الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الجزء الثامن]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحابته والمسلمين الجزء الثامن من كتاب النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة
[ما وقع من الحوادث سنة 690]
ذكر ولاية الملك الأشرف خليل على مصر
هو السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفىّ الصالحىّ النّجمىّ، جلس على تخت الملك يوم وفاة أبيه فى يوم الأحد سابع «1» ذى القعدة سنة تسع وثمانين وستمائة. وكان والده قلاوون قد سلطنه فى حياته بعد موت أخيه الملك «2» الصالح علىّ بن قلاوون فى سنة سبع وثمانين وستمائة، والمعتدّ به جلوسه الآن على تخت الملك بعد موت أبيه. وجدّد له الأمراء والجند الحلف فى يوم الاثنين ثامن ذى القعدة المذكور. وطلب من القاضى فتح الدين بن عبد الظاهر تقليده «3» ، فأخرجه إليه مكتوبا بغير علامة الملك المنصور، وكان
ابن عبد الظاهر قد قدّمه إليه ليعلّم عليه فلم يرض، وتقدّم طلب الأشرف وتكرّر؛ وابن عبد الظاهر يقدّمه إلى الملك المنصور، والمنصور يمتنع إلى أن قال له:
يا فتح الدين، أنا ما أولّى خليلا على المسلمين! ومعنى ذلك أنّ الملك المنصور قلاوون كان قد ندم على توليته السلطنة من بعده. فلمّا رأى الأشرف التقليد بلا علامة، قال: يا فتح الدين، السلطان امتنع أن يعطينى وقد أعطانى الله! ورمى التقليد من يده وتمّ أمره، ورتّب أمور الديار المصريّة، وكتب بسلطنته إلى الأقطار، وأرسل الخلع إلى النوّاب بالبلاد الشامية.
وهو السلطان الثامن من ملوك الترك وأولادهم. ثم خلع على أرباب وظائفه بمصر، والذين خلع عليهم من الأعيان: الأمير بدر الدين بيدرا «1» المنصورىّ نائب السلطنة بالديار المصريّة، ووزيره ومدبّر مملكته شمس الدين محمد بن السّلعوس الدّمشقىّ، وهو فى الحجاز الشريف. وعلى بقيّة أرباب وظائفه على العادة والنوّاب بالبلاد الشاميّة يوم ذاك. فكان نائبه بدمشق وما أضيف إليها من الشام الأمير حسام الدين لاچين «2» المنصورىّ. ونائب السلطنة بالممالك الحلبيّة وما أضيف إليها الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصورىّ. ونائب الفتوحات الساحليّة والأعمال الطرابلسيّة والقلاع الإسماعيليّة «3» الأمير سيف الدين بلبان «4» السّلحدار المعروف بالطبّاخى.
ونائبه بالكرك والشوبك وما أضيف إلى ذلك الأمير ركن الدين بيبرس «5» الدّوادار المنصورىّ، صاحب التاريخ المعروف «بتاريخ بيبرس الدوادار» . وصاحب حماة
والمعرّة الملك المظفّر تقىّ الدين محمود ابن الملك المنصور محمد الأيّوبىّ. والذين هم تحت طاعته من الملوك صاحب مكّة المشرّفة الشريف نجم الدين أبو نمىّ محمد بن إدريس «1» بن علىّ بن قتادة الحسنىّ، وصاحب اليمن الملك المظفّر شمس «2» الدين يوسف ابن عمر، فهؤلاء الذين أرسل إليهم بالخلع والتقاليد. انتهى.
ولمّا رسخت قدم الملك الأشرف هذا فى الملك أخذ وأعطى وأمر ونهى؛ وفرّق الأموال وقبض على جماعة من حواشى والده، وصادرهم على ما يأتى ذكره.
ولمّا استهلّت سنة تسعين وستّمائة أخذ الملك الأشرف فى تجهيزه «3» إلى السّفر للبلاد الشاميّة، وإتمام ما كان قصده والده من حصار عكّا، وأرسل إلى البلاد الشاميّة وجمع العساكر وعمل آلات الحصار، وجمع الصّنّاع إلى أن تمّ أمره، خرج بعساكره من الديار المصريّة فى ثالث شهر ربيع الأوّل من سنة تسعين المذكورة، وسار حتّى نازل عكّا فى يوم الخميس رابع شهر ربيع الآخر، ويوافقه خامس نيسان «4» ، فاجتمع عنده على عكّا من الأمم ما لا يحصى كثرة. وكان المطّوّعة أكثر من الجند ومن فى الخدمة. ونصب عليها المجانيق «5» الكبار الفرنجيّة خمسة عشر منجنيقا، منها ما يرمى بقنطار دمشقىّ وأكبر، ومنها دونه. وأمّا المجانيق الشيطانيّة
وغيرها فكثيرة «1» ، ونقب عدّة نقوب. وأنجد أهل عكّا صاحب قبرس «2» بنفسه وفى ليلة قدومه عليهم أشعلوا نيرانا عظيمة لم ير مثلها فرحا به، وأقام عندهم قريب ثلاثة أيام، ثم عاد عند ما شاهد انحلال أمرهم وعظم ما دهمهم. ولم يزل الحصار عليها والجدّ فى أمر قتالها إلى أن انحلّت عزائم من بها وضعف أمرهم واختلفت كلمتهم.
هذا والحصار عمّال فى كلّ يوم، واستشهد عليها جماعة من المسلمين.
فلمّا كان سحر يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى ركب السلطان والعساكر وزحفوا عليها قبل طلوع الشمس، وضربوا الكوسات فكان لها أصوات مهولة وحسّ عظيم مزعج، فحال ملاصقة العسكر لها وللأسوار هرب الفرنج وملكت المدينة بالسيف، ولم تمض ثلاث ساعات من النهار المذكور إلّا وقد استولى المسلمون عليها ودخلوها؛ وطلب الفرنج البحر فتبعتهم العساكر الإسلاميّة تقتل وتأسر فلم ينج منهم إلّا القليل؛ ونهب ما وجد من الأموال والذخائر والسلاح وعمل الأسر والقتل فى جميع أهلها، وعصى الدّيويّة «3» والإسبتار «4» واستتر الأرمن فى أربعة أبراج شواهق فى وسط البلد فحصروا فيها.
