المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: الآيات التي جاءت تأمر بعبادة الله وحده، وتصف عبادته بالاستقامة - الوسطية في ضوء القرآن الكريم

[ناصر العمر]

الفصل: ‌ثانيا: الآيات التي جاءت تأمر بعبادة الله وحده، وتصف عبادته بالاستقامة

‌ثانيًا: الآيات التي جاءت تأمر بعبادة الله وحده، وتصف عبادته بالاستقامة

، وبأن عبادته هي الكلمة السواء، وغير ذلك مما يدل على أن عبادته هي الطريق الوسط السالم من الانحراف والضّلال: قال - تعالى -: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} (آل عمران: من الآية 64) . وقال في أكثر من موضع (1){إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (آل عمران:51) .

وقال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر:99) والآيات التي جاءت تأمر بعبادة الله وحده كثيرة جدًّا، فما من نبي إلا قال لقومه:"يا قوم اعبدوا الله". قال الطبري في قوله تعالى: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} (آل عمران: من الآية 64) . يعني بذلك - جلّ ثناؤه - قل يا محمد لأهل الكتاب، وهم أهل التوراة والإنجيل - تعالوا: هلمّوا إلى كلمة سواء، يعني إلى كلمة عدل بيننا وبينكم.

والكلمة العدل: هي أن نوحّد الله فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه، فلا نشرك به شيئًا (2) .

(1) - ففي سورة مريم، الآية:(36)(وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) . وفي سورة الزخرف، الآية:(64)(إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) .

(2)

- انظر: تفسير الطبري (3 / 301) .

ص: 204

وقال ابن كثير في الآية نفسها: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (آل عمران: من الآية 64) أي: عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها، ثم فسرها بقوله:{أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} (آل عمران: من الآية 64) . لا وثنًا ولا صليبًا ولا صنمًا ولا طاغوتًا ولا نارًا ولا شيء، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له، هذه دعوة جميع الرسل، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: من الآية 36) (1) .

وقال رشيد رضا: قال الأستاذ الإمام في قوله - تعالى -: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} (آل عمران: من الآية 64) لما نكلوا دعاهم إلى أمر آخر، هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء، وهو سواء بين الفريقين، أي عدل ووسط لا يرجح فيه طرف على آخر، وقد فسّره بقوله:{أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} (آل عمران: من الآية 64) الآية (2) .

وبهذا يتضح لنا أن هذه الآية نصّ في الوسطيَّة في العبادة، وهي عبادة الله وحده.

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (1 / 371) .

(2)

- انظر: تفسير المنار (3 / 325) .

ص: 205

أمّا قوله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (آل عمران:51) . فقد قال الطبري في معناها: ذلك هو الطريق القويم، والهدي المتين الذي لا اعوجاج فيه (1) .

وقال في آية مريم: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (مريم:36) . يقول: هذا الذي أوصيتكم به، وأخبرتكم أن الله أمرني به هو الطريق المستقيم، الذي من سلكه نجا، ومن ركبه اهتدى، لأنه دين الله الذي أمر به أنبياءه (2) .

وقال القاسمي:

{فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (مريم: من الآية 36) أي: قويم، من اتبعه رشد وهدى، ومن خالفه ضلّ وغوى (3) .

وقد سبق أن بيّنت أن الوسطيَّة تعني الاستقامة وأن قوله - تعالى -: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة:6) . من أقوى الأدلة على منهج الوسطيَّة، كما يقرّره القرآن الكريم.

(1) - انظر: تفسير الطبري (3 / 283) .

(2)

- انظر: تفسير الطبري (16 / 85) .

(3)

- انظر: تفسير القاسمي (11 / 4137) .

ص: 206

ثالثًا: الآيات التي جاءت في بعض أنواع العبادة في معناها الخاص كالصلاة والدعاء وغيرهما، حيث نجد فيها أمرًا بالتزام منهج الوسط، ونهيًا عن الإضاعة أو الرهبنة، وهو ما يمثل الإفراط والتفريط.

وسأذكر بعض الآيات التي وردت في ذلك، مقتصرًا على ما يُبيّن المراد، مع بيان دلالة الآية على الوسطيَّة.

1-

ذمّ الله الإفراط في العبادة والغلو فيها، حيث قال في حق بني إسرائيل من النصارى:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: من الآية 27) .

قال القاسمي: الرهبانية هي المبالغة في العبادة، والرياضة والانقطاع عن الناس، وإيثار العزلة والتبتل (1) .

(1) - انظر: تفسير القاسمي (16 / 5698) .

ص: 207

وقال ابن كثير: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} أي ابتدعتها أمَّة النصارى. {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} (الحديد: من الآية 27) أي: ما شرعناها لهم، وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم، {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (الحديد: من الآية 27) أي: فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذمّ لهم من وجهين:

أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله.

الثاني: في عدم قيامهم بما التزموه، مما زعموا أنه قربة يقرّبهم إلى الله عز وجل (1) .

وهذه الرّهبانية التي ابتدعها النصارى لم يشرعها الله، وهي غلوّ في العبادة، ولذلك كانت النتيجة عدم قدرتهم على المحافظة عليها لمشقّتها وصعوبتها.

وقول الله - جل وعلا -: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} (الحديد: من الآية 27) دليل على أن الله لا يشرع ولا يكلّف بما فيه غلوّ ومشقّة، كما سبق بيانه.

ولقد اعترف عدد من متأخري النصارى بخطأ هذا الغلوّ والرهبنة التي ابتدعها أسلافهم، وأنها ليست من دين الله، ونحن لسنا بحاجة إلى ذلك لأن الله قد بين هذا الأمر في كتابه، ولكن هذا الاعتراف له دلالاته التي لا تخفى. وقد ذكر القاسمي بعض هذه الاعترافات تفصيلا، أذكر نتفًا منها (2) .

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (4 / 315) .

(2)

- انظر: تفسير القاسمي (16 / 5698) .

ص: 208

قال صاحب ريحانة النفوس - وهو نصراني-: إنَّ الرهبنة قد نشأت من التوهّم بأن الانفراد عن معاشرة الناس، واستعمال التقشفات والتأملات الدينية، هي ذات شأن عظيم، ولكن لا يوجد سند لهذا الوهم في الكتب المقدسة، لأن مثال المسيح، ومثال رسله يضادانه باستقامة. ثم قال: ونحن نقول بكل جرأة: إنه لا يوجد في جميع الكتاب المقدس مثال للرهبنة، ولا يوجد أمر من أوامره يلزم بها، بل العكس.

وفي كتاب البراهين الإنجيلية ضد الأباطيل البابوية: إن ذم الزيجة خطأ، لأنها عمل الأفضل، لأن الرسول أخبر بأن الزواج خير من التوقّد بنار الشّهوة.

ثم قال: ومن المعلوم أن الطبيعة البشرية تغصب الإنسان على استيفاء حقها، ومن العدل أن نستوفيه - إلى أن قال -: ولذلك نرى كثيرًا من القساوسة والأساقفة والشمامسة، لا بل من البابوات المدعين بالعصمة، قد تكردسوا في هوة الزنا، لعدم تحصنهم بالزواج الشرعي.

ثم قال: فالطريقة الرهبانية هي اختراع شيطاني قبيح، لم يكن له رسم في الكتب المقدسة، ولا في أجيال الكنيسة الأولى.

وختم كلامه - الطويل - بقوله: ولا تتسع الصحف لشرح جميع الأضرار التي وقعت على العالم بسبب الرهبنات.

ص: 209

قال القاسمي معقبًا على ذلك: وهو حجة عليهم منهم (1) .

هذه نتيجة الرهبنة والإفراط والغلوّ الذي ذمه الله، فقال:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (النساء: من الآية 171) . وقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} (الحديد: من الآية 27) .

2-

وكما ذم الله الغلوّ والرهبنة فقد ذم التفريط والتضييع والإهمال، فقال - سبحانه -:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (مريم:59) . قال ابن كثير مبينًا دلالة هذه الآية على الخروج عن منهج الوسطيَّة.

(1) - انظر: تفسير القاسمي (16 / 5700) .

ص: 210

لما ذكر الله - تعالى - حزب السعداء، وهم الأنبياء، عليهم السلام، ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله، وأوامره، المؤدّين فرائض الله، التاركين لزواجره، وذكر أنه {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} (مريم: من الآية 59) أي قرون أخر. {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} (مريم: من الآية 59) وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع، لأنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء سَيلقَون غيًّا، أي: خسارة يوم القيامة (1) .

وقال الشنقيطي في تفسير الآية: فخلف من بعد أولئك النبيين خلف، أي: أولاد سوء.

ثم قال: إن هذا الخلف السيئ الذي خلف من بعد أولئك النبيين الكرام كان من صفاتهم القبيحة أنهم أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات.

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (3 / 137) .

ص: 211

ثم قال: فإذا عرفت كلام العلماء في الآية الكريمة، وأن الله توعّد فيها من أضاع الصلاة، واتبع الشهوات، بالغيّ الذي هو الشرّ العظيم، والعذاب الأليم، فاعلم أنه أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله في ذمّ الذين يضيعون الصلاة ولا يحافظون عليها وتهديدهم:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} (الماعون:4){الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (الماعون:5){الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} (الماعون:6) . وأشار في مواضع كثيرة إلى ذم الذين يتّبعون الشّهوات، وتهديدهم، كقوله - تعالى -:{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (الحجر:3) .

ويفهم من مفهوم مخالفة الآية الكريمة أن الخلف الطيبين لا يضيعون الصلاة، ولا يتّبعون الشّهوات، وقد أشار إلى هذا في مواضع كثيرة من كتابه، كما في سورة المؤمنين في وصف المؤمنين، وكقوله - تعالى -:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات:40، 41) .

ص: 212

3-

وبعد أن ذكرت الآيات التي تدل على النهي عن الغلوّ والإفراط أو التفريط والتضييع أذكر بعض الآيات التي تأمر بالتزام الوسط بين الإفراط والتفريط.

قال - تعالى -: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (الإسراء: من الآية 110) .

قال ابن كثير:

قال الإمام أحمد (1) حدثنا هشيم، حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية ورسول الله، صلى الله عليه وسلم متوار بمكة:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} (الإسراء: من الآية 110) قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن وسبّوا من أنزله، ومن جاء به، قال: فقال الله - تعالى - لنبيه، صلى الله عليه وسلم {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} ". أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} (الإسراء: من الآية 110) عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك. {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (الإسراء: من الآية 110) أخرجاه في الصحيحين (2) من حديث أبي بشر جعفر بن إياس به (3) .

وقال أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس: نزلت في الدعاء (4) .

(1) - المسند (1 / 23، 215) .

(2)

- صحيح البخاري (5 / 229) . ومسلم (1 / 329) رقم (446) .

(3)

- انظر: تفسير ابن كثير (3 / 68) .

(4)

- انظر: تفسير ابن كثير (3 / 69) .

ص: 213

قال القرطبي:

روى مسلم عن عائشة في قوله عز وجل {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} (الإسراء: من الآية 110) قالت: أنزل هذا في الدعاء (1) . والشاهد أن هذه الآية تأمر بالتوسط بين أمرين منهي عنهما، وهما الجهر الشديد أو المخافتة والإسرار {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (الإسراء: من الآية 110) .

وقال - تعالى -: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} (لأعراف: من الآية 205) .

قال القرطبي: (ودون الجهر) أي دون الرفع في القول، أي: أسمع نفسك، كما قال:{وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (الإسراء: من الآية 110) . أي بين الجهر والمخافتة (2) .

وقال ابن كثير:

{تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} (الأعراف: من الآية 205) أي اذكر ربك في نفسك رغبة ورهبة، وبالقول لا جهرًا، ولهذا قال:{وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} (الأعراف: من الآية 205) . وهكذا يستحب أن يكون الذكر، لا يكون نداء وجهرًا بليغًا (3) .

وقال - تعالى - {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: من الآية 16) .

قال ابن كثير:

أي جهدكم وطاقتكم.

(1) - انظر: تفسير القرطبي (10 / 344) . وانظر: صحيح مسلم (1 / 329) رقم (447) .

(2)

- انظر: تفسير القرطبي (7 / 355) .

(3)

- انظر: تفسير ابن كثير (2 / 281) .

ص: 214

وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله - تعالى -: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: من الآية 102) . وقال: لما نزلت هذه الآية اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرّحت جباههم فأنزل الله - تعالى - هذه الآية، تخفيفًا على المسلمين:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: من الآية 16) . فنسخت الآية الأولى (1) .

ودلالة الوسطيَّة على هذا القول واضحة جلية.

وأخيرًا: نقف أمام قوله - تعالى - في سورة المزمل: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (المزمل:1-4) . ثم قال في آخر السورة: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (المزمل: من الآية 20) .

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (4 / 376) .

ص: 215

قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (المزمل: من الآية 20) . أي من غير تحديد بوقت، أي: ولكن قوموا من الليل ما تيسر، وعبر عن الصلاة بالقراءة، كما قال في سورة (سبحان) :{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} (الإسراء: من الآية 110) . أي بقراءتك (1) .

وقال القرطبي:

قوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} (البقرة: من الآية 187) . قيل: أي فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم، وأصل التوبة الرجوع، فالمعنى: رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى يسر (2) .

وبعد:

فقد اتضح لنا من خلال ما سبق في هذا الباب من آيات أنّ الوسطيَّة أصل في باب العبادة في معناها الخاص والعام، وأن الغلوّ والجفاء، والإفراط والتفريط منفيان عنها كما نفيا عن غيرها.

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (4 / 438) .

(2)

- انظر: تفسير القرطبي (19 / 53) .

ص: 216

الشهادة والحكم

سبق معنا في تفسير قوله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة: من الآية 143) . أن الرسول، صلى الله عليه وسلم فسّرها بقوله:"عدولا"(1) . وكذلك فسّرها، صلى الله عليه وسلم بالشهادة، حيث ذكر شهادة هذه الأمَّة لنوح، عليه السلام، ثم قرأ، صلى الله عليه وسلم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (البقرة: من الآية 143) . الآية (2) .

ولا مُنافاة بين التفسيرين، بل أحدهما مكمّل للآخر، لأن الشهادة المعتبرة عند الله ما كانت عدلا.

ومن هذا المنطلق فقد جاءت آيات كثيرة تبيّن وجوب العدل في الشهادة، وكذلك في الحكم - أيضًا - والشهادة هي إحدى مقدّمات الحكم في كثير من الأحكام، بل في كلها إذا اعتبرنا إقرار المرء على نفسه شهادة، وهو كذلك.

وإذا كان العدل يعني الوسط، كما تقرّر، فإن أمر الله بالعدل في الشهادة والحكم هو أمر وإقرار لمنهج الوسطيَّة، ويتّضح ذلك - تفصيلا - من خلال ما سيأتي - إن شاء الله -:

(1) - انظر: تفسير الطبري (2 / 7) . والحديث أخرجه الترمذي (5 / 190) رقم (2961) وأحمد (3 / 9) وعندهما «عدلا» بدل «عدولا» .

(2)

- انظر: تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمَّة وسطًا) . في أول هذه الرسالة.

ص: 217

يقول الله لهم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} (النساء: من الآية 135) . يقول: ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط، يعني العدل {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} (النساء: من الآية 135) معناه: قوموا بالقسط لله عند شهادتكم، أو حين شهادتكم {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (النساء: من الآية 135) . يقول: ولو كانت شهادتكم على أنفسكم، أو على والديكم أو أقربيكم، فقوموا فيها بالقسط والعدل، وأقيموا على صحتها بأن تقولوا فيها الحق، ولا تميلوا فيها لغني لغناه على فقير، ولا لفقير لفقره على غني فتجوروا، فإن الله الذي سوّى بين حكم الغني والفقير فيما ألزمكم أيّها الناس من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل أولى بهما، وأحقّ منكم، لأنه مالكهما، وأولى بهما دونكم، فهو أعلم بما فيها مصلحة كل واحد منهما في ذلك، وفي غيره من الأمور كلها منكم، فلذلك أمركم بالتسوية بينهما في الشهادة لهما وعليهما.

ص: 219

{فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} (النساء: من الآية 135) . فلا تتبعوا أهواء أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها، ولكن قوموا فيه بالقسط، وأدّوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها بالعدل لمن شهدتم عليه وله.

والتعبير بالغني والفقير هو في مقام العدو أو القريب كما سيأتي في آيتي المائدة والأنعام، ويمكن استعماله في الوجهين كما يدل عليه كلام الطبري، فقد يكون بعض الناس مع الغني ضد الفقير - وهو الغالب -، وقد يكون البعض مع الفقير لفقره، ضد الغني لغناه، ولكل حالة ما يناسبها.

2-

قال - تعالى -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: من الآية 8) .

ص: 220

قال الطبري في معنى الآية: يعني بذلك - جلّ ثناؤه -: يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله، شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم، فتجاوزوا ما حدّدت لكم في أعدائكم لعداوتهم لكم، ولا تقصّروا فيما حدّدت لكم في أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدّي، واعملوا فيه بأمري (1) .

وهذا التفسير للآية واضح الدلالة على منهج الوسطيَّة في الشهادة والحكم، ومثل ذلك تفسير ابن كثير، حيث قال في قوله - تعالى -:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} (المائدة: من الآية 8) . أي: لا يحملنّكم بغض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد، صديقًا كان أو عدوًّا، ولهذا قال:{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: من الآية 8)(2) .

وقد جاء قبل هذه الآية قوله - تعالى -: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} (المائدة: من الآية 2) .

(1) - انظر: تفسير الطبري (6 / 141) .

(2)

- انظر: تفسير ابن كثير (2 / 30) .

