الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ما وقع من الحوادث سنة 694]
ذكر سلطنة الملك العادل زين الدّين كتبغا على مصر
هو السلطان الملك العادل زين الدين كتبغا بن عبد الله المنصورىّ التركىّ المغلىّ سلطان الديار المصريّة؛ جلس على تخت الملك بعد أن خلع ابن أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون فى يوم الخميس ثانى عشر المحرّم سنة أربع وتسعين وستّمائة باتّفاق الأمراء على سلطنته. وهو السلطان العاشر من ملوك التّرك بالديار المصريّة، وأصله من التّتار من سبى وقعة حمص «1» الأولى التى كانت فى سنة تسع وخمسين وستمائة؛ فأخذه الملك المنصور قلاوون وأدّبه ثم أعتقه؛ وجعله من جملة مماليكه، ورقّاه حتّى صار من أكابر أمرائه، واستمرّ على ذلك فى الدولة الأشرفيّة خليل بن قلاوون إلى أن قتل، وتسلطن أخوه الملك الناصر محمد بن قلاوون فى سنة ثلاث وتسعين وأقام الناصر فى الملك إلى سنة أربع وتسعين «2» ووقع الاتفاق على خلعه وسلطنة كتبغا هذا، فتسلطن وتلقّب بالملك العادل، وسنّه يوم ذاك نحو الأربعين سنة، وقيل خمسين سنة. وقد تقدّم سبب خلع الملك الناصر محمد وسلطنة كتبغا هذا فى آخر ترجمة الملك الناصر محمد فلا حاجة فى الإعادة.
وقال الشيخ شمس الدين بن الجزرىّ قال: حكى لى الشيخ أبو الكرم النّصرانىّ الكاتب، قال: لمّا فتح هولاكو حلب بالسيف ودمشق بالأمان طلب هولاكو نصير «3» الدين الطّوسىّ وكان فى صحبته، وقال له: اكتب أسماء مقدّمى عسكرى، وأبصر أيّهم يملك مصر، ويقعد على تخت الملك بها حتّى أقدّمه؟ قال: فحسب
نصير الدّين [أسماء «1» ] المقدّمين؛ فما ظهر له من الأسماء اسم من يملك الديار المصريّة غير اسم كتبغا. وكان كتبغا «2» صهر هولاكو، فقدّمه على العساكر فتوجّه بهم كتبغا فآنكسر على عين «3» جالوت «4» ، فتعجّب هولاكو من هذه الواقعة وظنّ أنّ نصير الدين قد غلط فى حسابه. وكان كتبغا هذا من جملة من كان فى عسكر هولاكو من التّتار ممّن لا يؤبه إليه من الأصاغر، وكسبه قلاوون فى الواقعة؛ فكان بين المدّة نحو من خمس وثلاثين سنة، حتّى قدّر الله تعالى بما قدّر من سلطنة كتبغا هذا. انتهى.
ولمّا تمّ أمر كتبغا فى الملك وتسلطن مدّ سماطا عظيما وأحضر جميع الأمراء والمقدّمين والعسكر وأكلوا السّماط، ثم تقدّموا وقبّلوا الأرض ثم قبّلوا يده وهنّئوه بالسلطنة، وخلع على الأمير حسام الدين لا چين وولّاه نيابة السلطنة بالديار المصريّة، وولّى عز الدين الأفرم أمير جاندار، والأمير سيف الدين بهادر حاجب الحجّاب؛ ثم خلع على جميع الأمراء والمقدّمين ومن له عادة بلبس الخلع [عند «5» تولية الملك كما جرت العادة] . وفى يوم الخميس تاسع عشر المحرّم ركب جميع الأمراء والمقدّمين
وجميع من خلع عليه وأتوا إلى سوق «1» الخيل وترجّلوا وقبّلوا الأرض، ثم كتب بسلطنة الملك العادل إلى البلاد الشاميّة وغيرها. وزيّنت مصر والقاهرة لسلطنته.
ولمّا كان يوم الأربعاء مستهلّ شهر ربيع الأوّل «2» ركب السلطان الملك العادل كتبغا بأبّهة السلطنة وشعار الملك من قلعة الجبل ونزل وسار إلى ظاهر القاهرة نحو قبّة «3» النصر، وعاد من باب النصر «4» وشقّ القاهرة حتّى خرج من باب زويلة عائدا إلى قلعة الجبل، كما جرت العادة بركوب الملوك. ولم تطل مدّة سلطنته حتى وقع الغلاء والفناء بالديار المصرية وأعمالها؛ ثمّ انتشر ذلك بالبلاد الشاميّة جميعها فى شوّال من هذه السنة، وارتفع سعر القمح حتّى بيع كلّ اردبّ بمائة وعشرين درهما بعد أن كان بخمسة وعشرين درهما الإردبّ، وهذا فى هذه السنة، وأما فى السنة الآتية التى هى سنة خمس وتسعين وستمائة فوصل سعر القمح إلى مائة وستين «5» درهما الإردبّ.
