الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ما وقع من الحوادث سنة 693]
ذكر سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون الأولى على مصر
هو السلطان الملك الناصر أبو الفتوح ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحىّ النّجمىّ الألفىّ سلطان الديار المصريّة وابن سلطانها، مولده بالقاهرة فى سنة أربع وثمانين وستمائة بقلعة «1» الجبل، ووالده الملك المنصور قلاوون يحاصر حصن المرقب «2» ، وجلس على تخت الملك بعد قتل أخيه الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاوون فى يوم الاثنين رابع عشر المحرّم، وقيل يوم الثلاثاء خامس عشر المحرّم، من سنة ثلاث وتسعين وستمائة، لأنّ الملك الأشرف قتل بتروجة «3» فى يوم السبت ثانى عشر المحرّم وقتل قاتله الأمير بدر الدين بيدرا فى يوم الأحد ثالث عشر المحرّم، ثم اتّفقوا على سلطنة الملك الناصر محمد هذا عوضا عن أخيه، فتمّ له ذلك.
فتكون سلطنته فى أحد اليومين المذكورين تخمينا لما وقع فى ذلك من الاختلاف بين المؤرّخين. انتهى.
والملك الناصر هذا هو السلطان التاسع من ملوك التّرك بالديار المصريّة، ولما استقر فى السلطنة رتّبوا الأمير زين الدين كتبغا المنصورىّ نائب السلطنة بالديار المصريّة عوضا عن بيدرا، والأمير علم الدين سنجر الشجاعى وزيرا ومدبّرا للمملكه وأتابك العساكر؛ ثم قبضوا على جماعة من قتلة الملك الأشرف خليل حسب ما تقدّم ذكره، وتمّ ذلك ودام إلى العشرين من صفر. فبلغ الأمير زين الدين كتبغا أنّ الأمير علم الدين
سنجر الشجاعىّ يريد الوثوب عليه وقبضه وقتله. وكان الذي أخبره بذلك سيف الدين قنقغ «1» التّتارى، وأعلمه بما فى باطن الشجاعىّ؛ والسبب فى «2» اطّلاعه على ما فى باطن الشجاعىّ أنّ هذا قنقغ هاجر من بلاد التّتار فى زمن الملك الظاهر بيبرس، وأقام بمصر وأقطع فى الحلقة فرزقه الله تعالى اثنى عشر ولدا كلّهم ذكور، منهم: ستة أولاد فى خدمة الملك الأشرف، وخمسة فى خدمة الشجاعىّ، وواحد منهم صغير؛ وجميع أولاده شباب ملاح من أجمل الناس صورة. وكان لقنقغ هذا منزلة عظيمة عند الشجاعىّ وكلمته مسموعة، وشفاعته مقبولة؛ وله اطّلاع على أمور الدولة بسبب أولاده، فعلم بما دبّره الشجاعىّ، فحملته الجنسيّة حتّى أعلم الأمير كتبغا على ما فى باطن الشجاعىّ؛ فاحترز كتبغا على نفسه وأعلم الأمراء بالخبر، وكان الأمراء كارهين الشجاعىّ. فلمّا كان يوم الخميس ثانى عشرين صفر ركب الأمير كتبغا إلى سوق «3» الخيل فنزل إليه من القلعة أمير يقال له البندقدارىّ «4» وقال له من قبل الشجاعىّ:
أين حسام الدين لاچين المنصورى؟ أحضره الساعة؛ فقال له كتبغا: ما هو عندى، وكان لاچين من يوم قتل الأشرف قد اختفى، والمماليك الأشرفيّة قد أعياهم أمره
من كثرة التفتيش عليه، فقال له البندقدارىّ: بلى، لاچين عندك، ثم مدّ يده إلى سيفه ليضربه به، فجدب سيف الدين بلبان الأزرق مملوك كتبغا سيفه وعلا «1» به البندقدارىّ من ورائه وضربه ضربة حلّ بها كتفه ويده، ثم إنّهم تكاثروا عليه وأنزلوه عن فرسه وذبحوه، وهمّ مماليك كتبغا. وذلك فى وسط سوق الخيل، ومال غالب العسكر من الأمراء والمقدّمين وأجناد الحلقة والتتار والأكراد إلى كتبغا وانضمّوا عليه، ومالت البرجيّة «2» وبعض الخاصّكيّة إلى سنجر الشجاعىّ، لأنّ الشجاعىّ كان أنفق فيهم فى الباطن فى يوم واحد ثمانين ألف دينار، واتّفق معهم أيضا أنّ كلّ من جاء برأس أمير كان له إقطاعه؛ وكان الاتّفاق معهم أنّه فى يوم الخميس وقت الموكب لمّا يطلع الأمير كتبغا إلى القلعة ويمدّوا السّماط يمسك هو
ومن اتّفق معه من الأمراء يقبضون عليهم. فاستعجل البندقدارىّ ونزل إلى سوق الخيل وفعل ما ذكرناه.