فلمّا كان يوم السبت ثامن «5» عشر الشهر، وهو ثانى يوم فتح المدينة، قصد جماعة من الجند وغيرهم الدار والبرج الذي فيه الدّيويّة فطلبوا الأمان فأمّنهم السلطان وسيّر لهم صنجقا، فأخذوه ورفعوه على برجهم وفتحوا الباب، فطلع إليهم جماعة
كثيرة من الجند وغيرهم، فلمّا صاروا عندهم تعرّض بعض الجند والعوامّ للنهيب، ومدّوا أيديهم إلى من عندهم من النساء والأصاغر، فغلّق الفرنج الأبواب ووضعوا فيهم السيف، فقتلوا جماعة من المسلمين، ورموا الصّنجق وتمسّكوا بالعصيان وعاد الحصار عليهم. وفى اليوم المذكور نزل من كان ببرج الإسبتار الأرمن بالأمان فأمّنهم السلطان على أنفسهم وحريمهم على يد الأمير زين الدين كتبغا المنصورىّ، وتمّ القتال على برج الدّيويّة ومن عنده إلى يوم الأحد التاسع عشر «1» من جمادى الأولى طلب الدّيويّة ومن بقى فى الأبراج «2» الأمان، فأمّنهم السلطان على أنفسهم وحريمهم على أن يتوجّهوا حيث شاءوا. فلما خرجوا قتلوا منهم فوق الألفين وأسروا مثلهم، وساقوا إلى باب الدّهليز النساء والصّبيان، وكان من جملة حنق السلطان عليهم مع ما صدر منهم أن الأمير آقبغا المنصورىّ أحد أمراء الشام كان طلع إليهم فى جملة من طلع فأمسكوه وقتلوه، وعرقبوا ما عندهم من الخيول، وأذهبوا ما أمكنهم إذهابه؛ فتزايد الحنق عليهم. وأخذ الجند وغيرهم من السّبى والمكاسب ما لا يحصى.
ولمّا علم من بقى منهم ما جرى على إخوانهم تمسّكوا بالعصيان، وامتنعوا من قبول الأمان وقاتلوا أشدّ قتال، واختطفوا خمسة نفر من المسلمين ورموهم من أعلى البرج فسلم منهم نفر واحد ومات الأربعة. ثم فى يوم الثلاثاء ثامن عشرين «3» جمادى المذكورة أخذ البرج الذي تأخّر بعكا، وأنزل من فيه بالأمان، وكان قد غلّق من سائر جهاته. فلمّا نزلوا منه وحوّلوا معظم ما فيه سقط على جماعة من المسلمين المتفرّجين وممّن قصد النّهب فهلكوا عن آخرهم. ثمّ بعد ذلك عزل السلطان النساء والصّبيان
ناحية وضرب رقاب الرجال أجمعين وكانوا خلائق كثيرة. والعجب أن الله سبحانه وتعالى قدّر فتح عكّا فى مثل اليوم الذي أخذها الفرنج فيه، ومثل الساعة التى أخذوها فيها، فإنّ الفرنج كانوا استولوا على عكّا فى يوم الجمعة سابع عشر «1» جمادى الآخرة [سنة سبع «2» وثمانين وخمسمائة] فى الساعة الثالثة من النهار، وأمّنوا من كان بها من المسلمين ثم قتلوهم غدرا، وقدّر الله تعالى أنّ المسلمين استرجعوها منهم فى هذه المرّة يوم الجمعة فى الساعة الثالثة من النهار، ووافق السابع عشر «3» من جمادى الأولى، وأمّنهم السلطان ثمّ قتلهم كما فعل الفرنج بالمسلمين، فانتقم الله تعالى من عاقبتهم.
وكان السلطان عند منازلته عكّا قد جهّز جماعة من الجند مقدّمهم الأمير علم الدين سنجر الصّوابى الجاشنكير إلى صور لحفظ الطّرق وتعرّف الأخبار، وأمره بمضايقة صور. فبينما هو فى ذلك لم يشعر إلّا بمراكب المنهزمين من عكّا قد وافت الميناء التى لصور، فحال بينها وبين الميناء؛ فطلب أهل صور الأمان فأمّنهم على أنفسهم وأموالهم ويسلّموا صور فأجيبوا إلى ذلك، فتسلّمها. وصور من أجلّ الأماكن ومن الحصون المنيعة، ولم يفتحها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب فيما فتح من الساحل، بل كان صلاح الدين كلّما فتح مكانا وأمّنهم أوصلهم إلى صور هذه لحصانتها ومنعتها، فألقى الله تعالى فى قلوب أهلها الرّعب حتّى سلّموها من غير قتال ولا منازلة، ولا كان الملك الأشرف فى نفسه شىء من أمرها البتّة.
وعند ما تسلّمها جهّز إليها من أخربها وهدم أسوارها وأبنيتها، ونقل من رخامها وأنقاضها شىء كثير. ولمّا تيسر أخذ صور على هذه الصورة قوى عزم الملك
الأشرف على أخذ غيرها. ولمّا كان الملك الأشرف محاصرا لعكّا استدعى الأمير حسام الدين لا چين المنصورىّ نائب الشام، وهو الذي تسلطن بعد ذلك حسب ما يأتى ذكره، والأمير ركن الدين بيبرس المعروف بطقصو فى ليلة الاثنين ثالث عشر جمادى الأولى إلى المخيّم وأمسكهما وقيّدهما، وجهّزهما فى بكرة نهار الاثنين إلى قلعة صفد، ومنها إلى قلعة الجبل. وكان تقدّم قبل ذلك بستّة أيام مسك الأمير سنجر المعروف بأبى خرص وجهّزه إلى الديار المصريّة محتاطا عليه. ثم استقرّ الملك الأشرف بالأمير علم الدين سنجر «1» الشّجاعى المنصورىّ فى نيابة الشام عوضا عن الأمير لاچين المذكور.
وعند ما أمسك الأشرف هذين الأميرين الكبيرين حصل للناس قلق شديد وخشوا من حدوث أمر يكون سببا لتنفيس الخناق عن أهل عكّا، فكفى الله تعالى ذلك.
ثم أمسك الأشرف الأمير علم الدين «2» أيدغدى الإلدكزىّ نائب صفد وما معها لأمر نقمه عليه وصادره، وجعل مكانه الأمير علاء الدين أيدكين «3» الصالحىّ العمادىّ، وأضاف إليه مع ولاية صفد عكّا وما استجد من الفتوحات الأشرفيّة. ثم «4» لما فرغ الأشرف من مصادرة أيدكين المذكور ولّاه برّصفد عوضا عن علم الدين سنجر الصّوابىّ. ثم استدعى الملك الأشرف الأمير بيبرس الدّوادار المنصورى الخطائى المؤرّخ نائب الكرك وعزله، وولّى عوضه الأمير آقوش «5» الأشرفىّ. ثم رحل الملك الأشرف عن عكّا فى بكرة نهار الاثنين خامس جمادى الآخرة، ودخل دمشق يوم الاثنين ثانى
عشره بعد أن زيّنت له دمشق غاية الزينة، وعملت القباب بالشوارع من قريب المصلّى «1» إلى الباب «2» الجديد، وحصل من الاحتفال لقدومه ما لا يوصف، ودخل وبين يديه الأسرى من الفرنج تحتهم الخيول وفى أرجلهم القيود، ومنهم الحامل من سناجق الفرنج المنكّسة، وفيهم من حمل رمحا عليه من رءوس قتلى الفرنج؛ فكان لقدومه يوم عظيم. وأقام الأشرف بدمشق إلى فجر نهار الأربعاء تاسع عشر شهر رجب. وعاد إلى الديار المصريّة فدخلها يوم الاثنين تاسع شعبان؛ فاحتفل أيضا أهل مصر لملاقاته احتفالا عظيما أضعاف احتفال أهل دمشق، وعند دخوله إلى مصر أطلق رسل صاحب عكّا الذين كانوا معوّقين بالقاهرة. ثم إنّ الأمير علم الدين سنجر الشجاعىّ نائب الشام فتح صيدا بعد حصار كبير بالأمان فى يوم السبت خامس عشر شهر رجب. ولمّا أخذت هذه البلاد فى هذه السنة أمر السلطان أن تخرّب قلعة جبيل وأسوارها بحيث يلحقها بالأرض فخرّبت أصلا؛ ثم أخذت عثليث «3» بعد شهر.
