الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحرير معنى الوسطيَّة
من خلال ما سبق اتَّضح لنا أن كلمة (وسط)، تستعمل في معانٍ عدَّة أهمّها:
1-
بمعنى الخيار والأفضل والعدل.
2-
قد ترد لما بين شيئين فاضلين.
3-
وتستعمل لما كان بين شرّين وهو خير.
4-
وتستعمل لما كان بين الجيّد والرديء، والخير والشَّرّ.
5-
وقد تُطلق على ما كان بين شيئين حسًّا، كوسط الطّريق، ووسط العصا.
وقد تأتي لمعانٍ أخرى قريبة من هذه المعاني سبق ذكرها، ولا أجد حاجة لإعادتها.
والمهمّ - هنا - متى يُطلق لفظ (الوسطيَّة) ؟ بل على ماذا يُطلق هذا المصطلح؟
فهناك من جعل مصطلح الوسطيَّة مُرادفًا للفظ الخيريَّة، ولو لم يكن بين شيئين - حسًّا أو معنى - قال فريد عبد القادر:
ومن جملة ما سبق بيانه نستطيع أن نستخلص تعريفًا خاصًّا محدّدًا للوسطيَّة، فنقول: بأن الوسطيَّة هي: مؤهل الأمة الإسلامية من: العدالة، والخيريّة للقيام بالشهادة على العالمين، وإقامة الحجَّة عليهم. ثم قال:
أما ما شاع عند الناس وانتشر من الوقوف عند أصل دلالتها اللغوية، أي التوسّط بين طرفين، مهما كان موضع هذا الوسط - الذي تمَّ اختياره - من صراط الله المستقيم، التزامًا وانحرافًا، فليس بمفهوم صحيح وفق ما تبينه الآيات والأحاديث (1) .
ويؤكّد هذا المعنى في موضع آخر، فيقول:
ولا يلزم لكل ما يعتبر وسطًا في الاصطلاح أن يكون له طرفان، فالعدل وسط ولا يقابله إلا الظّلم، والصّدق وسط ولا يقابله إلا الكذب (2) .
وهناك من جعل (الوسطيَّة) من التوسّط بين الشيئين دون النظر إلى معنى الخيريَّة التي دلَّ عليها الشَّرع، قال الأستاذ فريد عبد القادر:
وقد شاع كذلك عند كثير من الناس استعمال هذا الاصطلاح الرَّبانيّ، استعمالا فضفاضًا يلبس أي وضع أو عرف أو مسلك أرادوه، حتى أصبحت الوسطيَّة في مفهومهم تعني التَّساهل والتَّنازل.. إلخ (3) .
وما ذكره الأستاذ فريد في تعريفه للوسطيَّة، وكذلك ما نقله عن غيره ففيه نظر، ويتَّضح ذلك فيما سيأتي:
وقد تأمَّلت ما ورد في القرآن والسنَّة والمأثور من كلام العرب فيما أطلق وأريد به مصطلح (الوسطيَّة)، فتوصَّلت إلى أن هذا المصطلح لا يصحّ إطلاقه إلا إذا توافرت فيه صفتان:
(1) - انظر: الوسطيَّة في الإسلام - مخطوط - ص (29) .
(2)
- انظر: الوسطيَّة في الإسلام ص (33) .
(3)
- انظر: الوسطيَّة في الإسلام ص (30) .
1-
الخيريَّة، أو ما يدلّ عليها كالأفضل والأعدل أو العدل.
2-
البينيَّة، سواء أكانت حسِّيَّة أو معنويَّة.
فإذا جاء أحد الوصفين دون الآخر فلا يكون داخلا في مصطلح الوسطيَّة.
والقول بأن الوسطيَّة ملازمة للخيريَّة - أي أنّ كلّ أمر يوصف بالخيريَّة فهو (وسط) - فيه نظر، والعكس هو الصّحيح، فكل وسطيَّة تلازمها الخيريّة (1) فلا وسطيَّة بدون خيريَّة، ولا عكس.
فلا بدَّ مع الخيريَّة من البينيَّة حتى تكون وسطًا.
وكذلك البينيَّة - أيضًا - فليس كل شيء بين شيئين أو أشياء يُعتبر وسطيًّا وإن كان وسطًا. فقد يكون التوسّط حسيًّا أو معنويًّا، ولا يلزم أن يوصف بالوسطيَّة كوسط الزمان أو المكان أو الهيئة ونحو ذلك.
ولكن كل أمر يوصف بالوسطيَّة فلا بد أن يكون بينيًّا حسًّا أو معنى.
ومن هنا نخلص إلى أنَّ أيَّ أمر اتَّصف بالخيريَّة والبينيَّة جميعًا فهو الذي يصحْ أن نُطلق عليه وصف: الوسطيَّة، وما عدا ذلك فلا (2) .
وسأذكر بعض الأمثلة التي توضّح ذلك:
(1) - قال ابن عاشور بعد بيان معنى الوسط: فمن أجل ذلك صار معنى النفاسة والعزة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفًا، فأطلقوه على الخيار النفيس. انظر: التحرير والتنوير (2 / 17)، وقال رشيد رضا: فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي: المتوسط بينهما. انظر: تفسير المنار (2 / 4) .