ولمّا وقع ذلك تحقّق الأمراء صحّة ما نقل إليهم الأمير زين الدين كتبغا عن الشجاعىّ، فاجتمع فى الحال الأمراء عند كتبغا بسوق الخيل وركبت التّتار جميعهم وجماعة من الشّهرزوريّة والأكراد وجماعة من الحلقة كراهية منهم فى الشجاعىّ، وخرج الشجاعىّ بمن معه إلى باب القلعة، فإنّ إقامته كانت بالقلعة وأمر بضرب الكوسات «1» فضربت، وبقى يطلب أن يطلع إليه أحد من الأمراء والمقدّمين فلم يجبه أحد؛ وكان قد أخرج صحبته الذهب فى الصّرر وبقى كلّ من جاء إليه يعطيه صرّة؛ فلم يجئ إليه إلّا أناس قليلون ما لهم مرتبة. وشرع كتبغا ومن معه فى حصار القلعة وقطعوا عنها الماء وبقوا ذلك اليوم محاصرين. فلمّا كان ثانى يوم نزلت البرجيّة من القلعة على حميّة وتلاقوا مع كتبغا وعساكره وصدموه صدمة كسروه فيها كسرة شنيعة وهزموه إلى بئر «2» البيضاء، وتوجّه كتبغا إلى جهة بلبيس «3» ؛ فلمّا سمعوا باقى الأمراء بذلك
ركب الأمير بدر الدين بيسرىّ المنصورىّ والأمير بدر الدين بكتاش الفخرىّ أمير سلاح وبقيّة العساكر المصريّة، وتوجهت الجميع إلى نصرة الأمير كتبغا وأصحابه، وقاتلوا المماليك البرجية حتّى كسروهم وردّوهم إلى أن أدخلوهم إلى قلعة الجبل؛ ثم جدّوا فى حصار القلعة ومن فيها، وعاد الأمير كتبغا وقد قوى عضده بخشداشيته والأمراء؛ ودام الحصار على القلعة إلى أن طلعت الستّ خوند والدة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى أعلى السّور وكلّمتهم بأن قالت لهم: إيش هو غرضكم حتى إننا نفعله لكم؟ فقالوا: مالنا غرض إلّا مسك الشجاعىّ وإخماد الفتنة، ونحن لو بقيت بنت عمياء من بنات أستاذنا الملك المنصور قلاوون كنّا مماليكها لا سيما ولده الملك الناصر محمد حاضر وفيه كفاية. فلمّا علمت ذلك رجعت واتّفقت مع الأمير حسام الدين لاچين أستاذ الدار، وغلقوا باب القلّة «1» من القلعة وهى التى عليها المعتمد، وبقى الشجاعى بداره بالقلعة محصورا. فلمّا رآه أصحابه أنّه فى أنحس حال شرعوا فى النزول إلى عند الأمير كتبغا، فبقى جمع الشجاعىّ يقلّ وجمع كتبغا يكثر إلى يوم السبت رابع عشرين صفر ضجر الشجاعىّ وطلب الأمان فلم يوافقوه الأمراء؛ وطلع وقت صلاة الظهر «2» بعض الأمراء وجماعة من الخاصّكّية وفيهم آقوش «3» المنصورىّ إلى عند الشجاعى
يطلبونه إلى عند السلطان وإلى والدته [فى «1» ] صورة أنهم يريدون يستشيرونه فيما يعملون، فمشى معهم قليلا وتكاثروا عليه المماليك وجاء آقوش من ورائه وضربه بالسيف ضربة قطع بها يده، ثم بادره بضربة ثانية أبرى بها رأسه عن جسده، وأخذوا رأسه فى الحال ورفعوه على سور القلعة، ثم عادوا ونزلوا [به «2» ] إلى كتبغا ودقّوا البشائر وفتحوا باب القلّة، وأخذوا رأس الشجاعىّ وجعلوه على رمح وأعطوه للمشاعليّة فجبوا عليه مصر والقاهرة، فحصّل المشاعليّة مالا كثيرا لبغض الناس قاطبة فى الشجاعىّ؛ فقيل: إنهم كانوا يأخذون الرأس من المشاعليّة ويدخلونه بيتهم فتضربه النسوة بالمداسات لما فى نفوسهم منه. وسبب ذلك ما كان اشتمل عليه من الظلم ومصادراته للعالم وتنوّعه فى الظلم والعسف حسب ما يأتى ذكره فى الوفيات بأوسع من هذا. وأغلقت القاهرة خمسة أيام إلى أن طلع كتبغا إلى القلعة فى يوم الثلاثاء سابع عشرين صفر ودقّت البشائر وفتحت الأبواب وجدّدت الأيمان «3» والعهود للملك الناصر محمد بن قلاوون وأن يكون الأمير كتبغا نائب السلطنة.