وأمّا الموت فإنّه فشا بالقاهرة وكثر، فأحصى من مات بها وثبت اسمه فى ديوان [المواريث «6» ] فى ذى الحجّة فبلغوا سبعة عشر ألفا وخمسمائة. وهذا سوى من لم يرد اسمه فى ديوان المواريث من الغرباء والفقراء ومن لم يطلق من الديوان. ورحل جماعة كثيرة من أهل مصر عنها إلى الأقطار من عظم الغلاء وتخلخل «7» أمر الديار المصريّة. وفى هذه السنة حجّ الأمير أنس بن الملك العادل كتبغا صاحب الترجمة، وحجّت معه والدته وأكثر حرم السلطان، وحجّ بسببهم خلق كثير من نساء الأمراء
بتجمّل زائد، وحصل بهم رفق كبير لأهل مكّة والمدينة والمجاورين، وشكرت سيرة ولد السلطان أنس المذكور وبذل شيئا كثيرا لصاحب مكّة.
ثم استهلّت سنة خمس وتسعين وستمائة وخليفة المسلمين الحاكم بأمر الله أبو العبّاس أحمد الهاشمىّ البغدادىّ العباسىّ. وسلطان الديار المصريّة والبلاد الشاميّة والشماليّة والفراتيّة والساحليّة الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورىّ. ووزيره الصاحب فخر الدين عمر ابن الشيخ مجد الدين بن الخليلىّ. ونائب السلطنة بالديار المصريّة الأمير حسام الدين لاچين المنصورىّ. وصاحب مكّة، شرّفها الله تعالى، الشريف نجم الدين أبو نمىّ محمد «1» الحسنىّ المكّى. وصاحب المدينة النبويّة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، عزّ الدين جمّاز بن شيحة الحسينىّ.
وصاحب اليمن ممهّد الدين عمر ابن الملك المظفّر شمس الدين يوسف ابن الملك المنصور عمر [بن «2» علىّ] بن رسول. وصاحب حماة بالبلاد الشاميّة الملك المظفّر تقىّ الدين محمود ابن الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفّر تقىّ الدين محمود [ابن «3» الملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر] بن شاهنشاه «4» بن أيّوب. وصاحب ماردين [الملك «5» السعيد شمس الدين داود ابن] الملك المظفّر فخر «6» الدين ألبى أرسلان ابن الملك السعيد شمس الدين قرا أرسلان بن أرتق الأرتقىّ. وصاحب الروم السلطان غياث الدين مسعود ابن السلطان عز الدين [كيكاوس «7» ] ابن السلطان
غياث الدين كيخسرو بن سلجوق السّلجوقى. وملك التّتار غازان ويقال قازان، وكلاهما يصحّ معناه، واسمه الحقيقىّ محمود بن أرغون بن أبغا بن هولاكو، وهو مظهر الإسلام وشعائر الإيمان. ونائب دمشق الأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ المنصورىّ.
وكان الموافق لأوّل هذه السنة عاشر «1» بابه أحد شهور القبط المسمّى بالرومىّ تشرين الأوّل.
وقال الشيخ قطب الدين اليونينىّ: وفى العشر الأوّل من المحرّم حكى جماعة كثيرة من أهل دمشق واستفاض ذلك فى دمشق وكثر الحديث فيه عن قاضى جبّة «2» أعسال، وهى قرية من قرى دمشق، أنّه تكلّم ثور بقرية من قرى جبّة أعسال، وملخّصها: أنّ الثور خرج مع صبىّ يشرب ماء من هناك فلمّا فرغ حمد الله تعالى فتعجّب الصبى! وحكى لسيّده مالك الثور فشكّ فى قوله، وحضر فى اليوم الثانى بنفسه، فلمّا شرب الثور حمد الله تعالى؛ ثم فى اليوم الثالث حضر جماعة وسمعوه يحمد الله تعالى؛ فكلّمه بعضهم فقال الثور: «إنّ الله كان كتب على الأمّة سبع سنين جدبا، ولكن بشفاعة النّبيّ صلى الله عليه وسلم أبدلها بالخصب، وذكر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمره بتبليغ ذلك، وقال الثور: يا رسول الله ما علامة صدقى عندهم؟ قال: أن يموت عقب الإخبار. قال الحاكى لذلك: ثم تقدّم الثور على مكان عال فسقط ميتا، فأخذ الناس من شعره للتّبرّك، وكفّن ودفن. انتهى.
قلت: وهذه الحكاية غريبة الوقوع والحاكى لها ثقة حجّة، وقد قال: إنّه استفاض ذلك بدمشق. انتهى.
وأمّا أمر الديار المصريّة فإنه عظم أمر الغلاء بها حتّى أكل بعضهم الميتات والكلاب، ومات خلق كثير بالجوع. والحكايات فى ذلك كثيرة، وانتشر الغلاء شرقا وغربا. وبينما السلطان الملك العادل كتبغا فيما هو فيه من أمر الغلاء ورد عليه الخبر فى صفر بأنّه قد وصل إلى الرّحبة «1» عسكر كثير نحو عشرة آلاف بيت من عسكر بيدو ملك التّتار طالبين الدخول فى الإسلام خوفا من السلطان غازان، ومقدّمهم أمير اسمه طرغاى «2» ، وهو زوج بنت هولاكو؛ فرسم الملك العادل إلى الأمير علم الدين سنجر [الدوادارى «3» ] بأن يسافر من دمشق إلى الرّحبة حتّى يتلقاهم، فخرج إليهم، ثم خرج بعده الأمير «4» سنقر الأعسر شادّ دواوين دمشق، ثم ندب الملك العادل أيضا الأمير قرا سنقر «5» المنصورىّ بالخروج من القاهرة، فخرج حتّى وصل إلى دمشق لتلقى المذكورين، ورسم له أن يحضر معه فى عوده إلى مصر جماعة من أعيانهم، فوصل قرا سنقر إلى دمشق وخرج لتلقّيهم، ثم عاد إلى دمشق فى يوم الاثنين ثالث عشرين شهر ربيع الأوّل، ومعه من أعيانهم مائة فارس وثلاثة عشر فارسا؛ وفرح الناس بهم وبإسلامهم وأنزلوهم بالقصر الأبلق من الميدان.