(2)
- سيأتي مزيد تفصيل لهذا عند الحديث عن ملامح الوسطيَّة، حيث سأذكر بعض الضوابط لإطلاق هذا المصطلح - إن شاء الله -.
1-
جاء وصف هذه الأمة بالوسطيَّة في قوله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة: من الآية 143) وصح عنه، صلى الله عليه وسلم أنَّه فسَّر الوسط هنا بالعدل (1) وفي رواية:((عدولا)) (2) . والمعنى واحد.
وإذا نظرنا إلى العدل وجدناه يتضمَّن معنى الخيريَّة، والعدل كذلك يُقابله الظّلم، والظّلم له طرفان، فإذا مال الحاكم إلى أحد الخصمين فقد ظلم، والعدل وسط بينهما، دون حيف إلى أي منهما (3) .
ولذلك فقول صاحب (الوسطيَّة في الإسلام)(4) .
(1) - كما عند البخاري وقد تقدّم تخريجه ص (19) .
(2)
- كما في رواية الطبري. انظر: ص (20) .
(3)
- ومثل ذلك - أيضًا - قوله - تعالى -: (قال أوسطهم) . [سورة القلم، الآية: 28] . فإن جمهور المفسرين فسروها «بأعدلهم» كما سبق، والعدل وسط بين طرفي الظلم كما قررت هنا، فاجتمعت الصفتان: البينيَّة والخيريَّة.
(4)
- انظر: الوسطيَّة في الإسلام ص (33) .
"ولا يلزم لكل ما يعتبر وسطًا في الاصطلاح أن يكون له طرفان، فالعدل وسط ولا يقابله إلا الظلم". قول غير مسلَّم في أصله ومثاله، أمَّا الأصل فقد بيَّنْتُه سابقًا، وأمّا المثال: فإنَّ الظلم له طرفان كل منهما يصدق عليه وصف الظلم، والعدل وسط بينهما. ويوضّح وسطيَّة الإسلام ووسطيَّة هذه الأمة ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: والفرقة الناجية أهل السنّة، وهم وسط في النِّحل، كما أنَّ ملَّة الإِسلام وسط في الملل، فالمسلمون وسط في أنبياء الله، ورسوله، وعباده الصّالحين، لم يغلو فيهم كما غلت النصارى فـ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة:31) ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حقّ، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكلَّما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذَّبوا فريقًا وقتلوا فريقًا.
بل المؤمنون آمنوا برسل الله، وعزَّروهم، ونصروهم، ووقّروهم، وأحبّوهم، وأطاعوهم، ولم يعبدوهم، ولم يتّخذوهم أربابًا، كما قال - تعالى -:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:79، 80) ومن ذلك أن المؤمنين توسّطوا في المسيح، فلم يقولوا هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة، كما تقول النَّصارى، ولا كفروا به، وقالوا على مريم بهتانًا عظيمًا، حتى جعلوه ولد بغيّة، كما زعمت اليهود.
بل قالوا: هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، وروح منه.
وكذلك المؤمنون وسط في شرائع دين الله، فلم يُحرّموا على الله أن ينسخ ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت، كما قالته اليهود، كما حكى الله عنهم ذلك بقوله:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} (البقرة: من الآية 142) وبقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} (البقرة: من الآية 91) .
ولا جوّزوا لأكابر علمائهم وعبّادهم أن يغيّروا دين الله، فيأمروا بما شاءوا وينهوا عمَّا شاءوا، كما يفعله النّصارى، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (التوبة: من الآية 31) .
والمؤمنون قالوا: لله الخلق والأمر، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره، وقالوا: سمعنا وأطعنا.
إلى أن قال رحمه الله وهذا باب يطول وصفه
…
(1) .
وممَّا سبق يتَّضح معنى الوسطيَّة في قوله - تعالى -: {أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة: من الآية 143) .
(1) - من أراد مزيد بيان لما ذكره شيخ الإسلام فليرجع إلى كتابه العقيدة الواسطية، وتفسير القاسمي (2 / 287) فقد ذكر كلامه كاملا.
والقارئ لكلام شيخ الإسلام، يتَّضح له التَّلازم بين الخيريَّة والبينيَّة في استخراج معنى الوسطيَّة في ضوء المنهج الذي سلكه ابن تيمية رحمه الله للوصول إلى تحقيق هذه المسألة، وبيان اتّصاف هذه الأمَّة بهذه الصّفة الحميدة.
وقبل ذلك سلك الطبري هذا المنهج في تفسيره لقوله - تعالى -: {أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة: من الآية 143) كما سبق.
2-
عن عبد الله بن معاوية الغاضري رضي الله عنه قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم «ثلاث من فعلهنَّ فقد طَعِمَ طَعْمَ الإيمان: من عبد الله وحده، وعلم أنَّه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيّبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولم يعط الهرمة ولا الدرة ولا المريضة، ولا الشّرط اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإنَّ الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشرّه» رواه أبو داود. (1) .