ولمّا تمّ ذلك قبض كتبغا على جماعة من الخاصّكيّة والبرجيّة المتّفقين مع الشجاعىّ، ثم أفرج عن جماعة من الأمراء كان قبض عليهم فى المخيم، وهم: الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الذي تسلطن بعد ذلك على ما يأتى ذكره، والأمير سيف الدين برلغى، والأمير القمامىّ «4» وسيف الدين قبجق «5» المنصورىّ، والأمير بدر الدين
عبد الله، والأمير سيف الدين بورى «1» [السلاح دار] والأمير زين «2» الدين عمر، والأمير سيف الدين قرمشى «3» ، والأمير علاء الدين مغلطاى المسعودىّ وغيرهم. وأخذ الأمير زين الدين كتبغا وأعطى فى الملك وانفرد بتدبير الأمر ومشى مع الملك الناصر محمد مشى المملوك مع أستاذه.
ثمّ بعث بتقليد نائب الشام على عادته، وهو الأمير أيبك الحموىّ. ثم بعد ذلك نزل السلطان الملك الناصر محمد بن قلعة الجبل فى موكب هائل بأبّهة السلطنة، وتوجّه إلى ظاهر القاهرة ثمّ عاد وشقّ القاهرة، ودخل من باب «4» النصر وخرج من باب «5» زويلة عائدا إلى القلعة، والأمراء مشاة بين يديه حتّى الأمير كتبغا، وكان ذلك فى يوم الأحد رابع عشرين «6» شهر رجب. ولمّا كان سابع عشرين شهر رمضان ظهر الأمير حسام الدين لاچين المنصورىّ من اختفائه واجتمع بالأمير كتبغا خفية،
فتكلّم كتبغا فى أمره مع الأمراء، فاتّفقوا على إظهار أمره لما رأوا فى ذلك من إصلاح الحال، فطيّب كتبغا خاطر الأمير حسام الدين لاچين ووعده أن يتكلّم فى أمره مع السلطان والمماليك الأشرفيّة. ولا زال كتبغا بالسلطان والحاشية حتى رضّاهم عليه وطيّب قلوبهم إلى أن كان يوم عيد الفطر، ظهر حسام الدين لاچين من دار كتبغا، وحضر السّماط وقبّل الأرض بين يدى السلطان الملك الناصر محمد، فخلع عليه السلطان وطيب قلبه، ولم يعاتبه بما فعل مع أخيه الملك الأشرف خليل مراعاة لخاطر كتبغا. ثم خلع عليه الأمير كتبغا أيضا، وحملت إليه الهدايا والتّحف من الأمراء وغيرهم؛ كلّ ذلك لأجل خاطر كتبغا. واصطلحت أيضا معه المماليك الأشرفيّة على ما فى نفوسهم منه من قتل أستاذهم بأمر كتبغا لهم وإلحاحه عليهم فى ذلك حتى قبلوا كلامه. وكانت مكافأة لاچين لكتبغا بعد هذا الإحسان كله بأن دبّر عليه حتّى أخذ الملك منه وتسلطن عوضه على ما يأتى ذكره وبيانه إن شاء الله تعالى.
ثمّ خلع السلطان على الصاحب تاج «1» الدين محمد ابن الصاحب فخر «2» الدين محمد ابن الصاحب بهاء «3» الدين علىّ بن حنّا باستقراره فى الوزارة بالديار المصريّة.