ص: 221

قال الطبري في تفسيرها: فتأويل الآية إذن: لا يحملنّكم بغض قوم لأن صدوكم عن المسجد الحرام أيها المؤمنون. أن تعتدّوا حكم الله فيهم، فتجاوزوه إلى ما نهاكم عنه، ولكن ألزموا طاعة الله فيما أحببتم وكرهتم (1) .

وقال رشيد رضا في تفسيره للآية: وأمّا الاعتداء على من تبغضونهم فلا يُباح لكم وأنتم حلّ، كما أنَّه لا يُباح لكم وأنتم حُرم، وإن كانوا صدّوكم عن المسجد الحرام من قبل، وهذا لا يمنع من الجزاء على الاعتداء بالمثل، لأنه نهى عن استئناف الاعتداء على سبيل الانتقام، فإن من يحمله البغض والعداوة على الاعتداء على من يبغضه يكون منتصرًا لنفسه لا للحق، وحينئذ لا يراعي المماثلة ولا يقف عند حدود العدل (2) .

3-

ومثل هذه الآية قوله - تعالى -: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (الأنعام: من الآية 152) .

(1) - انظر: تفسير الطبري (6 / 69) .

(2)

- انظر: تفسير المنار (6 / 129) .

ص: 222

قال الطبري: يعني - تعالى ذكره - بقوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} (الأنعام: من الآية 152) وإذا حكمتم بين الناس فتكلمتم، فقولوا الحق بينهم، واعدلوا، وأنصفوا، ولا تجوروا، ولو كان الذي يتوجه الحق عليه والحكم ذا قرابة لكم، ولا يحملنّكم قرابة قريب، أو صداقة صديق، حكمتم بينه وبين غيره، أن تقولوا غير الحق فيما احتكمتم إليه فيه (1) .

وقال القرطبي: قوله - تعالى -: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} (الأنعام: من الآية 152) يتضمّن الأحكام والشهادات، {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (الأنعام: من الآية 152) . أي ولو كان الحق على مثل قراباتكم، كما تقدّم في النساء (2) .

وقد وقفت متأمّلا لآيتي المائدة والأنعام، فوجدت أن كلا منهما تأمر بالعدل وهو طريق الوسط، ولكن كل آية اختصت بمعنى ليس في الأخرى، فآية المائدة تنهى عن الحيف والجور في حق العدوّ، وأن عداوته وبغضه لا يجوز أن يكون حائلا دون العدل في حقه، شهادة أو حكمًا، فهي تنهي عن الإفراط والغلو بالنسبة لصدور الحكم ضده، وعن التفريط والجفاء بالنسبة لحفظ حقوقه وما يجب له.

(1) - انظر: تفسير الطبري (8 / 86) .

(2)

- انظر: تفسير القرطبي (7 / 137) ، و (5 / 410) .

ص: 223

أما آية الأنعام فإنها تُحذّر من الميل والإفراط في حقّ القريب، مما يكون سببًا لعدم ثبوت الحق عليه، وهذا غلو منهي عنه، كما تنهى عن التفريط في حق خصمه بسبب القرابة، فإن عدم أداء الشهادة محاباة للقريب فيه تفريط في حق الخصم وضياع للحقوق. ومن هنا فإن هاتين الآيتين بمجموعهما ترسمان خط الوسطيَّة، وترشدان إليه، وتحذران من الحيف والميل سواء أكان إفراطًا أو تفريطًا.

وقد يؤدي بغض العدوّ أو حبّ القريب إلى شهادة الزّور والكذب، فيحكم على العدوّ بما ليس عليه، ويحكم للقريب بما ليس له، وكل هذا خروج عن العدل، ومن الظلم الذي لا يرضاه الله أبدًا.

أمّا آية النساء فإنها جمعت بين المعنيين كما هو واضح من سياقها، وتفسير الطبري لها، وإن كانت لمعنى ما في سورة الأنعام أقرب منها لما في سورة المائدة.

ص: 224

4-

ونجد تطبيقًا عمليًّا لمدلول هذه الآيات ما ذكره الله في سورة يوسف في قصة زوجة العزيز مع يوسف، عليه السلام، حين راودته عن نفسه:{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} (يوسف: من الآية 25) . وهنا حدثت المفاجأة {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} (يوسف: من الآية 25) . وبسرعة مذهلة يدرك المرأة كيد النساء: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} (يوسف: من الآية 28)، فتقلب الدعوى على يوسف:{قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (يوسف: من الآية 25) . وهذه دعوى خطيرة، ولكن يوسف، عليه السلام، يردّ هذه الدعوى:{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} (يوسف: من الآية 26) ، ووقع العزيز في إشكال في هذه القضية، وبخاصة إذا كانت امرأة، لأن العادة الغالبة أنّ الرجل هو الذي يعتدي عليها، لا أن تعتدي هي عليه، وفي هذه اللحظات الحرجة يأتي الفرج:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ}

ص: 225

(يوسف:26، 27) ، إنها شهادة عجيبة تنطق بالعدل والصدق، مع قرابته للمرأة.

فقد وضع أمام العزيز ميزانًا دقيقًا دون حيف أو محاباة، وبدأ بما يتعلّق بالرجل أولا، وما أشبه فعل يوسف، عليه السلام به، عندما بدأ بأوعية إخوته قبل وعاء أخيه، ثم ذكر ما يتعلّق بالمرأة، ويظهر العدل في هذا من خلال ما يلي:

(أ) فعدم كتمانه للشهادة دليل على عدم محاباته للمرأة وهي قريبته.

(ب) البداءة بيوسف وعدم اقتصاره على ما يتعلق بالمرأة يدلّ على أنه لا يحابي يوسف، عليه السلام. وهنا صدر الحكم العادل المبني على شهادة العدل:{فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} (يوسف:28، 29) .

ص: 226

5-

وردت آيات كثيرة تأمر بالعدل، وتنهى عن الهوى، وذلك مثل قوله - تعالى - {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: من الآية 58) . وقوله - تعالى - في سورة النحل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل:90)، وكذلك قوله - تعالى - في سورة الأعراف:{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} (الأعراف: من الآية 29)(1)، وفي سورة (ص) :{فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (صّ: من الآية 26) وقريب من هذه الآية ما جاء في سورة الشورى {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} (الشورى: من الآية 15) ونجد في سورة النحل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (النحل: من

(1) - العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

ص: 227

الآية 126) ، والآيات في مثل هذا المعنى كثيرة ومعلومة، وكلها تأمر بالعدل، وتنهى عن البغي والعدوان، وهذه دلالة الوسطيَّة، والنهي عن الإفراط والتفريط.

6-

ومن الأدلة العملية على وجوب التزام العدل وعدم البغي أو العدوان قوله - تعالى - في سورة الإسراء: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (الإسراء: من الآية 33) . فهنا ثلاث حالات - طرفان ووسط -

أ- ضياع حقّ أولياء المقتول، كما يقع في كثير من الأزمنة، وتحمي هذا الضياع أنظمة ودول وبخاصة في عصرنا الحاضر، وبالذّات الدول التي ألغت عقوبة الإعدام، إمّا نظامًا أو واقعًا، وهو الأكثر - وبخاصة إذا كان القاتل شريفًا فهيهات أن يؤخذ الحق منه.

ب- أن يأخذ أولياء المقتول أكثر مما لهم، وهو الإسراف في القتل، وهذا ما كان يجري في الجاهلية، ويوجد في عصرنا الحاضر في بعض المجتمعات التي تأخذ بالثأر، فتقتل غير القاتل دون ذنب إلا أنه من أقرباء القاتل، أو تقتل أكثر من فرد انتقامًا وثأرًا.

ص: 228

ج- أن يقتل القاتل قِصاصًا، أو تؤخذ الدية، أو يكون العفو برضى أولياء القتيل. والحالة الأولى تمثل التّفريط.

والحالة الثانية تمثل التّعدي والإفراط.

والحالة الثالثة هي العدل والوسط.

ولقد نزل القرآن بالحالة الثالثة، فقوله - تعالى -:{فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} (الإسراء: من الآية 33) إثبات للحالة الثالثة، ونفي للحالة الأولى، فإثبات الحقّ نفي للتفريط وإضاعة الدم، وقوله:{فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} (الإسراء: من الآية 33) نهي عن الحالة الثانية، وهي التعدّي والإفراط.

قال الطبري: وأولى التأويلين بالصّواب في ذلك من تأوّل: أنّ السلطان الذي ذكر الله - تعالى - في هذا الموضع ما قاله ابن عباس: من أن لولي القتيل القتل إن شاء، وإن شاء أخذ الدّية، وإن شاء العفو، لصحة الخبر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم أنّه قال يوم فتح مكة:«ألا ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين بين أن يقتل أو يأخذ الدية» (1) .

وقوله: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} (الإسراء: من الآية 33) يقول: فلا تقتل بالمقتول ظلمًا غير قاتله.

(1) - أخرجه البخاري (8 / 38) . ومسلم (2 / 988) رقم (1355) .

ص: 229

وذلك أنّ أهل الجاهلية كانوا يفعلون ذلك، إذا قتل رجل رجلا عمد ولى القتيل إلى الشّريف من قبيلة القاتل فقتله بوليّه، وترك القاتل، فنهى الله عز وجل عن ذلك عباده، وقال لرسوله، صلى الله عليه وسلم قتل غير القاتل بالمقتول معصية وسرف، فلا تقتل به غير قاتله، وإن قتلت القاتل بالمقتول فلا تمثل به (1) .

وقال القاسمي: أي ومن قتل بغير حق - مما تقدم - {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ} (الإسراء: من الآية 33) الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه. {سُلْطَانًا} (الإسراء: من الآية 33) أي: تسلّطًا على القاتل في الاقتصاص منه، أو حجة يثب بها عليه، وحينئذ فلا يُسرف في القتل، أي: فلا يقتل غير القاتل، ولا اثنين والقاتل واحد، كعادة الجاهلية، كان إذا قُتل منهم واحد قتلوا به جماعة، {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (الإسراء: من الآية 33) تعليل للنهي. يعني: حسبه أنّ الله قد نصره بأن أوجب له القصاص، فلا يستزد على ذلك (2) .

وبهذا المثال ومن خلال ما سبق من آيات اتضح لنا منهج الوسطيَّة في الشهادة والحكم، لأن الله أمر بالعدل ونهى عن الظلم والبغي.

(1) - انظر: تفسير الطبري (15 / 81) .

(2)

- انظر: تفسير القاسمي (10 / 3926) .

ص: 230

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

نالت الأمَّة الخيريَّة لأسباب من أهمّها قيامها بواجب الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، واستمرار الخيريَّة مرهون بالأسباب التي نالت بها هذه الدّرجة الرفيعة.

والواقع المشاهد استمرار للواقع الماضي في أنّ هناك فئات كثيرة ضلّت في هذا الباب، فهناك كثيرون جدًّا تركوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أو قصّروا فيها تقصيرًا شديدًا، وهؤلاء سلكوا سبيل التّفريط، وآخرون - وهم أقل من أولئك - قاموا بالأمر بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولكنهم لم يعرفوا مراتبه ودرجاته وحدوده، أو لم يلتزموا بها، فوقع كثير منهم في الغلو والإفراط.

والقلّة القليلة - ماضيًا وحاضرًا - من سلك السّبيل المستقيم، والطّريق القويم، والتزم بالمنهج الوسط الذي شرعه الله على لسان رسوله، صلى الله عليه وسلم.

وعناية بهذا الركن العظيم، ومن أجل القيام به على الوجه المشروع جاءت الآيات تلو الآيات تبيّن حكمه، وترسم معالمه وحدوده، وتزجر، عن الانحراف به وعنه ذات اليمين وذات الشمال.

وكل هذه الآيات في دلالتها جاءت لتقرّر منهج الوسطيَّة، وتصون هذا الركن عن الانحراف والتبديل، والتضييع والإهمال.

ص: 231

وسأختار بعض الآيات التي تبيّن هذه الحقيقة وتدلّ عليها، في ضوء المنهج الذي سلكته فيما مضى:

1-

قال سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: من الآية 110) .

قال ابن كثير في تفسير الآية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: من الآية 110) يعني خير الناس للناس، والمعنى أنهم خير الأمم، وأنفع الناس للناس، ولهذا قال:{تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: من الآية 110) - إلى أن قال -: والصحيح ان هذه الآية عامة في جميع الأمَّة كل قرن بحسبه، وخير قرونهم الذين بعث فيهم، صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما قال في الآية الأخرى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة: من الآية 143) أي: خيارًا (1) .

والشاهد هنا أن الخيريَّة تعني الوسطيَّة، كما وضّحت ذلك في مبحث (ملامح الوسطيَّة) ، ولذلك فلا بد أن يكون الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يُحقّق هذه الخاصية، وينطلق من ضوابطها.

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (1 / 391) .

ص: 232

2-

نعى الله على الذين أضاعوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتركوا الدعوة إلى الله فقال - سبحانه -:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة:78، 79) .

وقال - سبحانه -: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (المائدة:63) . وقال - سبحانه -: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (آل عمران:187) . وقال - جل وعلا -: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (البقرة:159) .

ص: 233

قال ابن كثير في الآية الأولى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (المائدة: من الآية 79) . أي: كان لا ينهى أحد منهم أحدًا عن ارتكاب المآثم، والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذّر أن يرتكب مثل الذي ارتكبوه، فقال:{لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: من الآية 79) .

وقال القرطبي: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ} (المائدة: من الآية 79) أي لا ينهى بعضهم بعضًا. {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: من الآية 79) ذم لتركهم النهي، وكذا من بعدهم يذم من فعل فعلهم (1) .

وقال الطبري في الآية الثانية: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} (المائدة: من الآية 63) . هلاّ ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الإثم والعدوان وأكل الرشاء في الحكم من اليهود من بني إسرائيل ربانيوهم، وهم أئمتهم المؤمنون، وساستهم العلماء بسياستهم وأحبارهم، وهم علماؤهم وقوادهم.

(1) - انظر: تفسير القرطبي (6 / 253) .

ص: 234

{لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (المائدة: من الآية 63) وهذا قسم من الله أقسم به، يقول - تعالى ذكره -: أقسم: لبئس الصنيع كان يصنع هؤلاء الربانيون والأحبار في تركهم نهي الذين يسارعون منهم في الإثم والعدوان، وأكل السّحت، عما كانوا يفعلون من ذلك، وكان العلماء يقولون: ما في القرآن أشدّ آية توبيخًا للعلماء من هذه الآية، ولا أخوف عليهم منها، ثم روي عن ابن عباس قوله: ما في القرآن آية أشد توبيخًا من هذه الآية.

وكذلك روي عن الضّحاك قوله: ما في القرآن آية أخوف عندي منها، إنّا لا ننهى (1) .

وقال القرطبي: ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر، فالآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف، والنهي المنكر (2) .

وقال ابن كثير في الآية الثالثة: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (آل عمران: من الآية 187) .

هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب.. إلى أن قال: وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم، فيصيبهم ما أصابهم، ويسلك بهم مسلكهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع، الدالّ على العمل الصّالح، ولا يكتمون منه شيئًا (3) .

(1) - انظر: تفسير الطبري (6 / 298) .

(2)

- انظر: تفسير القرطبي (6 / 237) .

(3)

- انظر تفسير ابن كثير (1 / 436) .

ص: 235

ومعنى الآية الرابعة قريب من معنى هذه الآية (1) .

والخلاصة أن هذه الآيات - وأمثالها - جاءت لتبيّن خطورة ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن تضييع هذا الركن وعدم القيام به انحراف عن الصّراط المستقيم.

وهي بهذا تحذّر المؤمنين من سوء عاقبة هذا الأمر، وترشدهم إلى طريق الحق والسلامة والنّجاة.

3-

وإذا كان ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، انحراف وخروج عن الصّراط المستقيم، وهو منهج المغضوب عليهم من اليهود وأشباههم، فإن هناك انحرافًا آخر قد لا ينتبه له كثير من الناس، وهو أن يأمر الإنسان وينهى، ولكنه لا يلتزم بما يدعو الناس إليه، وينهاهم عنه، ولذلك جاءت الآيات تبين خطأ هذا المسلك وسوء هذا الفعل.

قال - سبحانه -: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (البقرة:44) .

وقال - تعالى -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف:2، 3) .

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (1 / 200) .

ص: 236

وقال - جل وعلا - حكاية عن شعيب، عليه السلام:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} (هود: من الآية 88) .

وأنبّه هنا إلى أن الانحراف ليس بأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وإنما لمخالفة فعله قوله (1) قال ابن كثير والغرض أن الله - تعالى - ذمهم على هذا الصنيع، وليس المراد ذمّهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف، وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلّف عنهم، كما قال شعيب، عليه السلام:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (هود: من الآية 88)(2) .

قال القرطبي في قوله - تعالى -: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} (البقرة: من الآية 44) .

فالتأويل الذي يدلّ على صحته ظاهر التلاوة إذًا: أتأمرون الناس بطاعة الله، وتتركون أنفسكم تعصيه!! فهلا تأمرونها بما تأمرون به الناس من طاعة ربكم، فعيّرهم بذلك، ومقبّحًا إليهم ما أتوا به.

(1) - انظر: القول البين الأظهر للشيخ عبد العزيز الراجحي ص (49) .

(2)

- انظر: تفسير ابن كثير (1 / 85) .

ص: 237

{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (البقرة: من الآية 44) أفلا تفقهون وتفهمون قبح ما تأتون من معصيتكم ربكم التي تأمرون الناس بخلافها، وتنهونهم عن ركوبها، وأنتم راكبوها، وأنتم تعلمون أن الذي عليكم من حق الله وطاعته في اتباع محمد والإيمان به، وربما جاء به، مثل الذي على من تأمرونه باتباعه (1) .

قال قتادة: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله، وبتقواه وبالبرّ، ويخالفون، فعيرهم الله (2) .