وأمّا الأمير علم الدين سنجر الدّوادارى فبقى مع الباقين، وهم فوق عشرة آلاف ما بين رجل كبير وكهل وصغير وامرأة ومعهم ماشية كثيرة ورخت «6» عظيم، وأقام قرا سنقر بهم أيّاما، ثم سافر بهم إلى جهة الديار المصرية، وقدموا القاهرة فى آخر شهر ربيع الآخر، فأكرمهم السلطان الملك العادل كتبغا ورتّب لهم الرواتب.
ثمّ بدا للملك العادل كتبغا السفر إلى البلاد الشاميّة لأمر مقدّر اقتضاه رأيه، وأخذ فى تجهيز عساكره وتهيّأ للسفر، وخرج بجميع عساكره وأمرائه وخاصّكيته فى يوم السبت سابع عشر شوّال وسار حتّى دخل دمشق، فى يوم السبت خامس عشر ذى القعدة وخامس ساعة من النهار المذكور ودخل دمشق والأمير بدر الدين بيسرى حامل الجتر «1» على رأسه، ونائب سلطنته الأمير حسام الدين لاچين المنصورى ماشيا بين يديه، ووزيره الصاحب «2» فخر الدين بن الخليلىّ، واحتفل أهل دمشق لقدومه وزيّنت المدينة وفرح الناس به.
ولمّا دخل الملك العادل إلى دمشق وأقام بها أيّاما عزل عنها نائبها الأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ، وولّى عوضه فى نيابة دمشق مملوكه الأمير سيف الدين أغزلوا «3» العادلى وعمره نحو من اثنتين وثلاثين سنة، وأنعم على الأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ بخبز أغزلو بمصر، وخرجا من عند السلطان وعليهما الخلع، هذا متولّ وهذا منفصل. ثم سافر السلطان الملك العادل من دمشق فى ثانى عشر ذى الحجّة بأكثر العسكر المصرىّ وبقيّة جيش الشام إلى جهة قرية جوسية «4» ، وهى ضيعة اشتراها له الصاحب شهاب الدين الحنفىّ فتوجّه إليها، ثم سافر منها فى تاسع عشر ذى الحجّة إلى حمص ونزل عند البحرة بالمرج «5» بعد ما أقام فى البريّة أيّاما لأجل الصيد، وحضر
إليه نوّاب البلاد الحلبيّة جميعها؛ ثم عاد إلى دمشق ودخلها بمن معه من العساكر ضحا نهار الأربعاء ثانى المحرّم من سنة ست وتسعين وستمائة. وأقام بدمشق إلى يوم الجمعة رابع المحرّم ركب السلطان الملك العادل المذكور بخواصّه وأمرائه إلى الجامع لصلاة الجمعة فحضر وصلّى بالمقصورة؛ وأخذ من الناس قصصهم حتى إنّه رأى شخصا بيده قصّة فتقدّم إليه بنفسه خطوات وأخذها منه؛ ولمّا جلس الملك العادل للصلاة بالمقصورة جلس عن يمينه الملك المظفّر تقىّ الدين محمود صاحب حماة، وتحته بدر الدّين «1» أمير سلاح، ثم من تحته نائب دمشق أغزلو العادلىّ؛ وعن يسار السلطان الشيخ حسن «2» بن الحريرى وأخواه، ثم نائب السلطنة لاچين المنصورىّ، ثم تحته نائب دمشق الأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ (أعنى الذي عزل عن نيابة دمشق) ، ثم من تحته الأمير بدر الدين بيسرى، ثم قرا سنقر المنصورى، ثم الحاج بهادر «3» حاجب الحجّاب؛ ثم الأمراء على مراتبهم ميمنة وميسرة.
فلمّا انقضت الصلاة خرج من الجامع والأمراء بين يديه والناس يبتهلون بالدعاء له، وأحبّه أهل دمشق وشكرت سيرته، وحمدت طريقته. ثم فى يوم الخميس سابع عشر المحرّم أمسك السلطان الأمير أسندمر «4» وقيّده وحبسه بالقلعة. وفى يوم الاثنين حادى عشرين المحرّم عزل السلطان الأمير شمس الدين سنقر الأعسر عن شدّ دواوين دمشق ورسم له بالسفر صحبة السلطان إلى مصر، وولّى عوضه فتح الدين «5» ابن صبرة.