ثمّ استهلت سنة أربع وتسعين وستمائة والخليفة الحاكم بأمر الله أبو العبّاس أحمد. وسلطان مصر والشام الملك الناصر محمد بن قلاوون، ومدبّر مملكته الأمير كتبغا المنصورىّ. ولمّا كان عاشر المحرّم ثار جماعة من المماليك الأشرفيّة خليل فى الليل بمصر والقاهرة وعملوا عملا قبيحا وفتحوا أسواق السلاح بالقاهرة بعد حريق باب «4» السعادة، وأخذوا خيل السلطان وخرقوا ناموس الملك، وذلك كلّه بسبب
ظهور الأمير حسام الدين لاچين وعدم قتله؛ فإنّه كان ممّن باشر قتل أستاذهم الملك الأشرف خليل، فحماه الأمير كتبغا ورعاه، وأيضا قد بلغهم خلع أخى أستاذهم الملك الناصر محمد بن قلاوون من السلطنة وسلطنة كتبغا فتزايدت وحشتهم وترادفت عليهم الأمور، فاتّفقوا ووثبوا فلم ينتج أمرهم. فلمّا أصبح الصباح قبض عليهم الأمير كتبغا وقطع أيدى بعضهم وأرجلهم وكحّل البعض وقطع ألسنة آخرين وصلب جماعة منهم على باب زويلة؛ ثم فرّق بقيّة المماليك على الأمراء والمقدّمين، وكانوا فوق الثلاثمائة نفر وهرب الباقون؛ فطلب الأمير زين الدين كتبغا الخليفة والقضاة والأمراء وتكلّم معهم فى عدم أهليّة الملك الناصر محمد للسلطنة لصغر سنّه، وأنّ الأمور لابدّ لها من رجل كامل تخافه الجند والرعيّة وتقف عند أوامره ونواهيه.
كلّ ذلك كان بتدبير لاچين فإنّه لمّا خرج من إخفائه علم أنّ المماليك الأشرفيّة لا بدّ لهم من أخذ ثار أستاذهم منه. وأيضا أنّه علم أنّ الملك الناصر محمد متى ترعرع وكبر لا يبقيه لكونه كان ممّن قتل أخاه الملك الأشرف خليلا، فلمّا تحقق ذلك أخذ يحسّن للأمير كتبغا السلطنة وخلع ابن استاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون وسلطنته، وكتبغا يمتنع من ذلك فلا زال به لاچين حتّى حذّره وأخافه عاقبة ذلك، وقال له:
متى كبر الملك الناصر لا يبقيك البتّة، ولا يبقى أحدا ممّن تعامل على قتل أخيه الملك الأشرف، وأنّ هؤلاء الأشرفيّة ما دام الملك الناصر محمد فى الملك شوكتهم قائمة، والمصلحة خلعه وسلطنتك. فمال كتبغا إلى كلامه، غير أنّه أهمل الأمر وأخذ فى تدبير ذلك على مهل. فلمّا وقع من الأشرفيّة ما وقع وثب وطلب الخليفة والقضاة حسب ما ذكرناه. ولمّا حضر الخليفة والقضاة واتّفق رأى الأمراء والجند على خلع السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون من الملك وسلطنة كتبغا هذا عوضه؛ فوقع ذلك وخلع الملك الناصر محمد من السلطنة وتسلطن كتبغا وجلس على تخت الملك
فى يوم خلع الملك الناصر، وهو يوم الخميس ثانى عشر المحرّم سنة أربع وتسعين وستمائة بعد واقعة المماليك الأشرفيّة بيومين، وأدخل الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى الدور بالقلعة، وأمره كتبغا بألّا يركب ولا يظهر. وكان عمره يوم خلع نحو العشر سنين.
وكانت مدّة سلطنته فى هذه المرّة الأولى سنة واحدة إلا ثلاثة أيام أو أقلّ. ويأتى بقية ترجمته فى سلطنته الثانية والثالثة إن شاء الله تعالى.
السنة «1» الأولى من سلطنة الملك الناصر محمد الأولى على مصر على أنّه لم يكن له من السلطنة فيها إلّا مجرّد الاسم فقط، وإنّما كان الأمر أوّلا للأمير علم الدين سنجر الشجاعى ثم للأمير كتبغا المنصورىّ، وهى سنة ثلاث وتسعين وستمائة، على أنّ الأشرف قتل فى أوائلها فى المحرّم حسب ما تقدّم ذكره.
فيها توفّى الصاحب فخر الدين أبو العبّاس إبراهيم بن لقمان بن أحمد بن محمد الشّيبانىّ الإسعردىّ ثم المصرىّ، رئيس الموقّعين بالديار المصريّة، ثم الوزير بها ولى الوزارة مرّتين، وكان مشكور السّيرة قليل الظّلم كثير العدل والإحسان للرعيّة.
