المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ أدلة عدم التكليف بما يضاد الوسع والطاقة - الوسطية في ضوء القرآن الكريم

[ناصر العمر]

الفصل: ‌ أدلة عدم التكليف بما يضاد الوسع والطاقة

3-

‌ أدلة عدم التكليف بما يضاد الوسع والطاقة

قال- سبحانه- في سورة البقرة: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: من الآية 286) . وفي الآية نفسها: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (البقرة: من الآية 286) .

وقال الله- تعالى- كما في الحديث الصحيح: «قد فعلت» (1) وكذلك قوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} (البقرة: من الآية 286) .

قال الشيخ الدكتور / صالح بن حميد: (والوسع ما يسع الإنسان فلا يعجز عنه ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، فقوله- تعالى-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: من الآية 286) أي: لا يحملها إلا ما تسعه وتطيقه ولا تعجز عنه أو يحرجها دون مدى غاية الطّاقة، فلا يكلّفها بما يتوقَّف حصوله على تمام صرف القدرة، فإنَّ عامة أحكام الإسلام تقع في هذه الحدود، ففي طاقة الإنسان وقدرته الإتيان بأكثر من خمس صلوات وصيام أكثر من شهر، ولكنَّ الله جلّت قدرته ووسعت رحمته أراد بهذه الأمَّة اليسر ولم يرد بها العسر) (2) .

(1) - أخرجه مسلم (1 / 116) رقم (126) .

(2)

- انظر: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ص (69) ، وتفسير القرطبي (3 / 426) .

ص: 117

ومن الأدلّة على أنَّ التكليف بحدود الوسع والطّاقة قوله- تعالى-: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (لأعراف:42) .

ويقول- سبحانه- في سورة المؤمنون: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (المؤمنون: من الآية 62) .

قال القاسميّ: فسنة الله جارية على أنَّه لا يكلف النّفوس إلا وسعها (1) .

بل جاء تقرير هذه القاعدة عند ذكر بعض الأحكام الجزئيَّة فقال- سبحانه-: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: من الآية 233) .

وكذلك في سورة الطلاق: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} (الطلاق: من الآية 7) .

(1) - انظر: تفسير القاسمي (12 / 4405) .

ص: 118

وكذلك- أيضًا- في سورة الأنعام: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (الأنعام: من الآية 152) .

هذه هي الآيات التي وردت مبيّنة أنَّ التّكليف بحسب الوسع والطّاقة، ولا شكَّ أنَّ الأحكام الشَّرعية إذا كانت مطلوبة في حدود الوسع والاستطاعة دون بلوغ غاية الطّاقة، ففي ذلك الدّلالة الظّاهرة على أن الحرج مرفوع، وأنَّ اليسر سمة هذا الدّين، والتّوسعة على العباد خاصِّيَّة من خصائصه، فهي الحنيفيَّة السّمحة والوسطيَّة التي لا عَنَتَ فيها ولا مشقَّة (1) .

(1) - انظر: رفع الحرج ص (73) .

ص: 119

الأدلة من السنة النبوية:

جاء في سورة براءة وصف الرسول، صلى الله عليه وسلم {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128) . وكذلك فقد جاءت الأحاديث عنه، صلى الله عليه وسلم تبين يسر هذا الدِّين، وتحمل النّهي عن التّشدّد والتّعمّق والغلوّ، بل ترك، صلى الله عليه وسلم كثيرًا من الأعمال رحمة بأمّته وخشية من أن يشقّ عليها، وهذا يخالف يسر الدّين وسماحته (1) .

وسأذكر بعض الأحاديث التي تؤكّد حقيقة يسر الإسلام وبعده عمَّا يخرج عن منهج الوسطيَّة.

وقد تنوَّعت أساليب رسول الله، صلى الله عليه وسلم في توجيه أمّته لهذه الحقائق وتأصيلها.

فنجد في الأحاديث ما جاء صريحًا في بيان أنَّ هذا الدّين دين اليسر والسّماحة، وأنَّه، صلى الله عليه وسلم بُعِثَ بذلك.

فقد روت عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال:«إنَّ الله لم يبعثني معنّتًا ولا متعنِّتًا، ولكن بعثني معلِّمًا ميسِّرًا» (2) .

وقال لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري لمَّا بعثهما إلى اليمن: «يَسِّرا ولا تُعسِّرا وبَشِّرا ولا تُنَفِّرا» (3) .

(1) - انظر: رفع الحرج ص (75) ، والإشارة للغلو والمشقة.

(2)

- أخرجه مسلم (2 / 1105) رقم (1478) .

(3)

- أخرجه البخاري (5 / 108) . ومسلم (3 / 1359) رقم (1733) .

