المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

و‌ ‌الخلاصة: أنَّ كل أمرٍ اتَّصف بالتَّفريط أو بالجفاء، فإنَّه يُخالف الوسطيَّة، - الوسطية في ضوء القرآن الكريم

[ناصر العمر]

الفصل: و‌ ‌الخلاصة: أنَّ كل أمرٍ اتَّصف بالتَّفريط أو بالجفاء، فإنَّه يُخالف الوسطيَّة،

و‌

‌الخلاصة:

أنَّ كل أمرٍ اتَّصف بالتَّفريط أو بالجفاء، فإنَّه يُخالف الوسطيَّة، وبمقدار اتّصافه بأيّ من هذين الوصفين يكون بعده عن الوسطيَّة وتجافيه عنها.

ص: 74

ثالثًا: الصراط المستقيم

بعد أن عرفنا مدلول الغلوّ والجفاء والإفراط والتَّفريط، نأتي للحديث عن الصّراط المستقيم.

إنَّنا بدون فهم معنى (الصّراط المستقيم) ، وتحديد مدلوله، لا نستطيع فهم (الوسطيَّة) على معناها الصّحيح.

وقد ورد لفظ (الصّراط المستقيم) ، في القرآن الكريم عشرات المرَّات، وجاء - أيضًا - بلفظ {صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (النساء: من الآية 68) و {صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (الأعراف: من الآية 16) و {صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} (الأنعام: من الآية 153) ونحو ذلك.

ففي سورة الفاتحة نجد قوله - تعالى -: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة:6) ثم يفسّره بأنه: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (الفاتحة:7) .

ص: 75

وفي البقرة جاء قوله - تعالى-: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة: من الآية 142) . وجاء بعد هذه الآية مباشرة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة: من الآية 143) . وسيأتي بيان العلاقة بين هاتين الآيتين. وعيسى، عليه السلام، في سورة آل عمران يقول لقومه:{إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (آل عمران:51) .

ص: 76

ونجد أن سورة الأنعام من أكثر السّور التي ورد فيها الحديث عن الصّراط المستقيم: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الأنعام: من الآية 39){وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الأنعام: من الآية 87){وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا} (الأنعام: من الآية 126){وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (الأنعام: من الآية 153){قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الأنعام: من الآية 161) وفي سورة إبراهيم سمَّاه صراط العزيز الحميد. {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم: من الآية 1) وفي طه، وصفه بالسّويّ، فقال:{فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} (طه: من الآية 135) وفي الحجّ أضافه للحميد فقال: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} (الحج:24) وفي المؤمنون عرَّفه دون وصف أو إضافة: {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ

ص: 77

بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} (المؤمنون:74) وفي مريم يقول إبراهيم، عليه السلام، لأبيه:{فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} (مريم: من الآية 43) ويقول الله في سورة الأنعام: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (الأنعام: من الآية 153) .

هذه بعض الآيات التي وردت في "الصّراط" فما معناه؟:

قال الطبري: في قوله - تعالى-: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة:6) .

أجمعت الأمَّة من أهل التَّأويل جميعًا على أنَّ الصّراط المستقيم هو الطّريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وكذلك في لغة جميع العرب، من ذلك قول جرير الخطفي:

أمير المؤمنين على صراط

إذا اعوجّ الموارد مستقيم

(1)

وقال ابن عباس: قال جبريل لمحمد، صلى الله عليه وسلم (( {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} )) : يقول: ألهمنا الطّريق الهادي، وهو دين الله الذي لا عَوِجَ له)) (2) .

قال الطبري: وإنّما وصفه الله بالاستقامة، لأنَّه صواب لا خطأ فيه (3) .

وقال: كل حائد عن قصد السّبيل، وسالك غير المنهج القويم فضالّ عند العرب، لإضلاله وجه الطّريق (4) .

(1) - انظر: تفسير الطبري (1 / 73) .

(2)

- انظر: تفسير الطبري (1 / 74) .

(3)

- انظر: تفسير الطبري (1 / 75) .

(4)

- انظر: تفسير الطبري (1 / 84) .