وأمّا أهل أنطرطوس لمّا بلغهم أخذ هذه القلاع عزموا على الهرب، فجرّد الأمير سيف الدين بلبان الطّباخى عسكرا، فلمّا أحاطوا بها ليلة الخميس خامس شعبان
ركبوا البحر وهربوا إلى جزيرة أرواد «1» ، وهى بالقرب منها، فندب إليها السّعدىّ بما كان أحضره من المراكب والشوانى فأخلوها. وكان فتح هذه المدن الستّ فى ستة شهور.
ثم رسم الملك الأشرف بالقبض على الأمير علم الدين سنجر الدوادار؛ فقبض عليه فى شهر رمضان، وجهّز الى الديار المصريّة بعد أن أحيط على جميع موجوده، ثم أفرج الملك الأشرف على جماعة من الأمراء ممّن كان قبض عليهم وحبسهم.
وهم: الأمير لا چين المنصورىّ الذي تسلطن بعد ذلك، وبيبرس طقصو الناصرىّ، وسنقر الأشقر الصالحىّ، وبدر الدين بيسرى الشمسىّ، وسنقر الطويل المنصورىّ، وبدر الدين خضر بن جودى القيمرىّ. وفى شهر رمضان سنة تسعين وستمائة المذكورة أنعم السلطان الملك الأشرف على علم الدين سنجر المنصورىّ المعروف بأرجواش خبزا وخلع عليه وأعيد إلى ولاية قلعة دمشق. ثم طلب الملك الأشرف قاضى القدس بدر الدين «2» محمد بن إبراهيم بن جماعة إلى الديار المصرية وولّاه قضاءها بعد عزل قاضى القضاة تقي الدين «3» ابن بنت الأعز. واستمرّ الملك الأشرف بالديار المصريّة إلى أن تجهّز وخرج منها قاصدا البلاد الشامية فى يوم السبت ثامن شهر ربيع الآخر من سنة إحدى وتسعين وستمائة، وسار حتّى دخل دمشق فى يوم السبت سادس جمادى الأولى. وفى ثامن جمادى الأولى أحضر السلطان الأموال وأنفق فى جميع العساكر المصريّة والشامية. ووصل الملك المظفر تقىّ الدين صاحب
حماة لتلقّى الملك الأشرف فالتقاه فزاد السلطان فى إكرامه، واستعرض الجيوش عليه وأمر بتسفيرهم قدّام الملك المظفّر المذكور. ثم توجّه الملك الأشرف من دمشق بجميع العساكر قاصدا حلب، فوصلها فى ثامن عشرين جمادى الأولى، ثم خرج منها ونزل على قلعة الروم بعساكره وحاصرها إلى أن افتتحها بالسيف عنوة فى يوم السبت حادى عشر شهر رجب، وكتب البشائر إلى الأقطار بأخذها. ثم عاد السلطان إلى دمشق وترك بقلعة الروم الشّجاعىّ وعساكر الشام ليعمّروا ما انهدم منها فى الحصار.
وكان دخول السلطان إلى دمشق فى يوم الثلاثاء تاسع عشر شعبان بعد أن عزل الأمير قرا سنقر المنصورىّ عن نيابة حلب بالأمير بلبان الطبّاخى، وولّى عوضا عن الطّباخى فى الفتوحات طغريل الإيغانى. ولمّا كان السلطان بدمشق عمل عسكره النّوروز كعادتهم بالديار المصريّة، وعظم ذلك على أهل دمشق لعدم عادتهم بذلك.
وفى يوم الجمعة ثامن عشرين شهر رمضان قبض السلطان على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، وعلى الأمير ركن الدين طقصو، وهرب الأمير حسام الدين لاچين المنصورىّ ونادوا عليه بدمشق: من أحضره فله ألف دينار، ومن أخفاه شنق.
ثمّ ركب الملك الأشرف ومماليكه فى طلب لاچين المذكور، وأصبح يوم العيد والسلطان فى البرية مهجّج، وكانوا عملوا السّماط كجارى العادة فى الأعياد، وأطلعوا المنبر إلى الميدان الأخضر وطلع الخطيب موفّق «1» الدين فصلّى فى الميدان بالعوامّ، وعاد السلطان بعد صلاة العصر إلى دمشق، ولم يقع للاچين على خبر. ثم سيّر الملك الأشرف طقصو وسنقر الأشقر تحت الحوطة إلى الديار المصريّة. وأمّا لاچين فإنّ العرب أمسكوه وأحضروه إلى الملك الأشرف فأرسله الملك الأشرف مقيّدا
إلى مصر. وفى سادس شوّال ولّى السلطان الأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ نيابة دمشق عوضا عن الشّجاعىّ.
ثم خرج الأشرف من دمشق قاصدا الديار المصريّة فى ليلة الثلاثاء عاشر شوّال، وكان قد رسم الأشرف لأهل الأسواق بدمشق وظاهرها أنّ كلّ صاحب حانوت يأخذ بيده شمعة ويخرج إلى ظاهر البلد، وعند ركوب السلطان يشعلها؛ فبات أكثر أهل البلد بظاهر دمشق لأجل [الوقدو «1» ] الفرجة! فلمّا كان الثّلث الأخير من الليل ركب السلطان وأشعلت الناس الشموع، فكان أوّل الشمع من باب النصر وآخر الوقيد عند مسجد القدم «2» ، لأنّ والى دمشق كان قد رتّبهم من أوّل الليل، فكانت ليلة عظيمة لم ير مثلها. وسافر السلطان حتّى دخل الديار المصريّة يوم الأربعاء ثانى ذى القعدة من باب النصر وخرج من باب زويلة، واحتفل أهل مصر لدخوله احتفالا عظيما، وكان يوم دخوله يوما مشهودا. ولمّا أن طلع السلطان إلى قلعة الجبل أنعم على الأمير قرا سنقر المنصورىّ المعزول عن نيابة حلب بإمرة مائة فارس بديار مصر. ثم أفرج عن الأمير حسام الدين لاچين المنصورىّ وأعطاه أيضا خبز مائة فارس بديار مصر، وسببه أنّ السلطان عاقب سنقر الأشقر وركن الدين طقصو فاعترفوا أنّهم كانوا يريدون قتله، وأنّ لا چين لم يكن معهم ولا كان له اطّلاع على الباطن فخنقهم وأفرج عن لاچين بعد ما كان وضع الوتر فى حلقه لخنقه، فضمنه خشداشه الأمير بدر الدين بيدرا المنصورىّ نائب السلطان، وعلم الدين سنجر الشجاعىّ وغيرهما.