وقال ابن جريج: أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصلاة والصوم، ويدعون العمل بما يأمرون به الناس، فعيّرهم الله بذلك، فمن أمر بخير فليكن أشدّ الناس فيه مسارعة (3) .

وقال رشيد رضا في قوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (البقرة: من الآية 44) يعني ألا يوجد فيكم عقل يحبسكم عن هذا السّفة، مثل من كانت هذه حاله، كمثل رجل أمامه طريق مضيء نصبت فيه الأعلام والصوى، بحيث لا يضلّ سالكه، ثم هو يسلك طريقًا آخر مظلمًا طامس الأعلام، وكلّما لقي في طريقه شخصًا نصحه ألا يمشي معه، وأن يرجع إلى طريق الهدى الذي تركه (4) .

(1) - انظر تفسير الطبري (1 / 259) .

(2)

- انظر: تفسير الطبري (1 / 258) .

(3)

- انظر: تفسير الطبري (1 / 258) .

(4)

- انظر: تفسير المنار (1 / 296) .

ص: 238

وأختم أقوال العلماء في هذه الآية بما قال عبد الرحمن بن سعدي: فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين، والنقص الكامل أن يتركهما، وأمّا قيامه بأحدهما دون الآخر، فليس في رتبة الأول، وهو دون الأخير (1) - وأيضًا - فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يُخالف قوله فعله، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة (2) .

أما آيتا الصف. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف:2،3) . فإنهما وإن كانتا في قضية خاصة كما ذكر المفسرون، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب، كما هو مقرّر عند الأصوليين. ولذلك فإن دلالتها كدلالة أية البقرة:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} (البقرة: من الآية 44) الآية.

وقال الطبري في آية هود: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (هود: من الآية 88) يقول:

وما أريد أن أنهاكم عن أمر، ثم أفعل خلافه، بل لا أفعل إلا بما آمركم به، ولا أنتهي إلا عمّا أنهاكم عنه (3) .

(1) - أي دونه بالإثم وشناعة وقبح الفعل.

(2)

- انظر: تفسير ابن سعدي (1 / 82) .

(3)

- انظر: تفسير الطبري (12 / 103) .

ص: 239

وقال النّخعي: ثلاث آيات منعتني أن أقصّ على الناس (1){أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} (البقرة: من الآية 44)، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (هود: من الآية 88) ، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف:2) (2) .

والشاهد من قول النخعي أن هذه الآيات مدلولها واحد، وهو النهي عن مثل هذا الفعل، وبيان خطورة هذا الانحراف عن الصّراط السّوي.

4-

وإذا كان إهمال الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أو مخالفة الفعل للقول انحراف عن الصّراط المستقيم، وخروج عن منهج الوسطيَّة، فإن أعظم أنواع الانحراف في هذا الباب هو ما بيّنه الله تعالى في سورة التوبة مما هو من سمات المنافقين وأخلاقهم:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} (التوبة: من الآية 67) .

قال رشيد رضا: أي أهل النفاق من الرجال والنساء متشابهون فيه وصفا وعملا، كأن كلا منهم عين الآخر، كما قيل:

هل تلد الحية إلا الحية!!

تلك العصا من هذه العصية

(1) - هذه الآيات يجب أن تكون دافعة للعمل لا للتوقف عن الدعوة، وكلام الإمام من باب بيان عظم شأن هذه الآيات وغفلة الناس عنها.

(2)

- انظر: تفسير القرطبي (18 / 80) .

ص: 240

ثم بين هذا التشابه بقوله: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} (التوبة: من الآية 67) المنكر الشّرعي ما ينكره الشّرع ويستقبحه، والمنكر العقلي والفطري ما تستنكره العقول الراجحة، والفطر السليمة، لمنافاته للفضائل، والمنافع الفردية، والمصالح العامَة، والشّرع هو القسطاس المستقيم في ذلك كله.

والمعروف: ما يُقابل المنكر مقابلة تضاد.

ومن المنكر الذي يأمر به بعضهم بعضًا؟ الكذب والخيانة وإخلاف الوعود، والفجور، والغدر بنقض العهود.

ومن المعروف الذي ينهون عنه: الجهاد، وبذل المال في سبيل الله، للقتال وغير القتال (1) .

ويقول سيد قطب وهو يفسر هذه الآية ويبين وجه انحراف المنافقين: أما سلوكهم - أي المنافقين - فهو الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، وهم حين يأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، يستخفون بهما، ويفعلون ذلك دسًّا وهمسًا، وغمزًا ولمزًا، لأنهم لا يجرءون على الجهر إلا حين يؤمنون. {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (التوبة: من الآية 67) . فهم خارجون عن الإيمان، منحرفون عن الطّريق، وقد وعدهم الله مصيرًا كمصير الكفار (2) .

(1) - انظر: تفسير المنار (10 / 533) .

(2)

- انظر: في ظلال القرآن (3 / 1673) .

ص: 241

وبهذا يتّضح لنا أن هذا المسلك أسوأ ألوان الانحراف في باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

5-

ومن الآيات التي جاءت تحمل الدّلالة الصّريحة على أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، هو الطريق الصحيح، والمنهج الحق، وأنّه لا يستوي من قام به، ومن أهمله وفرّط فيه، قوله - تعالى -:

{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران:113، 114) .

قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: {لَيْسُوا سَوَاءً} (آل عمران: من الآية 113) أي: ليسوا كلّهم على حدّ سواء، بل منهم المؤمن ومنهم، المجرم، ولهذا قال - تعالى -:{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} (آل عمران: من الآية 113) أي: قائمة بأمر الله، مطيعة لشرعه، متبعة نبي الله، فهي قائمة يعني مستقيمة (1) .

ومفهوم هذه الآية أن الأمَّة التي ليست كذلك، ولم تتصف بهذه الصفات، فهي أمَّة منحرفة ضالة زائغة.

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (1 / 397) .

ص: 242

6-

والآيات السابقة جاءت مقرّرة أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، هو طريق الخيريَّة والاستقامة، وأن ما عداه طريق الانحراف والضّلالة.

ولكن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يختلف من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام، فليس كل من تصوّر أنّه قام به قد وافق الصّواب في ذلك، فكم من داعية يأمر وينهى - استجابة للآيات الداعية لذلك على وجه العموم - ضلّ في هذا الأمر، ولم يوفّق للمنهج الوسط، وهو المنهج الحق، فقد يتكلّم في مقام يجب فيه السّكوت، وقد يغلظ في حال تجب فيها اللين والرفق، وقد يلين القول فيما لا يجدي فيه إلا الغلظة والشدة، وهكذا.

ولذلك جاءت الآيات تبيّن المنهج القويم في مثل هذا الأمر، وترسم الطريق المستقيم الذي قد يخفى على الكثيرين.

ولصعوبة التفصيل في هذا الأمر، فسأذكر بعض الآيات التي تبيّن هذا المنهج وتدل عليه.

(أ) قال - تعالى -: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام: من الآية 108) .

ص: 243

قال ابن عباس: قالت قريش: يا محمد: لتنتهين عن سبّك آلهتنا، أو لنهجونّ ربك، فنهاهم الله أن يسبّوا أوثانهم. وقال قتادة: كان المسلمون يسبُّون أصنام الكفّار، فيسبّ الكفار الله عز وجل عدوًا بغير علم، فأنزل الله هذه الآية (1) .

وانظر - رحمك الله - إلى ما قاله القرطبي: قال العلماء: حكمها باق في هذه الأمَّة على كل حال، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسبّ الإسلام أو النبي، صلى الله عليه وسلم أو الله عز وجل فلا يحلّ لمسلم أن يسبّ صلبانهم، ولا دينهم، ولا كنائسهم، ولا يتعرّض إلى ما يُؤدي إلى ذلك، لأنه بمنزلة البعث على المعصية (2) .

وقال ابن الغرس: إنه متى خيف من سبّ الكفّار وأصنامهم أن يسبّوا الله أو رسوله أو القرآن، لم يجز أن يسبوا ولا دينهم، وهي أصل في قاعدة سدّ الذرائع (3) .

وبعد هذا التأصيل لمدلول هذه الآية، أذكر بعض ما قيل حولها فيما يتعلّق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قال السيوطي: وقد يستدلّ بها على سقوط وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إذا خيف من ذلك مفسدة أقوى، وكذا كل فعل مطلوب ترتّب على فعله مفسدة أقوى من مفسدة تركه (4) .

(1) - انظر: القولين في تفسير ابن كثير (2 / 164) .

(2)

- انظر: تفسير القرطبي (7 / 61) .

(3)

- انظر: تفسير القاسمي (6 / 2463) .

(4)

- انظر: تفسير القاسمي (6 / 2463) .

ص: 244

وفصّل بعض العلماء في المسألة، ومن هؤلاء الحاكم، حيث قال: والذي يجب علينا بيان بغضها، وأنه لا تجوز عبادتها، وأنها لا تضرّ ولا تنفع، وأنّها لا تستحقّ العبادة، وهذا ليس بسبّ، ولهذا قال أمير المؤمنين يوم صفين: لا تسبُّوهم، ولكن اذكروا قبيح أفعالهم (1) .

وقال الرازي: وفي الآية تأديب لمن يدعو إلى الدّين، لئلا يتشاغل بما لا فائدة له في المطلوب، لأن وصف الجمادات بأنها لا تضرّ ولا تنفع، يكفي في القدح في إلاهيتها، فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها (2) .

وأختم هذا الكلام النفيس حول الآية، بما قاله الزمخشري: قال: فإن قلتَ: سبّ الآلهة حق وطاعة، فكيف صحّ النّهي عنه؟ وإنما يصحّ النّهي عن المعاصي؟

قلت: رُبَّ طاعة علم أنها تكون مفسدة، فتخرج عن أن تكون طاعة، فيجب النهي عنها لأنها معصية، لا لأنها طاعة كالنهي عن المنكر، وهو من أجلّ الطّاعات، فإذا علم أنّه يؤدي إلى زيادة الشرّ انقلب معصية، ووجب النّهي عن ذلك، كما يجب النّهي عن المنكر (3) .

ومما سبق يتّضح أن القرآن الكريم قد وضع قاعدة في رسم منهج الوسطيَّة، وأنّ الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، وكذلك فمن الحق النظر إلى مآلات الأمور دون الوقوف عند ظواهرها فقط.

(1) - انظر: تفسير القاسمي (6 / 2463) .

(2)

- انظر: تفسير الرازي، وتفسير القاسمي (6 / 2463) .

(3)

- انظر: الكشاف، وتفسير القاسمي (6 / 2463) .

ص: 245

(ب) ونقف وقفة أخرى يتضح فيها أنّ الوسطيَّة في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر مسألة نسبيّة تختلف باختلاف ملابساتها والظروف المحيطة بها.

فإن هناك من يرى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يجب أن يكون دائمًا باللّين، وخفض الجانب، ويستدلّ بقوله - تعالى -:{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه:43، 44)، ووجه استدلاله من الآية: أن فرعون قد بلغ من العتوّ والطغيان والكبر ما لم يبلغه أحد من البشر، حيث ادّعى الألوهية، ومع ذلك يأمر الله بالإنة القول له، والرّفق معه. فإذا كان ذلك مع فرعون، فإن من هو دونه بالجرم والإثم أولى منه بالرّفق واللّين.

ص: 246

وآخرون يرون وجوب الشدّة والإغلاظ في القول مطلقًا، ويستدلّون بقوله - تعالى -:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (التوبة: من الآية 73) . وقوله سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} (التوبة: من الآية 123) . وقول موسى لفرعون: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} (الإسراء: من الآية 102) . فيقولون: إن هذه الآيات تدل على وجوب الإغلاظ والشدة مع هؤلاء، وأن اللين يكون مع المؤمنين، لقوله - تعالى -:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر: من الآية 88) ، وأمثالها.

والحق أن هذه الآيات هي التي تؤكد صحة ما قلته من أن الوسطيَّة مسألة نسبية، تختلف باختلاف ما يحفّ بها من قرائن وأحوال، يجب اعتبارها في مثل هذه المسائل.

والقول الأمثل أنّه يجب النظر في مجموع الأدلة، وعدم الاقتصار على بعضها دون الآخر، فضلا عن ضرب بعضها ببعض - كما يفعل أصحاب الأهواء -.

وهذا المسلك - مسلك النظر في جميع الأدلة - سيؤدي إلى إعمال كل دليل في موضعه، دون إهمال الدليل الآخر أو الغفلة عنه.

ص: 247

ولننظر - الآن - فيما ذكرته من أدلّة كل من الفريقين، فنجد أن أمر الله لموسى وهارون، عليهما السلام، باستعمال الرفق مع فرعون، كان في أول رسالة موسى، عليه السلام، كما يدلّ عليه سياق الآيات في سورة طه، ولذلك جاء الأمر معلّلا برجاء إسلامه وانقياده {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه:44) .

قال ابن كثير - بعد أن ذكر أقوال المفسرين في القول اللين -: والحاصل من أقوالهم إن دعوتهما له تكون بكلام رقيق ليّن سهل رفيق، ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ وأنجع، كما قال - تعالى -:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: من الآية 125) .

قال الحسن البصري: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: من الآية 44) يقول: لا تقل أنت يا موسى وأخوك هارون أهلكه قبل أن أعذر إليه (1) .

وقال القاسمي: وظاهر أن الرجاء في (لعله) إنما هو منهما لا من الله، فإنّه لا يصحّ منه، ولذا قال القاضي: أي باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما، أنه يثمر ولا يخيب سعيكما، فإن الراجي مجتهد، والآيس متكلّف.

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (3 / 153) .

ص: 248

والفائدة في إرسالهما، والمبالغة عليهما في الاجتهاد - مع علمه بأنه لا يؤمن - إلزام الحجة، وقطع المعذرة، وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من آيات (1) .

أمّا آية الإسراء فإنها جاءت في نهاية المطاف مع فرعون، ولما لم تنفع جميع الآيات التي جاء بها موسى، عليه السلام، وهي تسع آيات عظيمة، فلم يكن بد من الإغلاظ له في القول {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} (الإسراء: من الآية 102) . أي هالكًا، فإن الثبور: الهلاك والخسران (2) . والدليل على أن هذا الأمر كان في نهاية الأمر معه قوله - تعالى - بعد هذه الآية: {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} (الإسراء:103) .

أمّا قوله - تعالى -: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (التوبة: من الآية 73) . وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} (التوبة: من الآية 123) . فإن هذا كان - أيضًا - في آخر العهد النبوي، حيث إن سورة التوبة من آخر ما نزل من القرآن، وكذلك سورة التّحريم متأخرة.

(1) - انظر: تفسير القاسمي (11 / 4182) .

(2)

- انظر: تفسير القرطبي (10 / 337) .

ص: 249

ومعنى هذا أنّ الرسول، صلى الله عليه وسلم قد خاطب المشركين قبل ذلك، ودعاهم إلى الله باللين، واستخدم معهم جميع وسائل الرفق، حتى لم يعد يُجدي معهم إلا السّيف والغلظة.

وكذلك المنافقون، لم تجد معهم وسائل المهادنة والوعظ، والرفق واللين، فكان لا بدّ من الإغلاظ لهم بالقول، كالإغلاظ للكفّار بالسّيف.

وخلاصة القول: إن اللين والإغلاظ، أمران مشروعان، لا يجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر في كل الأحوال، وإنما الحق هو استخدام كل واحد منهما في موضعه. كما قال الشاعر:

مُضرُّ كوضع السيف في موضع الندى

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا

(ج) وأخيرًا نأتي لكلمة الفصل في هذه القضية: إذا كانت الوسطيَّة في هذا الباب تختلف باختلاف الحال والمحلّ، والزّمان والمكان، فما هو الضّابط لذلك؟

والجواب حسمه القرآن الكريم في آية واحدة، حيث قال سبحانه وتعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: من الآية 125) .

فالحكمة هي الضّابط، والفيصل في ذلك، فحيث كانت الحكمة كانت الوسطيَّة، وحيث فقدت فإن هناك انحرافًا إلى ذات اليمين أو ذات الشمال.

ص: 250

ولعلّ من المناسب أن أختم هذا المبحث بتعريف الحكمة كما عرفها العلماء.

قال إبراهيم النخعي: الحكمة: الفهم. وقال زيد بن أسلم: الحكمة: العقل. وقال مالك: وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله (1) .

وقال عبد الرحمن بن سعدي: الحكمة: هي العلوم النّافعة، والمعارف الصّائبة، والعقول المسدّدة، والألباب الرّزينة، وإصابة الصّواب في الأقوال والأفعال.

ثم قال: وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة، التي هي: وضع الأشياء مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محل الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام (2) .

وقال ابن عاشور: وفسّرت الحكمة بأنها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه، بما تبلغه الطاقة، أي: بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض، ولا يغلط في العلل والأسباب (3) .

وقال سيد قطب: الحكمة: القصد والاعتدال، وإدراك العلل والغايات، والبصيرة المستنيرة التي تهديه للصّالح الصائب من الحركات والأعمال (4) .

وجماع الحكمة في قول ابن القيم: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي (5) .

(1) - انظر: هذه الأقوال الثلاثة - في تفسير ابن كثير 1 / 322. ورسالة الحكمة للمؤلف ص (17) .

(2)

- انظر: تفسير ابن سعدي (1 / 332) .

(3)

- انظر: التحرير والتنوير (3 / 61) .

(4)

- انظر: في ظلال القرآن (1 / 312) .

(5)

- انظر: مدارج السالكين (2 / 479)، وانظر: لكل ما سبق رسالة الحكمة للمؤلف ص (16) وما بعدها.

ص: 251

وبعد: فإن منهج القرآن في تقرير الوسطيَّة في باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله واضح جليّ، زادته هذه الأدلة بيانًا وتفصيلا.