ص: 78

وقال ابن كثير: واختلفت عبارات المفسّرين من السَّلف والخلف في تفسير الصّراط، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد، وهو المتابعة لله ورسوله (1) .

وأعرِضُ الآن بعض أقوال المفسّرين الذين أشار إليهم ابن كثير رحمه الله (2) .

فقد روى الطبري عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي، صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:((وذكر القرآن فقال: هو الصّراط المستقيم)) (3) .

وقال أبو العالية: هو رسول الله، صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر، قال الحسن: صدق أبو العالية ونصح.

وقال القاسمي في تفسير لهذه الآية في سورة الفاتحة: أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في مبحث له مهمّ نأثره عنه هنا لما فيه من الفوائد الجليلة، قال - رحمه الله تعالى -: ينبغي أن يُعلم أن الاختلاف الواقع من المفسّرين وغيرهم على وجهين:

أحدهما ليس فيه تضادّ وتناقض، بل يمكن أن يكون كل منهما حقًّا، وإنًّما هو اختلاف تنوّع، أو اختلاف في الصّفات أو العبارات.

وعامّة الاختلاف الثابت عن مفسّري السَّلف من الصحابة والتَّابعين هو من هذا الباب.

(1) - انظر: تفسير ابن كثير (1 / 27) .

(2)

- انظر هذه الأقوال في: تفسير الطبري (1 / 74، 75) . وزاد المسير (1 / 15) .

(3)

- أخرجه الترمذي (5 / 158، 159) رقم (2906) وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال. وأخرجه - أيضًا - الدارمي (2 / 527) رقم (3332) . وأخرجه أحمد مختصرًا (1 / 91) . قال الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن ص (11، 12) : وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح.

ص: 79

فالله سبحانه وتعالى إذا ذكر في القرآن اسمًا مثل قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة:6) فكل من المفسّرين يعبّر عن الصّراط المستقيم بعبارة تدلّ بها على بعض صفاته، وكل ذلك حقّ، بمنزلة ما يُسمي الله ورسوله، وكتابه بأسماء، كل اسم منها يدلّ على صفة من صفاته.

فيقول بعضهم: الصّراط المستقيم: كتاب الله أو اتّباع كتاب الله.

ويقول الآخر: الصّراط المستقيم: هو الإسلام أو دين الإسلام.

ويقول الآخر: الصّراط المستقيم: هو السنَّة والجماعة.

ويقول الآخر: الصّراط المستقيم: هو العبوديَّة، أو طريق الخوف والرضى والحبّ، وامتثال المأمور، واجتناب المحظور، أو متابعة الكتاب والسنَّة، أو العمل بطاعة الله، أو نحو هذه الأسماء والعبارات.

ومعلوم أنَّ المسمَّى هو واحد، وإن تنوّعت صفاته وتعدَّدت أسماؤه وعباراته (1) .

(1) - انظر: تفسير القاسمي (1 / 20) .

ص: 80

ثم قال في موضع آخر: فإنَّ الصّراط المستقيم أن تفعل في كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل، ولا تفعل ما نُهيت عنه، وهذا يحتاج في وقت إلى أن تعلم ما أمر به في ذلك الوقت، وما نُهي عنه، وإلى أن يحصل لك إرادة جازمة لفعل المأمور، وكراهة لترك المحظور، والصراط المستقيم قد فسّر بالقرآن، والإسلام، وطريق العبوديَّة، وكل هذا حقّ، فهو موصوف بهذا وبغيره (1) .

قال القاسمي: الصّراط المستقيم: أصله الطّريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف.

ويُستعار لكل قول أو عمل يبلغ به صاحبه الغاية الحميدة، فالطّريق الواضح للحسّ، كالحقّ للعقل، في أنَّه: إذا سير بهما أبلغا السّالك النّهاية الحسنى (2) .

قال ابن عاشور: والصّراط في هذه الآية (آية الفاتحة) مستعار لمعنى الحقّ الذي يبلغ به مدركه إلى الفوز برضاء الله؛ لأنَّ ذلك الفوز هو الذي جاء الإسلام بطلبه.