وفى أيام وزارته سعى فى إبطال مظالم كثيرة، وكان يتولّى الوزارة بجامكيّة «2» الإنشاء، وعند ما يعزلونه من الوزارة يصبح يأخذ غلامه الحرمدان «3» خلفه، ويروح يقعد فى ديوان الإنشاء وكأنّه ما تغيّر عليه شىء، وكان أصله من العدن «4» من بلاد إسعرد وتدرّب فى الإنشاء بالصاحب بهاء الدين «5» زهير حتى برع فى الإنشاء وغيره.
قال الذهبىّ: رأيته شيخا بعمامة صغيرة وقد حدّث عن ابن رواح «1» وكتب عنه البرزالىّ «2» والطّلبة. انتهى. وكان ابن لقمان المذكور فاضلا ناظما ناثرا مترسّلا، ومات بالقاهرة فى جمادى الآخرة ودفن بالقرافة. ومن شعره:
كن كيف شئت فإنّنى بك مغرم
…
راض بما فعل الهوى المتحكّم
ولئن كتمت عن الوشاة صبابتى
…
بك فالجوانح بالهوى تتكلّم
أشتاق من أهوى وأعجب أنّنى
…
أشتاق من هو فى الفؤاد مخيّم
يا من يصدّ عن المحبّ تدلّلا
…
وإذا بكى وجدا غدا يتبسّم
أسكنتك القلب الذي أحرقته
…
فحذار من نار به تتضرّم
وفيها قتل الأمير علم الدين سنجر بن عبد الله الشّجاعىّ المنصورىّ، كان من مماليك الملك المنصور قلاوون، وترقّى حتّى ولى شدّ الدواوين، ثم الوزارة بالديار المصريّة فى أوائل دولة الناصر، وساءت سيرتة وكثر ظلمه، ثم ولى نيابة دمشق فتلطّف بأهلها وقلّ شرّه، ودام بها سنين إلى أن عزل بالأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ، وقدم إلى القاهرة. وكان موكبه يضاهى موكب السلطان من التجمّل، ومع ظلمه كان له ميل لأهل العلم وتعظيم الإسلام، وهو الذي كان مشدّ عمارة البيمارستان «3» المنصورىّ ببين القصرين «4» فتمّمه فى مدّة يسيرة، ونهض بهذا العمل العظيم وفرغ منه فى أيّام قليلة، وكان يستعمل فيه الصنّاع والفعول بالبندق حتّى لا يفوته من هو بعيد عنه فى أعلى سقالة كان. ويقال إنّه يوما وقع بعض الفعول من أعلى السقالة بجنبه فمات، فما اكترث سنجر هذا ولا تغيّر من مكانه وأمر بدفنه. ثم عمل الوزارة أيضا
فى أوائل دولة الناصر محمد بن قلاوون أكثر من شهر حسب ما تقدّم ذكره، وحدّثته نفسه بما فوق الوزارة، فكان فى ذلك حتفه وقتله حسب ما ذكرناه فى أوّل ترجمة الملك الناصر هذا، وفرح أهل مصر بقتله فرحا زائدا حتّى إنّه لمّا طافت المشاعليّة برأسه على بيوت الكتّاب القبط بلغت اللّطمة على وجهه بالمداس نصفا، والبولة عليه درهما، وحصّلوا المشاعليّة جملا من ذلك.
قلت: وهذا غلط فاحش من المشاعليّة، قاتلهم الله! لو كان من الظلم ما كان هو خير من الأقباط النصارى. ولمّا كان على نيابة دمشق وسّع ميدانها أيّام الملك الأشرف، فقال الأديب علاء الدين الوداعىّ «1» فى ذلك:
علم الأمير بأنّ سلطان الورى
…
يأتى دمشق ويطلق الأموالا
فلأجل ذا قد زاد فى ميدانها
…
لتكون أوسع للجواد مجالا
قال الصلاح الصّفدىّ: أخبرنى من لفظه شهاب الدين «2» بن فضل الله قال أخبرنى والدى عن قاضى القضاة نجم الدين ابن الشيخ شمس الدين شيخ الجبل قال: كنت ليلة نائما فاستيقظت وكأن من أنبهنى وأنا أحفظ كأنّما قد أنشدت ذلك:
عند الشجاعىّ أنواع منوّعة
…
من العذاب فلا ترحمه بالله
لم تغن عنه ذنوب قد تحمّلها
…
من العباد ولا مال ولا جاه
قال: ثم جاءنا الخبر بقتله بعد أيام قلائل فكانت قتلته فى تلك الليلة التى أنشدت فيها الشعر. انتهى.