وهذا الباب من أهمّ الأبواب - العملية - التي يجب أن يتحرّى فيها الدعاة وطلاب العلم منهج القرآن، ويلتزموا به، حتى لا تزل العقول والأقدام، فيقعوا في الغلو والإفراط، نتيجة الحماس غير المنضبط، أو يقعوا في التّفريط والتّهاون استجابة لرغبات النفس وشهواتها.

كلا طرفي قصد الأمور ذميم

ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد

ص: 252

الجهاد في سبيل الله

الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام (1) وهو ماضٍ إلى أن تقوم السّاعة (2) .

ولا عزّة للأمة ولا فخر ولا سؤدد إلا بإقامة هذا الركن العظيم.

وما تركت أمة الجهاد في سبيل الله إلا ذلّت وضعفت، وهانت على الله ومن ثمّ على خلقه.

ولقد انقسم الناس - قديمًا وحديثًا - في موضوع الجهاد في سبيل الله إلى ثلاث طوائف:

1-

فطائفة يغلب عليها الحماس، والاندفاع، والإقدام، ومن حرصها على ذلك أفرطت في موضوع الجهاد، ولذلك وقعت في مزالق كبيرة، وكان لهذا الأمر من السّلبيات ما لا يخفى.

2-

وطائفة في مقابل هذه الطّائفة، فرّطت في الجهاد في سبيل الله، وتسعى دائمًا لإضاعة وإماتة هذا الرّكن العظيم، وإذا دعا داعي الجهاد، انتفضت خوفًا وفرقًا وذعُرًا، وذهبت تلتمس الأعذار للتخلّف والقعود.

3-

أمّا الطائفة الثالثة فهي التي توسّطت بين الطّائفتين، فأحّبت الجهاد، ورغبت فيه، وسعت إليه، ولكن ذلك لم يدفعهم لأن يستعجلوا الشيء قبل أوانه، ولذلك التزموا بالضّوابط الشّرعية في الإعداد للجهاد، وإعلانه، والاستمرار فيه.

(1) - ورد ذلك في حديث أخرجه الترمذي (5 / 13) رقم (2616) ، وابن ماجه (2 / 1314) رقم (3973)، قال الترمذي: حسن صحيح.

(2)

- ترجم البخاري في الصحيح باب «الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر» . وذكر قوله، صلى الله عليه وسلم:«الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» . وقد روى أبو داود (3 / 18) : عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:«ثلاثة من أصل الإيمان» وذكر منها: «والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، ولا يبطله جور جائر ولا عدل عادل» . حديث رقم (2532) وفي إسناده يزيد بن أبي نُشْبَة السُّلمي: مجهول من الخامسة. انظر: التقريب ص (605 (.

ص: 253

وكذلك إذا دعا داعي الجهاد، لم يقعدوا مع القاعدين، ولم يثّبطوا مع المثّبطين، بل سارعوا إلى إجابة المنادي غير خائفين أو وجلين.

ولقد جاء القرآن يبينّ خطأ الطائفتين، الأولى والثانية: الغالية والجافية، المفْرِطة والمفرّطة، ومن ثمّ يرسم المنهج الحقّ، منهج الطّائفة الوسط، مؤكدًا على خطورة الإفراط والتّفريط، داعيًا إلى الجهاد في سبيل الله، إذا توافرت أسبابه ودواعيه، وتحقّقت شروطه وضوابطه. وسأبيّن أسلوب القرآن في إقرار المنهج الحق، والدّلالة إلى الصّراط المستقيم.

ولنقف مع تشخيص القرآن للطّائفة الأولى:

قال الله - تعالى -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (البقرة:246) .

ص: 254

هذه الآية خلّد الله فيها قصة من قصص بني إسرائيل، التي انحرفوا فيها عن السبيل القويم، والطّريق المستقيم.

ها نحن نرى الحماس والاندفاع للجهاد في سبيل الله، ويطالبون نبيهم، عليه السلام، بإعلان الجهاد واختيار قائد يقودهم إليه.

ويأتي نبيّهم، ويسألهم سؤالا يحمل الحقيقة:{هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} (البقرة: من الآية 246) ؟ وهنا يأتي الجواب الذي يردّده المتحمّسون دائمًا: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} (البقرة: من الآية 246)، وكيف كانت النتيجة:{فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (البقرة: من الآية 246) .

ص: 255

وفي ثنايا القصّة وتفاصيلها نعايش مشاهد تبخّر هذه الدّعوى والحماس، وأول ذلك:{قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} (البقرة: من الآية 247) . وتبدأ رحلة الجهاد، ويبدأ معها تحقق ما قاله نبيهم في خوفه من عدم صدقهم وثباتهم:{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} (البقرة: من الآية 249) . والنتيجة {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} (البقرة: من الآية 249) . وبعد ذلك تقول فئة من البقية الباقية: {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} (البقرة: من الآية 249) .

وأخيرًا لا يثبت إلا فئة أقل من القليل، ولعل هذه الفئة التي قتلت جالوت، وانتصرت بعد ثباتها لم تكن من أولئك المتحمسين المندفعين، الذين كانوا أول الهاربين والمتخاذلين.

ص: 256

قال القرطبي في قوله - تعالى -: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} (البقرة: من الآية 246) . أخبر - تعالى - أنه لما فرض عليهم القتال ورأوا الحقيقة، ورجعت أفكارهم إلى مباشرة الحرب، وأن نفوسهم ربما قد تذهب {تَوَلَّوْا} (البقرة: من الآية 246) أي اضطربت نياتهم وفترت عزائمهم، وهذا شأن الأمم الممتنعة، المائلة إلى الدعة، تتمنى الحرب أوقات الأنفة، فإذا حضرت الحرب كعت وانقادت لطبعها.

وعن هذا المعنى نهى النبي، صلى الله عليه وسلم بقوله:«لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا» (1) رواه الأئمة.

ثم أخبر الله عن قليل منهم أنهم ثبتوا على النية الأولى، واستمرت عزيمتهم على القتال في سبيل الله - تعالى - (2) .

وقال ابن عباس: شربوا على قدر يقينهم، فشرب الكفار شرب الهيم، وشرب العاصون دون ذلك، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفًا - قيل كان عددهم ثمانين ألفًا - وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئًا، وأخذ بعضهم الغرفة.

وقال ابن عباس والسدي: جاز معه في النهر أربعة آلاف رجل، فيهم من شرب، فلما نظروا إلى جالوت وجنوده، رجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون (3) .

(1) - أخرجه البخاري (4 / 9، 24) ومسلم (3 / 1362) رقم (1742) .

(2)

- انظر: تفسير القرطبي (3 / 244) .

(3)

- انظر: تفسير القرطبي (3 / 254) . وبالنسبة لعددهم ومقدار من رجع منهم من أخبار بني إسرائيل والمهم أن الأكثر هم الذين رجعوا.

ص: 257

وهذا نموذج آخر من نماذج المتحمسين للقتال، الذي أفرطوا في طلبه والسعي إليه، فلما تحقق لهم ذلك خالفت أفعالهم أقوالهم.

وإذا كان المثل الأول كان في بني إسرائيل، فإن هذا المثل في أمة محمد، صلى الله عليه وسلم وهذا يؤكد حقيقة مهمة أن ذلك النموذج يتكرر في كل عصر وحين، وها نحن نراه ماثلا أمام أعيننا في زمننا الحاضر.

والحماس هو الحماس، والنهاية هي النهاية، وها هي الآيات تذكر البداية والنهاية:

قال - سبحانه -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} (النساء:77) .

ص: 258

قال الطبري: ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم كانوا قد آمنوا به، وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد، وقد فرض عليهم الصلاة والزكاة، وكانوا يسألون الله أن يفرض عليهم القتال، فلما فرض عليهم القتال شق عليهم ذلك، وقالوا ما أخبر الله عنهم في كتابه.

روى الطبري بسنده عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له أتوا النبي، صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فقال:«إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا فلما حوله الله إلى المدينة أُمر بالقتال فكفوا، فأنزل الله تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ» . الآية (1) .

ولننظر فيما قاله سيد قطب في هذه الآية حيث يشخص الحقيقة في أدق تصوير، قال:

يعجب الله - سبحانه - من أمر هؤلاء الناس الذين كانوا يتدافعون حماسة إلى القتال، ويستعجلونه، وهم في مكة يتلقون الأذى والاضطهاد والفتنة من المشركين، حين لم يكن مأذونًا لهم في القتال للحكمة التي يريدها الله.

(1) - انظر: تفسير الطبري (5 / 170) . والحديث أخرجه النسائي (6 / 3) رقم (3086) . والبيهقي في السنن (9 / 11) والحاكم في المستدرك (2 / 307)، وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي - وانظر: الدر المنثور (2 / 328) .

ص: 259

فلما أن جاء الوقت المناسب الذي قدره الله، وتهيأت الظروف المناسبة، وكتب عليهم القتال - في سبيل الله - إذا فريق منهم شديد الجزع، شديد الفزع، حتى ليخش الذين أمروا بقتالهم - وهم ناس من البشر- كخشية الله، القهار الجبار، أو أشد خشية، وإذا هم يقولون في - حسرة وخوف وجزع -:{رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} (النساء: من الآية 77) .

ص: 260

إن أشدّ الناس حماسة واندفاعًا وتهورًا، قد يكونون هم أشدّ الناس جزعًا، وانهيارًا وهزيمة، عندما يجدّ الجدّ، وتقع الواقعة، بل إن هذه قد تكون القاعدة، ذلك أن الاندفاع والتهوّر والحماسة الفائقة - غالبًا ما تكون منبعثة من عدم التقدير لحقيقة التّكاليف، لا عن شجاعة واحتمال وإصرار، كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال، قلة احتمال الأذى، والضيّق والهزيمة، فتدفعهم قلة الاحتمال إلى طلب الحركة، والدفع والانتصار بأي شكل دون تقدير لتكاليف الحركة، والدفع والانتصار، حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا، وأشقّ مما تصوّروا، فكانوا أول الصف جزعًا ونكولا وانهيارًا، على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم، ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت، ويعدّون للأمر عدته، والمتهورون المندفعون المتحمسون يحسبونهم إذ ذاك ضعافًا، ولا يعجبهم تمهلهم، ووزنهم للأمور، وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالا، وأي الفريقين - كان - أبعد نظرًا كذلك (1) .

(1) - انظر: في ظلال القرآن (2 / 712) .

ص: 261

إنها الحقيقة التي عبّر عنها سيد رحمه الله، تلك الحقيقة التي لا يدركها إلا من عاشها، وذاق مرارة هذا اللون من الاندفاع والحماس، مما نراه ماثلا أمام أعيننا في صنف من الناس، لا يقدرون عواقب الأمور، ويثورون لأقل الأسباب، غافلين عن السنن الربانية، والأحكام الشرعية، والقدرات البشرية، متصورين أن طيبتهم وحسن نيتهم، ومقصدهم تكفي سببًا لانتصارهم.

وكما جاءت آية النساء، فقد جاءت آية الصف، تعالج القضية نفسها، وتبين الحقيقة ذاتها:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف:2،3) .

ص: 262

قال ابن كثير: وحملوا الآية - أي الجمهور - على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم، فلما فرض نكل بعضهم، كقوله - تعالى -:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} (النساء: من الآية 77) الآية، وهكذا هذه الآية معناها، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله - تعالى -:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف:2) . قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله عز وجل دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لاشك فيه، وجهاد أهل معصية الذين خالفوا الإيمان، ولم يقروا به، فما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين، وشق عليهم أمر الله، فقال الله - سبحانه -:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف:2)(1) .

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (4 / 357) .

ص: 263

هذه حقيقة الاندفاع والحماس، عندما لا ينضبط بالضوابط الشرعية ولا السنن الربانية. إنه انحراف عن المنهج الحق، انحراف يمثل الغلو والإفراط، ومن ثم فهو خروج عن المنهج الوسط، المنهج الذي لا يلغي الاعتبارات المتعددة قبل اتخاذ القرار الحاسم، لخطورة هذه القضية وآثارها بعد ذلك.

ولعل في هذه الآيات عظة وذكرى لأولئك المغالين، وعبرة لهؤلاء المتعجلين المندفعين.

إن المنهج الذي يسلكه أولئك لا يؤدي إلى الأهداف التي شرع من أجلها الجهاد، بل قد يكون سببًا لتعطيل الجهاد، أو تأخيره سنوات وسنوات، ومن استعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه.

وكما جاءت الآيات تعالج قضية الإفراط والغلو، فقد جاءت تعالج قضية التفريط والتضييع.

فإذا كان أولئك المتحمسون والمندفعون قد خالفوا الصراط المستقيم في قضية مشروعية الجهاد، فإن المثبطين والقاعدين يمثلون الوجه الآخر للانحراف والضلال. وقد جاءت الآيات تلو الآيات تبين خطورة هذه الفئة، وما تحدثه من خلل وانحراف.

ص: 264

وقال - جل وعلا - مهددًا ومتوعدًا القاعدين عن الجهاد في سبيل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التوبة:38، 39) .

وقال: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (التوبة:44،45) .

وقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} (التوبة:49) .

ص: 267

وقال - جل ذكره - مصورًا حالة أولئك الذين لا يريدون الجهاد: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} (محمد: من الآية 20) .

إلى غير ذلك من الآيات التي تبيّن خطورة هذا المسلك وسوء عاقبة أصحابه في الدنيا والآخرة (1) .

ونقف مع تفسير هذه الآيات، وما قيل في معناها، مع الاقتصار على ما تدعو الحاجة إليه: قال الطبري في معنى قوله - تعالى -: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ} (التوبة: من الآية 81) فرح الذين خلفهم الله مع الغزو مع رسوله والمؤمنين، وجهاد أعدائه بمقعدهم {خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ} (التوبة: من الآية 81) يقول: بجلوسهم في منازلهم خلاف رسول الله، يقول: على الخلاف لرسول الله في جلوسه ومقعده وذلك أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم أمرهم بالنفر إلى جهاد أعداء الله، فخالفوا أمره، وجلسوا في منازلهم (2) .

(1) - تعتبر سورة التوبة السورة التي فضحت المتخلفين عن الجهاد وبينت سوء مصيرهم وحكم الله فيهم.

(2)

- انظر: تفسير الطبري (10 / 200) .

ص: 268

وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} (التوبة: من الآية 38) الآية. هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك حين طابت الثمار والظلال في شدّة الحرّ وحمارة القيظ (1) .

وقال في قوله - تعالى -: {اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} (التوبة: من الآية 86) .

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (2 / 357) .

ص: 269

يقول - تعالى - منكرًا وذامًا للمتخلفين عن الجهاد، الناكلين عنه، مع القدرة عليه ووجود السعة والطول. واستأذنوا الرسول، صلى الله عليه وسلم في القعود، وقالوا:{ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} (التوبة: من الآية 86) ورضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء، وهن الخوالف بعد خروج الجيش، فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس، وإذا كان أمن كانوا أكثر الناس كلامًا، كما قال - تعالى - عنهم في الآية الأخرى:{فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} (الأحزاب: من الآية 19)(1) .

وقال رشيد رضا في قوله - تعالى -: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (التوبة: من الآية 45) الآية: والمعنى: إنما يستأذنك بالتخلف عن الجهاد الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لأنهم يرون بذل المال للجهاد مغرمًا يفوت عليهم بعض منافعهم به، ولا يرجون عليه ثوابًا كما يرجو المؤمنون.

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (2 / 380) .

ص: 270

ويرون الجهاد بالنفسي آلامًا ومتاعب، وتعرضًا للقتل الذي ليس بعده حياة عندهم، فطبيعة كفرهم بالله واليوم الآخر تقتضي كراهتهم للجهاد، وفرارهم منه ما وجدوا له سبيلا (1) .

وقال سيد قطب في قوله - تعالى -: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (التوبة: من الآية 39) .

والخطاب لقوم معينين في موقف معين، ولكنه عام في مدلوله، لكل ذي عقيدة في الله، والعذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة وحده، فهو كذلك عذاب الدنيا، عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والكفاح، والغلبة عليهم للأعداء، والحرمان من الخيرات، واستغلالها للمعادين، وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح والجهاد، ويقدمون على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء.

وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل، فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح الأعداء.

{وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} (التوبة: من الآية 39) . يقومون على العقيدة، ويؤدون ثمن العزة، ويستعلون على أعداء الله (2) .

(1) - انظر: تفسير المنار (10 / 469) .

(2)

- انظر: في ظلال القرآن (3 / 1655) .

ص: 271

هذه بعض الآيات التي جاءت تبين انحراف المثبطين عن الجهاد، القاعدين عنه، الذين وصفهم الله بقوله:{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} (الأحزاب:18) .

والنتيجة التي نخلص منها بعد بيان طرفي الانحراف، سواء الذين أفرطوا وغلوا، أم الذين فرطوا وجفوا، تلكم النتيجة هي أن هناك منهجًا وسطًا لا إفراط فيه ولا تفريط.

وذلكم أن الجهاد ذروة سنام الإسلام وركن من أركانه، وهو ماض إلى أن يأتي أمر الله، وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلَاّ ذّلوا، وضعفوا، وسلط الله عليهم عدّوهم. والجهاد له شروطه وضوابطه، وأسبابه وموانعه، فإذا توافرت الأسباب وانتفت الموانع، وتحقّقت الشروط وجب أن يُنادي المنادي حيّ على الجهاد، ووجب على القادرين أن يستجيبوا للنداء، فرض عين أو فرض كفاية.

وهذا هو المنهج الوسط الذي جاءت الآيات الكثيرة تدعو إليه وتأمر به وتحث عليه، وجاءت السنة شارحة ومبيّنة، ومفصّلة لأحكام الجهاد، كما جاءت مبينة أحكام السَلم والموادعة والمعاهدات.