قلت وسنقر الأشقر هو الذي كان تسلطن بدمشق فى أوائل سلطنة الملك المنصور قلاوون، ووقع له معه تلك الأمور المذكورة فى عدّة أماكن. وأمّا لاچين هذا فهو الذي تسلطن بعد ذلك وتلقّب بالملك المنصور حسب ما يأتى ذكره.
وكلّما ذكرنا من حينئذ لاچين فهو المنصور ولا حاجة للتعريف به بعد ذلك.
ثم إنهم أخرجوا الأمراء المخنّقين وسلّموهم إلى أهاليهم، وكان السلطان خنق معهما ثلاثة أمراء أخر فأخرجوا الجميع ودفنوا؛ ثم غرّق السلطان جماعة أخرى، وقيل إنّ ذلك كان فى مستهلّ سنة اثنتين وتسعين وستّمائة. واستمرّ السلطان بمصر إلى أن تجهّز وخرج منها إلى الشام فى جمادى الأولى من سنة اثنتين وتسعين وستمائة المذكورة، وسار حتّى دخل دمشق فى يوم الأحد تاسع جمادى الآخرة؛ ونزل بالقصر «1» الأبلق من الميدان الأخضر.
ولمّا استقر ركابه بدمشق شرع فى تجهيز العساكر إلى بلاد سيس «2» والغارة عليها، فوصل رسل صاحب سيس بطلب الصلح ورضا السلطان عليه، ومهما طلب منه من القلاع والمال أعطاه وشفع الأمراء فى صاحب سيس، واتّفق الحال على أن يتسلّم نوّاب السلطان من صاحب سيس ثلاث قلاع، وهى:
بهسنا»
ومرعش «4» وتلّ حمدون «5» ففرح الناس بذلك، لأنه كان على المسلمين من بهسنا
أذّى عظيم. وأقام السلطان بدمشق إلى مستهلّ شهر رجب توجّه منها، وصحبته عسكر الشام والأمراء وبعض عساكر مصر. وأمّا الضعفاء من عسكر مصر فأعطاهم السلطان دستورا بعودتهم إلى الديار المصريّة. وسار السلطان حتّى وصل إلى حمص، ثم توجّه منها إلى سلمية «1» مظهرا أنّه متوجّه إلى ضيافة الأمير حسام الدين مهنّا بن عيسى بن مهنّا أمير آل فضل، وكان خروج السلطان من دمشق فى ثانى شهر رجب، فلمّا كان بكرة يوم الأحد سابع شهر رجب وصل الأمير لاچين وصحبته مهنّا إلى دمشق وهو مقبوض عليه، أمسكه السلطان لمّا انقضت الضيافة وولّى غوضه شخصا من أولاد عمّه، وهو الأمير محمد بن علىّ بن حذيفة. وفى بقيّة النهار وصل السلطان إلى دمشق، ورسم للأمير بيدرا أن يأخذ بقيّة العساكر ويتوجّه إلى مصر، وأن يركب تحت الصناجق عوض السلطان وبقى السلطان مع خواصّه بدمشق بعدهم ثلاثة أيام؛ ثم خرج من دمشق [فى يوم السبت «2» ثالث عشر رجب] وعاد إلى جهة الديار المصريّة فى العشر الأخير من شهر رجب من سنة اثنتين وتسعين وستمائة؛ ثم إن السلطان أمر الأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ الأفرم أمير جاندار «3» نائب الشام أن يسافر إلى الشوبك ويخرّب قلعتها، فكلّمه الأفرم فى بقائها فانتهره، وسافر من يومه، وتوجّه الأفرم إلى الشّوبك وأخربها غير القلعة. وكان ذلك غاية ما يكون من الخطأ وسوء التدبير، وكان أخرب قبل ذلك أيضا عدّة أماكن بقلعة الجبل،
وبقلعة دمشق أيضا أخرب عدّة قاعات ومبانى هائلة. وأمّا قلاع السواحل فأخرب غالبها، وكان يقصد ذلك لمعنى يخطر بباله.
ثم فى العشرين من ذى الحجّة نصب السلطان ظاهر القاهرة خارج باب النصر القبق، وصفة ذلك أن ينصب صار طويل ويعمل على رأسه قرعة من ذهب أو فضّة ويجعل فى القرعة طير حمام، ثمّ يأتى الرامى بالنّشّاب وهو سائق فرسه ويرمى عليه، فمن أصاب القرعة وطيّر الحمام خلع عليه خلعة تليق به، ثم يأخذ القرعة. وكان ذلك بسبب طهور أخى الملك الأشرف؛ وهو الملك الناصر محمد بن قلاوون، وطهور ابن أخيه الأمير مظفّر الدين موسى ابن الملك الصالح علاء الدين علىّ بن قلاوون، فآحتفل السلطان لطهورهما وعمل مهمّا عظيما. وكان الطهور فى يوم الاثنين ثانى عشرين ذى الحجّة. وعند ما طهّروهم رموا الأمراء الذهب لأجل النّقوط؛ فإن كان الأمير أمير مائة فارس رمى مائة دينار، وإن كان أمير خمسين فارسا رمى خمسين دينارا، وقس على ذلك سائر الأمراء؛ ورمى حتى مقدّمو الحلقة والأجناد، فجمع من ذلك شىء كثير؛ وهو آخر فرح عمله الأشرف هذا.
ثم بعد فراغ المهمّ بمدّة يسيرة، نزل السلطان الملك الأشرف المذكور من قلعة الجبل متوجّها إلى الصّيد فى ثانى المحرّم سنة ثلاث وتسعين وستمائة وصحبته وزيره الصاحب شمس الدين بن السّلعوس، ونائب سلطنته الأمير بدر الدين بيدرا وجميع الأمراء، فلمّا وصل إلى الطّرّانة «1» فارقه وزيره ابن السّلعوس المذكور وتوجّه إلى الإسكندرية.
