الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبرز أوجه خيرية هذه الأمَّة
(1)
قال الأستاذ سيد قطب:
فهي خير أمَّة أخرجت للنَّاس، لا عن مجاملة، ولا عن محاباة، ولا عن مصادفة أو جزاف، - تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا - وليس توزيع الاختصاصات والكرامات كما كان أهل الكتاب يقولون:{نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} (المائدة: من الآية 18) . كلا إنّما هو العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشريَّة من المنكر، وإقامتها على المعروف، مع الإيمان الذي يُحدّد المعروف والمنكر (2) .
إنَّ هذه الخيريَّة لها أسباب، ولها حقيقة، حقيقة لا بدّ أن توجد في الواقع، وأن ترى في الحياة، وليست مجرّد تصوّر ذهني، وفلسفة غائبة.
إنَّ هذه الخيريَّة مسألة نسبيَّة بالنسبة للأمَّة، فقد ترتفع لتبلغ الذّروة، كما كانت الحال في جيل الصّحابة والقرون المفضّلة، وقد تنحسر في مجموعات وأفراد، كما هي في القرون المتأخرة، وذلك تبعًا لوجود مقومات الخيريَّة وصيانتها.
(1) - انظر: وسطيَّة أهل السُنَّة ص (224) . فقد فصَّل في ذلك.
(2)
- انظر: في ظلال القرآن (4 / 447) .
1-
الإيمان بالله: قال - سبحانه -: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: من الآية 110) . فقرن الله - جلّ وعلا - بين خيريَّة هذه الأمَّة والإيمان به - تعالى -، بل جعل الإيمان هو سبب الخيريَّة، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر فرع عن الإيمان، وأثر من آثاره.
وهل يمكن أن نتصوّر خيريَّة دون إيمان بالله - تعالى -؟ والإيمان بالله - تعالى - يشمل جميع أبواب الإيمان والإسلام، لأنَّ العلماء ذكروا أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وهنا جاء ذكر الإيمان وحده، فهو يشمل الإيمان والإسلام.
وعند التّأمل في معنى الإيمان كما ورد في حديث جبريل المشهور، قال:«أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه» (1) . نجد الشّمول والتكامل، كما قال - سبحانه-:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} (البقرة: من الآية 285) .
(1) - أخرجه مسلم (1 / 38، 39) رقم (8، 9) . وأبو داود (4 / 224) رقم (4695) . والترمذي (5 / 8، 9) رقم (2601) وغيرهم.
فالإيمان بالله يشمل الأمور العقديَّة والعمليَّة، الظاهرة والباطنة، ما يتعلّق منها بعالم الغيب والشّهادة، ما كان منها في الدّنيا أو الآخرة.
والإيمان بالله أعمق دلالة وأثرًا ممّا قد يتصورّه كثير من النَّاس، فليس هو مجرّد التّصديق كما فسّره بعض المتكلّمين، ممّا أودي بكثير من النَّاس إلى اعتناق مبدأ الإرجاء، وهم لا يعلمون، وهم بهذا السّلوك والتّفسير فرّغوا الإيمان من معناه الحقيقي ومدلوله الصّحيح.
وإنّما هو علم واعتقاد وعمل، والإسلام من لوازم الإيمان، فمقتضى الإيمان بالله وكتبه ورسله، يستلزم العمل بما أمر به الله في كتابه، وعلى لسان رسوله، صلى الله عليه وسلم ولهذا فإن شرط الإيمان في تحقيق الخيريَّة جاء مغنيًا عمّا يشمله من أركان الإيمان والإسلام.
ولذلك فإنَّنا قبل أن نحكم بخيريَّة جماعة أو فرد أو عمل، لا بدّ من التّحقّق في توافر شرط الإيمان فيه بمعناه الشّامل المتكامل، فقد قال - سبحانه-:{وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} (آل عمران: من الآية 110) . مع أنَّهم يدّعون الإيمان، ولكن العبرة بالحقائق لا بالدّعاوى.
وعند التّأمّل في قوله- تعالى-: {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: من الآية 110) أجد أن فيه معنى الخير والإنشاء، فهو خبر عن حقيقة واقعة بإيمان هذه الأمَّة، حيث تميّزت عن غيرها في شمول هذا الإيمان واستمراره، ويكفي دليلا عن شمول إيمانها شهادتها لبعض رسل الله يوم القيامة بأنهم قد بلّغوا رسالة ربّهم إلى أقوامهم. فهذا الإيمان الموجود والمتحقّق أهَّلها لهذه الخيريَّة.
ثم فيه معنى الإنشاء والطلب، حيث جعل من لوازم الخيريَّة وجود هذا الإيمان، فكما أن هذا الإيمان موجود في هذه الأمَّة بجملتها وبخاصّة القرون المفضّلة، فإنّ على من أراد من أفراد هذه الأمَّة أن يكون من خيارها أن يُحقّق معنى الإيمان في نفسه، بمعناه الشّامل المتكامل.
فإذا تحقّق الإيمان تحقَّقت الخيريَّة، وإذا تحقَّقت الخيريَّة في صورتها الشَّرعية وجدنا الوسطيَّة في أسمى معانيها، مقرونة بأقوى أركانها ومبانيها.
2-
الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: من خصائص هذه الأمَّة العمليَّة قيامها بالأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، وهذه شهادة الله لها:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (آل عمران: من الآية 110) .
والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أوجبه الله على من قبلنا، ولكنهم فرَّطوا وضيَّعوا {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة:78، 79) . ونجد مصداق خيريَّة هذه الأمَّة لقيامها بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، أنَّه منذ بُعِثَ رسول الله، صلى الله عليه وسلم إلى يومنا الحاضر وهذا الرّكن العظيم لم ينقطع ولم يترك كما فعل بنو إسرائيل.
قد نجد ضعفًا في زمان من الأزمنة أو مكان من الأمكنة، ولكنَّه لا يصبح حالة مستقرَّة، ولا تعدم الأمَّة آمرًا أو ناهيًا ولو كانوا قلَّة قليلة، وهذا مصداق قول الرسول، صلى الله عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خذلهم حتَّى يأتي أمر الله وهم كذلك» (1) . الحديث.
فالطائفة المنصورة موجودة إلى قيام السَّاعة، وهي طائفة ظاهرة آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر.
وكما ذكرت في موضوع الإيمان، فإن ذكر الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر في هذه الآية خبرًا وإنشاءً، فهو خبر عن حقيقة واقعة ومستمرَّة، حيث إنَّ الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر مستمرّ في هذه الأمَّة إلى قيام الساعة، وهو كذلك (إنشاء) فمن أراد الخيريَّة فلا بدّ أن يقوم بهذا الرّكن العظيم، حتى تتحقّق له الخيريَّة التي جعلها الله من خصائص هذه الأمَّة، ففيه معنى الأمر - أيضًا-.
وقد يسأل سائل: أليس الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر فرعًا عن الإيمان، فلماذا أفرده دون سائر أبواب الإيمان العمليَّة؟
وألخّص الجواب على هذا السؤال بما يلي:
1-
أهميّة الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، وأثره المباشر في تحقيق الخيريَّة دون سواه.
(1) - أخرجه مسلم (3 / 1523) رقم (1920) . وأبو داود (4 / 98) رقم (4252) . وابن ماجه (2 / 1304) رقم (3952) . وأحمد (5 / 278) .
2-
أن الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، سياج الإيمان، وركن أساس لبقائه وحمايته.
3-
أن أغلب الأعمال خاصّة غير متعديّة، أمّا الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، فإنّ نفعه لا يقتصر على فاعله بل يتعدّاه إلى المأمور والمنهي، وكذلك إلى الأمر المأمور به والمنهيّ عنه، فمثلا الأمر بالصلاة، لا يقتصر نفع هذا الأمر على جهة واحدة بل يشمل عدّة أطراف:
(أ) الآمر: حيث قام بما أوجبه الله عليه، وهذه عبادة له نفعها وأجرها.
(ب) المأمور: حيث ينتفع بهذا الأمر إن استجاب له، وقد يكون هذا الأمر سببًا لهدايته.
(جـ) المأمور به: فإن الأمر بالصلاة سبيل للمحافظة عليها واستمرارها، وهذا فيه من النّفع العظيم ما لا يخفى.
4-
أن الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر له صفة الشّمول، فليس متعلّقًا بعمل معيّن، بل يشمل كل معروف وكل منكر، بينما سائر الأعمال نجدها أعمالا مخصوصة معينة، فالصيام يتعلّق بعمل مخصوص، والزّكاة والحج وغيرهما كذلك. ولذلك فهو يشترك مع الإيمان في صفة الشّمول، حيث إن الأمر بالمعروف يشمل جميع أبواب الإيمان والإسلام.
والرسول، صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري:«من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (1) . فجاء المنكر مُنَكّرًا هنا دلالة على عمومه، أي: أيّ منكر يراه المسلم، فهو يشمل كل منكر، كما أن الأمر يشمل كل معروف، فيدخل في ذلك جميع ما شرعه الله، فيؤمر به وينهى عن مخالفته (2) .
وممّا سبق يتبيَّن لنا أن الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، من أبرز أوجه خيريَّة هذه الأمَّة، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، له صور متعدّدة، وليس محصورًا بحالة أو صفة واحدة كالكلام مثلا، بل قد يكون باليد أو اللسان أو العمل - كالقدوة مثلا - فمن صلّى أمام الناس لم يقوموا إلى الصلاة فهو داخل في الأمر بالمعروف، وإن لم يتكلّم، وكذلك من تصدَّق ليُقتدى به، فهو من الأمر بالمعروف، ومن خرج من مجلس فيه منكر فإنَّه من تغيير المنكر، ولو لم يتكلّم. {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (الأنعام: من الآية 68) وأضعف أبواب تغيير المنكر أن يكون في القلب كما ورد في الحديث.
وأخيرًا:
(1) - أخرجه مسلم (1 / 69) رقم (49) . وأبو داود (1 / 297) رقم (1140) . والنسائي (8 / 111) رقم (5008) وغيرهم.
(2)
- انظر: تفسير المنار (4 / 63) .
فإنّه إذا تحقّق الإيمان بمعناه الشّامل المتكامل، وجاء الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يحوطه ويحرسه، فإنّنا سنرى الخيريَّة التي أخبرنا الله بها ماثلة أمام أعيننا، لا يزيغ عنها إلا هالك.
هذه أبرز أوجه خيريَّة هذه الأمَّة، وما عداهما من أوجه فأرى أنها داخلة فيما ذكرت دلالة أو ضمنًا.