وهنا نجد أن الوسطيَّة واضحة في هذا التَّوجيه النبويّ، فالبينيَّة صريحة في الحديث، أمّا الخيريَّة فهي ظاهرة لمن تأمَّل من خلال ما يلي:
(1) - أخرجه أبو داود (2 / 103، 104) رقم (1582) ، والطبراني في الصغير ص (115) . والبيهقي في السنن (4 / 95) . وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (3041) .
1-
أمر الرَّسول، صلى الله عليه وسلم بذلك دليل على هذه الخيريَّة، فلا يأمر، صلى الله عليه وسلم إلا بخير، {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} (الأعراف: من الآية 29) . وهل أمرُ الرسول، صلى الله عليه وسلم إلا وحي يُوحى.
2-
أنَّنا عندما نُريد أن نستخرج معنى الخيريَّة لا ننظر من طرف واحد فقط، فإذا نظرنا إلى مصلحة الفقير فقط قلنا: إنَّ الخيريَّة في السّمينة السّليمة الأفضل مما هو من أجود الأغنام وأغلاها.
وإذا نظرنا إلى خيريَّة الغني - في الدنيا - قلنا إن الأسهل عليه أن يُخرج الضعيفة الهزيلة ونحوها.
ولكن الخيريَّة الكاملة أن ننظر إلى مصلحة الفقير ومصلحة الغني - صاحب المال - جميعًا، دون ترجيح لإحدى المصلحتين على الأخرى، وهذه هي الوسطيَّة، وذلك باستخراج ما بين أفضلها وأضعفها - وهي الوسط - وذلك مثل قوله - تعالى -:{مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (المائدة: من الآية 89) .
وهنا اتَّضح لنا التَّلازم بين الخيريَّة والبينيَّة في تحقيق معنى الوسطيَّة.
3-
روى الإمام البخاريّ في صحيحه أنَّ أبا بكر رضي الله عنه خطب يوم السّقيفة، وكان مما قال يُخاطب الأنصار:((ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحيّ من قريش، هم أوسط العرب نسبًا ودارًا)) الحديث (1) .
والوسطيَّة المرادة هنا يظهر فيها معنى الخيرية جليًّا لا لَبْسَ فيه، فأين البينيَّة؟
إن التأمّل والتّمعنّ في هذه الوسطيَّة يوصّل الباحث إلى حقيقة مهمَّة، وهي أنَّ قريشًا امتازت بصفات أهّلتها لأن تكون خير العرب، وهذه الصّفات من الشّجاعة والكرم وسائر الصّفات الحميدة، هي في حقيقتها صفات وسطيَّة بينيَّة بين مجموعة من الصّفات المتضادّة، وهم اتّصفوا بأفضل هذه الصّفات، دون إفراط أو تفريط، أو غلوّ أو جفاء، ولذلك فقد نالوا هذه المنزلة الرفيعة من كون العرب لا تدين إلا لهم، وما ذلك إلا لثقتهم في عدلهم وتميزّهم عن غيرهم، واجتماع العرب عليهم دليل على قبولهم من قبائل وأطراف متنافرة في أخلاقها، متباينة في طباعها، وذلك لخصيصة الوسطيَّة فيهم، ويصدق فيهم قول زهير:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم
…
إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
(2)
(1) - صحيح البخاري (4 / 194) . وأحمد في المسند (1 / 55، 56) .
(2)
- انظر: تفسير الطبري (2 / 6) .
والعدل هو سبب قبول حكمهم، والعدل فيه صفة البينيَّة بين نوعي الظلم، ولذلك كان وسطيًا، فكذلك سائر صفاتهم.
وبهذا يتَّضح أن الخيريَّة والبينيَّة - المعنويَّة -هي التي أهّلتهم لأن يكونوا وسطًا نسبًا ودارًا.
وتأمّل معي ما قاله رشيد رضا في تفسيره: قالوا إن الوسط هو العدل والخيار، وذلك أن الزّيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنّقص عنه تفريط وتقصير، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر أي: المتوسّط بينهما (1) .
وأختم هذا المبحث بكلام جيد يتَّفق مع ما ذكرتُ وقرّرتُ، ذَكَرَهُ الدكتور / زيد في كتابه:(الوسطيَّة في الإسلام) . وكان مما قال (2) .
الوسط من كل شيء أعدله، فالوسط إذن ليس مجرّد كونه نقطة بين طرفين، أو وسطيَّة جزئيَّة، كما يقال فلان وسط في كرمه، أو وسط في دراسته، ويُراد أنَّه وسط بين الجيد والرّديء، فهذا المفهوم وإن درج عند كثير من الناس، فهو فهم ناقص مجتزأ، أدَّى إلى إساءة فهم معنى الوسطيَّة المقصودة.
وعلى هذا فالوسط المراد والمقصود هنا، هو العدل الخيار والأفضل، إلى أن قال:
(1) - انظر: تفسير المنار (2 / 4) .