ولمّا كان بكرة يوم الاثنين المذكور خرج السلطان الملك العادل من دمشق بعساكره وجيوشه نحو الديار المصريّة، وسار حتى نزل باللّجّون «1» بالقرب من وادى فحمة «2» فى بكرة يوم الاثنين ثامن عشرين المحرّم من سنة ست وتسعين، وكان الأمير حسام الدين لاچين المنصورىّ نائب السلطنة قد اتّفق مع الأمراء على الوثوب على السلطان الملك العادل كتبغا هذا والفتك به، فلم يقدر عليه لعظم شوكته؛ فدبّر أمرا آخر وهو أنّه ابتدأ أوّلا بالقبض على الأميرين: بتخاص وبكتوت الأزرق العادليين، وكانا شهمين شجاعين عزيزين عند أستاذهما الملك العادل المذكور، فركب لاچين بمن وافقه من الأمراء على حين غفلة وقبض على الأميرين المذكورين وقتلهما فى الحال، وقصد مخيّم السلطان فمنعه بعض مماليك السلطان قليلا وعوّقوه عن الوصول إلى الملك العادل. وكان العادل لمّا بلغه هذا الأمر علم أنّه لا قبل «3» له على قتال لاچين لعلمه بمن وافقه من الأمراء وغيرهم وخاف على نفسه، وركب من خيل النّوبة فرسا تسمّى حمامة وساق لقلّة سعده ولزوال ملكه راجعا إلى الشام، ولو أقام بمخيّمه لم يقدر لاچين على قتاله وأخذه، فما شاء الله كان! وساق حتى وصل إلى دمشق يوم الأربعاء آخر المحرّم قرب العصر، ومعه أربعة أو خمسة من
خواصّه. وكان وصل إلى دمشق يوم الأربعاء آخر المحرّم أوّل النهار أمير شكار السلطان، وأخبر نائب الشام بصورة الحال وهو مجروح، فتهيأ نائب الشام الأمير أغزلو العادلىّ واستعدّ وأحضر أمراء الشام عند السلطان ورسم بالاحتياط على نوّاب الأمير حسام الدين لاچين وعلى حواصله بدمشق، وندم الملك العادل على ما فعله مع لاچين هذا من الخير والمدافعة عنه، من كونه كان أحد من أعانه على قتل الأشرف، وعلى أنّه ولّاه نيابة السلطنة، وفى الجملة أنّه ندم حيث لا ينفعه الندم! وعلى رأى من قال:" أشبعتهم سبّا وفازوا بالإبل" ومثله أيضا قول القائل:
من راقب الناس مات غمّا
…
وفاز باللّذة الجسور
ثم إنّ الملك العادل طلب قاضى قضاة دمشق بدر الدين «1» بن جماعة فحضر بين يدى السلطان هو وقاضى القضاة حسام «2» الدين الحنفىّ، وحضرا عند الملك العادل تجليف الأمراء والمقدّمين وتجديد المواثيق منهم، ووعدهم وطيّب قلوبهم.
وأمّا الأمير حسام الدين لاچين فإنّه استولى على دهليز السلطان والخزائن والحرّاس والعساكر من غير ممانع، وتسلطن فى الطريق ولقّب بالملك المنصور حسام الدين لاچين، وتوجّه إلى نحو الديار المصريّة وملكها وتمّ أمره، وخطب له بمصر وأعمالها والقدس والساحل جميعه.
وأمّا الملك العادل فإنّه أقام بقلعة دمشق هذه الأيّام كلّها لا يخرج منها، وأمّر جماعة بدمشق، وأطلق بعض المكوس بها، وقرئ بذلك توقيع يوم الجمعة سادس عشر صفر بعد صلاة الجمعة بالجامع. وبينما هو فى ذلك ورد الخبر على أهل دمشق بأنّ
مدينة صفد زيّنت لسلطنة لاچين ودقّ بها البشائر، وكذلك نابلس والكرك.
فلمّا بلغ الملك العادل ذلك جهّز جماعة من عسكر دمشق مقدّمهم الأمير طقصبا الناصرىّ بكشف هذا الأمر وتحقيق الخبر، فتوجّهوا يوم الخميس ثانى عشرين صفر فعلموا بعد خروجهم فى النهار المذكور بدخول الملك المنصور لاچين إلى مصر وسلطنته، فرجعوا وعلموا عدم الفائدة فى توجّههم. ثم فى الغد من يوم الجمعة ثالث عشرين صفر ظهر الأمر بدمشق وانكشف الحال وجوهر الملك العادل كتبغا بذلك، وبلغه أنّه لمّا وصل العسكر إلى غزّة ركب الأمير حسام الدين لاچين فى دست السلطنة، وحمل البيسرى على رأسه الجتر وحلفوا له، ونعت بالملك المنصور.
