال له الملك المظفّر بيبرس:
إن لم تكن أنت نائبا فلا أعمل أنا السلطنة أبدا، فقامت الأمراء على سلّار إلى أن قبل ولبس خلعة النيابة، ثم عيّنت الأمراء للتوجّه إلى النوّاب بالبلاد الشامية وغيرها، فتوجّه إلى نائب دمشق، وهو الأمير جمال الدين آقوش الأفرم الصغير المنصورىّ، الأمير أيبك البغدادىّ ومعه آخر يسمّى شادى «1» ومعهما كتاب، وأمرهما أن يذهبا إلى دمشق ويخلّفا نائبه المذكور وسائر الأمراء بدمشق، وتوجّه إلى حلب الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدىّ وطيبرس الجمدار وعلى يليهما كتاب مثل ذلك، وتوجّه إلى حماة الأمير سيف الدين بلاط الجوكندار وطيدمر الجمدار، وتوجّه إلى صفد عزّ الدين أزدمر الإسماعيلىّ وبيبرس بن عبد الله، وتوجّه إلى طرابلس
عزّ الدين أيدمر اليونسى وأقطاى الجمدار. وخطب له بالقاهرة ومصر فى يوم الجمعة التاسع والعشرين من شوّال المذكور، وتوجه الأمراء المذكورون إلى البلاد الشامية.
فلما قرب من سار إلى دمشق خرج النائب آقوش الأفرم ولاقاهما خارج دمشق وعاد بهما، فلما قرأ الكتاب بسلطنة بيبرس كاد أن يطير فرحا لأنه كان خشداش بيبرس، وكان أيضا جاركسىّ الجنس، وكانا يوم ذاك بين الأتراك كالغرباء، وزيّنت دمشق زينة هائلة كما زيّنت القاهرة لسلطنته. ثم أخرج كتاب السلطان بالحلف وفيه أن يحلفوا ويبعثوا لنا نسخة الأيمان، فأجاب جميع الأمراء بالسمع والطاعة وسكت منهم أربعة أنفس ولم يتحدّثوا بشىء، وهم: بيبرس العلائىّ وبهادر آص وآقجبا «1» الظاهرى وبكتمر الحاجب بدمشق، فقال لهم الأفرم: يا أمراء، كلّ الناس ينتظرون كلامكم فتكلّموا، فقال بهادر آص: نريد الخطّ الذي كتبه الملك الناصر بيده وفيه عزل نفسه، فأخرج النائب خطّ الملك الناصر فرآه بهادر ثم قال:
يا مولانا ملك الأمراء، لا تستعجل فممالك الشام فيها أمراء غيرنا، مثل الأمير قراسنقر نائب حلب، وقبجق نائب حماة، وأسندمر نائب طرابلس وغيرهم، فنرسل إليهم ونتّفق معهم على المصلحة، فإذا شاورناهم تطيب خواطرهم، وربّما يرون من المصلحة ما لا نرى نحن، ثم قام بهادر المذكور وخرج فخرجت الأمراء كلّهم فى أثره، فقال الأمير أيبك البغدادىّ القادم من مصر للأفرم: لو مسكت بهادر آص لانصلح الأمر على ما نريد! فقال له الأفرم: والله العظيم لو قبضت عليه لقامت فتنة عظيمة تروح فيها روحك، وتغيير الدول يا أيبك ما هو هين! وأنا ما أخاف من أمراء الشام من أحد إلّا من قبجق المنصورىّ، فإنّه ربّما يقيم فتنة من خوفه على روحه.
قلت: وقبجق هذا هو الذي كان نائب دمشق فى أيّام المنصور لاچين، وتوجّه إلى غازان وأقدمه إلى الشام. وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه.
ولمّا كان اليوم الثانى طلب الأفرم هؤلاء الأمراء الأربعة واختلى بهم، وقال لهم: اعلموا أنّ هذا أمر انقضى، ولم يبق لنا ولا لغيرنا فيه مجال، وأنتم تعلمون أنّ كلّ من يجلس على كرسىّ مصر كان هو السلطان ولو كان عبدا حبشيّا، فما أنتم بأعظم من أمراء مصر، وربّما يبلّغ هذا اليه فيتغيّر قلبه عليكم، ولم يزل يتلاطف بهم حتّى حلفوا له، فلمّا حلفوا حلف باقى الأمراء، وخلع الأفرم على جميع الأمراء والقضاة خلعا سنيّة، وكذلك خلع على الأمير أيبك البغدادىّ وعلى رفيقه شادى وأعطاهما ألفى دينار وزوّدهما وردّهما فى أسرع وقت. وكتب معهما كتابا يهنّئ بيبرس بالملك، ويقول: عن قريب تأتيك نسخة الأيمان. وقدما القاهرة وأخبرا الملك المظفّر بيبرس بذلك، فسرّ وانشرح صدره بذلك: ثمّ إنّ الأفرم نائب الشام أرسل إلى قراسنقر وإلى قبجق شخصا «1» من مماليكه بصورة الحال، فأمّا قرا سنقر نائب حلب فإنّه لمّا سمع الواقعة وقرأ كتاب الأفرم، قال: إيش الحاجة إلى مشاورتنا! أستاذك بعثك بعد أن حلف، وكان ينبغى أن يتأنّى فى ذلك، وأمّا قبجق نائب حماة فإنه لمّا قرأ كتاب الأفرم، قال: لا حول ولا قوّة إلّا بالله العلى العظيم، إيش جرى على ابن أستاذنا حتّى عزل نفسه! والله لقد دبرتم أنحس تدبير، هذه والله نوبة لاچين. ثم قال لمملوك الأفرم: اذهب إلى أستاذك وقل له: الآن بلغت مرادك، وسوف تبصر من يصبح ندمان، وفى أمره حيران! وكذلك لمّا بعث الأفرم لأسندمر نائب طرابلس، فلما «2» قرأ كتابه أطرق رأسه إلى الأرض؛ ثم قال:
اذهب لأستاذك وقل له: يا بعيد الذّهن وقليل العلم بعد أن دبرت أمرا، فما الحاجة إلى مشاورتنا! فو الله ليكوننّ عليك أشأم التدبير وسيعود وباله عليك، ولم يكتب له جوابا.
وأمّا قراسنقر نائب حلب فإنه أرسل إلى قبجق وإلى أسندمر يعلمهما أنّ الأفرم حلّف عساكر دمشق على طاعة بيبرس، ولا نأمن أن يعمل الأفرم علينا، فهلمّوا نجتمع فى موضع واحد فنتشاور ونرى أمرا يكون فيه المصلحة، فاتّفقوا الجميع على أن يجتمعوا فى حلب عند قراسنقر، وعيّنوا ليلة يكون اجتماعهم فيها.
فأمّا قبجق فإنه ركب إلى الصيد بمماليكه خاصّة، وتصيّد إلى الليل فسار إلى حلب. وأمّا أسندمر أظهر أنّه ضعيف وأمر ألّا يخلّى أحدا يدخل عليه، وفى الليل ركب بمماليكه الذين يعتمد عليهم وقد غيّروا ملابسهم، وسار يطلب حلب. واجتمع الجميع عند قرا سنقر، فقال لهم قراسنقر: ما تقولون فى هذه القضيّة التى جرت؟ فقال قبجق: والله لقد جرى أمر عظيم، وإن لم نحسن التدبير نقع فى أمور! يعزل ابن أستاذنا ويأخذها بيبرس! ويكون الأفرم هو مدبّر الدولة! وهو على كلّ حال عدوّنا ولا نأمن شرّه، فقالوا: فما نفعل؟ قال: الرأى أن نكتب إلى ابن أستاذنا فى الكرك ونطلبه إلى حلب ونركب معه، فإما نأخذ له الملك، وإما أن نموت على خيولنا! فقال أسندمر: هذا هو الكلام، فحلف كلّ من الثلاثة على هذا الاتّفاق، ولا يقطع واحد منهم أمرا إلّا بمشورة أصحابه، وأنّهم يموت بعضهم على بعض، ثم إنّهم تفرّقوا فى اللّيل كلّ واحد إلى بلده.
وأمّا الأمراء الذين خرجوا من مصر إلى النوّاب بالبلاد الشاميّة بالخلع وبسلطنة بيبرس، فإنهم لمّا وصلوا إلى دمشق قال لهم الأفرم: أنا أرسلت إليهم مملوكى، فردّوا علىّ جوابا لا يرضى به مولانا السلطان. وكان الأفرم أرسل إلى الملك المظفّر
بيبرس نسخة اليمين التى حلّف بها أمراء دمشق مع مملوكه مغلطاى، فأعطاه الملك المظفّر إمرة طبلخاناه «1» وخلع عليه، وأرسل معه خلعة لأستاذه الأفرم بألف دينار، وأطلق له شيئا كثيرا كان لبيبرس فى الشام قبل سلطنته من الحواصل والغلال، فسّر الأفرم بذلك غاية السرور، ثم قال الأميران اللذان وصلا إلى دمشق للافرم:
ما تشير به علينا؟ فقال لهما: ارجعا إلى مصر ولا تذهبا إلى هؤلاء، فإنّ رءوسهم قويّة، وربّما يثيرون فتنة، فقالا: لاغنى لنا [من] أن نسمع كلامهم، ثم إنّهما ركبا من دمشق وسارا إلى حماة، ودخلا على قبجق ودفعا له كتاب الملك المظفّر، فقرأه ثم قال: وأين كتاب الملك الناصر؟ فأخرجا له الكتاب، فلمّا وقف عليه بكى، ثم قال: من قال إنّ هذا خطّ الملك الناصر؟ والله واحد يكون وكيلا فى قرية ما يعزل نفسه منها بطيبة من خاطره! ولا بدّ لهذا الأمر من سبب، اذهبا إلى الأمير قراسنقر فهو أكبر الأمراء وأخبرهم بالأحوال، فركبا وسارا إلى حلب واجتمعا بقراسنقر؛ فلمّا قرأ كتاب المظفّر قال: يا إخوتى إنّا على أيمان ابن أستاذنا لا نخونه ولا نحلف لغيره ولا نواطئ عليه ولا نفسد ملكه، فكيف نحلف لغيره! والله لا يكون هذا أبدا ودعوا «2» يجرى ما يجرى، وكلّ شىء ينزل من السماء تحمله الأرض.
ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلىّ العظيم! فخرجا من عنده وسارا إلى طرابلس ودخلا على أسندمر فقال لهما: مثل مقالة قبجق وقرا سنقر، فخرجا وركبا وسارا نحو الديار المصريّة، ودخلا على الملك المظفر بيبرس وأعلماه بما كان، فضاق صدر المظفّر وأرسل خلف الأمير سلّار النائب وقصّ عليه القصّة، فقال له سلّار: هذا أمر هيّن ونقدر (أن) نصلح هؤلاء، فقال: وكيف السبيل إلى ذلك؟ قال: تكتب إلى
قرا سنقر كتابا وترقّق له فى الكلام، وأرسل إليه تقليدا بنيابة حلب وبلادها، وأنّه لا يحمل منه الدّرهم الفرد، وكذا لقبجق بحماة، ولأسندمر بطرابلس والسواحل، فقال بيبرس: إذا فرّقت البلاد عليهم ما يساوى ملكى شيئا! فقال له سلّار: وكم [من] يد تقبّل عن ضرورة وهى تستحقّ القطع! فاسمع منّى وأرضهم فى هذا الوقت، فإذا قدرت عليهم بعد ذلك افعل بهم ما شئت؛ فمال المظفّر إلى كلامه وأمر أن يكتب بما قاله سلّار لكلّ واحد على حدته، فكتب ذلك وأرسله مع بعض خواصّه.
وأمّا أمر الملك الناصر محمد بن قلاوون فإنّ الملك المظفّر لمّا تسلطن وتمّ أمره كتب له تقليدا بالكرك، وسيّره له على يد الأمير آل ملك، ومنشورا بما عيّن له من الإقطاعات. وأمّا أمر قرا سنقر فإنّه جهّز ولده محمدا إلى الملك الناصر محمد بالكرك، وعلى يده كتابه وكتاب قبجق نائب حماة وكتاب أسندمر نائب طرابلس. ومضمون كتاب قرا سنقر: أنّه يلوم الملك الناصر عن نزوله عن الملك، وكيف وقع له ذلك ولم يشاوره فى أوّل الأمر، ثمّ وعده برجوع ملكه إليه عن قريب، وأنّه هو وقبجق وأسندمر ما حلفوا للمظفر، وأنّهم مقيمون على أيمانهم له. وكذلك كتاب قبجق وكتاب أسندمر، فأخذ الأمير ناصر الدين محمد بن قرا سنقر كتب الثلاثة وسار مسرعا ومعه نجّاب «1» خبير بتلك الأرض، فلم يزالا سائرين فى البريّة والمفاوز إلى أن وصلا إلى الكرك،.