(2)
- انظر: الوسطيَّة في الإسلام ص (18) وما بعدها.
وبالتالي لم يبق معنى الوسطيَّة مجرَّد التّجاور بين الشيئين فقط، بل أصبح ذا مدلول أعظم، ألا وهو البحث عن الحقيقة، وتحصيلها والاستفادة منها.
ثم يقول: وهو معنى يتَّسع ليشمل كل خصلة محمودة لها طرفان مذمومان، فإنَّ السّخاء وسط بين البخل والتّبذير، والشّجاعة وسط بين الجبن والتَّهوّر، والإنسان مأمور أن يتجنَّب كل وصف مذموم، وكلا الطرفين هنا وصف مذموم، ويبقى الخير والفضل للوسط.
ومن خلال ما سبق من الأمثلة، وما ذكرته من الأدَّلة من الكتاب والسنَّة، والكلام المأثور من لسان العرب وأقوال السّلف اتَّضح لنا ما بيّنته من التلازم بين الخيريَّة والبينيَّة - حسيَّة أو معنويّة - في إطلاق مصطلح (الوسطيَّة) .
ولهذا فعندما أستخدم هذا المصطلح في هذا البحث فإنَّني أعني به ما يصدق عليه هذا المدلول دون سواه.
وما عدا ذلك فلا يدخل في هذا البحث، وإن كان داخلا في معنى الوسط، كما سبق بيانه، فهو من الوسط لا الوسطيَّة.
وكذلك ما كان خيرًا أو فاضلا فلا يلزم أن يكون (وسطيًا) وإن كان محمودًا.
قال يوسف كمال: فهناك فضائل ليست وسطيَّة كالصدق الذي يقابله الكذب. (1) .
(1) - انظر: مستقبل الحضارة ليوسف كمال ص (127) ، وإن كان بعض العلماء يرى أن كل أمر أمر الله به فهو وسط بين خلقين ذميمين، والصدق قد أمر الله به. انظر: القواعد الحسان لتفسير القرآن للسعدي ص (90) .
أولا: الغلو والإفراط
أما الغلوّ فقد عرَّفه أهل اللغة بأنَّه مجاوزة الحدّ، فقال ابن فارس:
غلوّ: الغين واللام والحرف المعتلّ أصل صحيح يدلّ على ارتفاع ومجاوزة قدر، يُقال: غلا السّعر يغلو غلاء، وذلك ارتفاعه، وغلا الرَّجل في الأمر غلوًّا، إذا جاوز حدَّه، وغلا بسهمه غلوًّا إذا رمى به سهمًّ أقصى غايته (1) .
وقال الجوهريُّ: وغلا في الأمر يغلو غلوًّا، أي جاوز فيه الحدّ (2) .
وقال في لسان العرب: وغلا في الدّين والأمر يغلو غلوًّا: جاوز حدَّه، وفي التّنزيل:{لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (النساء: من الآية 171) .
وقال بعضهم: غلوْتَ في الأمر غلوًّا وغلانية وغلانيًا إذا جاوزت فيه الحدّ وأفرطّت فيه.
وفي الحديث: «إيّاكم والغلوّ في الدّين» (3) أي: التشدّد فيه ومجاوزة الحدّ، كالحديث الآخر:«إن هذا الدّين متين فأوغل فيه برفق» (4) . وغلا السّهم نفسه: ارتفع في ذهابه وجاوز المدى، وكلّه من الارتفاع والتَّجاوز.
ويقال للشيء إذا ارتفع: قد غلا، وغلا النَّبت: ارتفع وعظم (5) .
(1) - انظر: معجم مقاييس اللغة مادة (غلو)(4 / 387) .
(2)
- انظر: الصحاح مادة (غلا)(6 / 2448) .
(3)
- أخرجه النسائي (5 / 268) رقم (3057) . وابن ماجه (2 / 1008) رقم (3029) وأحمد (1 / 215، 347) ، وصححه الحاكم (1 / 466) ، ووافقه الذهبي، وصححه - أيضًا- الألباني كما في السلسلة الصحيحة رقم (1283) ، وصحيح الجامع رقم (2680) .
(4)
- أخرجه أحمد (3 / 199) وحسنه الألباني، وعزاه أيضًا للبزار والبيهقي، كما في صحيح الجامع رقم (2246)، ولفظ الحديث:«فأوغلوا» .
(5)
- انظر: لسان العرب، مادة:«غلا» .
هذا معنى الغلوّ في اللغة، وقد ورد في القرآن الكريم آيتان فيهما النَّهي عن الغلوّ بلفظه الصَّريح، قال - تعالى - في سورة النساء:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (النساء: من الآية 171) قال الطبري:
يقول: لا تجاوزوا الحقّ في دينكم فَتُفْرِطُوا فيه.
وأصل الغلوْ في كل شيء مجاوزة حدّه الذي هو حدّه، يقال منه في الدّين: قد غلا فهو يغلو غلوًّا (1) .