ثم فى يوم السبت رابع عشرين صفر وصل إلى دمشق الأمير كجكن «1» ومعه جماعة من الأمراء كانوا مجرّدين إلى الرّحبة، فلم يدخلوا دمشق بل توجّهوا إلى جهة ميدان الحصا، وأعلن الأمير كجكن أمر الملك المنصور لاچين، وعلم جيش دمشق بذلك، فخرج إليه طائفة بعد طائفة، وكان قبل ذلك قد توجّه أميران من أكابر أمراء دمشق إلى جهة الديار المصريّة. فلمّا تحقّق الملك العادل كتبغا بذلك وعلم انحلال أمره وزوال دولته بالكليّة أذعن بالطاعة لأمراء دمشق، وقال لهم: الملك المنصور لاچين خشداشى وأنا فى خدمته وطاعته، وحضر الأمير سيف الدين جاغان الحسامىّ إلى قلعة دمشق إلى عند الملك العادل كتبغا، فقال له كتبغا: أنا أجلس فى مكان بالقلعة حتّى نكاتب السلطان ونعتمد على ما يرسم به. فلمّا رأى الأمراء منه ذلك تفرّقوا وتوجّهوا إلى باب الميدان وحلفوا للملك المنصور لاچين وأرسلوا البريد إلى القاهرة بذلك، ثم احتفظوا بالقلعة وبالملك العادل كتبغا، ولبس عسكر دمشق آلة الحرب وسيّروا عامّة نهار السبت بظاهر دمشق وحول القلعة؛ والناس فى هرج
واختباط وأقوال مختلفة، وأبواب دمشق مغلّقة سوى باب النصر «1» ، وباب القلعة مغلّق فتح منه خوخته، واجتمع العامّة والناس من باب القلعة إلى باب النصر وظاهر البلد حتّى سقط منهم جماعة كثيرة فى الخندق فسلم جماعة وهلك دون العشرة، وأمسى الناس يوم السبت وقد أعلن باسم الملك المنصور لاچين لا يخفى أحد ذلك، وشرع [وقت «2» العصر فى] دقّ البشائر بالقلعة. ثم فى سحر يوم الأحد ذكره المؤذّنون بجامع دمشق، وتلوا قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ
…
إلى آخرها.
وأظهروا اسم المنصور والدعاء له، ثم ذكره قارئ المصحف بعد صلاة الصبح بمقصورة جامع دمشق، ودقّت البشائر على أبواب جميع أمراء دمشق دقّا مزعجا، وأظهروا الفرح والسرور وأمر بتزين أسواق البلد جميعها فزيّنت مدينة دمشق، وفتحت دكاكين دمشق وأسواقها واشتغلوا بمعايشهم، وتعجّب الناس من تسليم الملك العادل كتبغا الأمر إلى الملك المنصور لاچين على هذا الوجه الهيّن من غير قتال ولا حرب مع ما كان معه من الأمراء والجند، ولو لم يكن معه إلّا مملوكه الأمير أغزلو العادلىّ نائب الشام لكفاه ذلك. على أنّ الملك المنصور لاچين كان أرسل فى الباطن عدّة مطالعات لأمراء دمشق وأهلها واستمال غالب أهل دمشق، فما أحوجه الملك العادل كتبغا لشىء من ذلك بل سلّم له الأمر على هذا الوجه الذي ذكرناه. خذلان من الله تعالى.
وأمّا الأمير سيف الدين أغزلو العادلىّ مملوك الملك العادل كتبغا نائب الشام لمّا رأى ما وقع من أستاذه لم يسعه إلا الإذعان للملك المنصور وأظهر الفرح به
وخلف له. وقال: الملك المنصور لاچين- نصره الله- هو الذي كان عيّننى لنيابة دمشق، وأستاذى الملك العادل كتبغا استصغرنى فأنا نائيه. ثم سافر هو والأمير جاغان الحسامى إلى نحو الديار المصريّة.
وأمّا لاچين فإنّه تسلطن يوم الجمعة عاشر صفر وركب يوم الخميس سادس عشر صفر وشقّ القاهرة وتمّ أمره. وأمّا الملك العادل كتبغا هذا فإنّه استمرّ بقلعة دمشق إلى أن عاد الأمير جاغان المنصورىّ الحسامىّ إلى دمشق فى يوم الاثنين حادى عشر شهر ربيع الأوّل، وطلع من الغد إلى قلعة دمشق ومعه الأمير الكبير حسام الدين الظاهرىّ أستاذ الدار فى الدولة المنصوريّة والأشرفيّة، والأمير سيف الدين كحكن، وحضر قاضى القضاة بدر الدين بن جماعة قاضى دمشق ودخلوا الجميع إلى الملك العادل كتبغا، فتكلّم معهم كلاما كثيرا بحيث إنّه طال المجلس كالعاتب عليهم، ثم إنّه حلف يمينا طويلة يقول فى أوّلها: أقول وأنا كتبغا المنصورىّ، ويكرّر اسم الله تعالى فى الحلف مرّة بعد مرّة، أنّه يرضى بالمكان الذي عيّنه له السلطان الملك المنصور حسام الدين لاچين ولا يكاتب ولا يسارر، وأنّه تحت الطاعة، وأنه خلع نفسه من الملك وأشياء كثيرة من هذا النّموذج، ثم خرجوا من عنده. وكان المكان الذي عيّنه له الملك المنصور لاچين قلعة صرخد، ولم يعيّن المكان المذكور فى اليمين. ثم ولّى الملك المنصور نيابة الشام للأمير قبجق المنصورىّ وعزل أغزلوا العادلىّ، فدخل قبجق إلى دمشق فى يوم السبت «1» سادس عشر شهر ربيع الأوّل، وتجهّز الملك العادل كتبغا وخرج من قلعة دمشق بأولاده وعياله ومماليكه
وتوجّه إلى صرخد فى ليلة الثلاثاء تاسع «1» عشر شهر ربيع الأوّل المذكور، وجرّدوا معه جماعة من الجيش نحو مائتى فارس إلى أن أوصلوه إلى صرخد. فكانت مدّة سلطنة الملك العادل كتبغا هذا على مصر سنتين وثمانية وعشرين يوما، وقيل سبعة عشر يوما، وتسلطن من بعده الملك المنصور حسام الدين لاچين حسب ما تقدّم ذكره.