وابن قرا سنقر عليه زىّ العرب، فلمّا وقفا على باب الكرك سألوهما من أين أنتما؟
فقالا: من مصر، فدخلوا وأعلموا الملك الناصر محمدا بهما واستأذنوه فى إحضارهما، فأذن لهما بالدخول؛ فلمّا مثلا بين يديه كشف ابن قراسنقر لثامه عن وجهه فعرفه السلطان، وقال له: محمد؟ فقال: لبيّك يا مولانا السلطان، وقبّل الأرض وقال:
لا بدّ من خلوة، فأمر السلطان لمن حوله بالانصراف، فعند ذلك حدّث
ابن قرا سنقر السلطان بما جرى من أبيه وقبجق وأسندمر، وأنهم اجتمعوا فى حلب وتحالفوا بأنّهم مقيمون على الأيمان التى حلفوها للملك الناصر، ثم دفع له الكتب الثلاثة فقرأها، ثم قال: يا محمد، ما لهم قدرة على ما اتّفقوا عليه، فإنّ كلّ من فى مصر والشام قد اتّفقوا على سلطنة بيبرس، فلما سمع ابن قراسنقر ذلك حلف بأنّ كلّ واحد من هؤلاء الثلاثة كفء لأهل مصر والشام، ومولانا السلطان أخبر بذلك منّى، فتبسّم السلطان وقال صدقت يا محمد، ولكن القائل يقول:
كن جريا إذا رأيت جبانا
…
وجبانا إذا رأيت جريّا
لا تقاتل بواحد أهل بيت
…
فضعيفان يغلبان قويّا
وهذه البلاد كلّها دارت مع بيبرس ولا يتمّ لنا الحال إلّا بحسن التدبير والمداراة والصبر على الأمور. ثم إنّه أنزله فى موضع وأحسن إليه، وقال له: استرح اليوم وغدا ثم سافر، فأقام يومين ثم طلبه الملك الناصر فى صبيحة اليوم الثالث وأعطاه جواب الكتب، وقال له: سلّم على أبى (يعنى على قرا سنقر) وقل له: اصبر، ثم خلع عليه خلعة سنيّة وأعطاه ألف دينار مصريّة، وخلع على معن النّجاب الذي أتى به أيضا وأعطاه ألف درهم؛ فخرج ابن قرا سنقر والنّجاب معه، وأسرعا فى السير إلى أن وصلا إلى حلب، فدخل ابن قرا سنقر إلى أبيه ودفع له كتاب الملك الناصر ففتحه فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم: حرس الله تعالى نعمة المقرّ العالى الأبوىّ الشمسىّ ومتّعنا بطول حياته، فقد علمنا ما أشار به وما عوّل عليه، وقد علمنا قديما وحديثا أنّه لم يزل على هذه الصورة، وأريد منك أنّك تطوّل روحك علىّ، فهذا الأمر ما ينال بالعجلة لأنّك قد علمت انتظام أمراء مصر والشام فى سلك واحد ولا سيّما الأفرم ومن معه من اللئام، فهذه عقدة لا تنحلّ إلّا بالصبر، وإن حضر إليك أحد
من جهة المظفّر وطلب منك اليمين له، فقدّم النيّة أنّك مجبور ومغصوب واحلف.
ولا تقطع كتبك عنى فى كلّ وقت، وعرّفنى بجميع ما يجرى من الأمور قليلها وكثيرها.
وكذلك كتب فى كتاب قبجق وأسندمر، فعرف قرا سنقر مضمون كتابه وسكت.
ثم بعد قليل وصل إلى قرا سنقر من الملك المظفّر بيبرس تقليد بنيابة حلب وبلادها دربست «1» على يد أمير «2» من أمراء مصر. ومن مضمون الكتاب الذي من المظفّر إلى قرا سنقر: أنت خشداشى، ولو علمت أنّ هذا الأمر يصعب عليك ما عملت شيئا حتّى أرسلت إليك وأعلمتك به، لأنّ ما فى المنصوريّة أحد أكبر منك، غير أنّه لما نزل ابن أستاذنا عن الملك اجتمع الأمراء والقضاة وكافّة الناس، وقالوا:
ما لنا سلطان إلّا أنت، وأنت تعلم أنّ البلاد لا تكون بلا سلطان، فلو لم أتقدّم أنا كان غيرى يتقدّم [وقد وقع ذلك «3» ] ! فاجعلنى واحدا منكم ودبّرنى برأيك. وهذه حلب وبلادها دربست لك، وكذا لخشداشيتك: الأمير قبجق والأمير أسندمر.
وسيّر الملك المظفّر لكلّ من هؤلاء الثلاثة خلعة بألف دينار، وفرشا قماشه بألف دينار، وعشرة رءوس من الخيل. فعند ذلك حلف قراسنقر وقبجق وأسندمر، ورجع الأمير المذكور إلى مصر بنسخة اليمين. فلمّا وقف عليها الملك المظفّر فرح غاية الفرح، وقال: الآن تمّ لى الملك. ثم شرع من يومئذ فى كشف أمور البلاد وإزالة المظالم والنظر فى أحوال الرعيّة.
ثم استهلّت سنة تسع وسبعمائة، وسلطان الديار المصريّة الملك المظفّر ركن الدين بيبرس الجاشنكير المنصورىّ، والخليفة المستكفى بالله أبو الربيع سليمان، ونائب
السلطنة بديار مصر الأمير سلّار، ونائب الشام الأمير آقوش الأفرم الصغير، ونائب حلب الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورىّ، ونائب حماة الأمير سيف الدين قبجق المنصورىّ، ونائب طرابلس الأمير سيف الدين أسندمر المنصورىّ. ثم فشا فى الناس فى السنة المذكورة أمراض حادّة، وعمّ [الوباء «1» ] الخلائق وعزّ سائر ما يحتاج إليه المرضى. ثم توقفت زيادة النيل إلى أن دخل شهر مسرى، وارتفع سعر القمح وسائر الغلال، ومنع الأمراء البيع من شونهم إلّا الأمير عزّ الدين أيدمر الخطيرىّ الأستادار، فإنّه تقدّم إلى مباشريه ألّا يتركوا عنده سوى مئونة سنة واحدة، وباع ما عداه قليلا قليلا. والخطيرىّ هذا هو صاحب الجامع «2» الذي بخطّ بولاق. انتهى.
وخاف الناس أن يقع نظير غلاء كتبغا، وتشاءم الناس بسلطنة الملك المظفّر بيبرس المذكور. ثمّ إنّ الخطيب نور الدّين علىّ بن محمد بن الحسن بن علىّ القسطلانيّ «3» خرج بالناس واستسقى، وكان يوما مشهودا، فنودى من الغد بثلاث أصابع، ثم توقّفت الزيادة مدّة، ثم زاد وانتهت زيادة النيل فيه إلى خمس عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا فى سابع عشرين توت، ثم «4» نقص فى أيّام النسىء وجاء النّوروز ولم يوفّ النيل ستّ عشرة ذراعا ففتح خليج «5» السدّ فى يوم الجمعة ثامن توت وهو ثامن عشرين «6» شهر ربيع الأوّل. وذكر بعضهم أنّه لم يوفّ إلى تاسع عشر بابه، وهو يوم الخميس
حادى عشر جمادى الأولى، وذلك بعد اليأس منه، وهذا القول هو الأشهر.
قال: وانحطّ مع ذلك بعد الوفاء السّعر وتشاءم الناس بطلعة الملك المظفّر بيبرس.
وغنّت العامّة فى المعنى:
سلطاننا ركين
…
ونائبنا دقين
يجينا الماء من أين
يجيبوا لنا الأعرج
…
يجى الماء ويدحّرج «1»
ومن يومئذ وقعت الوحشة بين المظفّر وبين عامّة مصر، وأخذت دولة الملك المظفّر بيبرس فى اضطراب، وذلك أنّه كثر توهّمه من الملك الناصر محمد بن قلاوون، وقصد فى أيّامه كل واحد من خشداشيته أن يترقّى إلى أعلى منزلة، واتّهموا الأمير سلار بمباطنة الملك الناصر محمد وحذّروا الملك المظفّر منه، وحسّنوا له القبض على سلّار المذكور، فجبن بيبرس عن ذلك. ثم ما زالوا حتّى بعث الأمير مغلطاى إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون بالكرك ليأخذ منه الخيل والمماليك التى عنده، وتغلّظ فى القول، فغضب الملك الناصر من ذلك غضبا شديدا وقال له: أنا خلّيت «2» ، ملك مصر والشام لبيبرس، ما يكفيه حتّى ضاقت عينه على فرس عندى ومملوك لى ويكرّر الطلب! ارجع إليه وقل له: والله لئن لم يتركنى، وإلّا دخلت بلاد التّتار وأعلمهم أنّى تركت ملك أبى وأخى وملكى لمملوكى، وهو يتابعنى ويطلب منّى ما أخذته، فجافاه مغلطاى وخشّن له فى القول بحيث اشتدّ غضب الملك الناصر، وصاح به:
ويلك وصلت إلى هنا! وأمر أن يجرّ ويرمى من سور القلعة، فثار به المماليك، يسبّونه ويلعنونه وأخرجوه إلى السّور، فلم يزل به أرغون الدّوادار والأمير طغاى
إلى أن عفا عنه وحبسه ثمّ أخرجه ماشيا، وعظم ذلك على الملك الناصر وكتب ملطّفات إلى نوّاب البلاد الشامية بحلب وحماة وطرابلس وصفد، ثمّ إلى مصر ممّن يثق به، وذكر ما كان به من ضيق اليد وقلّة الحرمة، وأنّه لأجل هذا ترك ملك مصر وقنع بالإقامة بالكرك، وأنّ السلطان الملك المظفّر فى كلّ وقت يرسل يطالبه بالمماليك والخيل التى عنده. ثم ذكر لهم فى ضمن الكتاب: أنتم مماليك أبى وربيّتمونى فإمّا أن تردّوه عنى وإلّا سرت إلى بلاد التّتار، وتلطّف فى مخاطبتهم غاية التلطّف؛ وسيّر لهم بالكتب على يد العربان فأوصلوها إلى أربابها. وكان قد أرسل الملك المظفّر قبل ذلك يطلب منه المال الذي كان بالكرك والخيل والمماليك التى عنده.
حسب ما يأتى ذكره فى ترجمة الملك الناصر محمد. فبعث إليه الملك الناصر بالمبلغ الذي أخذه من الكرك فلم يقنع المظفّر بذلك وأرسل ثانيا، وكان الملك الناصر لمّا أقام بالكرك صار يخطب بها للملك المظفّر بيبرس بحضرة الملك الناصر والملك الناصر يتأدّب معه، ويسكت بحضرة مماليكه وحواشيه. وصار الملك الناصر إذا كاتب الملك المظفّر يكتب إليه:«الملكىّ المظفّرىّ» وقصد بذلك سكون الأحوال وإخماد الفتن، والمظفّر يلحّ عليه لأمر يريده الله تعالى حتى كان من أمره ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وأما النّوّاب بالبلاد الشاميّة فإنّ قرا سنقر نائب حلب كتب إلى الملك الناصر الجواب: بأنّى مملوك السلطان فى كلّ ما يرسم به، وسأل أن يبعث إليه بعض المماليك السلطانية، وكذلك نائب حماة ونائب طرابلس وغيرهما ما خلا بكتمر الجوكندار، فإنّه طرد قاصد الملك الناصر ولم يجتمع به. ثم أرسل الملك الناصر مملوكه أيتمش المحمّديّ إلى الشام وكتب معه ملطّفات إلى الأمير قطلوبك المنصورىّ وبكتمر الحسامىّ الحاجب بدمشق ولغيرهما، ووصل أيتمش إلى دمشق خفية
ونزل عند بعض مماليك قطلوبك المذكور، ودفع إليه الملطّف؛ فلمّا أوصله إلى قطلوبك أنكر عليه وأمره بالاحتفاظ على أيتمش المذكور ليوصّله إلى الأفرم نائب الشام ويتقرّب إليه بذلك؛ فبلغ أيتمش الخبر فترك راحلته التى قدم عليها ومضى إلى دار الأمير بهادر آص فى اللّيل، فاستأذن عليه فأذن له فدخل إليه أيتمش وعرّفه ما كان من قطلوبك فى حقّه، فطيّب بهادر آص خاطره وأنزله عنده وأركبه من الغد معه إلى الموكب، وقد سبق قطلوبك إلى الأفرم نائب الشام وعرّفه قدوم مملوك الملك الناصر اليه وهروبه من عنده ليلا، فقلق الأفرم من ذلك وألزم والى المدينة بتحصيل المملوك المذكور، فقال بهادر آص: هذا المملوك عندى وأشار إليه، فنزل عن فرسه وسلّم على الأفرم وسار معه فى الموكب إلى دار السعادة، وقال له بحضرة الأمراء:
السلطان الملك الناصر يسلّم عليك ويقول: ما منكم أحد إلّا وأكل خبز الملك الشهيد قلاوون، وما منكم إلا من إلعامه عليه، وأنتم تربية الشهيد والده، وأنه قاصد الدخول إلى دمشق والإقامة بها، فإن كان فيكم من يقاتله ويمنعه العبور فعرّفوه، فلم يتمّ هذا القول حتى صاح الكوكندى «1» الزرّاق أحد أكابر أمراء دمشق وا ابن أستاذاه! وبكى، فغضب الأفرم نائب الشام عليه وأخرجه، ثم قال الأفرم:
لأيتمش قل له (يعنى الملك الناصر) : كيف يجيء إلى الشام أو إلى غير الشام! كأنّ الشام ومصر الآن تحت حكمك. أنا لمّا أرسل إلىّ السلطان الملك المظفر أن أحلف له ما حلفت حتى سيّرت أقول له: كيف يكون ذلك وابن أستاذنا باق! فأرسل يقول: أنا ما تقدّمت عليه حتى خلع ابن أستاذنا نفسه، وكتب خطّه وأشهد عليه بنزوله عن الملك فعند ذلك حلفت له، ثم فى هذا الوقت تقول: من يردّنى عن الشام! ثم أمر به الأفرم فسلّم إلى أستاداره. فلمّا كان اللّيل استدعاه ودفع له
خمسين دينارا وقال قل له: لا تذكر الخروج من الكرك، وانا أكتب إلى المظفّر وأرجعه عن الطلب «1» ، ثم أطلقه فعاد أيتمش إلى الكرك وأعلم الملك الناصر بما وقع.