وأمّا السلطان فإنّه نزل بالحمّامات «1» لأجل الصّيد، وأقام إلى يوم السبت ثانى عشر المحرّم. فلمّا كان قرب العصر وهو بأرض تروجة «2» حضر إليه الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة ومعه جماعة كثيرة من الأمراء؛ وكان السلطان بكرة النهار قد أمره أن يأخذ العسكر والدّهليز ويمشى عوضه تحت الصناجق وأن يتقدّمه، ويبقى السلطان يتصيّد وحده بقيّة يومه ويعود العشيّة إلى الدّهليز، فتوجّه بيدرا على ذلك؛ وأخذ السلطان الملك الأشرف يتصيّد ومعه شخص واحد يقال له شهاب الدين [أحمد بن «3» ] الأشلّ أمير شكار «4» ، وبينما السلطان فى ذلك أتاه هؤلاء: بيدرا ورفقته، فأنكر السلطان مجيئهم، وكان فى وسط السلطان بند حرير وليس معه بمجة «5» لأجل الصيد، وكان أوّل من ابتدره الأمير بيدرا فضربه بالسيف ضربة قطع بها يده مع كتفه، فجاء الأمير حسام الدين لاچين، وهو الذي تسلطن بعد ذلك بمدّة، وقال لبيدرا: يا نحس! من يريد ملك مصر والشام تكون هذه ضربته! ثمّ ضربه على كتفه فحلّها، ووقع السلطان على الأرض، فجاء بعدهما الأمير بهادر رأس نوبة «6» ، وأخذ السيف ودسّه فى دبره وأطلعه من حلقه، وبقى يجيء واحد من الأمراء بعد
واحد ويظهرون ما فى أنفسهم منه، ثم تركوه فى مكانه وانضموا على الأمير بيدرا وحلفوا له، وأخذوه تحت الصناجق وركبوا سائرين بين يديه طالبين القاهرة.
وقيل فى قتله وجه آخر.
قال القطب اليونينىّ: «ومما حكى لى الأمير سيف الدين بن المحفّدار:
كيف كان قتل السلطان الملك الأشرف خليل؟ قال: سألت الأمير شهاب الدين أحمد بن الأشلّ أمير شكار السلطان، كيف كان قتل السلطان الأشرف؟ فقال [ابن] الأشلّ: بعد رحيل الدّهليز (يعنى مدورة السلطان والعساكر) جاء إليه الخبر أنّ بتروجة طيرا كثيرا، فقال السلطان: امش بنا حتى نسبق الخاصّكيّة «1» ، فركبنا وسرنا، فرأينا طيرا كثيرا فرماه السلطان بالبندق، فأصرع شيئا كثيرا، ثم إنّه التفت إلىّ وقال: أنا جيعان «2» ، فهل معك شىء تطعمنى؟ فقلت: والله ما معى سوى فرّوجة ورغيف خبز، قد ادّخرته لنفسى فى صولقى «3» ، فقال لى: ناولنى إيّاه، فأخذه وأكله جميعه، ثم قال لى: أمسك لى فرسى حتّى أنزل وأريق الماء، فقلت له:
ما فيها حيلة! أنت راكب حصانا وأنا راكب حجرة «4» وما يتفقوا، فقال لى: انزل أنت واركب خلفى وأركب أنا الحجرة التى لك، والحجرة مع الحصان تقف، قال:
فنزلت وناولته لجام الحجرة، ثم إنّى ركبت خلفه، ثمّ إنّ السلطان نزل وقعد يريق الماء، وشرع يولغ بذكره ويمازحنى، ثم قام وركب حصانه ومسك لى الحجرة، ثم إنّى ركبت. فبينما أنا وإيّاه نتحدّث وإذا بغبار عظيم قد ثار وهو قاصد نحونا، فقال لى السلطان: سق واكشف لى خبر هذا الغبار، قال: فسقت، وإذا الأمير
بدر الدين بيدرا والأمراء معه، فسألتهم عن سبب مجيئهم فلم يردّوا علىّ جوابا ولا التفتوا إلى كلامى، وساقوا على حالهم حتّى قربوا من السلطان، فكان أوّل من ابتدره بيدرا بالضّربة قطع بها يده وتمّم الباقى قتله» . انتهى.
وأمّا أمر بيدرا فإنّه لمّا قتل السلطان بايع الأمراء بيدرا بالسلطنة ولقّبوه بالملك الأوحد وبات تلك الليلة، فإنّ قتل الأشرف كان بين الظّهر والعصر.
وأصبح ثانى يومه سار بيدرا بالعساكر إلى نحو الديار المصريّة؛ وبينما بيدرا سائر بعساكره وإذا بغبار عظيم قد علا وملأ الجوّ وقرب منه، وإذا بطلب عظيم فيه نحو ألف وخمسمائة فارس من الخاصّكيّة الأشرفيّة، ومعهم الأمير زين الدين كتبغا، وهو الذي تسلطن بعد ذلك بمدّة على ما يأتى ذكره. والأمير حسام الدين الأستادار طالبين بيدرا بدم أستاذهم السلطان الملك الأشرف خليل المذكور وأخذ الثّأر منه ومن أصحابه. وكان ذلك بالطرّانة فى يوم الأحد أوّل النهار، فما كان غير ساعة إلا والتقوا، وكان بيدرا لمّا رآهم صفّ من معه من أصحابه للقتال، فصدموه الأشرفيّة صدمة صادقة وحملوا عليه حملة واحدة فرّقوا شمله، وهرب أكثر من كان معه؛ فحينئذ أحاطوا ببيدرا وقبضوا عليه وحزّوا رأسه، وقيل: إنهم قطعوا يده قبل أن يحزّوا رأسه؛ كما قطعت يد أستاذهم الملك الأشرف بضربة السيف، ولمّا حزّوا رأسه حملوه على رمح وسيّروه إلى القاهرة، فطافوا به ثم عادوا نحو القاهرة حتى وصلوا برّ الجيزة، فلم يمكّنهم الأمير علم الدين سنجر الشّجاعىّ من التعدية إلى برّ مصر، لأنّ السلطان الملك الأشرف كان قد تركه فى القلعة عند سفره نائب السلطنة بها، فلم يلتفتوا إليه وأرادوا التعدية؛ فأمر الشجاعىّ المراكب والشوانى فعدّت إلى برّ القاهرة، وبقى العسكر والأمراء على جانب البحر مقيمين حتى مشت بينهم الرّسل على أن يمكّنهم الشجاعىّ من العبور حتّى يقيموا عوض السلطان أخاه الملك
الناصر محمد بن قلاوون وهو صغير، تسكينا لما وقع وإخمادا للفتنة، فأجلسوه على تخت الملك بقلعة الجبل فى رابع عشر المحرّم من سنة ثلاث وتسعين وستمائة المذكورة، وأن يكون نائب السلطنة الأمير زين الدين كتبغا، والوزير الأمير علم الدين سنجر الشجاعىّ، وحسام الدين أستاذ الدار أتابك العساكر.