ثم كتب له الملك المنصور حسام الدين لاچين تقليدا بنيابة صرخد، فقبل الملك العادل ذلك وباشر نيابة صرخد سنين إلى أن نقله السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون فى سلطنته الثانية من نيابة صرخد إلى نيابة حماة. وصار من جملة نوّاب السلطنة، وكتب له عن السلطان كما يكتب لأمثاله من النوّاب، وسافر فى التجاريد فى خدمة نوّاب دمشق وحضر الجهاد؛ ولم يزل على نيابة حماة حتى مات بها فى ليلة الجمعة «2» يوم عيد الأضحى وهو فى سنّ الكهوليّة. ودفن بحماة، ثم نقل منها ودفن بتربته التى أنشأها بسفح جبل قاسيون دمشق غربىّ الرّباط الناصرى، وله عليها أوقاف. وكان ملكا خيّرا ديّنا عاقلا عادلا سليم الباطن شجاعا متواضعا، وكان يحبّ الفقهاء والعلماء والصلحاء ويكرمهم إكراما زائدا، وكان أسمر اللون قصيرا دقيق الصّدر قصير العنق، وكان له لحية صغيرة فى حنكه، أسر صغيرا من عسكر هولاكو. وكان لمّا ولى سلطنة مصر والشام تشاءم الناس به، وهو أنّ النيل قد بلغ فى تلك السنة ست عشرة ذراعا ثم هبط من ليلته فشرقت البلاد وأعقبه غلاء عظيم حتى أكل الناس الميتة. وقد تقدّم ذكر ذلك فى أوّل ترجمته. ومات الملك العادل
كتبغا المذكور بعد أن طال مرضه واسترخى حتى لم يبق له حركة. وترك عدّة أولاد.
وتولّى نيابة حماة بعده الأمير بتخاص المنصورىّ نقل إليها من نيابة الشّوبك. وقد تقدّم التعريف بأحوال كتبغا هذا فى أوائل ترجمته وفى غيرها فيما مرّ ذكره. وأمر كتبغا هذا هو خرق العادة من كونه كان ولى سلطنة مصر أكثر من سنتين وصار له شوكة ومماليك وحاشية، ثم يخلع ويصير من جملة نوّاب السلطان بالبلاد الشاميّة؛ فهذا شىء لم يقع لغيره من الملوك. وأعجب من هذا أنّه لما قتل الملك المنصور لاچين وتحيّر أمراء مصر فيمن يولّونه السلطنة من بعده لم يتعرّض أحد لذكره ولا رشّح للعود البتّة حتى احتاجوا الأمراء وبعثوا خلف الملك الناصر محمد بن قلاوون من الكرك، وأتوا به وسلطنوه.
قلت: وما أظنّ أنّ القلوب نفرت منه إلا لما رأوه من دنىء همّته عند ما خلع من السلطنة وتسليمه للامر من غير قتال ولا ممانعة، وكان يمكنه أن يدافع بكلّ ما تصل القدرة إليه ولو ذهبت روحه عزيزة غير ذليلة، وما أحسن قول عبد المطّلب جدّ نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم واسمه شيبة الحمد:
لنا نفوس لنيل المجد عاشقة
…
وإن تسلّت أسلناها على الأسل
لا ينزل المجد إلّا فى منازلنا
…
كالنّوم ليس له مأوى سوى المقل
وقول عنترة أيضا:
أروم من المعالى منتهاها
…
ولا أرضى بمنزلة دنيّه
فإمّا أن أشال على العوالى
…
وإمّا أن توسّدنى المنيّه
ويعجبنى المقالة الثامنة من تأليف العلّامة شرف الدين عبد المؤمن بن هبة الله الأصفهانى المعروف بشوروة فإنّ أوائلها تقارب ما نحن فيه، وهى:
رتبة الشرف، لا تنال بالتّرف «1» ؛ والسعادة أمر لا يدرك، إلا بعيش يفرك «2» ، وطيب يترك؛ ونوم يطرد، وصوم يسرد «3» ؛ وسرور عازب «4» ، وهمّ لازب «5» ؛ ومن عشق المعالى ألف الغمّ، ومن طلب اللآلئ ركب اليمّ؛ ومن قنص الحيتان «6» ورد النهر، ومن خطب الحصان «7» نقد المهر؛ كلّا أين أنت من المعالى! إنّ السّحوق «8» جبّار وأنت قاعد، والفيلق جرّار «9» وأنت واحد؛ العقل يناديك وأنت أصلخ «10» ، ويدنيك ويحول بينكما البرزخ؛ لقد أزف الرحيل فاستنفد جهدك، وأكثب «11» الصيد فضمّر فهدك؛ فالحذر يترصّد الانتهاز، والحازم يهيّئ أسباب الجهاز؛ تجرّع مرارة النوائب فى أيّام معدوده، لحلاوة معهودة غير محدوده؛ وإنما هى محنة بائده، تتلوها فائده؛ وكربة نافده، بعدها نعمة خالده، [وغنيمة «12» بارده] ؛ فلا تكرهنّ صبرا أو صابا «13» ، يغسل عنك أو صابا «14» ؛ ولا تشربنّ وردا يعقبك سقاما، ولا تشمّن وردا يورثك زكاما؛ [ما ألين «15» الرّيحان لولا وخز البهمى «16» ، وما أطيب الماذىّ لولا حمة «17» الحمى] ! فلا تهولنّك مرارات ذاقها عصبه، إنما يريد الله ليهديهم بها؛ ولا تروقنّك حلاوات نالها فرقه، إنما يريد الله ليعذّبهم بها. انتهى.