فأعاده الملك الناصر على البريد «2» ومعه أركتمر وعثمان الهجّان ليجتمع بالأمير قرا سنقر نائب حلب ويواعده على المسير إلى دمشق، ثم خرج الملك الناصر من الكرك وسار إلى بركة زيزاء «3» فنزل بها.
وأمّا الملك المظفّر بيبرس صاحب الترجمة فإنّه لمّا بلغه أنّ الملك الناصر حبس قاصده مغلطاى المقدّم ذكره قلق من ذلك واستدعى الأمير سلّار وعرّفه ذلك، وكانت البرجيّة قد أغروا المظفّر بيبرس بسلّار واتّهموه أنّه باطن الملك الناصر وحسّنوا له القبض عليه، حسب ما ذكرناه، فجبن الملك المظفّر من القبض عليه. وبلغ ذلك سلّار فخاف من البرجيّة لكثرتهم وقوّتهم وأخذ فى مداراتهم؛ وكان أشدّهم عليه الأمير بيكور «4» وقد شرق إقطاعه، فبعث إليه سلّار بستة آلاف إردب غلّة وألف دينار فكفّ عنه، ثم هادى خواصّ المظفّر وأنعم عليهم. فلمّا حضر سلّار عند المظفّر وتكلّما فيما هم فيه فاقتضى الرأى إرسال قاصد إلى الملك الناصر بتهديده ليفرج عن مغلطاى. وبينما هم فى ذلك قدم البريد من دمشق بأنّ الملك الناصر سار من الكرك إلى البرج «5» الأبيض ولم يعرف أحد مقصده، فكتب الجواب فى الحال بحفظ
الطّرقات عليه. واشتهر بالديار المصريّة حركة الملك الناصر محمد وخروجه من الكرك فماجت الناس؛ وتحرّك الأمير نوغاى القبجاقىّ، وكان شجاعا مقداما حادّ المزاج قوىّ النفس، وكان من ألزام الأمير سلّار النائب، وتواعد مع جماعة من المماليك السلطانية أن يهجم بهم على السلطان الملك المظفّر إذا ركب ويقتله. فلمّا ركب المظفّر ونزل إلى بركة الجبّ استجمع نوغاى بمن وافقه يريدون الفتك بالمظفّر فى عوده من البركة، وتقرّب نوغاى من السلطان قليلا قليلا وقد تغيّر وجهه وظهر فيه أمارات الشرّ، ففطن به خواصّ المظفر وتحلّقوا حول المظفّر، فلم يجد نوغاى سبيلا إلى ما عزم عليه، وعاد الملك المظفّر إلى القلعة فعرّفه ألزامه ما فهموه من نوغاى وحسّنوا له القبض عليه وتقريره على من معه، فاستدعى السلطان الأمير سلّار وعرّفه الخبر، وكان نوغاى قد باطن سلّار بذلك، فحذّر سلّار الملك المظفّر وخوّفه عاقبة القبض على نوغاى وأنّ فيه فساد قلوب جميع الأمراء، وليس الرأى إلّا الإغضاء فقط. وقام سلار عنه فأخذ البرجيّة بالإغراء بسلّار وأنّه باطن نوغاى، ومتى لم يقبض عليه فسد الحال. وبلغ نوغاى الحديث فواعد أصحابه على اللحاق بالملك الناصر، وخرج هو والأمير مغلطاى القازانى وتقطاى الساقى ونحو ستين مملوكا وقت المغرب عند «1» غلق باب القلعة فى ليلة الخميس خامس عشر جمادى الآخرة من سنة تسع وسبعمائة المذكورة. وقيل فى أمر نوغاى وهروبه وجه آخر:
قال الأمير بيبرس الدّوادار فى تاريخه: تسحّب من الديار المصريّة إلى الكرك المحروس سيف الدين نوغاى القفجاقىّ أحد المماليك السلطانيّة وسيف الدين تقطاى الساقى وعلاء الدين مغلطاى القازانىّ، وتوجّه معهم من المماليك السلطانية بالقلعة
مائة وستة وثلاثون نفرا، وخرجوا طلبا واحدا بخيلهم وهجنهم وغلمانهم وتركوا بيوتهم وأولادهم. انتهى.
وقال غيره «1» : لمّا ولى الملك المظفر بيبرس السلطنة بقى سلّار هو الملك الظاهر بين الناس والملك المظفّر بيبرس من وراء حجاب، فلمّا كان فى بعض الأيام دخل على الملك المظفّر أميران: أحدهما يسمّى نوغاى والآخر مغلطاى فباسا الأرض بين يديه وشكوا له ضعف أخبازهما، فقال لهما المظفّر: اشكوا إلى سلّار فهو أعلم بحالكما منى، فقالا: خلّد الله ملك مولانا السلطان، أهو مالك البلاد أم مولانا السلطان! فقال: اذهبا إلى سلّار، ولم يزدهما على ذلك، فخرجا من عنده وجاءا إلى سلّار وأعلماه بقول الملك المظفّر، فقال سلّار: والله يا أصحابى أبعدكما بهذا الكلام، وأنتما تعلمان أنّ النائب ما له كلام مثل السلطان. وكان نوغاى شجاعا وعنده قوّة بأس، فأقسم بالله لئن لم يغيّروا خبزه ليقيمنّ شرّا تهرق فيه الدماء، ثم خرجا من عند سلّار. وفى الحال ركب سلّار وطلع إلى عند الملك المظفّر وحدّثه بما جرى من أمر نوغاى ومغلطاى، وقال: هذا نوغاى يصدق فيما يقول، لأنّه قادر على إثارة الفتنة، فالمصلحة قبضه وحبسه فى الحبس، فاتّفقوا على قبضه. وكان فى ذلك الوقت أمير يقال له أنس «2» فسمع الحديث، فلمّا خرج أعلم نوغاى بذلك، فلمّا سمع نوغاى الكلام طلب مغلطاى وجماعة من مماليك الملك الناصر، وقال لهم: يا جماعة، هذا الرجل قد عوّل على قبضنا، وأمّا أنا فلا أسلّم نفسى إلّا بعد حرب تضرب فيه الرّقاب، فقالوا له:
على ماذا عوّلت؟ فقال: عوّلت على أنّى أسير إلى الكرك إلى الملك الناصر أستاذنا، فقالوا له: ونحن معك فحلف كلّ منهم على ذلك، فقال نوغاى، وكان بيته خارج
باب النصر: كونوا عندى وقت الفجر الأوّل راكبين وأنتم لابسون وتفرّقا، فجهّز نوغاى حاله فى تلك الليلة وركب بعد الثّلث الأخير مع مماليكه وحاشيته، ثم جاءه مغلطاى القازانى بمماليكه ومعه جماعة من مماليك السلطان الملك الناصر والكلّ ملبسون [على «1» ظهر الخيل] . ثم إنّ نوغاى حرّك الطبلخاناه «2» حربيّا وشقّ من الحسينيّة «3» فماجت الناس وركبوا من الحسينية وأعلموا الأمير سلّار، فركب سلار وطلع إلى القلعة وأعلم السلطان بذلك.
قال ابن كثير: وكان ذلك بمباطنة سلّار مع نوغاى. فلمّا بلغ المظّفر ذلك قال على إيش توجّها! فقال سلّار: على نباح الجراء فى بطون الكلاب «4» ، والله ما ينظر فى عواقب الأمور ولا يخاف آثار المقدور؛ فقال المظفر: إيش المصلحة؟ فاتفقوا على تجريد عسكر خلف المتسحّبين فجرّد فى أثرهم جماعة من الأمراء صحبة الأمير علاء الدين مغلطاى المسعودىّ «5» ، والأمير سيف الدين قلّى فى جماعة من المماليك، فساروا سيرا خفيفا قصدا فى عدم إدراكهم وحفظا لسلطانهم وابن سلطانهم الملك الناصر محمد ابن قلاوون فلم يدركوهم، وأقاموا على غزّة أياما وعادوا إلى القاهرة.
وقال صاحب نزهة الألباب «6» : وجرّد السلطان الملك المظفّر وراءهم خمسة آلاف فارس صحبة الأمير أخى سلّار، وقال له المظفّر: لا ترجع إلّا بهم ولو غاصوا
فى البحر! وكان فيهم الأمير شمس الدين دباكوز «1» وسيف الدين بجاس وجنكلى «2» ابن البابا وكهرداش وأيبك البغدادىّ وبلاط وصاروجا «3» والقرمانى وأمير آخر، وهؤلاء الأمراء هم خيار عسكر مصر فساروا. وكان نوغيه قد وصل إلى بلبيس وطلب واليها وقال له: إن لم تحضر لى فى هذه الساعة خمسة آلاف دينار من مال السلطان وإلّا سلخت جلدك من كعبك [إلى أذنك «4» ] ، ففى الساعة أحضر الذهب، وكان نوغيه قد أرصد أناسا يكشفون له الأخبار، فجاءوا له وذكروا أنّ عسكرا عظيما قد وصل من القاهرة وهم سائقون؛ فلمّا سمع نوغيه ذلك ركب هو وأصحابه وقالوا لوالى بلبيس قل للامراء الجائين خلفى أنا رائح على مهل حتى تلحقونى، وأنا أقسم بالله العظيم لئن وقعت عينى عليهم لأجعلنّ عليهم يوما يذكر إلى يوم القيامة! ولم يبعد نوغيه حتى وصل أخو سلّار وهو الأمير سمك ومعه العساكر، فلاقاهم والى بلبيس وأخبرهم بما جرى له مع نوغيه وقال لهم: ما ركب إلا من ساعة، فلما سمعوا بذلك ساقوا إلى أن وصلوا إلى مكان بين الخطّارة «5»
والسعيدية «1» ، فإذا بنوغاى واقف وقد صفّ رجاله ميمنة وميسرة وهو واقف فى القلب قدّام الكلّ، فلما رآهم سمك أرسل إليه فارسا من كبار الحلقة، وسار إليه الفارس واجتمع بنوغيه وقال له: أرسلنى سمك إليك وهو يقول: السلطان الملك المظفّر يسلّم عليك ويقول لك: سبحان الله! أنت كنت أكبر أصحابه، فما الذي غيّرك عليه؟
فإن كان لأجل الخبز فما يأكل الخبز أحد أحقّ منك، فإن عدت إليه فكلّ ما تشتهى يفعله لك. فلمّا سمع نوغيه هذا الكلام ضحك وقال: إيش هذا الكلام الكذب! لمّا أمس سألته أن يصلح خبزى بقرية واحدة ما أعطانى، وأنا تحت أمره، فكيف يسمح لى اليوم بما أشتهى وأنا صرت عدوّه! فخلّ عنك هذا الهذيان، ومالكم عندى إلا السيف، فرجع الرسول وأعلم سمك بمقالته، ثم إنّ نوغيه دكس «2» فرسه وتقدّم إلى سمك وأصحابه وقال له: إن هؤلاء الذين معى أنا الذي أخرجتهم من بيوتهم وأنا المطلوب، فمن كان يريدنى يبرز لى وهذا الميدان! فنظرت الأمراء بعضهم إلى بعض، ثم قال: يا أمراء، ما أنا عاص على أحد، وما خرجت من بيتى إلا غبنا، وأنتم أغبن منى، ولكن ما تظهرون ذلك، وهأنتم سمعتم منى الكلام فمن أراد الخروج إلىّ فليخرج وإلا احملوا علىّ بأجمعكم، وكان آخر النهار، فلم يخرج اليه أحد فرجع إلى أصحابه ونزل سمك فى ذلك المكان. فلما أمسى الليل
رحل نوغيه بأصحابه وسار مجدّا ليله ونهاره حتى وصل قطيا «1» ، فوجد واليها قد جمع العربان لقتاله، لأنّ البطاقة وردت عليه من مصر بذلك، والعربان الذين جمعهم الوالى نحو ثلاثة آلاف فارس؛ فلما رآهم نوغاى قال لأصحابه: احملوا عليهم وبادروهم حتى لا يأخذهم الطّمع فيكم (يعنى لقلّتهم) وتأتى الخيل التى وراءكم، فحملوا عليهم وكان مقدّم العرب نوفل [بن «2» حابس] البياضى، وفيهم نحو الخمسمائة نفر بلبوس، فحملت الأتراك أصحاب نوغاى عليهم وتقاتلا قتالا عظيما حتى ولّت العرب، وانتصر نوغيه عليهم هو وأصحابه، وولّت العرب الأدبار طالبين البرّيّة، ولحق نوغيه والى قطيا فطعنه وألقاه عن فرسه وأخذه أسيرا. ثم رجعت الترك من خلف العرب وقد كسبوا منهم شيئا كثيرا.