ص: 120

وقال، صلى الله عليه وسلم مبَيِّنًا حقيقة هذا الدين:«إنَّ الدّين يسر ولن يشادّ الدّين أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا» (1) .

وروى ابن عباس عنه، صلى الله عليه وسلم «أنه قال لما قيل له: يا رسول الله! أي الأديان أحبّ إلى الله؟ قال: "الحنيفيَّة السَّمحة» (2) .

وجاء في روايات أخرى: «بُعثت بالحنيفيَّة السّمحة» (3) .

وفي رواية: «إنَّ أحبّ الدّين إلى الله الحنيفيَّة السّمحة» (4) .

وعن عروة الفقيمي رضي الله عنه قال: «كنَّا ننتظر النبي، صلى الله عليه وسلم فخرج يقطر رأسه من وضوء أو غسل فصلّى، فلمّا قضى الصّلاة جعل النَّاس يسألونه: يا رسول الله! أعلينا من حرج في كذا، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم "لا أيّها النّاس: إنَّ دين الله- عز وجل في يسر، إنَّ دين الله- عز وجل في يسر، إنَّ دين الله- عز وجل في يسر» (5) . وما خير رسول الله، صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا (6) .

وفي مسند الإمام أحمد، قال: قال، صلى الله عليه وسلم «إنَّ خير دينكم أيسره، إنَّ خير دينكم أيسره» (7) .

(1) - أخرجه البخاري (1 / 15 (.

(2)

- أخرجه أحمد (1 / 236) . والبخاري معلقًا (1 / 15) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 65) : رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط والبزار، وفيه ابن إسحاق وهو مدلس، ولم يصرّح بالسماع. اهـ. وحسن الحافظ إسناده في الفتح (1 / 117) .

(3)

- أخرجه أحمد (5 / 266) . قال الهيثمي في المجمع: (5 / 282) : رواه أحمد والطبراني، وفيه علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف.

(4)

- قال الهيثمي في المجمع (1 / 65) . رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الله بن إبراهيم الغفاري منكر الحديث.

(5)

- أخرجه أحمد (5 / 69) . قال الهيثمي في المجمع (1 / 67) ؛: رواه أحمد والطبراني في الكبير وأبو يعلى وفيه عاصم بن هلال، وثقه أبو حاتم وأبو داود، وضعفه النسائي وغيره. قال الحافظ في التقريب ص (286) : فيه لين.

(6)

- أخرجه أحمد (4 / 338)، (5 / 32) . قال الهيثمي في المجمع (1 / 66) : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

(7)

- قال الهيثمي في المجمع (4 / 18) : رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح.

ص: 121

وقال، صلى الله عليه وسلم في حديث محجن بن الأدرع:«إنَّ الله تعالى رضي لهذه الأمَّة اليسير وكره لها العسير» (1) .

وهذه الأحاديث صريحة في بيان يسر هذا الدّين وسماحته.

ونجد من أساليبه، صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب ما ورد في النّهي عن الغلوّ والتنطّع.

فعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم «إيَّاكم والغلوّ في الدّين فإنَّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدّين» (2) .

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم «هلك المتنطّعون» قالها ثلاثًا (3) .

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم كان يقول:«لا تُشّددوا على أنفسكم فيشدِّد الله عليكم، فإنَّ قومًا شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصَّوامع والدّيارات رهبانيَّة ابتدعوها ما كتبناها عليهم» (4) .

(1) - قال الهيثمي في المجمع (4 / 18) : رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح.

(2)

- أخرجه النسائي (5 / 268) رقم (3057) . وابن ماجه (2 / 1008) رقم (3029) وأحمد (1 / 215، 347) ، وصححه الحاكم (1 / 466) ، ووافقه الذهبي، وصححه - أيضًا- الألباني كما في السلسلة الصحيحة رقم (1283) ، وصحيح الجامع رقم (2680) .

(3)

- أخرجه مسلم (4 / 2055) رقم (2670) . وأبو داود (4 / 201) رقم (4608) . وأحمد (1 / 386) .

(4)

- أخرجه أبو داود (4 / 276، 277) رقم (4904) ، وأخرجه أبو يعلى، كما في المطالب العالية (1 / 117) رقم (422) وفي إسناد هذا الحديث: سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء؛ مختلف في توثيقه. قال الحافظ في التقريب ص (238) مقبول. وقال - أيضًا - في التهذيب (4 / 57) : ذكره ابن حبان في الثقات، وروى له أبو داود حديثًا واحدًا.. وذكر هذا الحديث. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6 / 259) : رجاله رجال الصحيح، غير سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء وهو ثقة!! وضعف هذا الحديث العلامة الألباني كما في ضعيف الجامع رقم (6232) ، والأقرب حسن هذا الإسناد. والله - تعالى - أعلم.