قلت: وساق الشيخ قطب الدين اليونينىّ واقعة الملك الأشرف هذا وقتله وقتل بيدرا بأطول من هذا؛ قال الشيخ قطب الدين:
«وحكى لى الأمير سيف الدين بن المحفّدار أمير جاندار قال: كان السلطان الملك الأشرف قد أنفذنى فى أوّل النهار إلى الأمير بدر الدين بيدرا يأمره أن يأخذ العساكر ويسير بهم، فلمّا جئت إليه وقلت له: السلطان يأمرك أن تسير الساعة تحت الصناجق بالأمراء والعسكر، قال: فنفر فىّ بيدرا، ثم قال: السمع والطاعة؛ قال: ورأيت فى وجهه أثر الغيظ والحنق وقال: وكم يستعجلنى! فظهر فى وجهه شىء ما كنت أعهده منه؛ ثم إنّى تركته ومشيت حملت الزّردخاناه «1» والثّقل الذي لى وسرت، فبينما أنا سائر أنا ورفيقى الأمير صارم الدين الفخرىّ وركن الدين أمير جاندار عند المساء، وإذا بنجّاب سائر، فسألت عن السلطان أين تركته؟ فقال:
طوّل الله أعماركم فيه؛ فبينما نحن متحيّرون فى أمره، وإذا بالسناجق التى للسلطان قد لاحت وقربت والأمراء تحتها، والأمير بدر الدين بيدرا بينهم وهم محدقون به؛ قال: فجئنا وسلّمنا عليه، فقال له الأمير ركن الدين بيبرس أمير جاندار: يا خوند، هذا الذي فعلته كان بمشورة الأمراء؟ قال: نعم، إنّما قتلته بمشورتهم وحضورهم،
وها هم كلّهم حاضرون، وكان من جملة من هو حاضر الأمير حسام الدين لاچين المنصورىّ، والأمير شمس الدين قراسنقر المنصورىّ، والأمير بدر الدين بيسرىّ، وأكثر الأمراء سائقون معه؛ قال: ثم إنّ بيدرا شرع يعدّد سيئّات السلطان ومخازيه ومناحسه وإهماله أمور المسلمين واستهزاءه بالأمراء ومماليك أبيه ووزارته لأبن السّلعوس، قال: ثم إنّه سألنا هل رأيتم الأمير زين الدين كتبغا؟ فقلنا له:
لا، فقال بعض الأمراء: يا خوند، هل كان عنده علم بالقضيّة؟ فقال: نعم، وهو أوّل من أشار بهذا الأمر.
فلمّا كان ثانى يوم وإذا بالأميرين «1» : زين الدين كتبغا وحسام الدين أستاذ الدار قد جاءوا فى طلب كبير فيه مماليك السلطان الملك الأشرف نحو من ألفى فارس وفيهم جماعة من العسكر والحلقة، فالتقوه بالطّرّانة يوم الأحد أوّل النهار. ثم ساق قطب الدين فى أمر الواقعة نحوا ممّا ذكرناه من أمر بيدرا وغيره، إلى أن قال:
وتفرّق جمع الأمير بيدرا. قال ابن المحفّدار: فلمّا رأينا مالنا بهم طاقة التجأنا إلى جبل هناك شمالىّ «2» ، واختلطنا بذلك الطّلب الذي فيه كتبغا، ورأينا بعض أصحابنا، فقال [لنا «3» ] : شدّوا بالعجلة مناديلكم فى رقابكم إلى تحت آباطكم، فهى الإشارة بيننا وإلّا قتلوكم أو شلحوكم، فعملنا «4» مناديلنا فى رقابنا إلى تحت آباطنا، وكان ذلك سبب سلامتنا، فحصل لنا به نفع كثير من جهة الأمير زين الدين كتبغا ومن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وسلمت بذلك أنفسنا وأثقالنا [وأهلونا «5» ] وأموالنا؛ ثم ظهر لهم أنّنا لم يكن لنا فى باطن القضيّة علم. قال: وسرنا إلى قلعة
الجبل. وذكر سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون حسب ما نذكره فى ترجمته إن شاء الله تعالى فيما يأتى.
قال: ولمّا كان يوم خامس «1» عشرين المحرّم أحضر إلى قلعة الجبل أميران وهما سيف الدين بهادر رأس نوبة وجمال الدين آقوش الموصلىّ الحاجب، فحين حضروا اجتمعوا الأشرفيّة عليهم فضربوا رقابهم وعلّقوا رأس بهادر على باب «2» داره الملاصقة لمشهد الحسين «3» بالقاهرة. وبهارد هذا هو الذي حطّ السيف فى دبر الملك الأشرف بعد قتله وأخرجه من حلقه. ثم أخذوا جنّته وجثة آقوش وأحرقوهما فى قمين جير.
وأمّا الأمير حسام الدين لاچين المنصورىّ، والأمير شمس الدين قرا سنقر فإنّهما اختفيا ولم يظهر لهما خبر، ولا وقع لهما على أثر. ثم أحضر المماليك الأشرفيّة سبعة أمراء، وهم: سيف الدين نوغيه، وسيف الدين ألناق، وعلاء الدين ألطنبغا الجمدار، وشمس الدين سنقر «4» مملوك لاچين، وحسام الدين طرنطاى السّاقى، ومحمد خواجا «5» ، وسيف الدين أروس فى يوم الاثنين خامس صفر إلى قلعة الجبل، فلمّا رآهم السلطان الملك الناصر محمد أمر بقطع أيديهم أوّلا، وبعد ذلك يسمّرون على الجمال وأن تعلّق أيديهم فى حلوقهم ففعل ذلك، ورأس بيدرا أيضا على رمح يطاف به معهم بمصر «6»
والقاهرة، وبقوا على هذه الحالة إلى أن ماتوا، وكلّ من مات منهم سلّم إلى أهله والجميع دفنوهم بالقرافة.
قلت: وقريب ممّا وقع لبيدرا هذا وأصحابه أوائل ألفاظ المقالة الخامسة عشرة من «كتاب أطباق الذهب» للشيخ الإمام الربّانى شرف الدين عبد المؤمن الأصفهانىّ المعروف بشوروة «1» ، وهى قوله:
«من الناس من يستطيب ركوب الأخطار، وورود التّيار، ولحوق العار والشّنار، ويستحبّ وقد النار، وعقد الزّنّار، لأجل الدينار؛ ويستلذّ سفّ الرّماد، ونقل السّماد، وطىّ البلاد، لأجل الأولاد؛ ويصبر على نسف الجبال، ونتف السّبال «2» ، لشهوة المبال؛ ويبدّل الإيمان»
بالكفر، ويحفر الجبال بالظّفر، للدنانير الصّفر؛ ويلج ما ضغى «4» الأسود، للدراهم السّود؛ لا يكره صداعا، [إذا نال كراعا «5» ] ؛ ويلقى النوائب بقلب صابر، فى هوى الشيخ أبى جابر «6» ؛ ويأبى العزّ طبيعة، ويرى الذّلّ شريعة؛ وإن رزق لعيعة «7» ، يراها صنيعة، يؤمّ راسه وترضّ أضراسه؛ وإن أعطى درهما، يراه مرهما.