وأمّا سمك فإنه لم يزل يتبعهم بعساكر مصر منزلة بعد منزلة حتى وصلوا إلى قطيا فوجدوها خرابا، وسمعوا ما جرى من نوغيه على العرب، فقال الأمراء: الرأى أننا نسير إلى غزّة ونشاور نائب غزّة فى عمل المصلحة، فساروا إلى غزّة فلاقاهم نائب غزّة وأنزلهم على ظاهر غزّة وخدمهم، فقال له سمك: نحن ما جئنا إلّا لأجل نوغاى، وأنّه من العريش «3» سار يطلب الكرك، فما رأيك؟ نسير إلى الكرك أو نرجع إلى مصر؟
فقال لهم نائب غزة: رواحكم إلى الكرك ما هو مصلحة، وأنتم من حين خرجتم من مصر سائرون وراءهم ورأيتموهم فى الطريق فما قدرتم عليهم، وقد وصلوا إلى الكرك وانضمّوا إلى الملك الناصر، والرأى «4» عندى أنكم ترجعون إلى مصر وتقولون للسلطان ما وقع وتعتذرون له، فرجعوا وأخبروا الملك المظفّر بالحال فكاد يموت غيظا، وكتب
من وقته كتابا للملك الناصر فيه: إنّ ساعة وقوفك على هذا الكتاب وقبل وضعه من يدك ترسل لنا نوغاى ومغلطاى ومماليكهما، وتبعث المماليك الذين عندك ولا تخلّ منهم عندك سوى خمسين مملوكا، فإنك اشتريت الكلّ من بيت المال، وإن لم تسيرهم سرت إليك وأخذتك وأنفك راغم! وسيّر الكتاب مع بدوىّ «1» إلى الملك الناصر.
وأمّا نوغاى فإنه لما وصل إلى الكرك وجد الملك الناصر فى الصيد، فقال نوغيه لمغلطاى: انزل أنت ها هنا وأسير أنا للسلطان، وركب هجينا وأخذ معه ثلاثة مماليك وسار إلى ناحية عقبة أيلة «2» ، وإذا بالسلطان نازل فى موضع وعنده خلق كثير من العرب والترك، فلما رأوا نوغيه وقد أقبل من صدر البرّيّة، أرسلوا إليه خيلا فكشفوا خبره، فلما قربوا منه عرفه مماليك السلطان فرجعوا وأعلموا السلطان أنه نوغاى، فقال السلطان: الله أكبر! ما جاء هذا إلّا عن أمر عظيم، فلّما حضر نزل وباس الأرض بين يدى الملك الناصر ودعا له، فقال له الملك الناصر: أراك ما جئت لى فى مثل هذا الوقت إلى هذا المكان إلا لأمر؟ فحدثنى حقيقة أمرك، فأنشأ نوغيه يقول:
أنت المليك وهذه أعناقنا
…
خضعت لعزّ علاك يا سلطانى
أنت المرجّى يا مليك فمن لنا
…
أسد سواك وما لك البلدان
فى أبيات أخر، ثم حكى له ما وقع له منذ خرج الملك الناصر من مصر إلى يوم تاريخه، فركب الملك الناصر وركب معه نوغيه وعادا إلى الكرك، وخلع عليه وعلى رفقته وأنزلهم عنده ووعدهم بكلّ خير.
ثم إنّ الملك الناصر جمع أمراءه ومماليكه وشاورهم فى أمره، فقال نوغيه:
من ذا الذي يعاندك أو يقف قدّامك والجميع مماليكك! والذي خلق الخلق إذا كنت أنت معى وحدى ألتقى بك كلّ من خرج من مصر والشام! فقال السلطان:
صدقت فيما قلت، ولكن من لم ينظر فى العواقب، ما الدهر له بصاحب. انتهى.
وقال ابن كثير فى تاريخه: وصل المتوجّهون إلى الكرك إلى الملك الناصر فى الحادى والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة فقبلهم الناصر أحسن قبول، وكان حين وصلوا إلى قطيا أخذوا ما بها من المال، ووجدوا أيضا فى طريقهم تقدمة لسيف الدين طوغان «1» نائب البيرة «2» فأخذوها بكمالها وأحضروا الجميع بين يدى الملك الناصر محمد، ولمّا وصلت إليه الأمراء المذكورون أمر الملك الناصر بالخطبة لنفسه، ثم كاتب النوّاب فاجتمعوا وأجابوه بالسمع والطاعة. ولما عاد الأمراء من غزّة إلى مصر اشتدّ خوف السلطان الملك المظفّر وكثر خياله من أكثر عسكر مصر، فقبض على جماعة تزيد على ثلثمائة مملوك، وأخرج أخبازهم وأخباز المتوجّهين مع نوغيه إلى الكرك لمماليكه، وتحلّقوا عليه البرجيّة وشوّشوا فكره بكثرة تخيّله بمخامرة العسكر المصرىّ عليه، وما زالوا به حتّى أخرج الأمير بينجار والأمير صارم الدين الجرمكىّ فى عدّة من الأمراء مجرّدين، وأخرج الأمير آقوش الرومىّ بجماعته إلى طريق السّويس ليمنع من عساه يتوّجّه من الأمراء والمماليك إلى الملك الناصر. ثم قبض الملك المظفّر على أحد عشر مملوكا وقصد أن يقبض على آخرين فاستوحش الأمير بطرا «3» فهرب، فأدركه الأمير جركتمر بن بهادر رأس نوبة فأحضره فحبس؛ وعند إحضاره
طلع الأمير ألديكز السّلاح دار بملطّف من عند الملك الناصر محمد، وهو جواب الكتاب الذي كان أرسله الملك المظفر للملك الناصر يطلب نوغيه وأصحابه. وقد ذكرنا معناه وما أغلظ فيه وأفحش فى الخطاب للملك الناصر، وكان فى وقت وصول كتاب المظفّر حضر إلى الملك الناصر الأمير أسندمر نائب طرابلس كأنّهما كان على ميعاد، فأخذ الناصر الكتاب وأسندمر إلى جانبه، وعليه لبس العربان، وقد ضرب اللّثام فقرأ الناصر الكتاب، ثم ناوله إلى أسندمر فقرأه وفهم معناه، ثم أمر الملك الناصر الناس بالانصراف وبقى هو وأسندمر، وقال لأسندمر: ما يكون الجواب؟
فقال له أسندمر: المصلحة أن تخادعه فى الكلام وتترقّق له فى الخطاب حتى نجهّز أمرنا ونستظهر، فقال له السلطان: اكتب له الجواب مثل ما تختاره، فكتب أسندمر:
«المملوك محمد بن قلاوون يقبّل اليد العالية المولوية السلطانيّة المظفّريّة أسبغ الله ظلّها، ورفع قدرها ومحلّها، وينهى بعد رفع دعائه، وخالص عبوديته وولائه أنه وصل إلىّ المملوك نوغيه ومغلطاى وجماعة من المماليك، فلمّا علم المملوك بوصولهم أغلق باب القلعة ولم يمكّن أحدا منهم يعبر إليه، وسيّرت إليهم ألومهم على ما فعلوه، وقد دخلوا على المملوك بأن يبعث ويشفع فيهم، فأخذ المملوك فى تجهيز تقدمة لمولانا السلطان ويشفع فيهم، والذي يحيط به علم مولانا السلطان أنّ هؤلاء من مماليك السلطان، خلّد الله ملكه، وأنّ الذي قيل فيهم غير صحيح، وإنما هربوا خوفا على أنفسهم، وقد استجاروا بالمملوك، والمملوك يستجير بظلّ الدولة المظفّريّة، والمأمول «1» ألّا يخيّب سؤاله ولا يكسر قلبه، ولا يردّه فيما قصده «2» . وفى هذه الأيام يجهّز المملوك
تقدمة مع المماليك الذين طلبهم مولانا السلطان، وأنا ما لى حاجة بالمماليك فى هذا المكان، وإن رسم مولانا ما لك الرّقّ أن يسيّر نائبا له ينزل «1» المملوك بمصر ويلتجئ بالدولة المظفريّة ويحلق رأسه ويقعد فى تربة الملك المنصور.
والمملوك قد وطّن نفسه على مثل هذا؛ وقد قال أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه: «ما أقرب الراحة من التعب والبؤس من النّعم والموت من الحياة» . وقال بعضهم: إيّاك وما يسخط سلطانك، ويوحش إخوانك؛ فمن أسخط سلطانه فقد تعرّض للمنيّة، ومن أوحش إخوانه فقد تبرّأ عن الحرية «2» .
والمملوك يسأل كريم العفو والصفح الجميل! والله تعالى قال فى كتابه الكريم وهو أصدق القائلين: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
والمملوك ينتظر الأمان والجواب. أنهى المملوك ذلك» .
فلمّا قرأ الملك المظفّر الكتاب خفّ ما كان عنده، وكان سلّار حاضرا فقال له سلّار: ما قلت لك إنّ الملك الناصر ما بقيت له قدرة على المعاندة! وقد أصبح ملك الشام ومصر طوع يدك، ولكن عندى رأى: وهو أن تسيّر إلى الأفرم بأن يجعل بآله من الأمراء، فإنّهم ربّما يهربون إلى بلاد التّتار فاستصوب المظفّر ذلك، وكتب إلى الأفرم فى الحال بالغرض، فلمّا وصل الكتاب إلى الأفرم اجتهد فى ذلك غاية الاجتهاد.
وأخذ الملك الناصر فى تدبير أمره، وبينما المظفّر فى ذلك ورد عليه الخبر من الأفرم بخروج الملك الناصر من الكرك، فقلق المظفّر من ذلك وزاد توهّمه ونفرت قلوب جماعة من الأمراء والمماليك منه وخشوا على أنفسهم واجتمع كثير
من المنصوريّة والأشرفية والأويراتيّة «1» وتواعدوا على الحرب، وخرج منهم مائة وعشرون فارسا بالسلاح، وساروا على حميّة إلى الملك الناصر، فخرج فى أثرهم الأمير بينجار والصارم الجرمكىّ بمن معهم، وقاتلوا المماليك وجرح الجرمكىّ بسيف فى خدّه «2» سقط منه إلى الأرض، ومضى المماليك إلى الكرك ولم يستجرئ أحد أن يتعرّض إليهم؛ فعظم بذلك الخطب على الملك المظفّر، واجتمع عنده البرجيّة وقالوا: هذا الفساد كلّه من الأمير سلّار، ومتى لم تقبض عليه خرج الأمر من يدك، فلم يوافق على ذلك وجبن من القبض على سلّار لشوكته ولاضطراب دولته، ثم طلب الملك المظفّر الأمير سلّار وغيره من الأمراء واستشارهم فى أمر الملك الناصر، فاتّفق الرأى على خروج تجريدة لقتال الملك الناصر.