وقال ابن الجوزي في تفسير هذه الآية:
والغلوّ: الإفراط ومجاوزة الحدّ، ومنه: غلا السعر، وقال الزَّجَّاج: الغلوّ: مجاوزة القدر في الظّلم.
وغلوّ النَّصارى في عيسى قول بعضهم: هو الله، وقول بعضهم: هو ابن الله، وقول بعضهم: هو ثالث ثلاثة.
وعلى قول الحسن: غلوّ اليهود فيه قولهم: إنَّه لغير رشده. وقال بعض العلماء: لا تغلو في دينكم بالزّيادة في التّشدُّد فيه (2) .
(1) - انظر: تفسير الطبري (6 / 34) .
(2)
- انظر: زاد المسير (2 / 260) .
وقال ابن كثير: يَنهى - تعالى -أهل الكتاب عن الغلوّ والإطراء، وهذا كثير في النَّصارى، فإنَّهم تجاوزوا الحدّ في عيسى حتَّى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاها الله إيَّاها، فنقلوه من حيِّز النّبوَّة إلى أن اتَّخذوه إلهًا من دون الله يعبدونه كما يعبدونه، بل غلوًا في أتباعه وأشياعه، ممَّن زعم أنَّه على دينه، فادّعوا فيهم العصمة، واتَّبعوهم في كل ما قالوه، سواء كان حقَّا أو باطلا، أو ضلالا أو رشادًا، أو صحيحًا أو كذبًا، ولهذا قال - تعالى -:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (التوبة: من الآية 31)(1) .
أمَّا الآية الثانية فجاءت في سورة المائدة، قال - تعالى -:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (المائدة:77)
قال الطبري: يقول: لا تُفْرِطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح فتجاوزوا فيه الحقّ إلى الباطل، فتقولوا فيه: هو الله، أو هو ابنه، ولكن قولوا: هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه (2) .
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (1 / 589) .
(2)
- انظر: تفسير الطبري (6 / 316) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والنَّصارى أكثر غلوًّا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطّوائف، وإيَّاهم نهى الله عن الغلوّ في القرآن (1) .
ومنْ غُلوّ النّصارى ما ذكره الله في سورة الحديد: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (الحديد: من الآية 27) .
قال ابن كثير في آية المائدة:
{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} (المائدة: من الآية 77) . أي لا تجاوزوا الحدّ في اتّباع الحقّ، ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه من حيِّز النبوَّة إلى مقام الإلهيَّة، كما صنعتم في المسيح، وهو نبيٌّ من الأنبياء فجعلتموه إلهًا من دون الله (2) .
(1) - اقتضاء الصراط المستقيم (1 / 289) .
(2)
- انظر: تفسير ابن كثير (2 / 82) .
وقد وردت بعض الأحاديث التي تنهى عن الغلوّ، وذِكْرُ بعضها يساعد على فَهم معناه وحدّه:
1-
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم غداة جمع:«هلمّ القط لي الحصى» ، فلقطت له حصيات من حصى الحذف، فلمَّا وضعهَّن في يده قال:«نعم بأمثال هؤلاء وإيّاكم والغلوّ في الدّين فإنَّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدّين» (1) .
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: وهذا عامٌّ في جميع أنواع الغلوّ في الاعتقادات والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار، وهو داخل فيه، مثل الرّمي بالحجارة الكبار بناء على أنَّها أبلغ من الصّغار، ثم علَّله بما يقتضي مجانية هديهم، أي هدي من كان قبلنا إبعادًا عن الوقوع فيما هلكوا به، وأنَّ المشارك لهم في بعض هديهم يُخاف عليه من الهلاك (2) .
2-
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم «هلك المتنطّعون» قالها ثلاثًا (3) .
قال النَّوويُ: هلك المتنطّعون: أي المتعمِّقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم (4) .
(1) - أخرجه النسائي (5 / 268) رقم (3057) . وابن ماجه (2 / 1008) رقم (3029) وأحمد (1 / 215، 347) ، وصححه الحاكم (1 / 466) ، ووافقه الذهبي، وصححه - أيضًا- الألباني كما في السلسلة الصحيحة رقم (1283) ، وصحيح الجامع رقم (2680) .
(2)
- انظر: تيسير العزيز الحميد ص (275) والغلو في الدين لعبد الرحمن بن معلا اللويحق ص (68) .
(3)
- أخرجه مسلم (4 / 2055) رقم (2670) . وأبو داود (4 / 201) رقم (4608) . وأحمد (1 / 386) .
(4)
- شرح مسلم للنووي (16 / 220) .
3-
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم كان يقول:«لا تشدّدوا على أنفسكم فيُشدِّد الله عليكم، فإنَّ قومًا شدِّدوا على أنفسهم فشدِّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصَّوامع والدّيار {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} » (الحديد: من الآية 27) .
4-
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي، صلى الله عليه وسلم قال:«إنَّ هذا الدّين يُسر، ولن يُشادّ الدّين أحد إلا غلبه، فسدّدوا، وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرَّوحة، وشيء من الدَّلجة» (1) . وفي لفظ: «القصد القصد تبلغوا» (2) .