ص: 122

ومن أساليبه- أيضًا- صلى الله عليه وسلم ترك العمل مخافة المشقَّة على أمَّته: ومن ذلك قصَّة صلاة التَّراويح، «حيث صلى، صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في رمضان فصلَّى بصلاته ناس، ثم صلَّى القابلة فكثر النّاس، ثم اجتمعوا في الليلة الثَّالثة أو الرّابعة فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: "قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أنيّ خشيت أن تُفرض عليكم» وفي الرّواية الأخرى: «فتعجزوا عنها» (1) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال:«لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك عند كل صلاة» (2) .

بل إنَّه يعمل العمل فيندم على ذلك مخافة المشقَّة على أمّته: فقد روت عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم خرج من عندها وهو مسرور ثم رجع إليها وهو كئيب، فقال: "إنّي دخلت الكعبة، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها، إنّي أخاف أن أكون قد شققت على أمّتي» (3) .

(1) - أخرجه البخاري (1 / 222) . ومسلم واللفظ له (1 / 524) رقم (761) .

(2)

- أخرجه البخاري (1 / 214) . ومسلم (1 / 220) رقم (252) .

(3)

- أخرجه أبو داود (2 / 215) رقم (2029) . وابن ماجه (2 / 1018، 1019) رقم (3064) . وضعّفه الألباني كما في ضعيف الجامع رقم (2085) .

ص: 123

ووصل من رحمته، صلى الله عليه وسلم وتيسيره على أمّته وكرهه للمشقَّة عليهم ما يفيده هذا الحديث الذي رواه أبو قتادة، حيث قال، صلى الله عليه وسلم «إنّي لأقوم إلى الصّلاة وأنا أريد أن أطوّل فيها فأسمع بكاء الصّبي فأتجوّز كراهية أن أشقّ على أمّه» (1) .

ومن أساليبه في ذلك نهيه، صلى الله عليه وسلم لأصحابه عن أعمال تؤدي إلى المشقَّة والعسر:

«فقد جاء رجل إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقال: إنّي لأتأخرّ عن صلاة الصّبح من أجل فلان مما يطيل بنا» قال أبو مسعود الأنصاري راوي الحديث: فما رأيت النبي، صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قطّ أشدّ ممّا غضب يومئذ، فقال:«أيّها الناس إن منكم منفّرين، فأيّكم أمَّ النّاس فليوجز، فإنَّ من ورائه الكبير، والضعيف، وذا الحاجة» (2) .

«ودخل مرَّة المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ فقالوا: حبل لزينب، فإذا فترت تعلَّقت به، فقال، صلى الله عليه وسلم حلّوه، ليصلّ أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد» (3) .

(1) - أخرجه البخاري (1 / 173) . وأبو داود (1 / 209) رقم (789) .

(2)

- أخرجه البخاري (1 / 172، 173) . ومسلم (1 / 340) رقم (466، 467) .

(3)

- أخرجه البخاري (2 / 48) . ومسلم (1 / 542) رقم (784) .

ص: 124

وجاء في الصّحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن النبي، صلى الله عليه وسلم رأى شيخًا يهادي بين ابنيه، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي، قال: إنَّ الله عن تعذيب هذا لنفسه لغني، وأمره أن يركب» (1) .

ومثل ذلك «قصة الثلاثة الذين سألوا عن عبادة الرسول، صلى الله عليه وسلم فلما علموا ذلك كأنّهم تقالّوها! فقال أحدهم: أمّا أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أمّا أنا فأصّلي الليل أبدًا، وقال الآخر: لا أتزوجّ النساء، فقال صلى الله عليه وسلم أأنتم الذين قلتم كذا وكذا، أمَا والله إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكنيّ أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منِّي» (2) .

وأختم هذه الأحاديث بهذا الحديث الذي رواه الدارقطني بسنده عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فسار ليلا فمرَّ على رجل جالس عند مقراة له- وهي الحوض الذي يجتمع فيه الماء- فقال له عمر: يا صاحب المقراة: ولَغَتْ السّباع الليلة في مقراتك؟

(1) - أخرجه البخاري (7 / 234) . ومسلم (3 / 1263، 1264) رقم (1642، 1643) .

(2)

- أخرجه البخاري (6 / 116) . ومسلم بمعناه (2 / 1020) رقم (1401) .

ص: 125

فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم "يا صاحب المقراة لا تخبره، هذا متكلّف، لها ما حملت في بطونها، ولنا ما بقي شراب طهور» (1) .