وأمّا الملك الناصر فإنّه أرسل الأمير أيتمش المحمّدىّ الناصرىّ إلى الأمير قبجق نائب حماة، فأحال الأمير قبجق الأمر على الأمير قرا سنقر نائب حلب، فاجتمع أيتمش بقرا سنقر فأكرمه ووافق على القيام مع الملك الناصر، ودخل فى طاعته وأعلن بذلك، وهو أكبر المماليك المنصوريّة، وواعد الملك الناصر على المسير إلى دمشق فى أوّل شعبان. ثم كتب قرا سنقر إلى الأفرم نائب الشام يحثّه على طاعة الملك الناصر ويرغّبه فى ذلك ويحذّره مخالفته؛ وأشار قراسنقر على الملك الناصر أنه يكاتب الأمير بكتمر الجوكندار نائب صفد، والأمير كراى المنصورىّ نائب القدس. ثم عاد أيتمش إلى أستاذه الملك الناصر وأخبره بكلّ ما وقع، فسرّ الملك الناصر بذلك هو وكلّ من عنده
غاية السرور، وتحقّق كلّ أحد من حواشى الملك الناصر بإتمام أمره. وكان نوغيه منذ قدم على الملك الناصر بالكرك لا يبرح يحرّضه على المسير إلى دمشق حتّى إنّه ثقل على الملك الناصر من مخاشنته فى المخاطبة بسبب توجّهه إلى دمشق، وغضب منه وقال له: ليس لى بك حاجة، ارجع حيث جئت، فترك نوغاى الخدمة وانقطع وحقد له الملك الناصر ذلك حتّى قتله بعد عوده إلى الملك بمدّة حسب ما يأتى ذكره من كثرة ما وبّخه نوغيه المذكور، وأسمعه من الكلام الخشن.
ولمّا قدم أيتمش بالأجوبة على الملك الناصر قوى عزم الملك الناصر على الحركة؛ ثم إنّ الملك الناصر أيضا أرسل مملوكه أيتمش المحمدى المذكور إلى الأمير بكتمر الجوكندار نائب صفد حسب ما أشار به قرا سنقر، فسار أيتمش إليه واجتمع بالأمير محمد بن بكتمر الجوكندار، فجمع محمد المذكور بين أيتمش وبين أبيه ليلا فى مقابر صفد، فعتبه أيتمش على ردّه أوّلا قاصد السلطان الملك الناصر فاعتذر له بكتمر بالخوف من بيبرس وسلّار كما كان وقع له مع الناصر أوّلا بالديار المصريّة حين اتّفقا على قبض بيبرس وسلّار ولم يتمّ لهم ذلك، وأخرج بكتمر بسبب ذلك من الديار المصريّة، وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه. انتهى. ثم قال له بكتمر: ولولا ثقتى بك ما اجتمعت عليك، فلمّا عرّفه أيتمش طاعة الأمير قراسنقر والأمير قبجق والأمير أسندمر أجاب بالسمع والطاعة، وأنّه على ميعاد النوّاب إلى المضى إلى الشام، وعاد أيتمش إلى الملك الناصر بجواب بكتمر فسرّ به غاية السرور.
وأمّا السلطان الملك المظفّر بيبرس هذا فإنّه أخذ فى تجهيز العساكر إلى قتال الملك الناصر محمد حتّى تمّ أمرهم وخرجوا من الديار المصريّة فى يوم السبت تاسع شهر رجب وعليهم خمسة أمراء من مقدّمى الألوف، وهم: الأمير برلغى الأشرفىّ، والأمير جمال الدين آقوش الأشرفى نائب الكرك كان، والأمير عزّ الدين أيبك
البغدادىّ، والأمير سيف الدين طغريل الإيغانىّ، والأمير سيف الدين الدكز «1» السلاح دار، ومعهم نحو ثلاثين أميرا من أمراء الطبلخاناه بعد ما أنفق فيهم الملك المظفّر، فأعطى برلغى عشرة آلاف دينار، وأعطى لكل مقدّم ألفى دينار، ولكلّ من الطبلخاناه ألف دينار، ولكلّ واحد من مقدّمى الحلقة ألف درهم، ولكل واحد من أجناد الحلقة خمسمائة درهم، ونزلوا بمسجد التّبن «2» خارج القاهرة ولم يتقدّموا، ثم عادوا بعد أربعة أيّام إلى القاهرة. وكان الباعث على عودهم أن كتب آقوش الأفرم نائب الشام وردت على الملك المظفّر: تتضمّن وصول الملك الناصر إلى البرج «3» الأبيض، ثم عاد إلى الكرك فاطمأنّ الملك المظفر وأرسل إلى برلغى ومن معه من المجرّدين بالعود فعادوا بعد أربعة أيام. فلم يكن إلا أيّام وورد الخبر ثانيا بمسير الملك الناصر محمد من الكرك إلى نحو دمشق، فتجهّز العسكر المذكور فى أربعة آلاف فارس وخرجوا من القاهرة فى العشرين من شعبان إلى العبّاسة. فورد البريد من دمشق بقد أيتمش المحمّدى من قبل الملك الناصر بمشافهة إلى الأفرم ذكرها للمظفّر. ثم إنّ الأفرم بعد قدوم أيتمش بعث الأمير علاء الدين أيدغدى شقير الحسامىّ، والأمير جوبان لكشف خبر الملك الناصر، وأنهما توجّها من الشام إلى جهة الكرك، فوجدا الملك الناصر يتصيّد وأنّه عوّق أيتمش عنده، فسرّ المظفّر بذلك، وكان الأمر بخلاف ذلك، وهو أن أمرهما: أنّه لمّا سيّرهما الأفرم لكشف خبر الملك الناصر قدما على الملك الناصر، ودخلا تحت طاعته، وعرّفاه أنهما جاءا لكشف خبره وحلفا له على القيام بنصرته سرّا، وعادا إلى الأفرم بالجواب المذكور. وكان الناصر هو الذي أمرهما بهذا القول، فظنّ
الأفرم أنّ أخبارهما على الصدق، فكتب به إلى المظفّر. ثم إنّ الأفرم خاف أن يطرق الملك الناصر دمشق على غفلة فجرّد إليه ثمانية أمراء من أمراء دمشق، وهم:
الأمير سيف الدين قطلوبك المنصورىّ، والأمير سيف الدين الحاج بهادر الحلبىّ الحاجب، والأمير جوبان، والأمير كجكن، والأمير علم الدين سنجر الجاولى وغيرهم ليقيموا على الطّرقات لحفظها على من يخرج من الشام وغيره إلى الملك الناصر. وكتب إلى الملك المظفّر يستحثّه على إخراج عساكر مصر لتجتمع عنده مع عساكر دمشق على قتال الملك الناصر، وأنّه قد جدّد اليمين للمظفّر وحلّف أمراء دمشق ألّا يخونوه ولا ينصروا الملك الناصر. فلمّا قرأ المظفّر كتاب الأفرم اضطرب وزاد قلقه.
ثم ورد عليه كتاب الأمير برلغى من العبّاسة بأنّ مماليك الأمير آقوش الرومىّ تجمّعوا عليه وقتلوه وساروا ومعهم خزائنه إلى الملك الناصر، وأنّه لحق بهم بعض أمراء الطبلخاناه فى جماعة من مماليك الأمراء وقد فسد الحال، والرأى أن يخرج السلطان بنفسه.
فلمّا سمع الملك المظفّر ذلك أخرج تجريدة أخرى فيها عدّة أمراء أكابر، وهم:
الأمير بجاس «1» وبكتوت وكثير من البرجيّة، ثم بعث إلى برلغى بألفى دينار ووعده بأنه عازم على التوجّه إليه بنفسه.
فلمّا ورد كتاب الملك المظفر بذلك وبقدوم التجريدة إليه عزم على الرحيل إلى جهة الكرك، فلمّا كان الليل رحل كثير ممّن كان معه يريدون الملك الناصر، فثنى عزمه عن الرحيل ثانيا، وكتب إلى المظفّر يقول: بأنّ نصف العسكر سار إلى الملك الناصر وخرج عن طاعة الملك المظفّر، ثم حرّض الملك المظفّر على الخروج
بنفسه. وقبل أن يطلع الفجر من اليوم المذكور وصل إلى القاهرة الأمير بهادر جك «1» بكتاب الأمير برلغى المذكور وطلع إلى السلطان، فلمّا قضى الملك المظفّر صلاة الصبح تقدّم إليه بهادرجك وعرّفه بوصول أكثر العسكر إلى الملك الناصر وناوله الكتاب، فلمّا قرأه بيبرس تبسّم وقال: سلّم على الأمير برلغى، وقل له لا تخش من شىء، فإنّ الخليفة أمير المؤمنين قد عقد لنا بيعة ثانية وجدّد لنا عهدا، وقد قرئ على المنابر، وجدّدنا اليمين على الأمراء، وما بقى أحد يجسر أن يخالف ما كتب به أمير المؤمنين! ثم دفع إليه العهد الخليفتى وقال: امض به إليه حتى يقرأه على الأمراء والجند ثم يرسله إلىّ، فإذا فرغ من قراءته يرحل بالعساكر إلى الشام وجهّز له بألفى دينار أخرى، وكتب جوابه بنظير المشافهة، فعاد بهادر جك إلى برلغى.
فلمّا قرأ عليه الكتاب وانتهى إلى قوله: وأنّ أمير المؤمنين ولّانى تولية جديدة وكتب لى عهدا وجدد لى بيعة ثانية، وفتح العهد فإذا أوّله: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
فقال برلغى: ولسليمان الريح! ثم التفت إلى بهادر جك وقال له، قل له: يا بارد الذقن، والله ما بقى أحد يلتفت إلى الخليفة، ثم قام وهو مغضب. وكان سبب تجديد العهد للملك المظفّر هذا أنّ الأفرم نائب الشام لمّا ورد كتابه على المظفّر أنه حلّف الأمراء بدمشق ثانيا، وبعث بالشيخ صدر الدين محمد ابن عمر [بن مكّى بن عبد الصمد الشهير «2» بابن] المرحّل إلى الملك المظفّر فى الرسليّة، صار صدر الدين يجتمع به هو وابن عدلان «3» وصار الملك المظفّر يشغل وقته بهما، فأشارا عليه بتجديد العهد والبيعة وتحليف الأمراء، وأنّ ذلك يثبّت به قواعد ملكه
ففعل الملك المظفّر ذلك، وحلف الأمراء بحضور الخليفة، وكتب له عهدا جديدا عن الخليفة أبى الربيع سليمان العباسىّ. ونسخة العهد:
«إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
من عبد الله وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى الربيع سليمان بن أحمد العبّاسىّ لأمراء المسلمين وجيوشها، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
وإنّى رضيت لكم بعبد الله تعالى الملك المظفّر ركن الدين نائبا عنى لملك الديار المصرية والبلاد الشاميّة، وأقمته مقام نفسى لدينه وكفاءته وأهليّته ورضيته للمؤمنين، وعزلت من كان قبله بعد علمى بنزوله عن الملك، ورأيت ذلك متعيّنا علىّ، وحكمت بذلك الحكّام الأربعة؛ واعلموا، رحمكم الله، أنّ الملك عقيم ليس بالوراثة لأحد خالف عن سالف ولا كابر عن كابر؛ وقد استخرت الله تعالى وولّيت عليكم الملك المظفّر، فمن أطاعه فقد أطاعنى، ومن عصاه فقد عصانى، ومن عصانى فقد عصى أبا القاسم ابن عمّى صلى الله عليه وسلم. وبلغنى أنّ الملك الناصر ابن السلطان الملك المنصور شقّ العصاة على المسلمين وفرّق كلمتهم وشئت شملهم وأطمع عدوّهم فيهم، وعرّض البلاد الشاميّة والمصريّة إلى سبى الحريم والأولاد وسفك الدماء، فتلك دماء قد صانها الله تعالى من ذلك. وأنا خارج إليه ومحاربه إن استمرّ على ذلك، وأدافع عن حريم المسلمين وأنفسهم وأولادهم لهذا الأمر العظيم، وأقاتله حتّى يفىء إلى أمر الله تعالى، وقد أوجبت عليكم يا معاشر المسلمين كافّة الخروج تحت لوائى اللّواء الشريف، فقد أجمعت الحكّام على وجوب دفعه وقتاله إن استمرّ على ذلك، وأنا مستصحب معى الملك المظفّر فجهّزوا أرواحكم والسلام» .
وقرئ هذا العهد على منابر الجوامع بالقاهرة، فلمّا «1» بلغ القارئ إلى ذكر الملك الناصر صاحت العوامّ: نصره الله نصره الله! وكررت ذلك. وقرأ، فلمّا وصل إلى ذكر الملك المظفّر صاحوا: لا، ما نريده! ووقع فى القاهرة ضجّة وحركة بسبب ذلك.
انتهى.
ثم قدم على الملك المظفّر من الشام على البريد الأمير بهادر آص يحثّ الملك المظفر على الخروج إلى الشام بنفسه، فإن النوّاب قد مالوا كلّهم إلى الملك الناصر، فأجاب أن لا يخرج، واحتجّ بكراهيته للفتنة «2» وسفك الدماء، وأنّ الخليفة قد كتب بولايته وعزل الملك الناصر فإن قبلوا وإلّا ترك الملك. ثم قدم أيضا الأمير بلاط بكتاب الأمير برلغى، وفيه أن جميع من خرج معه من أمراء الطبلخاناه لحقوا بالملك الناصر وتبعهم خلق كثير، ولم يتأخر غير برلغى وآقوش نائب الكرك وأيبك البغدادىّ، وألدكز والفتّاح، وذلك لأنّهم خواصّ الملك المظفّر.