ص: 272

وقد عني العلماء - قديمًا وحديثًا - في بيان هذه القضية، وأشبعوها بحثًا وتفصيلا، وهم بذلك لم يدعوا مجالا لانحراف منحرف بدعوى الجهل وعدم الوضوح.

وأخيرًا أختم هذا المبحث بذكر بعض الآيات التي تدعو إلى الجهاد، وتثني على المجاهدين، أولئك الذين لا يتأخرون لحظة إذا دعا داعي الجهاد، وهم كذلك يستجيبون لداعي السلم والموادعة إذا جاء وقتها، وتوافرت أسباب السلم ودواعيه.

قال - سبحانه -: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (التوبة:41) . وقال مبينًا صفة المؤمنين إذا دعا داعي الجهاد {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (التوبة:44) .

وقال - سبحانه -: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} (الأنفال: من الآية 65) . وقال: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (النساء: من الآية 75) .

وهذه بعض الآيات التي تأمر بالقتال:

ص: 273

الأخلاق والمعاملة

سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقالت:«كان خلقه القرآن»

وقد أثنى الله على رسوله، صلى الله عليه وسلم فقال:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4) .

أما المعاملة فهي قرينة الأخلاق، حيث إن معاملة المرء نتاج طبيعي لأخلاقه، ولقد رسم القرآن المنهج السوي لما يجب أن تكون عليه أخلاق المسلم ومعاملاته.

وهذا الباب يسوده الغلو والجفاء، ويندر فيه المنهج الوسط، ولذلك فقد عني القرآن الكريم به عناية خاصة، وجاءت الآيات تترى توضح هذا المنهج، وتدعو إليه، وتربي الأمة عليه، وتحذر مما يضاده غلوًا أو جفاء، إفراطًا أو تفريطًا.

ولطول الموضوع وتشعبه، وكثرة الآيات الواردة فيه، نظرًا لتعدد أجزائه ومنطلقاته، فسأقتصر على اختيار نماذج متفرقة تبين عناية القرآن الكريم به، في ضوء المنهج الذي سلكته في هذا البحث، ومن الله استمد العون والتوفيق.

الكبر والطغيان خلق ذميم، ذمه الله في أكثر من موضع في كتابه، لما له من الآثار السلبية على الفرد والمجتمع، والكبر خروج عن المنهج الوسط إلى الإفراط والغلو وحب الذات. والتفريط في حق الآخرين.

ص: 278

قال - تعالى - مبينًا أثر الكبر على الإنسان، وكيف أنه يؤدي إلى الحيلولة بينه وبين الإيمان. {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (غافر:56) .

قال ابن كثير في تفسير الآية: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} (غافر: من الآية 35) أي: يدفعون الحق بالباطل، ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة، بلا برهان ولا حجة من الله {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} (غافر: من الآية 56) أي: ما في صدورهم إلا كبر على اتباع الحق واحتقار لمن جاءهم به (1) .

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (4 / 84) .

ص: 279

وقال - تعالى -: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} (غافر:27) . وقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} (غافر: من الآية 35) . وقال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} (الزمر: من الآية 60) وقال: {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} (النحل: من الآية 29) .

وقال - سبحانه -: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} (الإسراء:37) .

ومن وصايا لقمان لابنه كما ذكر الله عز وجل {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (لقمان:18) .

قال ابن كثير في تفسيرها: قال ابن عباس: يقول لا تتكبر فتحتقر عباد الله، وتعرض عنهم بوجهك إذا كلّموك (1) .

والآيات في ذم الكبر والنهي عنه، وبيان عاقبة المتكبرين كثيرة جدًا.

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (3 / 446) .

ص: 280

ومن الآيات التي جاءت تنهي عن بعض الأخلاق الممقوتة، قوله - تعالى -:{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (لقمان:19) .

ونهى الله - سبحانه - عن كتمان الشهادة لما لها من آثار في إضاعة الحقوق وسوء المعاملة بين الناس، فقال - جل وعلا -:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (البقرة: من الآية 283) .

ومن سوء أخلاق بني إسرائيل ما ذكره الله عنهم بقوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} (البقرة: من الآية 55) .

قال عبد الرحمن بن سعدي:

وهذه غاية الجرأة على الله وعلى رسوله (1) .

وقال ابن عاشور:

تذكير بنعمة أخرى نشأت بعد عقاب على جفا طبع (2) .

(1) - انظر: تفسير ابن سعدي (1 / 86) .

(2)

- انظر: التحرير والتنوير (2 / 504) .

ص: 281

ونقض العهد والميثاق خلق فاسد ومعاملة ممقوتة (1) ولذلك جاء ذم الناكثين العهود الخائنين للمواثيق والعقود، قال - سبحانه -:{وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (الرعد:25) . وقال: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} (المائدة: من الآية 13) .

وفي مقابل الكبر نجد الذل والضعف والخور، وبخاصة أمام أعداء الله، فإنه خلق لا يرضاه الله - جل وعلا -، فلذلك قال - سبحانه -: واصفًا المؤمنين بما هم عليه من خلق رفيع: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (المائدة: من الآية 54) .

ومن هنا، ودلالة على أن الذل مسبة وعار، وليس خلقًا رفيعًا وسيرة محمودة، بين الله أنه جعله عقوبة لمن عصاه، وتكبر على رسله وهداه، فقال - سبحانه -:{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} (البقرة: من الآية 61) .

(1) - انظر: تفصيل ذلك في رسالة المؤلف: العهد والميثاق في القرآن الكريم.

ص: 282

وقال: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} (آل عمران: من الآية 112) . وقال: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الأعراف: من الآية 152) .

قال سيد قطب مبينًا أثر الذل على هؤلاء اليهود، إن فترة الإذلال التي قضوها تحت حكم فرعون الطاغية قد أفسدت فطرتهم إفسادًا عميقًا.

وليس أشد إفسادًا للفطرة من الذل الذي ينشئه الطغيان الطويل، والذي يحطم فضائل النفس البشرية، ويحلل مقوماتها، ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد، استخذاء تحت سوط الجلاد، وتمردا حين يرفع عنها السوط، وتبطرًا حين يتاح لها شيء من النعمة والقوة.

وهكذا كانت إسرائيل، وهكذا هي في كل حين (1) .

(1) - انظر: في ظلال القرآن (1 / 72) .

ص: 283

وإذا كان هؤلاء قد ضرب الله عليهم الذلة في الحياة الدنيا، فإن الذلة - أيضًا - جزاء هؤلاء وغيرهم ممن دُعي إلى عبادة الله فاستكبر وأبى، قال - تعالى -:{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} (القلم:43) . وقال: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (المعارج:44) .

وقال - سبحانه - ممتنًا على عباده حيث أعزهم بعد الذلة والانكسار: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (آل عمران:123) .

وخلاصة الأمر: أن هذه الآيات تدل على أن تلك الأخلاق مما لا يقره الشرع لمخالفتها للمنهج الحق والطريق السوي، ولذلك جاءت الآيات تبين ما يجب أن يكون عليه المسلم من خلق صادق وحسن في المعاملة، بعيدًا عن الخلق الذميم سواء كان إفراطًا أو تفريطًا، وهذه الآيات هي التي ترسم المنهج الوسط في الأخلاق والمعاملة.

قال - تعالى - مثنيًا على نبيه، صلى الله عليه وسلم {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4) .

ص: 284

وقال - جل وعلا - واصفًا عباده المؤمنين وما هم عليه من خلق رفيع، ومعاملة حسنة:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (الفرقان:63) ثم قال: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (الفرقان:72) وهذا قمة الخلق وحسن الطوية، ولذلك قال في آيات أخرى:{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (السجدة:15) . أما غيرهم فكما أخبر الله عنهم {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (الصافات:35) ، وفرق شاسع بين الخلقين.

ومما أمر الله به عباده، تربية على الخلق الحسن، ودفعًا لكيد الشيطان ونزغه ما قاله - سبحانه - في سورة المؤمنون:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} (المؤمنون:96) .

ص: 286

وقال: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} (الرعد:19، 20) . وقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (النحل:91) . وقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (الإسراء: من الآية 34) .

ومن الأخلاق التي أمر الله بها، ما أمر به الزوج عندما يطلق زوجته طلاقًا رجعيًا، حيث قال:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (البقرة: من الآية 231) . ومثل ذلك الآية التي جاءت في سورة الطلاق: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (الطلاق: من الآية 2) .

ص: 288

وكذلك من العدل وحسن الخلق في المعاملة ما جاء بالأمر بالوفاء بالكيل، قال سبحانه:{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} (الإسراء: من الآية 35) وقال: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الأعراف: من الآية 85) .

ولذلك شنع الله على أولئك الذين حادوا على المنهج الوسط في الكيل والميزان، فقال:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} (المطففين:1-5) .

ومن الخلق التي أمر الله بها ما جاء في سورة المجادلة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} (المجادلة: من الآية 11) .

ص: 289

وإذا تأملنا سورة الحجرات وما فيها من أخلاق عالية أمر الله بها، ونهى عن سيئ الأخلاق وأرذلها، علمنا الجهد المبذول لتربية هذه الأمة على الأخلاق القويمة، وتجنيبها ما وقعت فيه بعض الأمم السابقة من أراذل الأخلاق وسفسافها كأهل الكتاب عمومًا واليهود خصوصًا.

وتأمّل هاتين الآيتين لترى كيف يرسم القرآن الكريم منهج الوسطية.

قال - تعالى - في سورة القصص مخبرًا عما جرى بين موسى وشعيب (1) عليهما السلام: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} (القصص:27) .

وقال في سورة النساء: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} (النساء:148) .

وأختم هذا المبحث بهذه الوقفة المهمة:

لما أثنى الله على رسوله، صلى الله عليه وسلم لحسن خلقه، فقال:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4) قال بعد عدة آيات: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (القلم:9) .

(1) - انظر: تفسير القرطبي (13 / 270) .

ص: 290

قال ابن عباس:

لو ترخص لهم فيرخصون (1) .

والوقفة هنا: هناك من يتصور أن من لوازم حسن الخلق المداهنة والمصانعة.

بل تعجب إذا سمعت من يرى أن ذلك من أسس الدعوة وأساليبها.

وهذا خلل في الفهم، وقصور في التصور، وذلك أنه في السورة التي أثنى الله فيها على رسوله، صلى الله عليه وسلم لأخلاقه الرفيعة العظيمة، نفى عنه المداهنة والمصانعة. {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} (القلم:9، 10) مع التنبيه إلى أن هناك فرقا بين المداهنة المحرمة، والمدرارة المشروعة فليعلم ذلك (2) .

هذه بعض الأخلاق التي ذكرها الله في القرآن الكريم، جاءت لتربي الأمة على الأخلاق الفاضلة، والمعاملة المستقيمة دون تكبر وبطر وغمط لحقوق الناس، أو ضعف وخور وذلة.

لقد اتصف اليهود بالكبر والتعالي والغطرسة حتى على أنبيائهم، ورسلهم، عليهم السلام، بل على ربهم - جلا وعلا -:{أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} (النساء: من الآية 153){ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} (البقرة: من الآيات68،69، 70){فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} (المائدة: من الآية 24) .

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (4 / 403) .

(2)

- انظر: كتاب: القول البين الأظهر للراجحي ص (115) فقد بين ذلك.

ص: 291

واتصف النصارى بالذل والجبن، حتى كان مما يتوارثونه. "إذا صفعك أحد على خدك الأيسر فأدر له خدك الأيمن". أما هذه الأمة فقد ربيت على العزة والكرامة، مع سمو الخلق وحسن التعامل، حتى مع الأعداء، بل وأثناء القتال والطعان، وهذه درجة لم تصل إليها أمة من الأمم الماضية، ولن تصل إليها أي أمة حاضرة: ولا عجب في ذلك فإنها أمة الإسلام، الأمة الوسط {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة: من الآية 143) . {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: من الآية 110) ورسولها، صلى الله عليه وسلم قال فيه مولاه:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4) .

ص: 292

كسب المال وإنفاقه

قضية المال من القضايا الكبرى التي عني بها الإسلام كسبًا، وحفظًا، وإنفاقًا.

وذلك أن المال عصب الحياة، وهو بالنسبة للحياة الدنيا كالماء الذي يمشي في غصون الشجر، وكالدماء التي تجري في عروق البشر.

ولقد سلك الناس - ولا يزالون - مسالك شتى في هذا المال، كسبًا، وجمعًا، وإنفاقًا.

والكثرة الكاثرة، والغالبية العظمى ضلوا الطريق، وحادوا عن سواء السبيل.

ولذلك جاء القرآن الكريم مبينًا خطورة هذا الانحراف، وهاديًا إلى الصراط المستقيم.

وفي ضوء المنهج الذي أشرت إليه مرارًا، سأذكر بعض ما ورد في كتاب الله من آيات تبين خطوط الانحراف، وطريق الوسط الذي يجب أن يسلكه المؤمنون. (أ) في جمع المال وحبه:

وردت عدة آيات تبين خطورة الانهماك في جمع المال والمبالغة، والإفراط في حبه، وقد وردت هذه الآيات في سياق الذم لذلك. ومن تلك الآيات:

قال - تعالى -: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا} {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (الفجر:19، 20) .

ص: 293

وقد برر المتخلفون عن الجهاد من المنافقين وغيرهم سبب تخلفهم، بانشغالهم بأموالهم وأولادهم:{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} (الفتح: من الآية 11) .

وقال - سبحانه -: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (العاديات:6-8) .

وقال: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (التكاثر:1 - 4) .

وقال: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ} {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} (الهمزة:1-4) .

وقال - جل وعلا - عن أبي لهب: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} (المسد:1-3) .

وقال - سبحانه - مخبرًا عمن سيؤتى كتابه بشماله يوم القيامة حيث سيقول متحسرًا: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} (الحاقة:27، 28) .

ص: 294

وقصة قارون فيها العظة والعبرة، والتحذير من الإفراط في حب الدنيا، وعدم أداء حق الله فيها:{وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (القصص: من الآية 76) ثم يذكر الله حالة من حالات بطره وفرحه: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (القصص:79) . وماذا كانت النتيجة: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} (القصص:81) ولم يخسر الدنيا فقط بل والآخرة: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص:83) .

ص: 296

وقال - سبحانه -: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} (الحديد: من الآية 20) .

هذه بعض الآيات التي تبين خطوط الانحراف عن الصراط المستقيم في جمع المال وحبه، والآيات كثيرة جدًا.

ولأجل المزيد من إلقاء الضوء على هذه القضية فسأذكر شيئًا من أقوال المفسرين حول بعض هذه الآيات:

قال الطبري في قوله - تعالى -: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} (التكاثر:1) ألهاكم أيها الناس المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة ربكم، وعما ينجيكم من سخطه عليكم.

وروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم كلام يدل على أن معناه التكاثر بالمال (1) .

وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ} (الهمزة:1، 2) الهماز بالقول واللماز بالفعل، يعني يزدري الناس وينتقص بهم.

(1) - انظر: تفسير الطبري (30 / 283) . ويشير إلى ما رواه عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: انتهيت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ (ألهاكم التكاثر) وهو يقول:«يقول ابن آدم: مالي مالي!! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت» . أخرجه مسلم رقم (2958) والترمذي (5 / 417) رقم (3354) - والنسائي (6 / 238) رقم (3613) وأحمد (4 / 24، 26) .

ص: 297

{الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ} (الهمزة:2) أي: جمعه بعضه على بعض، وأحصى عده، كقوله - تعالى -:{وَجَمَعَ فَأَوْعَى} (المعارج:18) قال السدي وابن جرير وقال محمد بن كعب في قوله: {جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ} (الهمزة: من الآية 2) ألهاه ماله بالنهار، هذا إلى هذا، فإذا كان الليل نام كأنه جيفة منتنة.

{يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} (الهمزة:3) أي: يظن أن جمعه المال يخلده في هذه الدار. {كَلَّا} (الهمزة: من الآية 4) أي: الأمر ليس كما زعم ولا كما حسب (1) .

وقال في قوله - تعالى -: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (العاديات:8) . أي: وإنه لحب الخير وهو المال لشديد، وفيه مذهبان:

أحدهما: أن المعنى وإنه لشديد المحبة للمال.

والثاني: وإنه لحريص بخيل من محبة المال.

وكلاهما صحيح (2) .

وقال القرطبي في الآية نفسها: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ} (العاديات: من الآية 8) أي: المال، ومنه قوله - تعالى -:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} (البقرة: من الآية 180){لَشَدِيدٌ} (العاديات: من الآية 8) أي لقوي في حبه للمال.

وقيل: لشديد: لبخيل. ويقال للبخيل: شديد ومتشدد.

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (4 / 548) .

(2)

- انظر: تفسير ابن كثير (4 / 542) .

ص: 298

قال ابن زيد: سمي المال خيرًا، وعسى أن يكون شرًا وحرامًا، ولكن الناس يعدونه خيرًا، فسماه الله خيرًا لذلك (1) .

وقال في قوله - تعالى -: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} (المسد:2) أي: ما دفع عنه عذاب الله ما جمع من المال، ولا كسب من جاه.

قال ابن عباس: لما أنذر رسول الله، صلى الله عليه وسلم عشيرته بالنار قال أبو لهب: إن كان ما يقول ابن أخي حقًا فإني أفدي نفسي بمالي وولدي، فنزل:{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} (المسد:2)(2) .

وقال الطبري في قوله - تعالى -: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (الفجر:20) وتحبون المال أيها الناس واقتناءه حبًا كثيرًا شديدًا.

من قولهم: حم الماء في الحوض: إذا اجتمع.

قال قتادة: "حبًا جمًا" أي: حبًا شديدًا.