قلت: وهذا من الغرائب. وقد ذكرنا من أحوال سنجر هذا فى تاريخنا المنهل الصافى نبذة كبيرة كونه كتاب تراجم وليس للإطناب لهؤلاء هنا محلّ. انتهى.
وفيها توفّى قتيلا الملك كيختو ملك التّتار قتله ابن أخيه بيدو «1» .
قلت: وهنا نكتة غريبة لم يفطن إليها أحد من مؤرّخى تلك الأيام، وهى أنّ سلطان الديار المصرية الملك الأشرف خليل بن قلاوون قتله نائبه الأمير بيدرا، وملك التتار كيختو هذا أيضا قتله ابن أخيه بيدرا «2» ، وكلاهما فى سنة واحدة، وذاك فى الشرق وهذا فى الغرب. انتهى.
وملك بعد كيختو بيدو المذكور الذي قتله.
قلت: وكذلك وقع للأشرف خليل؛ فإن بيدرا ملك بعده يوما واحدا وتلقّب بالملك الأوحد. وعلى كلّ حال فإنّهما تشابها أيضا. انتهى. وكان بيدو الذي ولى أمر التّتار يميل إلى دين النّصرانيّة، وقيل إنه تنصّر، لعنه الله، ووقع له مع الملك غازان أمور يطول شرحها.
وفيها قتل الوزير الصاحب شمس الدين محمد بن عثمان بن أبى الرجاء التّنوخىّ الدمشقىّ التاجر المعروف بابن السّلعوس. قال الشيخ صلاح الدين الصّفدى: كان فى شبيبته يسافر بالتجارة، وكان أشقر سمينا أبيض معتدل القامة فصيح العبارة حلو المنطق وافر الهيبة كامل الأدوات خليقا للوزارة تامّ الخبرة زائد الإعجاب عظيم التّيه، وكان جارا للصاحب تقىّ الدين البيّع «3» ، فصاحبه ورأى فيه الكفاءة فاخذ له حسبة دمشق، ثم توجّه إلى مصر وتوكّل للملك الأشرف خليل فى دولة أبيه، فجرى عليه نكبة من السلطان فشفع فيه مخدومه الأشرف خليل، وأطلقه من الاعتقال، وحج فتملّك الأشرف فى غيبته. وكان محبّا له فكتب إليه بين الأسطر: يا شقير، يا وجه الخير، قدّم السّير. فلمّا قدم وزره. وكان إذا ركب تمشى الأمراء الكبار فى خدمته. انتهى.
قلت: وكان فى أيام وزارته يقف الشجاعىّ المقدّم ذكره فى خدمته، فلمّا قتل مخدومه الملك الأشرف وهو بالإسكندريّة قدم القاهرة فطلب إلى القلعة فأنزله الشجاعىّ من القلعة ماشيا، ثم سلّمه من الغد إلى عدوّه الأمير بهاء الدين قراقوش [الظاهرىّ «1» ] مشدّ الصّحبة، قيل: إنّه ضربه ألفا ومائة مقرعة، ثم تداوله المسعودىّ «2» وغيره وأخذ منه أموالا كثيرة، ولا زال تحت العقوبة حتى مات فى صفر. ولما تولّى الوزارة كتب إليه بعض أحبّائه من الشام يحذّره من الشجاعىّ:
تنبّه يا وزير الأرض واعلم
…
بأنّك قد وطئت على الأفاعى
وكن بالله معتصما فإنّى
…
أخاف عليك من نهش الشجاعى
فبلغ الشجاعىّ، فلما جرى ما جرى طلب أقاربه وأصحابه وصادرهم، فقيل له:
عن الناظم، فقال: لا أوذيه فإنّه نصحه فىّ وما انتصح. وقد أوضحنا أمره فى المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى بأطول من هذا. انتهى.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى المقرئ شمس الدين محمد بن عبد العزيز الدّمياطىّ بدمشق فى صفر. وقاضى القضاة شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن خليل الخويّىّ «3» . والسلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن قلاوون، فتكوا به فى المحرّم. ونائبه بيدرا قتل من الغد. ووزيره الصاحب شمس الدين محمد بن عثمان بن السّلعوس هلك تحت العذاب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وسبع أصابع. وثبت إلى سادس عشر توت.