وأمّا الملك الناصر فإنّه سار من الكرك بمن معه فى أوّل شعبان يريد دمشق بعد أمور وقعت له؛ نذكرها فى أوائل ترجمته الثالثة. فلمّا سار دخل فى طاعته الأمير قطلوبك المنصورىّ والحاج بهادر وبكتمر الحسامىّ حاجب حجّاب دمشق وعلم الدين سنجر الجاولى. وصار الملك الناصر يتأنّى فى مسيره من غير سرعة حتّى يتبيّن ما عند أمراء دمشق الذين أخرجهم الأفرم لحفظ الطرقات قبل ذلك، فكتبوا أمراء دمشق المذكورون إلى الأفرم أنّه لا سبيل لهم إلى محاربة الملك الناصر، وأرادوا بذلك إمّا أن يخرج بنفسه فيقبضوه أو يسير عن دمشق إلى جهة أخرى فيأتيهم بقيّة الجيش وكان كذلك. فإنّه لما قدم كتابهم عليه بدمشق شارع بين الناس مجىء الملك
الناصر من الكرك فثارت العوامّ وصاحوا. نصر الله الملك الناصر! وتسلّل عسكره من دمشق طائفة بعد طائفة إلى الملك الناصر، وانفرط الأمر من الأفرم واتّفق الأمير بيبرس العلائى «1» والأمير بيبرس «2» المجنون بمن معهما على الوثوب على الأفرم والقبض عليه، فلم يثبت عند ما بلغه ذلك، واستدعى علاء الدين [علىّ «3» ] بن صبيح، وكان من خواصّه وخرج ليلا وتوجّه إلى جهة الشّقيف «4» ، فركب قطلو بك والحاجّ بهادر عند ما سمعا خبر الأفرم، وتوجّها إلى الملك الناصر، وكانا كاتباه بالدخول فى طاعته قبل ذلك، فسّر بهما وأنعم على كل واحد منهما بعشرة آلاف درهم؛ وقدم على الناصر أيضا الجاولى وجوبان وسائر من كان معهم، فسار بهم الملك الناصر حتى نزل الكسوة، وخرج إليه بقيّة الأمراء والأجناد. وقد عمل له سائر شعار السلطنة من السناجق الخليفتيّة والسلطانيّة والعصائب والجتر «5» والغاشية «6» ، وحلف العساكر وسار يوم الثلاثاء ثانى «7» عشر شعبان يريد مدينة دمشق، فدخلها من غير مدافع بعد ما زيّنت له زينة عظيمة، وخرج جميع الناس إلى لقائه على اختلاف طبقاتهم حتى صغار الكتّاب، وبلغ كراء البيت من البيوت التى بميدان الحصى إلى قلعة دمشق للتفرّج على السلطان من خمسمائة درهم إلى مائة درهم، وفرشت الأرض بشقاق الحرير الملوّنة، وحمل الأمير قطلوبك المنصورىّ الغاشية، وحمل الأمير الحاج بهادر الجتر، وترجّل الأمراء والعساكر بأجمعهم ومشوا بين يديه حتّى نزل بالقصر [الأبلق «8» ] ؛ وفى وقت نزوله قدم مملوك الأمير قرا سنقر نائب حلب لكشف الخبر
وأنّ قراسنقر خرج من حلب وقبجق خرج من حماة فخلع عليه وكتب لهما بسرعة الحضور إليه. ثم كتب إلى الأفرم أمانا وتوجّه به علم الدين سنجر الجاولى، فلم يثق بذلك لما كان وقع منه فى حقّ الناصر لمّا قدم عليه تنكز «1» ، وطلب يمين السلطان فحلف السلطان له وبعث إليه نسخة الحلف. وكان قبل ذلك بعث الملك الناصر خازنداره وتنكز مملوكه إلى الأفرم هذا صحبة عثمان الركاب يستدعيه إلى طاعته بكلّ ما يمكن، ثم أمره الملك الناصر إن لم يطع يخشّن له فى القول، وكذلك كتب فى المطالعة التى على يد تنكز: أوّلها وعد وآخرها وعيد، فلمّا قرأ الأفرم الكتاب المذكور اسودّ وجهه من الغضب، ثم التفت إلى تنكز وقال: أنت وأمثالك الذين حمّقوا هذا الصبىّ حتى كتب لى هذا الكتاب، ويلك! من هو الذي وافقه من أمراء دمشق على ذلك! وكان الناصر قد كتب له فى جملة الكلام «2» أنّ غالب أمراء البلاد الشاميّة أطاعونى، وكان الأفرم لما حضر إليه تنكز قبل أن يقرأ الكتاب جمع أمراء دمشق ثم قرا الكتاب، فلمّا وصل إلى ذلك، قال الأفرم، قل لى: من هو الذي أطاعه حتى أقبض عليه وأرسله إلى مصر؟ فنظر أمراء دمشق بعضهم إلى بعض وأمعن الأفرم فى الكلام؛ فقام الأمير بيبرس المجنون وقال: ما هذا الكلام مصلحة، تجاوب ابن استاذك بهذا الجواب! ولكن لاطفه وقل له: أنت تعلم أنّنا متّبعون مصر وما يبرز منها، فإن أردت الملك فاطلبه من مصر، ولا تبتلش «3» بنا وارجع عنّا، وذكر له أشياء من هذا النّمط؛ فقال الأفرم: أنا ما أقول هذا الكلام، وليس له عندى إلّا السيف إن جاءنا! ثم طلب الأفرم تنكز فى خلوة وقال له: سر إلى أستاذك وقل له: يرجع، وإلّا يسمع الملك المظفّر فيمسكك ويحبسك، فتبقى تمنّى أن تشبع
الخبز! ولا ينفعك حينئذ أحد، فإن كان لك رأى فاقبض على نوغيه ومن معه وسيّرهم للملك المظفّر، فإن فعلت ذلك يصلح حالك، ولا تفعل غير هذا تهلك. وكتب له كتابا بمعنى هذا ودفعه إلى تنكز، فلم يخرج تنكز من دمشق إلى أثناء الطريق حتى خرج فى أثره جماعة من أمراء دمشق إلى طاعة الناصر. وكان كلام الأفرم لتنكز أكبر الأسباب لخروج الملك الناصر من الكرك إلى دمشق، فلما قدم الناصر دمشق وكتب الأمان للافرم فتخوف الأفرم مما كان وقع منه من القول لمّا قدم عليه تنكز وطلب الحلف. انتهى.
وقال بيبرس فى تاريخه: وأرسل السلطان إلى الأفرم رسلا «1» بالأمان والأيمان، وهما الأميران عزّ الدين أيدمر الزّردكاش والأمير سيف الدين جوبان. وقال غيره: بعث إليه السلطان نسخة الحلف مع الأمير الحاج أرقطاى الجمدار، فما زال به حتى قدم معه هو وابن صبيح «2» ، فركب السلطان إلى لقائه حتى قرب منه نزل كلّ منهما عن فرسه، فاعظم الأفرم نزول السلطان له وقبل الأرض، وكان الأفرم قد لبس كامليّة وشدّ وسطه وتوشّح بنصفيه (يعنى أنه حضر بهيئة البطالين من الأمراء) وكفنه تحت إبطه، وعند ما شاهدته الناس على هذه الحالة صرخوا بصوت واحد: يا مولانا السلطان، بتربة والدك الملك الشهيد قلاوون لا تؤذه ولا تغيّر عليه! فبكى سائر من حضر، وبالغ السلطان فى إكرامه وخلع عليه وأركبه وأقرّه على نيابة دمشق، فكثر الدعاء له وسار إلى القصر. فلما كان من الغد أحضر الأفرم خيلا وجمالا وثيابا بمائتى ألف درهم تقدمة إلى السلطان الملك الناصر. وفى يوم الجمعة «3» ثانى عشرين
شعبان خطب للملك الناصر بدمشق وانقطع منها اسم المظفّر، وصليت الجمعة بالميدان فكان يوما مشهودا؛ وفى ذلك اليوم قدم الأمير قراسنقر نائب حلب، والأمير قبجق نائب حماة، والأمير أسندمر كرجى نائب طرابلس، وتمر السّاقى نائب حمص، فركب السلطان إلى لقائهم وترجّل إلى قراسنقر وعانقه وشكر الأمراء وأثنى عليهم؛ ثم قدم الأمير كراى المنصورىّ نائب القدس والأمير بكتمر الجو كندار نائب صفد، ثم قدّم كلّ من الأمراء والنوّاب تقدمته بقدر حاله ما بين ثياب أطلس وحوائص ذهب وكلفتاة «1» زركش وخيول مسرجة، فى عنق كل فرس كيس فيه ألف دينار وعليه مملوك، وعدّة بغال وجمال بخاتىّ وغير ذلك. وشرع الملك الناصر فى النفقة على الأمراء والعساكر الواردة عليه مع النوّاب. فلما انتهت النفقة قدم بين يديه الأمير كراى المنصورىّ على عسكره إلى غزّة فسار إليها، وصار كراى يمدّ فى كلّ يوم سماطا عظيما للمقيمين والواردين عليه، فأنفق فى ذلك أموالا جزيلة من حاصله، واجتمع عليه بغزّة عالم كثير وهو يقوم بكلفهم ويعدهم عن السلطان بما يرضيهم.
وأما الملك المظفّر فإنه قدم عليه الخبر فى خامس عشرين شعبان باستيلاء الملك الناصر على دمشق بغير قتال، فعظم ذلك على الملك المظفّر وأظهر الذلّة، وخرجت عساكر مصر شيئا بعد شىء تريد الملك الناصر حتى لم يبق عنده بالديار المصرية سوى خواصّه من الأمراء والأجناد.
وأمّا الأمير برلغى ومن معه من الأمراء صار عساكرهم تتسلّل واحدا بعد واحد حتى بقى برلغى فى مماليكه وجماعة من خواصّ الملك المظفّر بيبرس، فتشاور برلغى مع جماعته حتى اقتضى رأيه ورأى آقوش نائب الكرك اللّحاق بالملك الناصر أيضا،
فلم يوافق على ذلك البرجية، وعاد أيبك البغدادىّ وبكتوت الفتّاح وقجقار «1» ببقية البرجية إلى القاهرة، وصاروا مع الملك المظفّر بيبرس، وسار برلغى وآقوش إلى الملك الناصر فيمن بقى من الأمراء والعساكر، فاضطربت القاهرة لذلك.
وكان الملك المظفّر قد أمّر فى مستهلّ شهر رمضان سبعة وعشرين أميرا ما بين طبلخاناه وعشرات، منهم من مماليكه: صديق وصنقيجى «2» وطوغان وقرمان وإغزلو وبهادر؛ ومن المماليك السلطانية سبعة وهم: قراجا الحسامىّ وطرنطاى المحمّدى وبكتمر الساقى وبهادر قبجاق وانكبار «3» وطشتمر أخو بتخاص ولاچين؛ وممن عداهم جركتمر «4» بن بهادر وحسن بن الردادى، ونزلوا الجميع إلى المدرسة «5» المنصورية ليلبسوا الخلع على جارى العادة، واجتمع لهم النقباء والحجّاب والعامّة بالأسواق ينتظرون طلوعهم القلعة، وكلّ منهم بقى لابس الخلعة، فاتّفق أن شخصا من المنجّمين كان بين يدى النائب سلّار، فرأى الطالع غير موافق، فقال: هذا الوقت ركوبهم غير لائق، فلم يلتفت بعضهم ولبس وركب فى طلبه، فاستبردوهم العوامّ وقالوا:
ليس له حلاوة، ولا عليه طلاوة؛ وصار بعضهم يصيح ويقول: يا فرحة لا تمّت.
ثم أخرج الملك المظفّر عدّة من المماليك السلطانية إلى بلاد الصعيد وأخذ أخبازهم، وظنّ الملك المظفّر أنه ينشئ له دولة، فلما بلغه مسير برلغى وآقوش نائب الكرك إلى الملك الناصر سقط فى يده وعلم زوال ملكه، فإن برلغى كان زوج ابنته وأحد خواصّه وأعيان دولته، بحيث إنّه أنعم عليه فى هذه الحركة بنيّف وأربعين
ألف دينار مصريّة، وقيل: سبعين ألف دينار. وظهر عليه اختلال الحال، وأخذ خواصّه فى تعنيفه على إبقاء سلّار النائب وأنّ جميع هذا الفساد منه، وكان كذلك.