وقال الضحاك: يحبون كثرة المال (3) .

(1) - انظر: تفسير القرطبي (20 / 162) .

(2)

- انظر: تفسير القرطبي (20 / 238) .

(3)

- انظر: تفسير الطبري (30 / 184) .

ص: 299

وقال القاسمي في آية الكهف: "وكان له" أي: لصاحب الجنتين، "ثمر" أي أنواع من المال غير الجنتين، من "ثمر ماله" إذا كثر، {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} (الكهف: من الآية 34) أي: يراجعه الكلام، تعبيرًا له بالفقر، وفخرًا عليه بالمال والجاه:{أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} (الكهف: من الآية 34) أي أنصارًا وحشمًا. {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} (الكهف: من الآية 35) أي بصاحبه يطوف به فيها، ويفاخره بها (1) .

وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (العلق:6،7) يخبر - تعالى - عن الإنسان أنه ذو فرح، وأشر بطر، وطغيان، إذا رأى نفسه قد استغنى وكثر ماله، ثم تهدده وتوعده ووعظه، فقال:{إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (العلق:8)(2) .

وأختم أقوال المفسرين بما قاله سيد قطب في مطلع تفسيره لآيات سورة القصص، في قصة قارون، حيث قال: والآن تجيء قصة قارون لتعرض سلطان المال والعلم، وكيف ينتهي بالبوار مع البغي والبطر، والاستكبار على الخلق، وجحود نعمة الخالق.

(1) - انظر: تفسير القاسمي (11 / 4058) .

(2)

- انظر: تفسير ابن كثير (4 / 528) .

ص: 300

وتقرر حقيقة القيم، فترخص من قيمة المال والزينة إلى جانب قيمة الإيمان والصلاح، مع الاعتدال والتوازن في الاستمتاع بطيبات الحياة دون علو في الأرض ولا فساد.

ثم فسر قوله: {لَا تَفْرَحْ} (القصص: من الآية 76)(1) قائلا: لا تفرح فرح الزهو المنبعث من الاعتزاز بالمال، والاحتفال بالثراء، والتعلق بالكنوز، والابتهاج بالملك والاستحواذ.

لا تفرح فرح البطر الذي ينسي المنعم بالمال، وينسي نعمته، وما يجب لها من الحمد والشكران.

لا تفرح فرح الذي يستخفه المال، فيشغل به قلبه، ويطير له لبه، ويتطاول به على العباد (2) .

والآيات التي مضت وكلام المفسرين حولها يُعطي الدلالة على المنهج الخاطئ الذي يسلكه كثير من الناس في جمع المال، حيث أفرطوا في ذلك وبالغوا فيه، وكانت النتيجة الطبيعية أن أصبح هذا المال وبالا عليهم في الدنيا والآخرة.

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (4 / 528) .

(2)

- انظر: في ظلال القرآن (5 / 2710) .

ص: 301

إن الإسلام ليس ضد جمع المال - كما قد يتوهم البعض - بل إنه أمر مشروع جاءت الآيات الكثيرة تبين مشروعيته وأهميته، ومن ذلك قوله - تعالى - مبينًا أن المال من الله:{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (النور: من الآية 33) وقال ممتنًا على بني إسرائيل: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} (الإسراء: من الآية 6) . ويقول نوح لقومه داعيًا إياهم إلى الإيمان، ومبينًا عاقبة ذلك في الدنيا قبل الآخرة:{يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (نوح:11، 12) .

وقال - سبحانه - آمرًا بالمحافظة على المال الذي هو من الله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (النساء: من الآية 5) وقال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: من الآية 46) وقال: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} (الأحزاب: من الآية 27) .

ص: 302

إذن فكما أن القرآن الكريم يحذر من الإغراق في حب المال، وقضاء الحياة في جمعه وتحصيله دون أداء حق الله فيه، ويبين عاقبة من كانت هذه حاله، فإنه لا يرضى بالرهبنة والتصوف والإعراض عن المال بالكلية. {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: من الآية 77) بل إنه يقر جمع المال وتحصيله، ويشرع السبل الصحيحة لذلك، وهذا ما سيتضح في الفقرة التالية:

(ب) في كسب المال

ص: 303

توصلنا في الفقرة السابقة إلى أن القرآن الكريم بين لنا خطوط الانحراف في جمع المال وحبه، واتضح لنا أن جمع المال مشروع، ولكن الانحراف يكون في الإفراط فيه أو التفريط، وكذلك فإن حب المال ليس رجسًا أو عارًا، بل هو أمر جبلي فطري، لا ينفي ذلك إلا مكابر أو شاذ، والشذوذ يؤكد القاعدة: وإنما الأمر المنهي عنه هو الغلو في حبه وتقديسه، والتوسط في ذلك هو المشروع:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (الكهف:46){زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران:14) .

ومن هنا جاءت الآيات تبين الخطوط العريضة والمنطلقات الشرعية في كسب المال وتحصيله، وجاءت القاعدة التي تفرعت عنها كل القواعد:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: من الآية 275) .

ص: 304

إذن فكسب المال مشروع، ولكن ليس كل طريق يؤدي إلى ذلك جائز ومحمود.

فلا نحرم ما أحل الله من وسائل الكسب المباحة، ولا نبيح ما حرم الله من الوسائل الممنوعة:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (النحل:116) .

وسأذكر بعض ما ورد من آيات تنهي عن بعض أوجه الكسب المحرمة، ليتضح من خلال ذلك أن هناك منهجًا وسطًا في ذلك لا إفراط ولا تفريط:

فقد نهى الله عن الربا، وبين أنه من الكسب المحرم بل غلظ الله في عقوبة هذا الكسب، الذي أفرط فيه كثير من الناس، - وبخاصة في عصرنا الحاضر - حتى قل أن يسلم أحد من الربا أو من غباره، والله المستعان.

ص: 305

وكذلك من طرق الكسب المحرمة: الميسر، وهو القمار، كما قال ابن كثير وغيره (1) . وقد جاءت بعض الآيات تبين حكمه وأن الله قد حرمه. قال - تعالى -:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (البقرة: من الآية 219) وقال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (المائدة:90، 91) .

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (1 / 255)، وزاد المسير (1 / 240) حيث قال ابن الجوزي: العلماء أجمعوا على أن القمار حرام، وإنما ذكر الميسر من بينه، وجعل كله قياسًا على الميسر، والميسر إنما يكون قمارًا في الجزر خاصة، وقال: قال ابن عباس وابن عمر والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة في آخرين: الميسر: هو القمار.

ص: 307

وبالجملة فكل مال أُخذ بالباطل فهو محرم، ولذلك جاءت الآيات تنهى عن أكل المال بالباطل. فقال - سبحانه -:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة:188) .

وقال مبينًا سبب تحريم الطيبات على بني إسرائيل: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (النساء:160، 161) .

وقال: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} (التوبة: من الآية 34) .

وقال - سبحانه -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (النساء: من الآية 29) .

ص: 309

قال ابن الجوزي مبينًا معنى الباطل هنا: لا يأكل بعضكم أموال بعض، قال القاضي أبو يعلى:

والباطل على وجهين: أحدهما أن يأخذه بغير طيب نفس من مالكه، كالسرقة، والغضب، والخيانة.

والثاني: أن يأخذه بطيب نفسه، كالقمار والغناء، وثمن الخمر (1) .

وقال القرطبي: والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق، فيدخل في هذا: القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، أو حرمته الشريعة، وإن طابت به نفس مالكه، كمهر البغي، وحُلوان الكاهن، وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك، ثم قال: من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل، ومن الأكل بالباطل أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل، فالحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي، لأنه إنما يقضي بالظاهر، وهذا إجماع في الأموال (2) .

ومما سبق يتضح أن هناك منهجًا وسطًا في كسب المال.

فالقول بإباحة جميع المعاملات قول باطل، وهو من التفريط. وكذلك التشديد، وجعل أن الأصل في الاكتساب هو التحريم إلا ما ورد نص في إباحته قول باطل، وهو من الإفراط.

(1) - انظر: زاد المسير (1 / 194) .

(2)

- انظر: تفسير القرطبي (2 / 338) .

ص: 310

والقول الصحيح وهو الوسط أن الأصل في البيوع والمعاملات الحل والإباحة، إلا ما ورد النص بتحريمه ومنعه (1) سواء كان المنع بدليل خاص أو عام، فمن الخاص تحريم الميسر والربا والسرقة ونحوها، ومن العام ما يدخل تحت الضرر أو الظلم أو الغرر ونحو ذلك مما هو مفصل في كتب الفقه والأحكام.

(جـ) إنفاق المال

وبعد أن تبين لنا تقرير القرآن لمنهج الوسطية في جمع المال وكسبه، نقف أخيرًا مع المنهج الشرعي في إنفاق المال كما قرره القرآن الكريم.

والناس في هذه المسألة طرفان ووسط:

فهناك القابضون أيديهم، البخلاء بأموالهم، المقترون على أنفسهم وأهليهم، فضلا عمن سواهم.

وعلى النقيض من هؤلاء، آخرون مسرفون مترفون، باسطو أيديهم كل البسط.

وبين هؤلاء وأولئك قلة من الناس سلكوا السبيل القويم، والتزموا العدل والاعتدال، واتخذوا بين ذلك سبيلا (2) .

وقد نزلت الآيات من لدن عليم حكيم، تبين سلامة هذا المنهج، وتأمر به، وتحث عليه، مع النهي عن سلوك أي من المنهجين المنحرفين، وبيان عاقبة ذلك عاجلا وآجلا (3) .

وسأذكر من الآيات ما يبين هذا المنهج ويقرره، دون إيجاز مخل أو إطناب ممل، بل سأتخذ بين ذلك سبيلا:

(1) - للعلماء كلام في هذه القضية، وتفصيل في هذه القاعدة، انظر: مثلا تفسير القرطبي (3 / 356) تجد بيان ذلك.

(2)

- أي: بين المنهجين المتطرفين.

(3)

- من بيان العاجل قوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا محسورًا) . [سورة الإسراء، آية: 29] . ومن الآجل قوله: (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) . [سورة آل عمران، الآية: 180] .

ص: 311

وقال سبحانه: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد:38) .

وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} (الإسراء:100) .

قال ابن كثير في هذه الآية: يقول - تعالى - لرسوله، صلى الله عليه وسلم قل لهم يا محمد لو أنكم أيها الناس تملكون التصرف في خزائن الله لأمسكتم خشية الإنفاق، قال ابن عباس وقتادة: أي: الفقر خشية أن تُذهبوها، مع أنها لا تنفد ولا تفرغ أبدًا، لأن هذا من طباعكم وسجاياكم، ولهذا قال:{وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} ". قال ابن عباس وقتادة: أي: بخيلا منوعًا.

ص: 313

وقال - تعالى -: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} (النساء:53) . أي: لو أن لهم نصيبًا في ملك الله ما أعطوا أحدًا شيئًا ولا مقدار نقير.

والله - تعالى - يصف الإنسان من حيث هو - إلا من وفقه الله وهداه - فإن البخل والجزع والهلع صفة له، ويدل هذا على كرمه وجوده وإحسانه سبحانه وتعالى (1) .

وقال القرطبي في قوله - تعالى -: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} (آل عمران: من الآية 180) هذه الآية نزلت في البخل بالمال، والإنفاق في سبيل الله، وأداء الزكاة المفروضة.

والبخل في اللغة: أن يمنع الإنسان الحق الواجب، فأما من منع ما لا يجب عليه فليس ببخيل، لأنه لا يذم بذلك. ثم قال: واختلف في البخل والشح، هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ فقيل: البخل: الامتناع من إخراج ما حصل عندك.

والشح: الحرص على تحصيل ما ليس عندك.

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (3 / 66) .

ص: 314

وقيل: إن الشح هو البخل مع حرص، وهو الصحيح، لما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال:«اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم»

وهذا يردّ قول من قال: إن البخل منع الواجب، والشح: منع المستحب، إذ لو كان الشح منع المستحب لما دخل تحت هذا الوعيد العظيم، والذم الشديد الذي فيه هلاك الدنيا والآخرة (1) .

وكما جاءت الآيات محذرة من عاقبة البخل والتقتير، فقد جاءت ناهية عن الطرف المقابل وهو الإسراف والتبذير.

فقال - سبحانه -: وَآتِ {ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (الإسراء:26، 27) .

وقال - جل وعلا -: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأنعام: من الآية 141) .

(1) - انظر: تفسير القرطبي (4 / 291-293) . والحديث أخرجه مسلم (4 / 1996) رقم (2578) .

ص: 315

قال القاسمي في تفسير آية الإسراء: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (الإسراء: من الآية 26) أي: بوجه من الوجوه، بالإنفاق في محرم أو مكروه، أو على من لا يستحق، فتحسبه إحسانًا إلى نفسك أو غيرك. قال: وفي الكشاف: كانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها، وتبذر أموالها في الفخر والسمعة، وتذكر ذلك في أشعارها، فأمر الله بالنفقة في وجوهها مما يقرب منه ويزلف.

{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (الإسراء: من الآية 27) أي: أمثالهم في كفران نعمة المال بصرفه فيما لا ينبغي، وهذا غاية المذمة لأنه لا شر من الشيطان.

وقال: قال أبو السعود: وتخصيص هذا الوصف بالذكر من بين سائر أوصافه القبيحة، للإيذان بأن التبذير الذي هو عبارة عن صرف نعم الله - تعالى - إلى غير مصرفها، من باب الكفران المقابل للشكر الذي هو عبارة عن صرفها إلى ما خلقت هي له، والتعرض لوصف الربوبية للإشعار بكمال عتوه، فإن كفر نعمة الرب، مع كون الربوبية من أقوى الدواعي إلى شكرها، غاية الكفران، ونهاية الضلال والطغيان.

وقال: وقد استدل بالآية مع منع إعطاء المال كله في سبيل الخير، ومن منع الصدقة بكل ماله (1) .

(1) - انظر: تفسير القاسمي (10 / 3921) .

ص: 316

وقال الطبري مبينًا مدلول آية الأنعام، {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأنعام: من الآية 141) قال: بعد أن ذكر أقوال العلماء: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله - تعالى - نهى بقوله: {وَلَا تُسْرِفُوا} (الأنعام: من الآية 141) عن جميع معاني الإسراف، ولم يخصص منها معنى دون معنى.

وإذا كان ذلك كذلك، وكان الإسراف في كلام العرب: الإخطاء بإصابة الحق في العطية، إما بتجاوز حده في الزيادة، وإما بتقصير عن حده الواجب (1) كان معلومًا أن المفرق ماله مباراةً، والباذلَه للناس حتى أجحفت به عطيته، مسرف بتجاوزه حد الله إلى ما كيفته له.

وكذلك المقصر في بذله فيما ألزمه الله بذله فيه، وذلك كمنعه ما ألزمه إيتاءه منه أهل سهمان الصدقة، إذا وجبت فيه، أو منعه من ألزمه الله نفقته من أهله وعياله ما ألزمه منها.

وكذلك السلطان في أخذه من رعيته ما لم يأذن الله بأخذه.

كل هؤلاء فيما فعلوا من ذلك مسرفون، داخلون في معنى من أتى ما نهى الله عنه من الإسراف بقوله:{وَلَا تُسْرِفُوا} (الأنعام: من الآية 141) في عطيتكم من أموالكم ما يجحف بكم. (2) .

(1) - ممن قال بذلك وفسر به الإسراف: سعيد بن المسيب ومحمد بن كعب، كما ذكر الطبري في تفسيره (8 / 61) . ولكن الإسراف إذا أطلق يراد به التبذير، وما يقابل البخل والتقتير، قال - سبحانه -:(والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا) . [سورة الفرقان، آية: 67] . وتفسير الإٍسراف بالبخل فيه نظر. والله أعلم.

(2)

- انظر: تفسير الطبري (8 / 61) .

ص: 317

وبهذا يتضح لنا أن البخل والإِسراف ضدان قد نهى الله عنهما، وحرمهما على عباده، كلا طرفي قصد الأمور ذميم.

وإذا كانت الآيات السابقة، بينّت كل واحدة منها أحد طرفي الانحراف وحذّرت منه، فإنها تدل بمفهومها على أن طريق الوسط، هو طريق الاستقامة، وبخاصة إذا نظرنا إلى مجموع الآيات السابقة التي تدل على أن الإِسراف والبخل لا يمثلان المنهج الصحيح.

ومع ذلك فقد جاءت آيات تدلّ صراحة على انحراف كل من الطرفين المذكورين، وينصّ بعضها على طريق الوسط، وأنه المنهج الحق الذي يجب الالتزام به والسير فيه.

قال - تعالى - في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان:67) .

وقال - سبحانه -: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (الإسراء:29) .

ص: 318

قال ابن كثير في الآية الفرقان: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} (الفرقان: من الآية 67) أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم، فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم، فيقصرون في حقهم، فلا يكفونهم، بل عدلا خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا.

{وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان: من الآية 67) كما قال - تعالى -: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (الإسراء: من الآية 29)(1) .

وقال الطبري في آية الإسراء: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} (الإسراء: من الآية 29) .

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (3 / 325) .

ص: 319

وإنما معنى الكلام: ولا تمسك يا محمد يدك بخلا عن النفقة في حقوق الله، فلا تنفق فيها شيئًا، إمساك المغلولة يده إلى عنقه، الذي لا يستطيع بسطها. {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (الإسراء: من الآية 29) يقول: ولا تبسطها بالعطية كل البسط، فتبقى لا شيء عندك، ولا تجد إذا سئلت شيئًا تعطيه سائلك. {فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (الإسراء: من الآية 29) يقول: فتقعد يلومك سائلوك إذا لم تعطهم حين سألوك، وتلوم نفسك على الإسراع في مالك وذهابه (1) .