والمستقيم: اسم فاعل من استقام، مطاوع قوّمته فاستقام.

والمستقيم: الذي لا اعوجاج فيه ولا تعاريج، وأحسن الطرق الذي يكون مستقيمًا، وهو الجادّة، لأنَّه باستقامته يكون أقرب إلى المكان المقصود من غيره، فلا يضلّ فيه سالكه، ولا يتردّد ولا يتحيَّر.

(1) - انظر: تفسير القاسمي (1 / 22) ، حيث نقل هذا الكلام عن شيخ الإسلام.

(2)

- انظر: تفسير القاسمي (1 / 19) .

ص: 81

والمستقيم هنا مستعار للحق البيّن الذي لا تُخالطه شبهة باطل، فهو كالطّريق الذي لا تتخلّله بنيات. ثم قال: والأظهر عندي أنَّ المراد بالصّراط المستقيم: المعارف الصالحات كلّها من اعتقاد وعمل (1) .

هذه بعض أقوال المفسّرين في معنى الصّراط المستقيم، كما ورد في سورة الفاتحة.

وحيث وردت آيات كثيرة ذكر فيها الصّراط المستقيم سبق ذكر بعضها، فإنَّ معناها من هذا المعنى الذي سبق تقريره، ولبيان ذلك أذكر تفسير بعض هذه الآيات بإيجاز:

قال - تعالى -: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الأنعام: من الآية 87) قال مجاهد: وسدَّدناهم فأرشدناهم إلى طريق غير معوجّ، وذلك دين الله الذي لا عِوَجَ فيه، وهو الإسلام الذي ارتضاه ربّنا لأنبيائه، وأمر به عباده (2) .

وفي قوله - تعالى -: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا} (الأنعام: من الآية 126) قال الطبري: هو صراط ربك - يقول: طريق ربّك، ودينه الذي ارتضاه لنفسه دينًا، وجعله مستقيمًا لا اعوجاج فيه (3) .

(1) - انظر: تفسير التحرير والتنوير (1 / 1 / 190) .

(2)

- تفسير الطبري (7 / 262) .

(3)

- تفسير الطبري (8 / 32) .

ص: 82

وفي قوله - تعالى -: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (الأنعام: من الآية 153) قال الطبري: هو صراطه، يعني طريقه ودينه الذي ارتضاه لعباده، {مُسْتَقِيمًا} (الأنعام: من الآية 153) يعني قويمًا لا اعوجاج به عن الحق (1) .

وفي قوله - تعالى -: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الأنعام: من الآية 161) قال الطبري: يقول: قل لهم: إنَّني أرشدني ربي إلى الطّريق القويم، هو دين الله الذي ابتعثه به، وذلك الحنيفيَّة المسلمة، فوفّقني له (2) .

وفي سورة الأعراف: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (الأعراف:16) قال الطبري: يقول: لأجلسنَّ لبني آدم صراطك المستقيم، يعني طريقك القويم، وذلك دين الله الحقّ، وهو الإسلام وشرائعه.

ونقل نحو ذلك عن مجاهد (3) .

وفي قوله - تعالى - في سورة مريم: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} (مريم: من الآية 43) قال الطبري: يقول: أبصِّرك هدي الطّريق المستوي الذي لا تضلّ فيه إن لزمته، وهو دين الله الذي لا اعوجاج فيه (4) .

(1) - تفسير الطبري (8 / 87) .

(2)

- تفسير الطبري (8 / 111) .

(3)

- تفسير الطبري (8 / 134) .

(4)

- تفسير الطبري (16 / 90) .

ص: 83

وفي قوله - تعالى -: {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} (المؤمنون:74) قال الطبري: يقول عن محجّة الطّريق، وقصد السّبيل، وذلك دين الله الذي ارتضاه لعباده العادلون (1) .

وبهذا يتَّضح أن معنى الصّراط في جميع هذه الآيات معنًى واحدًا، وإن اختلفت العبارة والسّياق.

(1) - تفسير الطبري (18 / 44) .

ص: 84