فإنّه لما فاتته السلطنة وقام بيبرس فيها حسده على ذلك ودبّر عليه، وبيبرس فى غفلة عنه، فإنّه كان سليم الباطن لا يظنّ أنّ سلّار يخونه. ثم قبض الملك المظفّر ليلة الجمعة على جماعة من العوامّ، وضربوا وشهّروا لإعلانهم بسبّ الملك المظفّر بيبرس؛ فما زادهم ذلك إلّا طغيانا! وفى كلّ ذلك تنسب البرجية فساد الأمور لسلّار، فلمّا أكثر البرجية الإغراء بسلّار قال لهم الملك المظفّر: إن كان فى خاطركم شىء فدونكم وإياه إذا جاء سلّار للخدمة؛ وأما أنا فلا أتعرّض له بسوء قطّ، فاجتمعت البرجيّة على قبض سلار إذا حضر الخدمة فى يوم الاثنين خامس عشره، فبلغ سلّار ذلك، فتأخّر عن حضور الخدمة واحترس على نفسه، وأظهر أنّه قد توعّك، فبعث الملك المظفّر يسلّم عليه ويستدعيه ليأخذ رأيه، فاعتذر بأنه لا يطيق الحركة لعجزه عنها.
فلمّا كان يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان استدعى الملك المظفّر الأمراء كلّهم واستشارهم فيما يفعل، فأشار الأمير بيبرس الدّوادار المؤرّخ والأمير بهادر آص بنزوله عن الملك والإشهاد عليه بذلك كما فعله الملك الناصر، وتسيّر إلى الملك الناصر بذلك وتستعطفه وتخرج إلى إطفيح بمن تثق به وتقيم هناك حتى يرد جواب الملك الناصر عليك، فأعجبه ذلك وقام ليجهّز أمره، وبعث بالأمير ركن الدين بيبرس الدّوادار المذكور إلى الملك الناصر محمد يعرّفه بما وقع. وقيل: إنّه كتب إلى الملك الناصر يقول مع غير بيبرس الدوادار: والذي أعرّفك به أنّى قد رجعت أقلّدك بغيك، فإن حبستنى عددت ذلك خلوة، وإن نفيتنى عددت ذلك سياحة، وإن قتلتنى
كان ذلك لى شهادة؛ فلمّا سمع الملك الناصر ذلك، عيّن له صهيون على ما نذكره.
وأمّا ما كتبه المظفّر على يد بيبرس الدوادار يسأله فى إحدى ثلاث: إمّا الكرك وأعمالها، أو حماة وبلادها، أو صهيون ومضافاتها.
ثم اضطربت أحوال المظفّر وتحيّر وقام ودخل الخزائن وأخذ من المال والخيل ما أحبّ، وخرج من يومه من باب الإسطبل فى مماليكه وعدّتهم سبعمائة مملوك، ومعه من الأمراء: الأمير عزّ الدين أيدمر الخطيرىّ الأستادار، والأمير بكتوت الفتّاح والأمير سيف الدين قجماس والأمير سيف الدين تاكز فى بقية ألزامه من البرجيّة، فكأنّما نودى فى الناس بأنّه خرج هاربا، فاجتمع العوامّ، وعند ما برز من باب الإسطبل صاحوا به وتبعوه وهم يصيحون عليه بأنواع الكلام، وزادوا فى الصياح حتّى خرجوا عن الحدّ، ورماه بعضهم بالحجارة. فشقّ ذلك على مماليكه وهمّوا بالرجوع إليهم ووضع السيف فيهم فمنعهم الملك المظفّر من ذلك، وأمر بنثر المال عليهم ليشتغلوا بجمعه عنه، فأحرج كلّ من المماليك حفنة من الذهب ونثرها، فلم يلتفت «1» العامّة لذلك وتركوه وأخذوا فى العدو خلفه وهم يسبّون ويصيحون، فشهر المماليك حينئذ سيوفهم ورجعوا إلى العوامّ فانهزموا منهم. وأصبح الحرّاس بقلعة الجبل فى يوم الأربعاء سابع عشر شهر رمضان يصيحون باسم الملك الناصر، وأسقط اسم الملك المظفّر بإشارة الأمير سلّار بذلك، فإنّه أقام بالقلعة ومهّد أمورها بعد خروج المظفّر إلى إطفيح. وفى يوم الجمعة تاسع عشره خطب على منابر القاهرة ومصر باسم الملك الناصر، وأسقط اسم الملك المظفّر بيبرس هذا وزال ملكه.
وأمّا الملك المظفّر فإنّه لما فارق القلعة أقام بإطفيح يومين ثم اتّفق رأيه ورأى أيدمر الخطيرى وبكتوت الفتّاح إلى المسير إلى برقة «1» وقيل بل إلى أسوان «2» ، فأصبح حاله كقول القائل:
موكّل ببقاع الأرض يذرعها
…
من خفّة الرّوع لا من خفّة الطّرب
ولمّا بلغ مماليك الملك المظفّر هذا الرأى عزموا على مفارقته. فلمّا رحل من إطفيح رجع المماليك عنه شيئا بعد شىء إلى القاهرة، فما وصل المظفّر إلى إخميم «3» حتّى فارقه أكثر من كان معه، فعند ذلك انثنى عزمه عن التوجّه إلى برقة، وتركه «4» الخطيرىّ والفتّاح وعادا نحو القاهرة. وبينما هو سائر قدم عليه الأميران: بيبرس الدّوادار وبهادر آص من عند الملك الناصر ليتوجّه إلى صهيون بعد أن يدفع ما أخذه من الخزائن، فدفع المظفّر المال بأجمعه إلى بيبرس الدّوادار، فأخذ بيبرس المال وسار به فى النيل إلى الملك الناصر وهو بقلعة الجبل، وقدم بهادر آص فى البرّ بالملك المظفّر ومعه كاتبه كريم «5» الدين أكرم، وسأل المظفّر فى يمين السلطان مع من يثق به، فحلف له الملك الناصر بحضرة الأمراء وبعث إليه بذلك مع أيتمش المحمّدى؛ فلمّا قدم عليه أيتمش بالغ المظفّر فى إكرامه وكتب الجواب بالطاعة وأنّه يتوجّه إلى ناحية
السّويس «1» ، وأنّ كريم الدين يحضر بالخزانة والحواصل التى أخذها، فلم يعجب السلطان ذلك، وعزم على إخراج تجريدة إلى غزّة ليردّوه، وأطلع على ذلك بكتمر الجوكندار النائب وقراسنقر نائب دمشق «2» والحاج بهادر وأسندمر نائب طرابلس.
فلمّا كان يوم الخميس الذي قبض فيه الملك الناصر على الأمراء- على ما سيأتى ذكره مفصّلا فى أوّل ترجمة الملك الناصر الثالثة إن شاء الله تعالى- جلس بعض المماليك الأشرفيّة خارج القلعة، فلمّا خرج الأمراء من الخدمة قال: وأىّ ذنب لهؤلاء الأمراء الذين قبض عليهم! وهذا الذي قتل أستاذنا الملك الأشرف، ودمه الآن على سيفه، قد صار اليوم حاكم المملكة (يعنى عن قراسنقر) ، فقيل هذا لقراسنقر، فخاف على نفسه وأخذ فى عمل الخلاص من مصر، فالتزم للسلطان أنّه يتوجّه ويحصّل الملك المظفّر بيبرس هو والحاج بهادر نائب طرابلس من غير إخراج تجريدة فإن فى بعث الأمراء لذلك شساعة، فمشى ذلك على السلطان ورسم بسفرهما، فخرج قراسنقر ومعه سائر النوّاب إلى ممالكهم، وعوّق السلطان عنده أسندمر كرجى وقد استقرّ به فى نيابة حماة، وسار البقية. ثم جهّز السلطان أسندمر كرجى لإحضار المظفّر مقيّدا. واتّفق دخول قراسنقر والأمراء إلى غزّة قبل وصول المظفّر إليها؛ فلمّا بلغهم قربه ركب قراسنقر وسائر النوّاب والأمراء ولقوه شرقىّ غزّة وقد بقى معه عدّة من مماليكه وقد تأهّبوا للحرب، فلبس الأمراء السلاح ليقاتلوهم،
فأنكر المظفّر على مماليكه تأهّبهم للقتال وقال: أنا كنت ملكا، وحولى أضعافكم ولى عصبة كبيرة من الأمراء، وما اخترت سفك الدماء! وما زال بهم حتّى كفّوا عن القتال، وساق هو بنفسه حتّى بقى مع الأمراء وسلّم نفسه إليهم؛ فسلّموا عليه وساروا به إلى معسكرهم وأنزلوه بخيمة، وأخذوا سلاح مماليكه ووكّلوا بهم من يحفظهم؛ وأصبحوا من الغد عائدين بهم معهم إلى مصر، فأدركهم أسندمر كرجى بالخطّارة «1» فأنزل فى الحال المظفّر عن فرسه وقيّده بقيد أحضره معه، فبكى وتحدّرت دموعه على شيبته، فشقّ ذلك على قراسنقر وألقى الكلفتاة عن رأسه إلى الأرض وقال: لعن الله الدنيا، فيا ليتنا متنا ولا رأينا هذا اليوم! فترجّلت الأمراء وأخذوا كلفتاته ووضعوها على رأسه. هذا مع أنّ قراسنقر كان أكبر الأسباب فى زوال دولة المظفّر المذكور! وهو الذي جسّر الملك الناصر حتّى كان من أمره ما كان.
ثم عاد قراسنقر والحاج بهادر إلى محلّ كفالتهما، وأخذ بهادر يلوم قراسنقر كيف خالف رأيه! فإنّه كان أشار على قراسنقر فى اللّيل بعد القبض على المظفّر بأن يخلّى عن المظفّر حتّى يصل إلى صهيون، ويتوجّه كلّ منهما إلى محلّ ولايته، ويخيفا الملك الناصر بأنّه متى تغيّر عمّا كان وافق الأمراء عليه بدمشق قاموا بنصرة المظفّر وإعادته إلى الملك، فلم يوافق قراسنقر، وظنّ أنّ الملك الناصر لا يستحيل عليه ولا على المظفّر. فلمّا رأى ما حلّ بالمظفر ندم على مخالفة بهادر. وبينما هما فى ذلك بعث أسندمر كرجى إلى قراسنقر مرسوم السلطان بأن يحضر صحبة المظفّر إلى القلعة، وكان عزم الناصر أن يقبض عليه: ففطن قراسنقر بذلك وامتنع من التوجّه إلى مصر، واعتذر بأنّ العشير «2» قد تجمّعوا ويخاف على دمشق منهم، وجدّ فى السير وعرف أنّه ترك الرأى فى مخالفة بهادر! فقدم أسندمر بالمظفّر إلى القلعة فى ليلة
الأربعاء الرابع عشر من ذى القعدة «1» ، فلمّا مثل المظفّر بين يدى السلطان قبّل الأرض، فأجلسه وعنّفه بما فعل به وذكّره بما كان منه إليه، وعدّد ذنوبه، وقال له: تذكر وقد صحت علىّ يوم كذا بسبب فلان! ورددت شفاعتى فى حقّ فلان! واستدعيت بنفقة فى يوم كذا من الخزانة فمنعتها! وطلبت فى وقت حلوى بلوز وسكّر فمنعتنى، ويلك! وزدت فى أمرى حتّى منعتنى شهوة نفسى، والمظفّر ساكت. فلما فرغ كلام السلطان قال له المظفّر: يا مولانا السلطان، كلّ ما قلت فعلته، ولم يبق إلّا مراحم السلطان، وإيش يقول المملوك لأستاذه! فقال له:
يا ركن، أنا اليوم أستاذك! وأمس تقول لما طلبت إوزّا مشويّا: إيش يعمل بالإوزّ! الأكل هو عشرون مرّة فى النهار! ثم أمر به إلى مكان وكان ليلة الخميس، فاستدعى المظفّر بوضوء وقد صلّى العشاء. ثم جاء السلطان الملك الناصر فخنق بين يديه بوتر حتى كاد يتلف، تم سيّبه حتى أفاق وعنّفه وزاد فى شتمه، ثم خنقه ثانيا حتى مات وأنزل على جنوية «2» إلى الإسطبل السلطانىّ فغسل ودفن خلف قلعة الجبل، وذلك فى ليلة الجمعة خامس عشر ذى القعدة «3» سنة تسع وسبعمائة. وكانت أيام المظفّر هذا فى سلطنة مصر عشرة «4» أشهر وأربعة وعشرين يوما لم يتهنّ فيها من الفتن والحركة.
وكان المظفّر لمّا خرج من مصر هاربا قبل دخول الملك الناصر. قال بعض الأدباء:
تثنّى عطف مصر حين وافى
…
قدوم الناصر الملك الخبير
فذلّ الجشنكير بلا لقاء
…
وأمسى وهو ذو جأش نكير
إذا لم تعضد الأقدار شخصا
…
فأوّل ما يراع من النّصير
وقال النّويرىّ فى تاريخه: ولمّا وصلوا بالمظفّر بيبرمن إلى السلطان الناصر أوقفه بين يديه وأمر بدخوله الحمّام، وخنق فى بقية من يومه ودفن بالقرافة وعفّى أثر قبره مدّة، ثم أمر بانتقاله إلى تربته بالخانقاه «1» التى أنشأها فنقل إليها. وكان بيبرس هذا ابتدأ بعمارة الخانقاه والتربة داخل باب النصر موضع دار الوزارة «2» فى سنة ست «3» وسبعمائة، وأوقف عليها أوقافا جليلة، ولكنّه مات قبل تمامها، فأغلقها الملك الناصر مدّة ثم فتحها. انتهى كلام النّويرىّ.