ومما يدل على الوسطية في النفقة قوله - تعالى -: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} (الطلاق: من الآية 7) . وهذا من الوسطية النسبية التي يراعى فيها حال المنفق، وما جرت العادة به ونحو ذلك.

(1) - انظر: تفسير الطبري (15 / 76) .

ص: 320

قال القرطبي: فتقدّر النفقة بحسب الحالة من المنفِق، والحاجة من المنفَق عليه بالاجتهاد على مجرى حياة العادة، فينظر المفتي إلى قدر حاجة المنفَق عليه، ثم ينظر إلى حالة المنفَق، فإن احتملت الحالة أمضاها عليه، وإن اقتصرت حالته على حالة المنفق عليه ردّها إلى قدر احتماله (1) .

من خلال ما سبق ظهر لنا منهج الوسطية واضحًا جليًّا في الجمع والكسب، وإنفاق المال.

ودلتّ الآيات السابقة على النهي على الإِفراط والتفريط، ووجوب الالتزام بالمنهج الوسط، وجماع ذلك قول الله العظيم، {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان:67) . ومن أصدق من الله قيلا.

ومما سبق في تقرير وسطية الإسلام في جمع المال وكسبه وإنفاقه يتّضح انحراف كل من المنهج الرأسمالي والمنهج الاشتراكي (2) .

فالنظام الرأسمالي يقوم على حرية الفرد في عمل ما يروق له من الأعمال التجارية.

فهي تعني حرية الاستثمار، وحرية الفرد في التملك، الحرية المطلقة، فهو حرّ في البحث عن الربح بشتى الوسائل والطرق.

(1) - انظر: تفسير القرطبي (18 / 170) .

(2)

- انظر: الوسطية في الإسلام د / زيد الزيد ص (56) .

ص: 321

والملكية الفردية مقدّسة، لا تمسّ، ولا يحدّها ضابط أو قيد، حتى لو أدّت هذه الملكية لاحتكار المالك للسلعة.

إن هذه الحرية بل هذه الفوضوية المطلقة - كان لها نتائج عكسية على المجتمع، حيث أوقدت نار الاحتكار والأنانية الفردية.

وبالتالي تحوّلت الحياة الاقتصادية إلى شريعة غاب، يأكل فيها القوي الضعيف.

وأدّى هذا إلى تكدس رءوس الأموال في يد طبقة معينة من أصحاب رءوس الأموال، ويقابلهم طبقة العمال الذين لا حول لهم ولا قوّة.

ويقابل المنهج الرأسمالي المنهج الاشتراكي، حيث قام على فكرة وفلسفة انتقال السيطرة على المال من أيدي أصحاب رءوس الأموال إلى أيدي الطبقة العاملة. حيث قامت على أسس من أبرزها:

1-

إلغاء الملكية الفردية، وتأميم الممتلكات التجارية والصناعية، بدعوى مصلحة الجميع، والأفراد يؤدون أعمالا للدولة نظير أجور متساوية.

2-

توزيع السلع والمنتوجات الاستهلاكية كل وفق حاجته.

فالاقتصاد الاشتراكي يعتمد على - دعوى - تغليب مصلحة المجتمع، ويجعل الدولة مالكة لكل شيء، وموجهة للاقتصاد، فلا يكاد يوجه للأفراد حقوق تذكر، من التملك والتنقل أو اختيار العمل، فأفقر الغني ولم يُغن الفقير.

ص: 322

وبهذا فإن في هذين النظامين يتمثل الإفراط والتفريط في أبشع صورة.

أمّا الإِسلام - فكما سبق بيان منهج القرآن في ذلك - يختلف عن هذين النظامين اختلافًا جذريًّا.

فهو آخذ بمصلحة الفرد ومصلحةَ المجتمع في وقت واحد، فهو يحترم الملكية الفردية ويقرّها، لأنها توافق الفطرة الإنسانية، ولكنه لا يقرّها مطلقة من كل قيودها، بل جعل لها ضوابط وقيود تحول دون الاعتداء على مصلحة المجتمع، وكذلك يحترم مصلحة المجتمع دون التعدي على مصلحة الفرد.

ففيه الإِرث والوصية والزكاة والصدقة وغير ذلك من وجوه الإنفاقُ المشروعة.

كما حرّم الاحتكار والرّبا والغشّ وغيرها من وجوه الاكتساب المحرّمة (1) .

وبهذا تحقّقت الوسطيَّة في أبهى صورها، الوسطية التي توافق الفطرة وتنميها:{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: من الآية 30) .

(1) - انظر: الوسطية في الإسلام د / زيد الزيد ص (56) وما بعدها.

ص: 323

مطالب النفس وشهواتها

قال الله سبحانه وتعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران:14) .

قال سيد قطب: صياغة الفعل للمجهول - هنا - تشير إلى أن تركيبهم الفطري قد تضمّن هذا الميل، فهو محبّب ومزين، وهذا تقرير للواقع من أحد جانبيه، ففي الإِنسان هذا الميل إلى هذه الشهوات، وهو جزء من تكوينه الأصيل، لا حاجة إلى إنكاره، ولا إلى استنكاره في ذاته، فهو ضروري للحياة البشرية، كي تتأصل وتنمو وتطرد (1) .

(1) - انظر: في ظلال القرآن (1 / 373) .

ص: 324

وقال رشيد رضا بعد أن بين اختلاف المفسرين في إسناد التزيين في هذا المقام، فأسنده بعضهم إلى الله، وأسنده بعضهم إلى الشيطان. قال: وغفل الجميع عن كون الكلام في طبيعة البشر، وبيان حقيقة الأمر في نفسه، لا في جزئياته، وأفراد وقائعه، فالمراد أن الله - تعالى - أنشأ الناس على هذا وفطرهم عليه، ومثل هذا لا يجوز إسناده إلى الشيطان بحال، وإنّما يسند إليه ما قد يعدّ هو من أسبابه، كالوسوسة التي تزين للإنسان عملا قبيحًا، ولذلك لم يسند إليه القرآن إلا تزيين الأعمال، قال - تعالى -:{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} (الأنفال: من الآية 48) وقال: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: من الآية 43) .

وأمّا الحقائق وطبائع الأشياء فلا تسند إلاّ إلى الخالق الحكيم، الذي لا شريك له، قال عز وجل {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (الكهف:7) (1) .

وبعد أن تقّررت هذه الحقيقة: وهي أن الميل إلى شهوات الدنيا أمر فطري مركوز في خلق الإنسان، فإن الناس أمام هذه الحقيقة طرفان ووسط.

(1) - انظر: تفسير المنار (3 / 239) .

ص: 325

فهناك من وقف أمام هذا الميل موقفًا مغاليًا، فحرّم على نفسه الطيبات وغيرها، ومنعها من الملاذّ، وما فُطرت عليه من الزواج والمال وأطايب الملابس والمآكل، وهؤلاء يمثلهم رهبان النصارى وغلاة الصوفية، وابتدع النصارى رهبانية قاسية على النفس، تحرم الزواج، وتكبت الغرائز، وترفض كل أشكال الزينة، وطيبات الرزق، وتراها رجسًا من عمل الشيطان، وأصبح هذا النزوع مذهبًا رائجًا (1) .

فهؤلاء رأوا الجسد سجنًا للروح، يحول بينها وبين أشواقها العالية، وشفافيتها السامية، فاخترعوا الرياضيات الروحية الشاقة، التي تقوم على إرهاق الجسد وتعذيبه، وتحوّله إلى شبح هزيل، يسكن المغاور والمقابر والكهوف، وينفر من كل الصلات الإِنسانية (2) .

وهؤلاء أفرطوا وغلوا، وخرجوا عن سواء السبيل.

والطرف المقابل لهؤلاء، هم الذين انساقوا وراء شهوات أنفسهم، واعتبروا الحياة الدنيا هي الغاية والنهاية، وقالوا:{مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} (الجاثية: من الآية 24) .

فأغرقوا في الشهوات، وعبدوا أنفسهم للماديات، ولم يعرفوا لهم هدفًا ساميًا يسعون إليه، غير منافع الدنيا العاجلة، ولذائذها الفانية.

(1) - انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للندوي ص (186) ، والوسطية في الإسلام ص (42) .

(2)

- انظر: المسلمون بين التشديد والتيسير للعودة ص13، والوسطية في الإسلام ص44.

ص: 326

وأصبحوا كالأنعام، بل هم أضلّ سبيلا.

وهذا المنهج سقطت فيه الكثير من الأيديولوجيات، وتبعه ملايين البشر، الذين ارتموا في أحضان النفعية الغربية المادية، أو سقطوا في مخالب المادية الماركسية، التي تعيث في الأرض فسادًا من حيث يشعرون أو لا يشعرون.

وهؤلاء فرّطوا وضيّعوا، وضلّوا عن سواء السبيل.

وبين هؤلاء وأولئك جاء القرآن بالمنهج العدل الوسط، فاعترف بحاجة الإِنسان إلى تلبية فطرته، وتحقيق بعض رغباته، دون حجر أو كبت.

ولكنه لم يترك له الحبل على غاربه، بل وضع الضوابط والحدود، وبينّ أنّ له مهمة سامية يسعى إليها أشرف من الدنيا وما فيها.

ونبينّ الآن ما جاء في القرآن تجاه كل طرف، ثم تقريره للمنهج الوسط.

أمّا الطرف الأول وهم الذين غلوا وأفرطوا، فقد جاءت بعض الآيات التي تردّ هذا المنهج وتبين انحرافه، فقال - سبحانه -:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف:32) .

ص: 327

يقول - تعالى - ردًّا على من حرّم شيئًا من المآكل والمشارب أو الملابس من تلقاء نفسه من غير شرع من الله، قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يُحّرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} (الأعراف: من الآية 32) أي: هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا، وإن شركهم فيها الكفار حبًا في الدنيا، فهي لهم خاصة يوم القيامة، لا يشركهم فيها أحد من الكفار (1) .

وقال الطبري في قوله - تعالى -: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (الأعراف: من الآية 33) .

يقول الله - تعالى - ذكره لنبيه محمد، صلى الله عليه وسلم قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يتجرّدون من ثيابهم للطواف بالبيت، ويحرمون أكل طيبات ما أحل الله لهم من رزقه، أيّها القوم إن الله لم يحرّم ما تحرمونه، بل أحّل ذلك لعباده المؤمنين وطيّبه لهم، وإنّما حرم ربيّ القبائح من الأشياء، وهي الفواحش، ما ظهر منها فكان علانية، وما بطن منها فكان سرًّا في خفاء.

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (2 / 211) .

ص: 329

ثم فسرّ - قوله تعالى - في آخر الآية: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: من الآية 33) فقال: يقول وأن تقولوا: إن الله أمركم بالتعري والتجرد للطواف بالبيت، وحرم عليكم أكل هذه الأنعام التي حرمتموها وسيبتموها، وجعلتموها وصائل وحوامي، وغير ذلك مما لا تعلمون أن الله حرمه، أو أمر به أو أباحه، فتضيفوا إلى الله تحريمه وحظره والأمر به.

فإن ذلك - أي هذا القول - هو الذي حرمه الله عليكم دون ما تزعمون أن الله حرمه، أو تقولون إن الله أمركم به، جهلًا منكم بحقيقة ما تقولون، وتضيفونه إلى الله (1) .

وقال رشيد رضا مفسرًا قوله - تعالى -: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: من الآية 32) .

(1) - انظر: تفسير الطبري (8 / 167) .

ص: 330

حرمت العرب في جاهليتها زينة اللباس في الطواف تعبدًا وقربة، وحرم بعضهم أكل بعض الطيبات من الأدهان وغيرها في حال الإحرام بالحج كذلك، وحرّموا من الحرث والأنعام ما بيّنه - تعالى - في سورة الأنعام، وحرّم غيرهم من الوثنيين وأهل الكتاب كثيرًا من الطيبات والزينة كذلك، فجاء دين الفطرة الجامع بين مصالح البشر في معاشهم ومعادهم، المطهر المربي لأرواحهم وأجسادهم، ينكر هذا التحكم والظلم للنفس، فالاستفهام في قوله:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ} (الأعراف: من الآية 32) إنكاري، يدل على أن هذا التحريم من وساوس الشيطان، لا مما أوحاه - تعالى - إلى من سبق من المرسلين (1) .

وبهذا يتّضح انحراف هذا المنهج وبعده عن الصّراط المستقيم.

ومثلما جاءت الآيات مبينة حكم الله في هذا الطرف، جاءت كذلك تبين انحراف الطرف المقابل وميله عن الحق، وهم الذين تركوا العنان لأنفسهم تعبث كيفما تشاء، وترتع كالأنعام فيما اشتهت وهوت، دون حسيب أو رقيب أو ضابط.

قال سبحانه وتعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (مريم:59) .

(1) - انظر: تفسير المنار (8 / 387) .

ص: 331

وقال - جلّ وعلا -: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} (النساء:27) .

وقال عزّ ذكره: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} (محمد: من الآية 12) .

وقال: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (الحجر:3) .

وقال: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} (الأحقاف:20) .

وقال - سبحانه -: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} (البقرة: من الآية 200) .

فهذه الآيات وأمثالها تدّل على ضلال هؤلاء وانحرافهم، حيث فرّطوا بركونهم إلى الحياة الدنيا وشهواتها، وتفصيلا لهذا الانحراف أذكر بعض أقوال المفسرين حول معنى هذه الآيات.

ص: 332

قال الطبري في قوله - تعالى -: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} (النساء: من الآية 27) يقول: يريد الذين يطلبون لذّات الدنيا وشهوات أنفسهم فيها، أن تميلوا عن أمر الله تبارك وتعالى فتجوروا عنه بإتيانكم ما حرّم عليكم، وركوبكم معاصيه ميلا عظيمًا، جورًا وعدولا عنه شديدًا.

ثم قال بعد أن ذكر أقوال العلماء في المراد بالذين يتبعون الشهوات: فأولى المعاني بالآية ما دلّ عليه ظاهرها دون باطنها الذين لا شاهد عليه من أصل أو قياس.

وإذا كان ذلك كذلك كان داخلا في الذين يتّبعون الشهوات: اليهود والنصارى والزّناة، وكل متبع باطلا، لأن كل متبع ما نهاه الله عنه فمتبع شهوة نفسه (1) .

وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} (محمد: من الآية 12) . قال: أي في دنياهم يتمتعون بها ويأكلون منها كأكل الأنعام خضمًا وقضمًا، وليس لهم همة إلا ذلك، ولذلك ثبت في الصحيح:«المؤمن يأكل في معي واحدٍ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء» (2) .

(1) - انظر: تفسير الطبري (5 / 28) .

(2)

- انظر: تفسير ابن كثير (4 / 175) والحديث أخرجه البخاري (6 / 200) .

ص: 333

وقال القرطبي في قوله - تعالى -: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} (الأحقاف: من الآية 20) . أي: تمتعتم بالطيبات في الدنيا واتبعتم الشهوات واللذات، يعني المعاصي.

وقيل: أي أفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي.

قال ابن بحر: الطيبات: الشباب والقوة، مأخوذ من قولهم: ذهب أطيباه، أي: شبابه وقوّته.

قال القرطبي: قلت: القول الأول أظهر، ثم ساق الأدلة على صحة هذا القول، وذلك بتفسير عمر رضي الله عنه للآية وغيره من السلف (1) .

وقال القرطبي - أيضًا - في قوله - تعالى -: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} (مريم: من الآية 59) عن علي، رضي الله عنه هو من بني المشيد، وركب المنظور، ولبس المشهور.

قلت - أي القرطبي -: الشهوات عبارة عما يوافق الإنسان، يشتهيه ويلائمه ولا يتقيه، وفي الصحيح:«حفّت الجنّة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات» (2) .

وما ذكر عن علي رضي الله عنه جزء من هذا (3) .

(1) - انظر: تفسير القرطبي (16 / 200) .

(2)

- أخرجه مسلم (4 / 2174) رقم (2822) وهو عند البخاري أيضًا (7 / 186) عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ «حُجبت النار بالشهوات وحُجبت الجنة بالمكاره» .

(3)

- انظر: تفسير القرطبي (11 / 125) .

ص: 334

وأختم أقوال المفسرين بما قاله سيد في تفسير قوله - تعالى -: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} (الأحقاف: من الآية 20) قد كانوا يملكون الطيبات إذن، ولكنهم استنفذوها في الحياة الدنيا، فلم يدّخروا للآخرة منها شيئًا، واستمتعوا بها غير حاسبين فيها للآخرة حسابًا.

استمتعوا بها استمتاع الأنعام للحصول على اللذة بالمتاع، غير ناظرين فيها للآخرة، ولا شاكرين لله نعمته، ولا متورعين فيها عن فاحش أو حرام، ومن ثمّ كانت لهم دنيا ولم تكن لهم آخرة (1) .

وهذه الآيات وكلام المفسرين حولها بيّنت أنّ التفريط مذموم، وعاقبته وخيمة، وأنّه مجافاة للطريق السوي، والصراط المستقيم.

وننتهي بعد ذلك إلى نتيجة محدّدة لا لبس فيها ولا غموض، وهي أن تحريم الطيبات وما أحلّ الله لعباده غلو وإفراط، ومثل ذلك - في الذّم - اتباع الشهوات وعدم منع النفس مما تشتهي حلالا كان أو حرامًا، فهذا تفريط. والطريق العدل والمنهج الوسط ما بين ذلك، وهو ما تحدّده وتُبيّنه الآيات التالية:

(1) - انظر: في ظلال القرآن (6 / 3264) .

ص: 335

قال - تعالى -: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف:31) . فهذه من أوضح الآيات دلالة على المراد، حيث حددت معالم هذا المنهج، فلباس الزينة مشروع، ومثل ذلك الأكل والشرب مما أباح الله، ولو كان فيه زيادة على الحاجة والضرورة، ولكن المنهي عنه أن يكون هناك إسراف وتبذير، سواء كان الإسراف في النوع أو الكم أو العادة.