ومما سبق من هذه الأحاديث يتبيَّن لنا سماحة هذا الدّين ويسره، وبعده عن الغلوّ والتّشدّد وما يؤدّي إلى المشقَّة والعسر.

(1) - سنن الدارقطني (1 / 26) .

ص: 126

أقوال السلف (1)

ما ذكرته من الأدلّة من الكتاب والسنَّة يغني عمَّا سواه، بل إن آية واحدة أو حديثًا واحدًا صحيحًا حجَّة في ذلك.

ولكن لأبين أنَّ قضيّة يسر هذا الدّين وسماحته ووسطيَّته أصبحت منهجًا عمليًّا، استجابة لله ورسوله، فسأذكر بعض ما ورد عن السّلف في هذا الباب، مع الاختصار دون إخلال أو إقلال.

يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مبيّنًا منهج الصّحابة في ذلك: "من كان منكم مستنًّا فليستنَّ بمن قد مات، فإنَّ الحيّ لا تُؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمَّة، أبرّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلّها تكلّفًا، اختارهم الله لصحبة نبيه، صلى الله عليه وسلم ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتّبعوهم على أثرهم وسيرتهم، فإنَّهم كانوا على الهدي المستقيم"(2) .

وقال- أيضًا- إيَّاكم والتّنطّع، إيَّاكم والتّعمّق، وعليكم بالعتيق (3) .

وقال أنس بن مالك رضي الله عنه كنّا عند عمر رضي الله عنه فسمعته يقول: "نهينا عن التّكلّف"(4) .

قال الدكتور / صالح بن حميد: هذه الصّيغة وإن كان لها حكم المرفوع، غير أنَّها تدلّ على البعد عن التّكلّف هو منهج عمر وغيره من الصّحابة (5) .

(1) - انظر: رفع الحرج (87) وما بعدها.

(2)

- إغاثة اللهفان (1 / 159) ورفع الحرج ص (87) .

(3)

- انظر: إغاثة اللهفان (1 / 159) ورفع الحرج ص (88) .

(4)

- انظر إغاثة اللهفان (1 / 159) ورفع الحرج ص (88) .

(5)

- انظر: رفع الحرج ص (88) .

ص: 127

وقد مرَّ عمر رضي الله عنه في طريق فسقط عليه شيء من ميزاب، فقال رجل مع عمر: يا صاحب الميزاب، ماؤك طاهر أو نجس؟ فقال عمر: يا صاحب الميزاب: لا تخبرنا، ومضى (1) .

وروي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما سئل عن الجبن الذي تصنعه المجوس؟ فقال: ما وجدته في سوق المسلمين اشتريته ولم أسأل عنه (2) .

وقال الإمام الشعبي: إذا اختلف عليك أمران فإنَّ أيسرهما أقربهما إلى الحقّ لقوله- تعالى-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: من الآية 185) .

وقال معمر وسفيان الثوري: إنما العلم أن تسمع بالرّخصة من ثقة. فأمَّا التّشديد فيحسنه كل أحد (3) .

وقال إبراهيم النخعي: إذا تخالجك أمران فظنَّ أن أحبهما إلى الله أيسرهما (4) .

وروي عن مجاهد وقتادة وعمر بن عبد العزيز: أفضل الأمرين أيسرهما لقوله- تعالى-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} (البقرة: من الآية 185)(5) .

والآثار في هذا كثيرة جدًّا، وما مضى فيه الكفاية- إن شاء الله-.

وبعد:

(1) - انظر: إغاثة اللهفان (1 / 154) ورفع الحرج ص (89) .

(2)

- انظر: جامع العلوم والحكم ص (269) ورفع الحرج ص (91) .

(3)

- انظر: جامع بيان العلم وفضله ص (285) ، ورفع الحرج ص (92) .

(4)

- انظر: رفع الحرج ص (92) ، والآثار لأبي يوسف ص (196) .

(5)

- انظر: المغني (3 / 150) ، ورفع الحرج ص (92) .

ص: 128

فإنَّ المتأمّل لهذه الآثار من الكتاب والسنَّة وأقوال سلف الأمَّة يلحظ أن هذا المعنى غائب عن واقع وفهم كثير من المسلمين، وقليل منهم من يدرك هذه الحقيقة ويتعامل معها، حيث إنَّه يوجد هناك من لو سئل عن هذا الأمر لأجاب الإجابة الصّحيحة، ولكن عند التأمّل في واقعه وتعامله والتزامه ومنهجه لا نجد إلا الإفراط أو التّفريط.