قال ابن حَجَر: والمعنى: لا يتعمّق أحد في الأعمال الدّينيَّة، ويترك الرّفق إلا عجز وانقطع فيُغلب (3) .
قال عبد الرحمن بن معلا: وحتى لا يقع ذلك جاء ختام الحديث آمرًا بالتَّسديد والمقاربة، قال ابن رجب: والتّسديد العمل بالسَّداد، وهو القصد والتَّوسّط في العبادة، فلا يقصِّر فيما أمر به، ولا يتحمَّل منها ما لا يُطيقه (4) .
(1) - أخرجه البخاري (1 / 15) . والنسائي (8 / 122) رقم (5034) .
(2)
- أخرجه البخاري (7 / 181، 182) ، وأحمد (2 / 514) .
(3)
- انظر: فتح الباري (1 / 94) .
(4)
- انظر: الغلو في الدين ص (69) . والمحجة في سير الدُّلجة لابن رجب ص (51) .
5-
وروى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن شبل أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال:«اقرأوا القرآن ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلو فيه» (1) .
6-
وروي عنه، صلى الله عليه وسلم أنه قال:«يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين» (2) .
وكلّ هذه الأحاديث تدلّ على أن الغلوّ خروج عن المنهح ومجاوزة للحدّ، وفعل ما لم يشرعه الله ولا رسوله، صلى الله عليه وسلم ولست بصدد ذكر الأحاديث التي تنهى عن الغلوّ وتذمّه دون تصريح به، فهي كثيرة جدًّا، ومن أشهرها قصَّة الذين جاءوا وسألوا عن عمل الرسول، صلى الله عليه وسلم في السرّ، فكأنَّهم تقالّوا، فكان من مقولتهم ما هو معروف، وكيف واجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم هذا الأمر (3) .
بل لم أرد حصر جميع الأحاديث التي ورد فيها لفظ الغلوّ مصرحًا به، وإنَّما اخترتُ هذه الأحاديث للدلالة على ما نحن بصدده، وهو تحديد معنى الغلوّ ومفهومه وحكمه، ومن ثمَّ علاقته بالوسطيَّة.
وأختم تعريف الغلوّ بهذين التّعريفين:
(1) - أخرجه أحمد في المسند (3 / 428، 444) . قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7 / 170، 171) : رواه أحمد والبزار بنحوه، ورجال أحمد ثقات. وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (1168) .
(2)
- أخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن بسنده عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم،.. به. قال الألباني في تعليقه على أحاديث المشكاة رقم (248) : ثم إن الحديث مرسل؛ لأن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري هذا تابعي مقلّ، كما قال الذهبي، وراويه عنه: معاذ بن رفاعة ليس بعمدة. لكن الحديث قد روي موصولا من طريق جماعة من الصحابة، وصحح بعض طرقه الحافظ العلائي- في «بغية الملتمس» .
(3)
- وهو حديث أنس المشهور في قصة الثلاثة، وسيأتي بعد قليل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الغلوّ: مجاوزة الحدّ بأن يُزاد في الشيء، في حمده أو ذمّه على ما يستحقّ ونحو ذلك (1) .
وقال ابن حجر في تعريفه للغلوّ: المبالغة في الشيء والتّشديد فيه بتجاوز الحدّ (2) .
وضابط الغلوّ بيَّنة الشيخ سليمان بن عبد الوهاب، حيث قال: وضابطه تعدّى ما أمر الله به، وهو الطّغيان الذي نهى الله عنه في قوله:{وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} (طه: من الآية 81)(3) .
وممَّا سبق من التَّعريف الّلغوي للغلوّ وما ورد فيه من آيات وأحاديث، وكذلك تعريف العلماء يتَّضح لنا أن الغلوّ هو: مجاوزة الحدّ في الأمر المشروع، وذلك بالزّيادة فيه أو المبالغة إلى الحدّ الذي يُخرجه عن الوصف الذي أراده وقصده الشَّارع.
(1) - انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1 / 289) .
(2)
- انظر: فتح الباري (13 / 278) .
(3)
- انظر: تيسير العزيز الحميد ص (256) والغلو في الدين ص (82) .
وإيضاحًا لحقيقة الغلوّ، وكشفًا لحدوده ومعالمه، أذكر هذه الحقائق.
أولا: أن منشأ الغلو بحسب متعلقه ينقسم إلى ما يلي (1) .
1-
أن يكون الغلوّ متعلقًا بفقه النّصوص، كتفسيرها تفسيرًا متشدّدًا يتعارض مع السِّمة العامَّة للشَّريعة ومقاصدها الأساسيَّة فيشدّد على نفسه وعلى الآخرين.
2-
أن يكون الغلوّ متعلّقًا بالأحكام، ومن صور ذلك:
(أ) إلزام النَّفس أو الآخرين بما لم يوجبه الله عز وجل عبادة وترهُّبًا، ومعيار ذلك الطَّاقة الذَّاتيَّة حيث إنّ تجاوز الطاقة في أمر مشروع يعتبر غلوًّا.