وما أجمل ما قاله القرطبي في هذا الباب، حيث قال: والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه: على المرء أن يأكل ما وجد، طيبًا كان أو قفارًا، ولا يتكلّف الطيب ويتخذه عادة، وقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها، ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر، ولا يعتمد أصلا، ولا يجعله ديدنًا، ومعيشة النبي، صلى الله عليه وسلم معلومة، وطريقة الصحابة منقولة (1) .

(1) - انظر: تفسير القرطبي (16 / 202) .

ص: 336

وقال الطبري في هذه الآية: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ} (الأعراف: من الآية 31) من الكساء واللباس، {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا} (الأعراف: من الآية 31) من طيبات ما رزقتكم وحللته لكم، {وَاشْرَبُوا} (الأعراف: من الآية 31) من حلال الأشربة، ولا تُحرّموا إلا ما حرّمت عليكم في كتابي، أو على لسان رسولي محمد، صلى الله عليه وسلم.

ثم قال: عن ابن عباس قال: أحلّ الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفًا أو مخيلة.

وروي عن ابن عباس في قوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف: من الآية 31) .

قال: في الطعام والشراب.

وقال السدي: لا تسرفوا في التحريم.

وقال ابن زيد: لا تأكلوا حرامًا، ذلك الإسراف.

وقوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف: من الآية 31) يقول: إن الله لا يحب المتعدين حدّه، في حلال أو حرام، الغالين فيما أحلّ الله أو حرّم بإحلال الحرام، وبتحريم الحلال، ولكنه يجب أن يُحلّل ما أحلّ ويحرّم ما حرّم، وذلك العدل الذي أمر به (1) .

(1) - انظر: تفسير الطبري (8 / 162) .

ص: 337

وقال ابن كثير: قال بعض السلف: جمع الله الطب كله في نصف الآية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} (الأعراف: من الآية 31) وقال البخاري قال ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة (1) .

ومن الأدلة على الوسطية والاعتدال في مطالب النفس قوله - تعالى -: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (البقرة:168) . فقوله: {كُلُوا} (البقرة: من الآية 168) إباحة لما قد يتوهّم من التحريم جهلا أو غلوًّا. وقوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} (البقرة: من الآية 168) نهى عن الحرام، والإسراف حرام، فهو منهي عنه.

قال الطبري في الآية: يا أيها الناس كلوا مما أحللت لكم من الأطعمة على لسان رسولي محمد، صلى الله عليه وسلم فطيبته لكم، مما تحرمونه على أنفسكم من البحائر والسوائب والوصائل، وما أشبه ذلك، مما لم أحرّمه عليكم، دون ما حرّمته عليكم من المطاعم والمآكل فنجسته؛ من ميتة ودم ولحم خنزير، وما أُهل به لغيري. ودعوا خطوات الشيطان الذي يوبقكم فيهلككم ويوردكم موارد العطب.

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (2 / 210) . وصحيح البخاري (7 / 33) .

ص: 338

ثم قال بعد أن بيّن أقوال العلماء في المراد بخطوات الشيطان: وهذه الأقوال قريب معنى بعضها من بعض، غير أن حقيقة تأويل الكلمة هو ما بيّنت من أنها بُعد ما بين قدميه، ثم تستعمل في جميع آثاره وطرقه على ما قد بيّنت (1) .

ومن الأدلة قوله - تعالى -: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (البقرة:201، 202) .

قال ابن كثير في هذه الآية:

جمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا، وصرفت كل شرّ، فإن كل الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي، من عافية ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هيّن، وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا.

وأمّا الحسنة في الآخرة، فأعلى ذلك دخول الجنة (2) وتوابعه، من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب، وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة.

(1) - انظر: تفسير الطبري (2 / 76) .

(2)

- وأعلى منها لذة النظر إلى وجه الله الكريم، ولكنه لا يكون إلا لمن دخل الجنة.

ص: 339

وأمّا النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا، من اجتناب المحارم والآثام، وترك الشبهات والحرام (1) .

ومن الأدلة التي تصلح في هذا المقام قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (المؤمنون:5-7) .

قال ابن كثير في تفسيره للآية: أي والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام، فلا يقعون فيما نهاهم الله عنهم من زنا ولواط، لا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم، أو ما ملكت أيمانهم من السراري، ومن تعاطى ما أحلّه الله فلا لوم عليه ولا حرج، ولهذا قال:{فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (المؤمنون: من الآية 6)(2) .

ووجه الاستدلال من هذه الآية على منهج الوسطيَّة أنه أباح لهم بعض مطالب أنفسهم كالزواج والتسري، وهذا هو الطريق المشروع لإشباع هذه الغريزة، ولكنه - أيضًا - حرّم التعدي والإسراف والإفراط والتفريط، وذلك بإتيان ما حرم الله من الزنا واللواط، بل والاستمناء على القول الراجح من أقوال العلماء (3) .

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (1 / 243) .

(2)

- انظر: تفسير ابن كثير (3 / 239) .

(3)

- انظر: تفصيل ذلك في تفسير القرطبي (12 / 105) .

ص: 340

وأختم الكلام في هذا المبحث بما قاله سيد قطب أثناء تفسيره لقوله - تعالى -: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران:14) حيث قال:

في الآية واحدة يجمع السياق القرآني أحبّ شهوات الأرض إلى نفس الإنسان: النساء والبنين والأموال المكدسة والخيل والأرض المخصبة والأنعام، وهي خلاصة للرغائب الأرضية، إما بذاتها، وإما بما تستطيع أن توفره لأصحابها من لذائذ أخرى.

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} (آل عمران: من الآية 14) فهي شهوات مستحبة مستلذة، وليست مستقذرة ولا كريهة، والتعبير لا يدعو إلى استقذارها وكراهيتها، إنما يدعو فقط إلى معرفة طبيعتها وبواعثها، ووضعها في مكانها لا تتعداه، ولا تطغى على ما هو أكرم في الحياة وأعلى.

ص: 341

وهنا يمتاز الإسلام بمراعاته للفطرة البشريّة، وقبوله بواقعها، ومحاولة تهذيبها ورفعها، لا كبتها وقمعها، إننا نرى الإسلام قد ضمن سلامة الكائن الإنساني من الصراع بين شطري النفس البشرية، بين نوازع الشهوة واللذة، وأشواق الارتفاع والتسامي، وحقق لهذه وتلك نشاطها المستمر في حدود التوسط والاعتدال (1) .

هذه هي الوسطية التي رسمها القرآن الكريم فيما يتعلق بمطالب النفس وشهواتها.

وهو بهذا يمثل الواقعية والحكمة، ويوازن بين نوازع النفس البشرية وحقائق العبودية وتكاليفها.

(1) - انظر: في ظلال القرآن (1 / 373) .

ص: 342

عاشرًا: شواهد أخرى

وبعد أن ذكرت الآيات التي جاءت تقرّر منهج الوسطيَّة في إطار الأبواب الماضية، فإن هناك آيات أخرى ليست داخلة في أي باب من الأبواب السابقة دخولا مباشرًا. وهي تدلّ دلالة واضحة على هذا المنهج وتؤكده (1) .

ولذلك سأذكر بعض هذه الآيات دون استطراد في التفسير أو التعليق، وإنما سأكتفي بذكر الآية مع الإشارة إلى وجه الدلالة، وذكر قول لأحد المفسرين أو قولين، بما يؤدي الغرض ويحققه.

1-

قال الله - تعالى -: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء: من الآية 9) .

قال ابن كثير: يمدح الله - تعالى - كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله محمد، صلى الله عليه وسلم وهو القرآن بأنه يهدي لأقوم الطرق، وأوضح السبل (2) .

وقال القرطبي: ومعنى {لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء: من الآية 9) أي الطريقة التي هي أسدّ وأعدل وأصوب (3) .

وبهذا التفسير فإن الوسطيَّة داخلة في هذه الهداية من باب أولى، لأنها متضمنّة للعدل والاستقامة.

(1) - قد ترد آيات يبدو منها لأول وهلة دخولها تحت باب من الأبواب السابقة، ولكن عند التأمل سنجد أن هناك فرقًا في وجه الدلالة آثرت معه إفرادها هنا، مع وجود شيء من الاشتراك هناك.

(2)

- انظر: تفسير ابن كثير (3 / 26) .

(3)

- انظر: تفسير القرطبي (10 / 225) .

ص: 343

2-

قال - تعالى -: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} {إِلَّا الْمُصَلِّينَ} (المعارج:19- 22) .

قال القرطبي: الهلع في اللغة: أشد الحرص، وأسوأ الجزع وأفحشه.

والمعنى: أنه لا يصبر على خير ولا شرّ حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي.

والمنوع: هو الذي أصاب المال منع منه حق الله - تعالى -.

وقال أبو عبيدة: الهلوع: هو الذي إذا مسّه الخير لم يشكر، وإذا مسه الضرّ لم يصبر (1) .

3-

قال - تعالى -: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} {وَهُوَ يَخْشَى} {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} (عبس:5-10) .

قال ابن كثير مبينًا دلالتها على الوسطية:

{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} (عبس:5،6) أي: أمّا الغني فأنت تعرض له لعله يهتدي، {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} (عبس:7) أي: بمطالب منه إذا لم يحصل له زكاة - وهي الهداية -.

(1) - انظر: تفسير القرطبي (18 / 290) .

ص: 344

{وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} {وَهُوَ يَخْشَى} (عبس:8، 9) أي: يقصدك ويؤمك، ليهتدي بما تقول له، {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} (عبس:10) أي: تتشاغل.

ومن هنا أمر الله تعالى رسوله، صلى الله عليه وسلم ألا يخصّ بالإنذار أحدًا، بل يساوي فيه بين الشريف والضعيف، والفقير والغني، والسادة والعبيد، والرجال والنساء، والصغار والكبار، ثم الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة (1) .

4-

قال - تعالى -: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي} {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي} (الفجر:15،16) .

وهذا الأمر فيه إفراط وتفريط، قال ابن كثير مبينًا ذلك، وموضحًا طريق الاستقامة في ذلك.

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (4 / 470) .

ص: 345

يقول - تعالى - منكرًا على الإنسان في اعتقاده إذا وسّع الله عليه في الرزق ليختبره في ذلك، فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له، وليس كذلك بل هو ابتلاء وامتحان، كما قال -تعالى-:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} (المؤمنون:55، 56) .

وكذلك في الجانب الآخر، إذا ابتلاه وامتحنه وضيّق عليه في الرزق يعتقد أن ذلك من الله إهانة له.

(كَلَّا) أي ليس الأمر كما زعم، لا في هذا، ولا في هذا، فإن الله تعالى يعطي المال من يحبّ ومن لا يحبّ، ويضيق على من يحب ومن لا يحبّ، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين، إذا كان غنيًّا بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيرًا بأن يصبر (1) .

5-

قال - تعالى - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: من الآية 6) .

والموقف من الخبر إذا جاء من الفاسق إمّا قبوله مطلقًا، وهذا إفراط، أو ردّه مطلقًا، وهذا تفريط، فقد يصدق خبره، وإما التثبت والتبين، وهذا هو الوسط وهو المشروع.

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (4 / 509) .

ص: 346

قال القرطبي: في الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا، لأنه إنما أمر فيها بالتثبيت عند نقل خبر الفاسق، ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعًا، لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة يبطلها، وقد استثنى الإجماع من ذلك ما يتعلق بالدعوى والجحود، وإثبات حق مقصود على الغير (1) .

وقال ابن كثير: يأمر - تعالى - بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له، لئلا يحكم بقوله فيكون في نفس الأمر كاذبًا أو مخطئًا (2) .

6-

قال - تعالى -: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} (لقمان: 14، 15) والأمر يدورعلى ثلاثة أوجه:

إما الطاعة وحسن الصحبة والإحسان، وإما البراء منهما مطلقًا فلا طاعة ولا صحبة ولا إحسان، وإما التوسط، وهو عدم الطاعة في معصية الله، مع الإحسان إليهما، وحسن الصحبة، وهذا هو الوسط وهو المشروع.

(1) - انظر: تفسير القرطبي (16 / 312) .

(2)

- انظر: تفسير ابن كثير (4 / 308) .

ص: 347

وقريب من هذا المعنى ما جاء في سورة الممتحنة، قال - سبحانه -:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة: 8: 9) .

والدلالة في الآية واضحة جلية.

7-

ومشاقة الله ورسوله خروج عن منهج الوسطيَّة، ولذلك جاء ذمها في القرآن في أكثر من موضع، قال - سبحانه -:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال:13) . وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الحشر:4) .

ص: 348

قال سيد قطب في تفسيره للآية الثانية: والمشاقة أن يأخذوا لهم شقًّا غير شق الله، وجانبًا غير جانبه، وقد جعل الله جانبه هو جانب رسوله، صلى الله عليه وسلم حين وصف علّة استحقاقهم للعذاب في صدر الآية، فاكتفى في عجزها بمشاقة الله وحده، فهي تشمل مشاقة الرسول وتتضمنها.

ثم ليقف المشاقّون في ناحية أمام الله - سبحانه - وهو موقف فيه تبجّح قبيح، حين يقف المخاليق في وجه الخالق يُشاقّونه (1) .

8-

قال - تعالى -: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} (الشورى:27) .

قال الطبري: ولو بسط الله الرزق لعباده، فوسّعه وكثّره عندهم لبغوا، فتجاوزوا الحدّ الذي حدّه الله لهم إلى غير ذلك الذي حدّه لهم في بلاده بركوبهم في الأرض ما حظره عليهم، ولكنه ينزّل رزقهم بقدر لكفايتهم الذي يشاء منه (2) .

وقال ابن كثير: أي لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان، من بعضهم على بعض أشرًا وبطرًا.

وقال قتادة: كان يقال: خير العيش ما لا يلهيك ولا يطغيك (3) .

(1) - انظر: في ظلال القرآن (6 / 3522) .

(2)

- انظر: تفسير الطبري (25 / 30) .

(3)

- انظر: تفسير ابن كثير (4 / 115) .

ص: 349

ودلالة هذه الآية: أن وسطيَّة الرزق تؤدي إلى وسطية العمل والعبادة، والإفراط يؤدي إلى الإفراط والتفريط، فأصبحت وسطيَّة الرزق مانعة من الطغيان والبغي.

9-

ومما يُدلّ على ذمّ الإِفراط والتفريط قوله - تعالى -: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (الروم:36) . ومثل هذا المعنى قوله - تعالى - عن المنافقين.

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} (التوبة:58) ثم يبين لهم المنهج الحق الذي يجب أن يسلكوه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} (التوبة:59) .

قال القاسمي في الآية الأولى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} (الروم: من الآية 36) أي: نعمة من صحة وسعة {فَرِحُوا بِهَا} (الروم: من الآية 36) أي: بطرًا وفخرًا، لا حمدًا وشكرًا.

ص: 350

{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} (الروم: من الآية 36) أي: شدّة {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} (الروم: من الآية 36) أي: من المعاصي والآثام: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (الروم: من الآية 36) أي: ييأسون من روح الله.

قال: هذا إنكار على الإنسان من حيث هو، إلا من عصمه الله ووفقّه، فإن الإنسان إذا أصابته نعمة بطر وقال:{ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} (هود: من الآية 10) أي يفرح في نفسه، ويفخر على غيره.

وإذا أصابته شدّة قنط وأيس أن يحصل بعد ذلك خير بالكلية، ثم بين المنهج الوسط.

قال الله - تعالى -: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (هود: من الآية 11) أي: صبروا في الضراء، وعملوا الصالحات في الرّخاء، كما ثبت في الصحيح:«عجبًا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له» (1) .

(1) - انظر: تفسير القاسمي ص (4780) . والحديث أخرجه مسلم (4 / 2295) . رقم (2999) .

ص: 351

قال ابن كثير: وذلك أنهم بطروا هذه النعمة، وأحبّوا مفاوز ومهامة يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل والسير والمخاوف، كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تُنبت الأرض، من بقلها وقثّائها وفُومها وعدسها وبصلها، مع أنهم كانوا في عيش رغيد، في منّ وسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب، وملابس مرتفعة، ولهذا قال لهم:{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقرة: من الآية 61) .

وقال عز وجل {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} (القصص: من الآية 58) .

وانظر ماذا كانت النتيجة: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} (سبأ: من الآية 19) قال ابن كثير: أي جعلناهم حديثًا للناس. وسمرًا يتحدثون به من خيرهم، وكيف مكر الله بهم، وفرّق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء، تفرقوا في البلاد هاهنا وهاهنا، ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا: تفرقوا أيدي سبأ، وأيادي سبأ، وتفرقوا شذر مذر (1) .

(1) انظر: تفسير ابن كثير (3 / 533) .

ص: 353

أمّا بنو إسرائيل فكان أمرهم كما أخبر الله: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} (البقرة: من الآية 61) .

11-

الطغيان خروج عن الاستقامة، بل هو مضاد لها ومباين، ولذلك جاءت الآيات تذمّ الطغاة وتنهى عن الطغيان، وتأمر بالاستقامة:

قال - تعالى - {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا} (هود: من الآية 112) .

وقال عن فرعون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (طه:43) . وقال: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات:37-39) .

وقال: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} (الشورى: من الآية 15) .

وقال: {لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} (الجن:16) .

ومن ترك الطغيان واستقام فقد التزم منهج الوسط والاعتدال {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة: من الآية 143) .

ص: 354

وإلى هنا نصل إلى نهاية بيان القرآن لمنهج الوسطيَّة، وتقريره لذلك والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

ص: 355