ص: 129

والعجب أن بعض هؤلاء كأنَّه أغير على دين الله من رسول الله، صلى الله عليه وسلم بل من الله- جلّ وعلا- الذي يقول:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: من الآية 78) . ويقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: من الآية 185) . ويقول: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (النساء:28) . وهذا لا يعني- أيضًا- التّفريط والتَّساهل والتّهاون بحجّة أن هذا الدّين يسر، وهو ما يبرّر به كثير من المقصّرين والعصاة أفعالهم، فإنَّ تحديد مفهوم اليسر والتّوسعة إلى الشَّارع لا إلى أهواء النَّاس ورغباتهم وما ألفوه ودرجوا عليه، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلوّ ولا جفاء (كلا طرفي قصد الأمور ذميم) . ثمَّ إن قضيَّة التّيسير والتّوسعة قضيَّة منهج متكامل وليست تتعلّق بجزئيَّة أو جزئيَّات كما قد يتصَّور بعض النَّاس.

ص: 130

وبهذا التّعريف والشّمول ندرك أنَّ هذا الأمر يندرج في منهج الوسطيَّة التي هي سمة من سمات هذه الأمَّة، وخاصيَّة من خصائصها، فلن نستطيع أن ندرك حقيقة الوسطيَّة إلا إذا فهمنا سمة اليسر والتّوسعة ورفع الحرج، وإلا تصبح الوسطيَّة معنى مفرغًا من حقيقته، وقولا نظريًّا لا وجود له في الواقع، وبذلك يفقد هذا الدّين خاصيَّة لها أثرها في حياة النَّاس ومآلهم.

ص: 131

رابعًا البينيَّة

ذكرت في مبحث سابق أنَّ البينيَّة من لوازم وصفات الوسطيَّة، وحيث ذكرت ذلك مختصرًا فإنّي أزيده هنا وضوحًا وبيانًا، فأقول:

إنَّ إطلاق لفظ البينيَّة يدلّ على وقوع شيء بين شيئين أو أشياء، وقد يكون ذلك حسًّا أو معنى.

وعندما نقول: إنَّ (الوسطيَّة) لا بدّ أن تتَّصف بالبينيَّة، فإنَّنا لا نعني مجرَّد البينيَّة الظَّرفيَّة، بل إنَّ الأمر أعمق من ذلك، حيث إنَّ هذه الكلمة تعطي مدلولا عمليًّا على أن هذا الأمر فيه اعتدال وتوازن وبُعد عن الغلوّ والتّطرف أو الإفراط والتَّفريط.

وبهذا تكون البينيَّة صفة مدح، لا مجرَّد ظرف عابر.

ومن هذا التَّفسير جاءت علاقة البينيَّة بالوسطيَّة، وقد رأيت جمهورًا من العلماء ربطوا بين الوسطيَّة والبينيَّة، ولا غرابة في ذلك، فإنَّ لهذا أصلا في اللغة والاشتقاق، كما سبق بيان ذلك، وهو المتبادر إلى الأذهان عند إطلاق هذه الكلمة.

ولأهميَّة هذه القضيّة (1) فسأذكر بعض أقوال العلماء، ومن قال بذلك منهم في القديم والحديث:

1-

الإمام الطبري: حيث قال في تفسيره: وأنا أرى أنَّ الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء، الذي هو بين طرفين، مثل وسط الدّار.

(1) - وذلك أن أحد الباحثين ألَّف رسالة علمية وبناها على عدم التلازم بين الوسطيَّة والبينيَّة، واعتبر أن ذلك خطأ ممن قال به، وهو الأستاذ فريد عبد القادر في رسالته: الوسطيَّة في الإسلام.

ص: 132

وأرى أن الله- تعالى ذكره- إنَّما وصفهم بأنَّهم وسط لتوسّطهم في الدّين، فلا هم أهل غلوّ فيه، غلوّ النّصارى الذين غلو بالتَّرهّب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه.

ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله، وقتلوا أنبيائهم، وكذبوا على ربّهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسّط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبّ الأمور إلى الله أوسطها (1) .

2-

شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد ذكرتُ كلامه سابقًا، وأُعيد بعضه هنا، حيث قال في العقيدة الواسطيَّة:

فإنَّ الفرقة الناجية أهل السنَّة والجماعة يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل هم الوسط في فرق الأمَّة، كما أنَّ الأمَّة هي الوسط في الأمم.

فهم وسط في باب صفات الله- تعالى- بين أهل التّعطيل الجهميَّة، وأهل التَّمثيل المشبّهة.

وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبريَّة والقدريَّة وغيرهم.

وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيديَّة من القدريَّة وغيرهم.

وفي باب أسماء الإيمان والدّين بين الحروريَّة والمعتزلة وبين المرجئة والجهميَّة.