ومن الأدلَّة على ذلك، ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال:«دخل النبي، صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ فقالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلَّقت به، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم حلّوه ليصلّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد» (2) .
قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: وفيه الحثّ على الاقتصاد في العبادة، والنَّهي عن التعمّق فيها. (3) .
(1) - انظر: كتاب الغلو في الدين فقد ذكر هذه الأقسام ص (83 (.
(2)
- أخرجه البخاري (2 / 48) ومسلم (1 / 542) رقم (784) .
(3)
- انظر: فتح الباري (3 / 37) .
(ب) تحريم الطيِّبات التي أباحها الله على وجه التعبّد، أو ترك الضّرورات أو بعضها، ومن أدلّة ذلك قصَّة النَّفر الثّلاثة، حيث روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنَّهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن من النبي، صلى الله عليه وسلم فقد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، فقال أحدهم: أمَّا أنا فأُصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدّهر ولا أُفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبدًا.
فجاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقال: "إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنّي أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوَّج النساء، فمن رَغِبَ عن سنَّتي فليس منيِّ» (1) .
(1) - أخرجه البخاري (6 / 116) . ومسلم (2 / 1020) رقم (1401) .
وكذلك لو اضطرّ إنسان إلى محرَّم، كأكل الميتة أو حيوان محرَّم، وتَرْكُ ذلك يؤّدي به إلى الهلكة، فإنَّ ذلك من التّشدّد، وبيان ذلك: أن الله هو الذي حرَّم هذا الشّيء في حالة اليسر، وهو - سبحانه - الذي أباح أكله في حالة الاضطرار، قال - سبحانه -:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (البقرة:173) .
3-
أن يكون الغلوّ متعلّقًا بالحكم على الآخرين، حيث يقف من بعض النَّاس موقف المادح الغالي، ويقف من آخرين موقف الذَّامّ، الجافي ويصفهم بما لا يلزمهم شرعًا، كالفسق أو المروق من الدّين ونحو ذلك.
وفي كلا الحالين يترتَّب على ذلك أعمال هي من الغلوّ في السَّلب أو الإيجاب، كالحبّ والبغض، والولاء والهجر، ونحو ذلك.
ثانيًا: أن الغلو في حقيقته حركة في اتجاه القاعة الشَّرعيَّة والأوامر الإلهيَّة، ولكنها حركة تتجاوز في مداها الحدود التي حدَّها الشَّارع، فهو مبالغة في الالتزام بالدّين، وليس خروجًا عنه في الأصل، بل هو نابع من الرَّغبة في الالتزام به (1) .
ثالثًا: أن الغلو ليس هو الفعل فقط بل قد يكون تركًا (2) فترك الحلال كالنوم والأكل ونحوه نوع من أنواع الغلو، إذا كان هذا التَّرك على سبيل العبادة والتقرّب إلى الله كما يفعل بعض الصّوفيَّة والنَّباتيّين (3) .
رابعًا: الغلو على نوعين: اعتقاديّ وعمليّ.
والاعتقاديّ على قسمين:
اعتقادي كلّي، واعتقادي (فقط) .
والمراد بالغلوّ الكلّي الاعتقادي ما كان متعلّقًا بكلِّيَات الشَّريعة، وأمَّهات مسائلها.
أمَّا الاعتقادي - فقط - فهو ما كان متعلّقًا بباب العقائد دون غيرها، كالغلوّ في الأئمَّة وادِّعاء العصمة لهم، أو الغلوّ في البراءة من المجتمع العاصي، أو تكفير أفراده واعتزالهم.
ويدخل في الغلوّ الكلّي الاعتقادي الغلوّ في فروع كثيرة إذ إن المعارضة الحاصلة به للشَّرع مماثلة لتلك المعارضة الحاصلة بالغلوّ في أمر كلّيّ (4) .
(1) - الغلو في الدين ص (84) .
(2)
- مع أن الترك قد يكون فعلا.
(3)
- انظر: الغلو في الدين ص (84) .
(4)
- ينظر اقتضاء الصراط المستقيم (1 / 289) والغلو في الدين ص (70) .
أمَّا الغلوّ الجزئي العمليّ، فهو ما كان غلوًّا في جزئيَّة من جزئيَّات الشَّريعة ومتعلّقًا بباب العمليَّات دون الاعتقاد، فهو محصور في جانب الفعل سواءً أكان قولا بالّلسان أو عملا بالجوارح (1) .
والغلوّ الكّليّ الاعتقاديّ أشدّ خطرًا، وأعظم ضررًا من الغلوّ العمليّ، إذ أنَّ الغلوّ الكليّ الاعتقاديّ هو المؤدّي إلى الشّقاق والانشقاق، وهو المظهر للفرق والجماعات الخارجة عن الصّراط المستقيم، وذلك كغلوّ الرّافضة والخوارج (2) .
خامسًا: أنه ليس من الغلو طلب الأكمل في العبادة؛ بل الغلوّ تجاوز الأكمل إلى ما يؤدّي إلى المشقَّة ونحوها، إذ ليس الأكمل في كميَّة العبادة، بل يدخل في تحديد الأكمل أمور عدَّة تتعلّق بالعمل، وبمن قام بالعمل، وكذلك من له صلة بهذا العمل.