السنة الأولى من سلطنة الملك العادل كتبغا المنصورىّ على مصر، وهى سنة أربع وتسعين وستمائة.
كان فيها الغلاء العظيم بسائر البلاد ولا سيّما مصر والشام، وكان بمصر مع الغلاء وباء عظيم أيضا وقاسى الناس شدائد فى هذه السنة واستسقى الناس بمصر من عظم الغلاء والفناء.
وفيها أسلم ملك التّتار غازان وأسلم غالب جنده وعساكره، على ما حكى الشيخ علم الدين «1» البرزالىّ.
وفيها توفّى السلطان الملك المظفّر شمس الدين أبو المحاسن يوسف ابن السلطان الملك المنصور نور الدين عمر بن علىّ بن رسول التّركمانىّ الأصل الغسّانىّ صاحب بلاد اليمن، مات فى شهر رجب بقلعة تعزّ «2» من بلاد اليمن، وقيل: اسم رسول محمد ابن هارون بن أبى الفتح بن نوحى بن رستم من ذرّيّة جبلة بن الأيهم، قيل: إنّ رسولا جدّ هؤلاء ملوك اليمن كان انضم لبعض الخلفاء العباسيّة، فاختصه بالرسالة إلى الشام وغيرها فعرف برسول، وغلب عليه ذلك. ثم انتقل من العراق إلى الشام ثم إلى مصر، وخدم هو وأولاده بعض بنى أيّوب، وهو مع ذلك له حاشية وخدم.
ولمّا أرسل السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أخاه الملك المعظّم توران شاه
إلى اليمن أرسل الملك المنصور عمر «1» والد صاحب الترجمة معه كالوزير له واستحلفه على المناصحة، فسار معه إلى اليمن. فلمّا ملك الملك المسعود أقسيس ابن الملك الكامل محمد بن أبى بكر بن أيّوب اليمن بعد توران شاه قرّب عمر المذكور وزاد فى تعظيمه وولّاه الحصون، ثمّ ولّاه مكة المشرفة ورتّب معه ثلثمائة فارس، وحصل بينه وبين صاحب مكة حسن بن قتادة وقعة انكسر فيها حسن ودخل المنصور مكة واستولى عليها، وعمّر بها المسجد «2» الذي اعتمرت منه عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها فى سنة تسع عشرة وستمائة، ثم عمّر فى ولايته لمكة أيضا دار «3» أبى بكر الصدّيق، رضى الله عنه فى زقاق «4» الحجر فى سنة ثلاث وعشرين وستمائة، ثم استنابه الملك المسعود على اليمن لمّا توجّه إلى الديار المصرية، واستناب على صنعاء «5» أخاه بدر الدين حسن بن علىّ
ابن رسول. ولمّا عاد الملك المسعود إلى اليمن قبض على نور الدين هذا وعلى أخيه بدر الدين حسن المذكور وعلى أخيه فخر الدين وعلى شرف الدين موسى تخوّفا منهم لما ظهر من نجابتهم فى غيبته، وأرسلهم إلى الديار المصريّة محتفظا بهم خلا نور الدين عمر (أعنى الملك المنصور) فإنّه أطلقه من يومه لأنه كان يأنس إليه، ثم استحلفه وجعله أتابك عسكره؛ ثم استنابه الملك المسعود ثانيا لمّا توجّه إلى مصر، وقال له:
إن متّ فأنت أولى بالملك من إخوتى لخدمتك لى، وإن عشت فأنت على حالك، وإياك أن تترك أحدا من أهلى يدخل اليمن، ولو جاءك الملك الكامل. ثم سار الملك المسعود إلى مكة فمات بها. فلما بلغ الملك المنصور ذلك استولى على ممالك اليمن بعد أمور وخطوب، واستوسق له الأمر، فكانت مدّة مملكته باليمن نيّفا على عشرين سنة. ومات بها فى ليلة السبت تاسع ذى القعدة سنة «1» سبع وأربعين وستمائة، وملك بعده ابنه الملك المظفّر يوسف هذا، وهو ثانى سلطان من بنى رسول باليمن؛ وأقام الملك المظفّر هذا فى الملك نحوا من ستّ وأربعين سنة. وكان ملكا عادلا عفيفا عن أموال الرعيّة، حسن السّيرة كثير العدل، وملك بعده ولده الأكبر الملك الأشرف ممهّد «2» الدّين عمر فلم يمكث الأشرف بعد أبيه إلا سنة «3» ومات، وملك أخوه الملك المؤيّد هزبر الدّين داود «4» . ومات الملك المظفّر هذا مسموما سمّته بعض جواريه. ومات وقد جاوز الثمانين. وخلّف من الأولاد الملك الأشرف الذي ولى بعده، والمؤيّد داود والواثق [إبراهيم «5» ] والمسعود [تاج الدين حسن «6» ] والمنصور [أيوب «7» ] . انتهى.