ومن الناس من يختار العفاف، ويعاف الإسفاف؛ يدع الطعام طاويا، ويذر الشراب صاديا، ويرى المال رائحا غاديا؛ يترك الدنيا لطلّابها، ويطرح الجيفة لكلابها؛ لا يسترزق لئام الناس، ويقنع بالخبز الناس «8» ؛ يكره المنّ والأذى، ويعاف
الماء على القذى؛ إن أثرى جعل موجوده معدوما، وإن أقوى «1» حسب قفاره مأدوما؛ جوف خال، وثوب «2» بال، ومجد عال؛ ووجه مصفرّ، عليه قرّ؛ وثوب أسمال، وراء عزّ [و] جمال؛ وعقب مشقوق، وذيل مفتوق، يجرّه فتى مغبوق. شعر:
لله تحت قباب العزّ طائفة
…
أخفاهم فى رداء الفقر إجلالا
هم السلاطين فى أطمار مسكنة
…
استعبدوا من ملوك الأرض أقيالا
غبر ملابسهم شمّ معاطسهم
…
جرّوا على فلك الخضراء أذيالا
هذى المناقب لا ثوبان من عدن «3»
…
خيطا قميصا فصارا بعد أسمالا
هذى المكارم لا قعبان من لبن
…
شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
هم الذين جبلوا برآء من التّكلّف، «يحسبهم الجاهل أغنياء من التّعفّف» . انتهى ما ذكرناه من المقالة الخامسة عشرة وإن كنّا خرجنا عن المقصود من كون غالبها من غير ما نحن فيه، غير أنّنى لم أذكرها بتمامها هنا إلّا لغرابتها. انتهى.
ولمّا مات الملك الأشرف خليل هذا، وتمّ أمر أخيه الملك الناصر محمد فى السلطنة، استقرّ الأمير زين الدين كثبغا المنصورىّ نائب السلطنة، وسنجر الشّجاعىّ مدبّر المملكة وأتابك العساكر، وبقيّة الأمور تأتى فى أوّل سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون بأوضح من هذا
ولمّا قتل الملك الأشرف خليل المذكور بقى ملقى إلى أن خرج والى تروجة من بعد قتله بيومين، ومعه أهل تروجة، وأخذوه وغسّلوه وكفّنوه وجعلوه فى تابوت
فى دار الوالى إلى أن سيّروا من القاهرة الأمير سعد الدين كوجبا الناصرىّ إلى مصرعه، فأخذه فى تابوت ووصل به إلى القاهرة سحر يوم الخميس ثانى عشرين صفر، فدفن فى تربة «1» والدته بجوار أخيه الملك الصالح علىّ بن قلاوون- رحمهما الله تعالى- ورثاه ابن حبيب بقصيدة، أوّلها:
تبّا لأقوام تمالك رقّهم
…
فتكوا وما رقّوا لحالة مثرف
وافوه غدرا ثم صالوا جملة
…
بالمشرفىّ على المليك الأشرف
وافى شهيدا نحو روضات الرّضا
…
يختال بين مزهّر ومزخرف
ومضى يقول لقاتليه تربّصوا
…
بينى وبينكم عراض الموقف
وقال النّويرىّ فى تاريخه: كان ملكا مهيبا شجاعا مقداما جسورا جوادا كريما بالمال، أنفق على الجيش فى هذه الثلاث سنين ثلاث نفقات: الأولى فى أوّل جلوسه فى السلطنة من مال طرنطاى، والثانية عند توجّهه الى عكّا، والثالثة عند توجّهه الى قلعة الروم. انتهى كلام النّويرىّ باختصار.
وقال الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصّفدىّ فى تاريخه: «وكان قبل ولاية الملك الأشرف يؤخذ عند باب الجابية «1» بدمشق عن كلّ حمل خمسة دراهم مكسا، فأوّل ما تسلطن وردت إلى دمشق مسامحة بإسقاط هذا، وبين سطور المرسوم بقلم العلامة بخطه: لتسقط عن رعايانا هذه الظّلامة، ويستجلب لنا الدعاء من الخاصّة والعامّة» . انتهى كلام الصفدىّ.
وقال الحافظ أبو عبد الله الذّهبىّ فى تاريخه، بعد أن ساق من أحواله قطعة جيّدة، فقال:«ولو طالت أيّامه أو حياته لأخذ العراق وغيرها، فإنّه كان بطلا شجاعا مقداما مهيبا عالى الهمّة يملأ العين ويرجف القلب، رأيته مرّات، وكان ضخما سمينا كبير الوجه بديع الجمال مستدير اللّحية، على وجهه رونق الحسن وهيبة السلطنة، وكان إلى جوده وبذله الأموال فى أغراضه المنتهى. وكان مخوف السطوة، شديد الوطأة، قوىّ البطش؛ تخافه الملوك فى أمصارها، والوحوش العادية «2» فى آجامها. أباد جماعة من كبار الدولة. وكان منهمكا فى «3» اللذات، لا يعبأ بالتحرّز لنفسه لفرط شجاعته، ولم أحسبه بلغ ثلاثين سنة، ولعلّ الله عز وجل قد
عفا عنه وأوجب له الجنّة لكثرة جهاده، وإنكائه فى الكفّار» . انتهى كلام الذهبى باختصار.
قلت: وكان الأشرف مفرط الشجاعة والإقدام، وجمهور الناس على أنه أشجع ملوك الترك قديما وحديثا بلا مدافعة، ثم من بعده الملك الناصر فرج ابن الملك الظاهر برقوق، وشهرتهما فى ذلك تغنى عن الإطناب فى ذكرهما.
وكانت مدّة مملكة الأشرف هذا على مصر ثلاث سنين وشهرين وخمسة أيام، لأنّ وفاة والده كانت فى يوم السبت سادس ذى القعدة سنة تسع وثمانين وستمائة.
وجلس الأشرف المذكور على تخت الملك فى صبيحة دفن والده فى يوم الاثنين «1» ثامن ذى القعدة. وقتل فى يوم السبت «2» ثانى عشر المحرّم سنة ثلاث وتسعين وستمائة.
انتهى.
وقال الشيخ قطب الدين البونينىّ: ومات (يعنى الملك الأشرف) شهيدا مظلوما فإنّ جميع من وافق على قتله كان قد أحسن إليه ومنّاه وأعطاه وخوّله، وأعطاهم ضياعا بالشام، ولم تتجدد فى زمانه مظلمة، ولا استجدّ ضمان مكس، وكان يحبّ الشأم وأهله، وكذلك أهل الشأم كانوا يحبونه- رحمه الله تعالى وعفا عنه-.
السنة الأولى من سلطنة الملك الأشرف صلاح الدين خليل على مصر وهى سنة تسعين وستمائة. على أنه حكم من الماضية من يوم الاثنين ثامن ذى القعدة إلى آخرها. انتهى.