وفي أصحاب رسول الله بين الرافضة والخوارج (2) .

(1) - انظر: تفسير الطبري (2 / 6) .

(2)

- انظر: شرح العقيدة الواسطيَّة ص (124) .

ص: 133

3-

رشيد رضا حيث قال: قالوا: إنَّ الوسط هو العدل والخيار، وذلك أنَّ الزّيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنّقص عنه تفريط وتقصير، وكل من الإفراط والتَّفريط ميْل عن الجادّة القويمة، فهو شرّ ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسط بينهما.

ثم ذكر قولا لأستاذه محمد عبده حيث إنَّه يرى- أيضًا- أنَّ الوسط هو المتوسّط بين أمرين مع كونه خيارًا (1) .

4-

يوسف القرضاوي فقد قال: ونعني بها- أي الوسطيَّة- التوسّط أو التّعادل بين طرفين متقابلين أو متضادّين، بحيث لا ينفرد أحدهما بالتّأثير، ويطرد الطرف المقابل، وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حقّه، ويطغى على مقابله، ويحيف عليه، ثم ذكر بعض الأمثلة في ذلك (2) .

5-

محمد قطب حيث بين في كتابه "منهج التَّربية الإسلاميَّة" أنَّ الوسطيَّة هي التّوازن، والتّوازن هو العدل، حيث قال في قوله- تعالى-:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة: من الآية 143) . وسطًا في كل شيء، متوازنين، في كل ما تقومون به من نشاط.

(1) - انظر: تفسير المنار (2 / 4) .

(2)

- انظر: الخصائص العأمَّة للإسلام ص (127) ، والوسطيَّة في الإسلام لفريد عبد القادر ص (ج) .

ص: 134

ثم بين أنَّ الوسطيَّة تعني التَّوفيق بين أشياء كثيرة، كالتَّوفيق بين مطالب الفرد الواحد، وبين مطالب الجموع، والتَّوفيق بين العمل للعاجلة والآجلة

وهكذا (1) .

6-

عبد الرحمن بن ناصر السّعدي، وانظر ما قاله في رسالة القواعد الحسان لتفسير القرآن، القاعدة (24) : وبالجملة فإن الله العليم الحكيم أمر بالتوسّط في كل شيء بين خلقين ذميمين، تفريط وإفراط، وقال:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة: من الآية 143)(2) .

7 -

عمر سليمان الأشقر، فقد اعتبر الوسطيَّة هي الأمر الوسط بين أمرين متطرّفين، حيث قال: من المعضلات التي لم ينجح المشرّعون من البشر في حلّها التّطرّف في التّشريع، فبعض القوانين تجنح إلى أقصى اليسار، وبعض آخر يجنح إلى أقصى اليمين، وقلّما يوفّق واضعو القوانين إلى التوسّط والاعتدال.

وقال في موضع آخر: وإذا نظرت إلى الشّريعة الإسلامية وجدتها وسطًا في كل أحكامها، فأحكامها بين الغالي والجافي (3) .

(1) - انظر: منهج التربية الإسلامية (1 / 28) .

(2)

- انظر: القواعد الحسان ص (90) .

(3)

- انظر: خصائص الشريعة الإسلامية ص (86، 87) ، والوسطيَّة في الإسلام لفريد عبد القادر (و) .

ص: 135

8-

عمر بهاء الدين الأميري، فقد تناول الوسطيَّة من منطلق التوسّط بين شيئين، حتى إنَّه اعتبر من وسطيَّة هذه الأمَّة التوسّط الجغرافي في المكان والمناخ. وممَّا قال: وقد كان من تدبير الله الحكيم العليم في هذه الأمَّة أن جعل وسطيَّتها في كل مجال:

فهي موطن الرّسالة الأولى، وفي ساحتها الحضاريَّة المشعّة المترامية الأطراف- من بعد- في مناخ محتمل، وجوّ مسعف، لا في مناطق بركانيَّة زلزاليَّة، ولا لاظية استوائيَّة، ولا متجمّدة قطبيَّة، حيث تقعد قساوة الطبيعة بالإنسان عن الحركة والنّشاط والإعمار الحضاري.

وهي وسط في موقعها الجغرافي المهمّ، حيث كانت مهابط الوحي، أرض الإسلام، ومهد الأمَّة الإسلاميّة الأولى.

فهي الوسط بين الشّمال والجنوب، والشرق والغرب، وهي مركز الوصل بين إفريقيا وآسيا، وطرف ممتدّ من أوروبا، وهي الرّباط البريّ بين الطّرق المائيَّة (1) .