وفيها توفّى العلّامة جمال الدين أبو غانم محمد ابن الصاحب كمال الدين أبى القاسم عمر بن أحمد بن هبة الله بن أحمد بن أبى جرادة الحلبىّ الحنفىّ المعروف بابن العديم.
مات بمدينة حماة، وكان إماما فاضلا بارعا من بيت غلم ورياسة.
وفيها قتل الأمير عساف «1» ابن الأمير أحمد بن حجّىّ أمير العرب من آل مرى، وكان أبوه أكبر عربان آل برمك، وكان يدّعى أنه من نسل البرامكة من العبّاسة أخت هارون الرشيد. وقد ذكرنا ذلك فى وفاة أبيه الأمير شهاب الدين أحمد.
وفيها توفّى الأمير بدر الدين بكتوت بن عبد الله الفارسىّ الأتابكىّ، كان من خيار الأمراء وأكابرهم وأحسنهم سيرة.
وفيها توفّى شيخ الحجاز وعالمه الشيخ محبّ الدين أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبى بكر بن محمد بن إبراهيم الطّبرىّ المكىّ الشافعىّ فقيه الحرم بمكة- شرفها الله تعالى- ومفتيه، ومولده فى سنة أربع عشرة وستّمائة بمكّة. وكانت وفاته فى ذى القعدة «2» . وقال البرزالىّ «3» : ولد بمكّة فى يوم الخميس السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة.
قلت: ونشأ بمكّة وطلب العلم وسمع الكثير ورحل البلاد.
وقال جمال الدين الإسنائىّ «4» : إنّه تفقّه بقوص «5» على الشيخ مجد الدين «6» القشيرىّ. انتهى.
وذكر نحو ذلك القطب «1» الحلبىّ فى تاريخ مصر، وحدّث وخرّج لنفسه أحاديث عوالى.
قال أبو حيّان «2» : إنّه وقع له وهم فاحش فى القسم الأول وهو التّساعىّ، وهو إسقاط رجل من الإسناد حتى صار له الحديث تساعيّا فى ظنّه. انتهى.
قلت: وقد استوعبنا سماعاته ومصنّفاته ومشايخه فى ترجمته من تاريخنا المنهل الصافى، والمستوفى بعد الوافى مستوفاة فى الكتاب المذكور. وكان له يد فى النظم، فمن ذلك قصيدته الحائيّة:
ما لطرفى عن الجمال براح
…
ولقلبى به غذا ورواح
كلّ معنى يلوح فى كلّ حسن
…
لى إليه تقلّب وارتياح
ومنها:
فيهم يعشق الجمال ويهوى
…
ويشوق الحمى وتهوى الملاح
وبهم يعذّب الغرام ويحلو
…
ويطيب الثناء والامتداح
لا تلم يا خلىّ قلبى فيهم
…
ما على من هوى الملاح جناح
ويح قلبى وويح طرفى إلى كم
…
يكتم الحبّ والهوى فضّاح
صاح عرّج على العقيق وبلّغ
…
وقباب فيها الوجوه الصباح
والقصيدة طويلة كلّها على هذا المنوال.
وفيها توفّى سلطان إفريقيّة وابن سلطانها وأخو سلطانها عمر بن أبى زكريّا يحيى ابن عبد الواحد بن عمر الهنتاتىّ «3» الملقّب بالمستنصر بالله والمؤيّد به، وولى سلطنة
تونس «1» بعد وفاة أخيه إبراهيم فيما أظنّ، وقتل الدعىّ «2» الذي كان غلب عليها، وملك البلاد ودام فى الملك إلى أن مات فى ذى الحجّة. وكان عهد لولده عبد الله بالملك، فلمّا احتضر أشار عليه الشيخ أبو محمد المرجانى «3» بأن يخلعه لصغر سنّه فخلعه، وولّى ولد الواثق محمد بن يحيى بن محمد الملقّب بأبى عصيدة الآتى ذكر وفاته فى سنة تسع وسبعمائة. وكان المستنصر هذا ملكا عادلا حسن السيرة وفيه خبرة ونهضة وكفاية ودين وشجاعة وإقدام. رحمه الله تعالى.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الزاهد القدوة أبو الرجال بن مرى بمنين «4» فى المحرّم. وعزّ الدين أبو بكر محفوظ بن معتوق التاجر ابن البزورىّ «5» فى صفر. والإمام عزّ الدين أحمد بن إبراهيم بن الفاروثىّ «6» فى ذى الحجة.
وصاحب اليمن الملك المظفّر يوسف بن عمر فى رجب؛ وكانت دولته بضعا وأربعين سنة. وشيخ الحجاز محبّ الدين الطّبرىّ. وأبو الفهم «1» أحمد بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الحسينىّ النقيب فى المحرّم. والعلّامة تاج «2» الدين أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن المطهّر «3» بن أبى عصرون التميمى مدرّس الشاميّة «4» الصغرى فى ربيع الأوّل. ومحيى الدين عبد الرحيم بن عبد المنعم [بن خلف «5» بن عبد المنعم] بن الدّميرى فى المحرّم، وله تسعون سنة. والزاهد القدوة شرف الدين محمد بن عبد الملك «6» اليونينىّ المعروف بالأرزونى»
. والزاهد المقرئ شرف الدين محمود بن محمد التّادفىّ «8» بقاسيون فى رجب. والعلّامة زين الدين [أبو البركات «9» ] المنجّا بن عثمان بن أسعد