فيها (أعنى سنة تسعين وستمائة) توفّى الشيخ عزّ الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن طرخان الأنصارىّ السّويدىّ «1» الطبيب المشهور، وهو من ولد سعد بن معاذ الأوسىّ- رضى الله عنه- كان قد تفرّد فى آخر عمره بمعرفة الطبّ، وكان له مشاركة جيّدة فى العربيّة والتاريخ، واجتمع بأكابر الأطبّاء وأفاضل الحكماء، مثل المهذّب «2» عبد الرحيم بن علىّ الدّخوار وغيره، وقرأ علم الأدب على جماعة من العلماء، وكان له نظم جيّد. من ذلك قوله فى خضاب اللّحية:
لو أنّ تغيير لون شيبى
…
يعيد ما فات من شبابى
لما وفى لى بما تلاقى
…
روحى من كلفة الخضاب
قلت: ويعجبنى قول الشيخ صفىّ «3» الدين عبد العزيز الحلّى فى هذا المعنى:
قالوا اخضب الشيب فقلت اقصروا
…
فإنّ قصد الصدق من شيمتى
فكيف أرضى بعد ذا أنّني
…
أوّل ما أكذب فى لحيتى
غيره فى المعنى:
يا خاضب اللّحية ما تستحى
…
تعاند الرحمن فى خلقته
أقبح شئ قيل بين الورى
…
أن يكذب الإنسان فى لحيته
ومن شعر عزّ الدين صاحب الترجمة [مواليا «4» ] :
البدر والسعد ذا شبهك وذا نجمك
…
والقدّ واللّحظ ذا رمحك وذا سهمك
والبغض والحبّ ذا قسمى وذا قسمك
…
والمسك والحسن ذا خالك وذا عمّك
وفيها توفّى ملك التّتار أرغون بن أبغا بن هولاكو عظيم التّتار وملكهم، قيل:
إنه اغتيل بالسمّ، وقيل: إنّه مات حتف أنفه، واتّهم الترك اليهود بقتله فمالوا عليهم بالسيوف فقتلوهم ونهبوا أموالهم، واختلفت كلمة التّتار فيمن يقيمونه بعده فى الملك، فمالت طائفة إلى بيدو «1» ولم يوافقوا [على] كيختو «2» ، فرحل كيختو إلى الروم.
وكان أرغون هذا قد عظم أمره عند التّتار بعد قتل عمّه أحمد «3» ، ورسخت قدمه فى الملك، وكان شهما شجاعا مقداما، حسن الصورة، سفّا كاللدماء، شديد الوطأة.
وفيها توفّى الشيخ عفيف الدين أبو الربيع سليمان بن علىّ بن عبد الله بن علىّ ابن يس العابدى ثم الكوفىّ ثم التّلمسانىّ «4» المعروف بالعفيف التّلمسانىّ، الصوفىّ الشاعر المشهور، كان فاضلا ويدّعى العرفان، ويتكلّم فى ذلك على اصطلاح القوم.
قال الشيخ قطب الدين: «ورأيت جماعة ينسبونه إلى رقّة الدّين، وتوفّى وقد جاوز الثمانين «5» سنة من العمر، وكان حسن العشرة كريم الأخلاق له حرمة ووجاهة، وخدم فى عدّة جهات.
قلت: وقد تقدّم ذكر ولده الأديب الظريف «1» شمس الدين محمد أنّه مات فى حياة والده العفيف هذا. انتهى.
وكان العفيف المذكور من الشعراء المجيدين وله ديوان شعر كبير. ومن شعره:
يشكو إلى أردافه خصره
…
لو تسمع الأمواج شكوى الغريق
يا ردفه رقّ على خصره
…
فإنّه حمّل ما لا يطيق
وله:
إن كان قتلى فى الهوى يتعيّن
…
يا قاتلى فبسيف جفنك «2» أهون
حسبى وحسبك أن تكون مدامعى
…
غسلى وفى ثوب السّقام أكفّن
عجبا لخدّك وردة فى بانة
…
والبان «3» فوق الغصن ما لا يمكن
أدنته لى سنة الكرى فلثمته
…
حتى تبدّل بالشّقيق السّوسن
ووردت كوثر ثغره فحسبتنى
…
فى جنّة من وجنتيه أسكن
ما راعنى إلا بلال الخال فو
…
ق الخدّ فى صبح الجبين يؤذّن
قلت: وهذا مأخوذ من قول الحاجرى «4» من قصيدة:
أقام بلال الخال فى صحن خدّه
…
يراقب من لآلاء غرّته الفجرا
ومنه أيضا أخذ الشيخ جمال الدين «5» محمد بن نباتة المصرىّ قوله:
وانظر إلى الخال فوق الثغر دون لمى
…
تجد بلالا يراعى الصبح فى السّحر
قلت: وقد سبق إلى هذا المعنى أمير المؤمنين عبد الله «1» بن المعتزّ بقوله:
أسفر ضوء الصبح من وجهه
…
فقام خال الخدّ فيه بلال
كأنّما الخال على خدّه
…
ساعة هجر فى زمان الوصال
قلت وقد استوعبنا من ذكر العفيف هذا فى ترجمته فى تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفىّ بعد الوافى» نبذة كبيرة فلينظر هناك.
وفيها توفّى الشيخ الإمام العلّامة فقيه الشام تاج الدين أبو محمد عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزارىّ البدرىّ المصرىّ الأصل الدمشقى الشافعىّ المعروف بالفركاح «2» . ولد فى شهر ربيع الأوّل سنة أربع وعشرين وستّمائة.
قال الصّفدىّ: تفقّه فى صغره على الشيخ عزّ «3» الدين بن عبد السلام، والشيخ تقىّ «4» الدين بن الصّلاح، وبرع فى المذهب وهو شابّ، وجلس للاشتغال وله بضع وعشرون سنة، ودرّس فى سنة ثمان وأربعين، وكتب فى الفتاوى وقد أكمل الثلاثين.
ولمّا قدم النووىّ «5» من بلده أحضروه ليشتغل عليه، فحمل همّه وبعث به إلى مدرّس الرّواحيّة «6» ليصحّ له بها بيت ويرتفق بمعلومها. وكانت الفتاوى تأتيه من الأقطار.
وإذا سافر لزيارة القدس يترامى أهل البرّ على ضيافته، وكان أكبر من الشيخ محيى الدين النّووىّ بسبع سنين، وهو أفقه نفسا وأذكى وأقوى مناظرة من الشيخ محيى الدين بكثير، وقيل إنه كان يقول: إيش قال النّووىّ فى مزبلته! (يعنى عن الروضة «1» )، قال: وكان الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام يسمّيه «الدّويك» لحسن بحثه. انتهى كلام الصّفدىّ باختصار.
ومن شعره ما كتبه لزين الدين «2» عبد الملك بن العجمى ملغزا فى اسم بيدرا.
يا سيّدا ملأ الآفاق قاطبة
…
بكلّ فنّ من الألغاز مبتكر
ما اسم مسمّاه بدر وهو مشتمل
…
عليه فى اللفظ إن حقّقت فى النظر
وإن تكن مسقطا ثانيه مقتصرا
…
عليه فى الحذف أضحى واحد البدر
وله [أيضا دو بيت «3» ]
ما أطيب ما كنت من الوجد لقيت
…
إذ أصبح بالحبيب صبّا وأبيت
واليوم صحا قلبى من سكرته
…
ما أعرف فى الغرام «4» من أين أتيت
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى مسند العالم فخر الدين علىّ بن البخارىّ المقدسىّ فى ربيع الآخر، وله خمس وتسعون سنة «5» . والمعمّر شهاب الدين غازى بن أبى الفضل [بن عبد الوهاب أبو محمد «6» ] الحلاوىّ فى صفر.