9-

يوسف كمال، حيث قال: أمَّا الوسطيَّة في الإسلام فهي حدود لمنهج الحركة في طريق مستقيم إلى هدف، بعيد عن انحرافات في سبل شتّى تؤدّي للضّلال.

قال عنه فريد عبد القادر: إلا أنَّه قد لازم عرضه فكرة التّوسّط بين أمرين (2) .

(1) - انظر: وسطية الإسلام وأمَّته في ضوء الفقه الحضاري ص (58) ، والوسطيَّة في الإسلام ص (و) لفريد عبد القادر.

(2)

- انظر: مستقبل الحضارة ليوسف كمال ص (127) ، والوسطيَّة في الإسلام ص (ز) .

ص: 136

ومن خلال ما سبق يتَّضح لنا أن صفة البينيَّة أمر أساسي في تحديد الوسطيَّة، وأنَّ هؤلاء العلماء والكُتّاب اعتبروا هذا الأمر قضيَّة مسلَّمة في تحديدهم، وتعريفهم للوسطيَّة.

وقد ذكرت الأدلّة من القرآن والسنَّة على أنَّ البينيَّة صفة لازمة للوسطيَّة، وذلك في مبحث (تحرير معنى الوسطيَّة) .

وهذه البينيَّة ليست مجرّد الظّرفيَّة، وإنَّما هي التي تعطي الدَّلالة على التّوازن والاستقامَّة والعدل، ومن ثمَّ الخيريَّة، فهذه هي الوسطيَّة الحقَّة. وبهذا يتَّضح لنا الخطأ الذي وقع فيه الأستاذ فريد عبد القادر عندما ذهب إلى أنَّ الوسطيَّة لا تستلزم البينيَّة، ومن ثمَّ قام بتخطئة من ذهب إلى ذلك كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ممَّن ذكرت سابقًا، حيث قال:

لقد ركّزت الدّراسات السّابقة حول موضوع الوسطيَّة على مفهوم التّوسّط بين أمرين. (ثم قال) :

فكانت فكرة التّوسّط بين أمرين مسيطرة على الأذهان والعقول أثناء البحث لإظهار وسطيَّة الإسلام، مع التّعبير عن هذه الوسطيَّة بالخيريَّة، (ثم حكم عليها قائلا) : فكانت هذه الدّراسات تخلط أثناء البحث بين ملابسات صحيحة، ونتائج غير صحيحة.

ص: 137

ثم ذكر أمثلة تدلّ على عدم فهمه لما ذهب إليه أولئك الأعلام، ومن ثمَّ قام بالحكم الجائر إيَّاه (1) .

(1) - انظر رسالته: وسطيَّة الإسلام ص (ب) ، ومن هنا فإني أنصح طلاب العلم بعدم التعجل بتخطئة العلماء والمفكرين، وهذا لا يعني عصمتهم، ولكن كما قال الشاعر: وكم من عاتب قولا صحيحًا وآفته من الفهم السقيم.

ص: 138

العدل والحكمة

أمّا العدل فقد صحّ فيه الحديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم حيث فسَّر قوله- تعالى-:{أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة: من الآية 143) بقوله: عدولا: وذلك في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري، حيث قال، صلى الله عليه وسلم «والوسط والعدل» (1) .

وفي رواية الطبري: قال: «أمَّة وسطًا» عدولا (2) .

وقد بيّنت أنَّ الوسطيَّة بينيَّة، ومن ثمَّ لا بد من العدل في اختيار هذا الأمر الذي بين أمرين أو عدَّة أمور.

قال القرطبي: والوسط: العدل، وأصل هذا أنَّ أحمد الأشياء أوسطها.

ثم قال: قال علماؤنا: أنبأنا ربنا- تبارك وتعالى في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا باسم العدالة، وتولية خطير الشهادة على جميع خلقه، فجعلنا أولا مكانًا، وإن كنَّا آخرًا زمانًا، كما قال، عليه السلام:«نحن الآخرون الأولون» (3) . وهذا دليل على أنَّه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ قول الغير على الغير إلا أن يكون عدلا (4) .

وممّا يدلّ على أنَّ العدل من ملامح الوسطيَّة قول الطبري: وأمَّا التّأويل فإنَّه جاء بأنّ الوسط العدل، وذلك معنى الخيار، لأنَّ الخيار من النَّاس عدولهم (5) .

ثم ساق الأدلّة من السنَّة وأقوال السّلف في ذلك.

(1) - انظر: تفسير الطبري (2 / 7) . والحديث أخرجه الترمذي (5 / 190) رقم (2961) وأحمد (3 / 9) وعندهما «عدلا» بدل «عدولا» .