وكان الملك المظفّر ملكا ثابتا كثير السكون والوقار، جميل الصفات، ندب إلى المهمّات مرارا عديدة، وتكلّم فى أمر الدولة مدّة سنين، وحسنت سيرته، وكان يرجع إلى دين وخير ومعروف، تولّى السلطنة على كره منه، وله أوقاف على وجوه البرّ والصدقة، وعمّر ما هدم من الجامع «4» الحاكمى داخل باب النصر، بعد ما شعّثته الزلازل. وكان من أعيان الأمراء فى الدولة المنصوريّة قلاوون أستاذه، ثم فى الدولة الأشرفية خليل، والدولة الناصرية محمد بن قلاوون.
وكان أبيض اللون أشقر مستدير اللّحية، وهو جاركسىّ الجنس على ما قيل.
ولم يتسلطن أحد من الجراكسة قبله ولا بعده إلى الملك الظاهر برقوق؛ وقبل إنه كان تركيّا، والأقوى عندى أنه كان جاركسيّا، لأنه كان بينه وبين آقوش الأفرم نائب الشام مودّة ومحبّة زائدة، وقيل قرابة، وكان الأفرم جاركسىّ الجنس. انتهى.
واستولى السلطان الملك الناصر على جميع تعلّقاته، واستقدم كاتبه كريم الدين أكرم بن المعلّم بن السديد، فقدم على الملك الناصر بأموال المظفّر بيبرس وحواصله،
فقرّبه السلطان وأثنى عليه ووعده بكلّ جميل إن أظهره على ذخائر المظفّر بيبرس.
فنزل كريم الدين إلى داره وتتبّع أموال بيبرس وبذل جهده فى ذلك، ثم انتمى كريم الدين إلى طغاى وكستاى وأرغون الدّوادار الناصرية، وبذل لهم مالا كثيرا حتى صاروا أكبر أعوانه، وحموه من أستاذهم الملك الناصر، ثم قدم من كان مع المظفّر بيبرس من المماليك ومعهم الهجن والخيل والسلاح، ومبلغ مائتى ألف درهم «1» وعشرين ألف دينار، وستون بقجة من أنواع الثياب، فأخذ السلطان جميع ذلك، وفرّق المماليك على الأمراء ما خلا بكتمر الساقى لجمال صورته وطوغان الساقى وقراتمر.
ثم استدعى الملك الناصر القضاة وأقام عندهم البيّنة بأن جميع مماليك المظفّر بيبرس وسلّار، وجميع ما وقفاه من الضّياع والأملاك اشترى من بيت المال. فلمّا ثبت ذلك ندب السلطان جمال الدين آقوش الأشرقىّ نائب الكرك، وكريم الدين أكرم لبيع تركة المظفّر بيبرس وإحضار نصف ما يتحصّل، ودفع النصف الآخر لابنة المظفّر زوجة الأمير برلغى الأشرفىّ، فإنّ المظفّر لم يترك من الأولاد سواها، فشدّد كريم الدين الطلب على زوجة المظفّر وابنته حتى أخذ منهما جواهر عظيمة القدر، وذخائر نفيسة؛ ثم تابع موجود المظفّر فوجد له شيئا كثيرا.
السنة التى حكم فى أوّلها الملك المظفّر بيبرس الجاشنكير على مصر إلى شهر رمضان «2» ، ثم حكم فى باقيها الملك الناصر محمد بن قلاوون، وهى سنة تسع وسبعمائة، على أن الملك المظفّر بيبرس حكم من السنة الماضية أياما.
فيها (أعنى سنة تسع وسبعمائة) كانت الفتنة بين السلطان الملك الناصر محمد ابن قلاوون وبين الملك المظفّر بيبرس. حسب ما تقدّم ذكره مفصّلا حتى خلع المظفّر وأعيد الناصر.
وفيها كانت الفتنة أيضا بالمدينة النبوية بين الشريف مقبل بن جمّاز بن شيحة وبين [كبيش «1» ابن] أخيه منصور بن جمّاز، وكان مقبل «2» قدم القاهرة فولّاه المظفّر نصف إمرة المدينة شريكا لأخيه منصور، فتوجّه إليها فوجد منصورا بنجد وقد ترك ابنه كبيشة «3» بالمدينة، فأخرجه مقبل فحشد كبيشة وقاتل مقبلا حتى قتله، وانفرد منصور بإمرة المدينة.
وفيها كتب السلطان الملك الناصر لقرا سنقر نائب الشام بقتال العشير.
وفيها أظهر خربندا ملك التّتار الرّفض فى بلاده وأمر الخطباء ألّا يذكروا فى خطبهم إلّا علىّ بن أبى طالب وولديه وأهل البيت.
وفيها حجّ بالناس من القاهرة الأمير شمس الدين إلدكز السلاح دار ولم يحجّ أحد من الشام لاضطراب الدولة.
وفيها توفّى الأمير الوزير شمس الدين سنقر الأعسر المنصورىّ بالقاهرة فى شهر ربيع الأوّل ودفن خارج باب النصر بعد ما استعفى ولزم داره مدّة.
وفيها توفى قاضى القضاة شرف الدين أبو محمد عبد الغنى بن يحيى [بن محمد بن أبى «4» بكر] بن عبد الله بن نصر [بن «5» محمد] بن أبى بكر الحرّانىّ الحنبلىّ فى ليلة
الجمعة الرابع والعشرين من شهر ربيع الأوّل ودفن بالقرافة. ومولده بحرّان فى سنة خمس وأربعين وستمائة، وسمع الحديث وتفقّه وقدم مصر فباشر نظر الخزانة وتدريس الصالحيّة «1» ثم أضيف إليه قضاء الحنابلة، فباشره وحمدت سيرته.
وفيها توفّى الشيخ نجم الدين محمد بن إدريس بن محمد القمولىّ «2» الشافعىّ بقوص فى جمادى الأولى، وكان صالحا عالما بالتفسير والفقه والحديث.
وفيها توفّى الأمير سيف الدين طغريل بن عبد الله الإيغانىّ بالقاهرة فى عاشر شهر رمضان، وكان من كبار الأمراء وأعيان الديار المصريّة.
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أيبك الخازندار فى سابع شهر رمضان بالقاهرة، وكان من أعيان أمراء مصر.
وفيها توفّى متملّك تونس من بلاد الغرب الأمير أبو عبد الله محمد المعروف بأبى عصيدة بن يحيى الواثق ابن محمد المستنصر ابن يحيى بن عبد الواحد بن أبى حفص فى عاشر شهر ربيع الآخر. وكانت مدّة ملكه أربع عشرة سنة وأربعة أشهر، وتولّى بعده الأمير أبو بكر بن أبى يزيد «3» عبد الرحمن بن أبى بكر بن يحيى بن عبد الواحد المدعوّ بالشهيد، لأنّه قتل ظلما بعد ستة عشر يوما من ملكه، وبويع بعده أيضا أبو البقاء خالد بن يحيى بن إبراهيم.
وفيها توفّى الوزير التاج أبو الفرج بن سعيد الدولة فى يوم السبت ثانى شهر رجب، وكان عند الملك المظفّر بيبرس بمكانة عظيمة، ولمّا تسلطن بيبرس قرّره
مشيرا، فكانت تحمل إليه فوطة العلامة فيمضى منها ما يختاره، ويكتب عليه «عرض» فإذا رأى المظفّر خطّه علّم وإلّا فلا، ولم يزل على ذلك حتى بعث إليه الأمير آقوش الأفرم نائب الشام يهدّده بقطع رأسه فامتنع. وكان الأفرم صار يدبّر غالب أمور الديار المصريّة وهو بدمشق، لأنه كان خشداش المظفّر بيبرس وخصيصا به والقائم بدولته، والمعاند للناصر وغيره من نوّاب البلاد الشاميّة، وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه فى ترجمة الملك المظفّر بيبرس.
وفيها توفّى الشيخ القدوة العارف بالله تعالى تاج الدين أبو الفضل أحمد بن محمد ابن عبد الكريم بن عطاء الله السّكندرىّ المالكىّ الصوفى الواعظ المذكّر المسلّك بالقاهرة فى جمادى الآخرة ودفن بالقرافة، وقبره «1» معروف بها، يقصد للزيارة. وكان رجلا صالحا عالما يتكلّم على كرسىّ ويحضر ميعاده خلق كثير، وكان لوعظه تأثير فى القلوب، وكان له معرفة تامّة بكلام أهل الحقائق وأرباب الطريق، وكان له نظم حسن على طريق القوم، وكانت جنازته مشهودة حفلة إلى الغاية. ومن شعره قصيدة أوّلها:
يا صاح إنّ الركب قد سار مسرعا
…
ونحن فعود ما الذي أنت صانع
أترضى بأن تبقى المخلّف بعدهم
…
صريع الأمانى والغرام ينازع
وهذا لسان الكون ينطق جهرة
…
بأنّ جميع الكائنات قواطع
وفيها توفّى القاضى عزّ الدين عبد العزيز ابن القاضى شرف الدين محمد [بن فتح «2» الدين عبد الله بن محمد بن أحمد بن خالد] بن القيسرانىّ أحد كتّاب الدّرج
ومدرس الفخرية «1» فى ثامن صفر بالقاهرة، ودفن عند والده بالقرافة، وكان من أعيان الموقّعين هو ووالده وجدّه، ومات وله دون الأربعين سنة، وكان له فضيلة ونظم ونثر. ومن شعره فى ردّ جواب:
جاء الكتاب ومن سواد مداده
…
مسك ومن قرطاسه الأنوار
فتشرّف الوادى به وتعطّرت
…
أرجاؤه وأنارت الأقطار
قلت وأين هذا من قول البارع جمال الدين محمد بن نباتة المصرىّ، حيث يقول فى هذا المعنى:
أفديه من ملك يكاتب عبده
…
بأحرفه اللّاتى حكتها الكواكب
ملكت بها رقّى وأنحلنى الأسى
…
فهأنذا عبد رقيق مكاتب
والشيخ علاء الدين علىّ بن محمد [بن عبد «2» الرحمن] العبىّ رحمه الله:
أهلتنى لجواب
…
ما كان ظنّى أجاوب
لكنّنى عبد رقّ
…
مدبّر ومكاتب
وفيها توفّى القاضى بهاء الدين عبد الله ابن نجم الدين أحمد بن على ابن المظفّر المعروف بابن الحلّى ناظر ديوان الجيش المنصور، واستقرّ عوضه القاضى فخر الدين صاحب ديوان الجيش.
وفيها توفّى الأديب إبراهيم بن علىّ بن خليل الحرّانى المعروف بعين بصل. كان شيخا حائكا أناف على الثمانين، وكان عامّيّا مطبوعا، وقصده ابن خلّكان واستنشده من شعره فقال: أمّا القديم فلا يليق إنشاده، وأمّا نظم الوقت الحاضر فنعم، وأنشده بديها:
وما كلّ وقت فيه يسمح خاطرى
…
بنظم قريض رائق اللفظ والمعنى
وهل يقتضى الشرع الشريف تيمّما
…
بترب وهذا البحر يا صاحبى معنا
فقال له ابن خلّكان. أنت عين بصر، لا عين بصل. انتهى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم تأخّر وتأخّرت الزيادة إلى أن دخل شهر مسرى ووقع الغلاء واستسقى الناس، فنودى بزيادة ثلاث أصابع، ثم توقّفت الزيادة ونقص فى أيام النّسىء، ثم زاد حتى بلغ فى سابع عشرين توت خمس عشرة ذراعا وست عشرة إصبعا، وفتح خليج السدّ، بعد ما كان الوفاء فى تاسع عشر بابه، بعد النّوروز بتسعة وأربعين يوما. وكان مبلغ الزيادة فى هذه السنة ستّ عشرة ذراعا وإصبعين. وكان ذلك فى أوائل سلطنة المظفّر بيبرس الجاشنكير. فتشاءم الناس بكعبه وأبغضته العامّة.
انتهى الجزء الثامن من النجوم الزاهرة، ويليه الجزء التاسع، وأوّله:
ذكر عود الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى ملك مصر ثالث مرّة
تنبيه: التعليقات الخاصة بالأماكن الأثريّة على اختلاف أنواعها، والمدن والقرى القديمة وغيرها مع تعيين وتحديد مواضعها هى من وضع حضرة الأستاذ محمد رمزى بك المفتش بوزارة المالية سابقا وعضو المجلس الأعلى لإدارة حفظ الآثار العربية. كالتعليقات السابقة فى الأجزاء الماضية. فنسدى إليه جزيل الشكر ونسأل الله جلّت قدرته أن يجزيه خير الجزاء عن خدمته للعلم وأهله.