(2)

- انظر: تفسير الطبري (2 / 6) .

(3)

- أخرجه البخاري (1 / 211) . ومسلم (2 / 585) رقم (855) .

(4)

- انظر: تفسير القرطبي (2 / 155) .

(5)

- انظر: تفسير الطبري (2 / 7) .

ص: 139

وقال رشيد رضا: قال الأستاذ: إنَّ في لفظ الوسط إشعارًا بالسببيَّة، فكأنَّه دليل على نفسه، أي: أنَّ المسلمين خيار وعدول لأنَّهم وسط (1) .

وإذا كان الوسط شيء بين شيئين، فإنَّه يلزم لأن يكون وسطًا شرعيًا أن يكون عدلا، لأنَّه إذا لم يكن كذلك مال وانحرف إلى أحد الطّرفين، إمَّا إلى الإفراط، وإمَّا إلى التّفريط، وهذا خروج عن حقيقة العدل، ومن ثمَّ خروج عن الوسط، ولذلك جاءت صفة الحكمة ملمحًا من ملامح الوسطيَّة، وبيان هذا: أنَّ التوسّط هو توسّط معنوي، وتحديد هذا التوسّط يكون بمراعاة جميع الأطراف، تحقيقًا للمصالح، ودرءًا للمفاسد، وهذه هي الحكمة الشّرعيَّة. وبعبارة أخرى: فإنَّ الوسطيَّة أمر نسبي، يخضع تحديده لعوامل عدَّة لا بد من مراعاتها، ولا يتحقَّق ذلك إلا بإتقان الحكمة.

ومن أجل إلقاء مزيد من الضّوء على هذه الحقيقة أذكر بعض ما ورد في الحكمة من أقوال المفسّرين، وتعريفات العلماء (2) .

قال عبد الرحمن بن سعدي:

(1) - انظر: تفسير المنار (2 / 4) .

(2)

- انظر المزيد من التفصيل لتعريف الحكمة: رسالة المؤلف (الحكمة) .

ص: 140

الحكمة: هي العلوم النّافعة، والمعارف الصّائبة، والعقول المسدّدة، والألباب الرزينة، وإصابة الصّواب في الأقوال والأفعال، ثم قال: وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة التي هي وضع الأشياء مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محلّ الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام. (1) ..

وقال سيد قطب: الحكمة: القصد والاعتدال، وإدراك العلل والغايات، والبصيرة المستنيرة التي تهديه للصّالح الصّائب من الحركات والأعمال (2) .

وكلام ابن سعدي وسيّد في غاية الدّلالة على صلة الحكمة بالوسطيَّة.

قال ابن القيّم: وأحسن ما قيل في الحكمة قول مجاهد ومالك: إنّها معرفة الحقّ والعمل به، والإصابة في القول والعمل.

وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن، والفقه في شرائع الإسلام، وحقائق الإيمان (3) .

وقال في موضع آخر: هي: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي (4) .

وقوله: (على الوجه الذي ينبغي) من أقوى دلالات الوسطيَّة.

وقال في موضع آخر: الحكمة: أن تعطي كل شيء حقّه، ولا تعدّيه حدّه، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخّره عنه (5) .

(1) - انظر: تفسير ابن سعدي (1 / 332) .

(2)

- انظر: في ظلال القرآن (1 / 312) .

(3)

- انظر: التفسير القيم ص (226) .

(4)

- انظر: مدارج السالكين (2 / 479) .

(5)

- انظر مدارج السالكين (2 / 478) .

ص: 141

ونخلص ممّا سبق: أن الحكمة لا بد من اعتبارها عند تحديد معنى الوسطيَّة، بل إن الالتزام بالوسطيَّة وعدم الجنوح إلى الإفراط أو التّفريط هو عين الحكمة وجوهرها.

وذلك أنَّ الخروج عن الوسطيَّة له آثاره السلبيَّة، إمَّا عاجلا أو آجلا، وهذا يُخالف الحكمة ويُنافيها.

ومن الأمثلة التي توضّح ذلك:

أمر الابن بالصّلاة لسبع سنين، وضربه عليها ضربًا غير مبرِّح بعد بلوغ العاشرة، فإنَّنا نجد التوسّط في هذه القضية ظاهرًا بين الإفراط وبين التّفريط، وهذه هي الحكمة، حيث فرَّق بين من لم يبلغ السّابعة، وبين من بلغها، وكذلك من بلغ العاشرة يختلف أمره، ثم من أدرك الحلم يختلف عمَّا سبق.... وهكذا، فقد نزّل الأمور منازلها، ووضع الأشياء مواضعها.

وصدق الله العظيم: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة: من الآية 269) .

ص: 142