فالصَّدقة - مثلا -: يُراعى فيها: المتصدِّق، والمتصدَّق عليه، والمال المتصدِّق به، ولا يُسمَّى كمالا كليًّا بالنَّظر للكمال الجزئيّ.
قال ابن المنيّر: وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنَّه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدّي إلى الملال أو المبالغة في التطوّع المفضي إلى ترك الأفضل (3) .
(1) - انظر: الغلو في الدين ص (77) .
(2)
- انظر: الغلو في الدين ص (70) .
(3)
- انظر: فتح الباري (1 / 94) والغلو في الدين ص (85) .
سادسًا: أن الحكم على العمل بأنه غلو، أو أنَّ هذا المرء من الغُلاة، باب خطير، لا يقدر عليه إلا العلماء الذين يُدركون حدود هذا العمل، ويعلمون أبواب العقيدة وفروعها، لأنَّ الحكم على الشيء فرع عن تصوّره، فقد يكون الأمر مشروعًا ويوصف صاحبه بالغلوّ، وها نحن نرى اليوم أن الملتزمين بشرع الله، المتمسِّكين بالكتاب والسنَّة يُوصفون بالغلوّ والتّطرُّف والتَّزمُّت ونحوها.
ولذلك فإنّ المقياس في الحكم على الأعمال والأفراد والجماعات هو الكتاب والسنَّة، وليست الأهواء والأعراف، وما تواضع عليه النَّاس، وقد ضلَّ في هذا الباب أُممٌ وأفراد وجماعات.
وبعد أن تبينَّ لنا معنى (الغلوّ) لغة وشرعًا، وما يتعلَّق به من معانٍ وأقسام، أبيِّن معنى (الإفراط) بإيجاز، حيث ستتَّضح صلته بالغلوّ:
الإفراط
لغة هو: التقدّم ومجاوزة الحدّ.
قال ابن فارس: يُقال: أفرط: إذا تجاوز الحدّ في الأمر، يقولون: إيَّاك والفرط، أي لا تجاوز القدر، وهذا هو القياس، لأنَّه إذا جاوز القدر فقد أزال الشيء عن وجهته (1) .
وقال الجوهري: وأفرط في الأمر: أي: جاوز فيه الحدّ (2) .
وفي لسان العرب: وأمر فُرُط، أي: مجاوز فيه الحدّ.
والفُرطة - بالضم -: اسم للخروج والتقدّم، ومنه قول أم سلمة لعائشة: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم نهاك عن الفُرْطَة في البلاد، وفي رواية: نهاك عن الفُرْطَة في الدّين، يعني السّبق والتقدّم ومجاوزة الحدّ.
والإفراط: الإعجال والتقدّم، وأفرط في الأمر: أسرف وتقدَّم.
وكل شيء جاوز قدره فهو مفرط (3) .
قال - تعالى -: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} (طه: من الآية 45) .
قال الطبري: وأما الإفراط فهو الإسراف والإشطاط والتعدّي، يقال منه، أفرطت في قولك، إذا أسرف فيه وتعدَّى.
وأمَّا التَّفريط فهو التَّواني، يُقال منه: فرَّطت في هذا الأمر حتى فات، إذا توانى فيه.
(1) - انظر: معجم مقاييس اللغة مادة (فرط)(4 / 490) .
(2)
- انظر: الصحاح مادة (فرط)(3 / 1148) .
(3)
- انظر: لسان العرب مادة (فرط) .
قال ابن زيد: {نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} (طه: من الآية 45) قال: نخاف أن يعجل علينا إذ نبلّغه كلامك أو أمرك، يفرط ويعجّل (1) .
وقال الفرَّاء: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} (طه: من الآية 45) قال: يعجّل إلى عقوبتنا (2) .
ونخلص ممَّا سبق أن معنى الإفراط: تجاوز الحدّ، والتقدّم عن القدر المطلوب، وهو عكس التَّفريط - كما سيأتي-.
ومن خلال ما سبق يتَّضح من تعريفي الغلوّ والإفراط أنَّ كلا منهما يصدق عليه: تجاوز الحدّ، وقد فسَّر الغلوّ بالإفراط كما سبق.
وإن كان كل واحد منهما يحمل معنى أبلغ من الثَّاني في بعض ما يستعمل فيه.
فالذي يُشدّد على نفسه بتحريم بعض الطيِّبات، أو بحرمان نفسه منها وصف الغلوّ ألصق به من الإفراط، والذي يُعاقب من اعتدى عليه عقوبة يتعدَّى بها حدود مثل تلك العقوبة فوصف الإفراط ألصق به من الغلوّ، فنقول: عاقبه وأفرط في عقوبته. وهكذا.
والذي يعنينا في هذا المبحث أن كلا من الغلوّ والإفراط خروج عن "الوسطيَّة" فكل أمر استحقّ وصف (الغلوّ) أو (الإفراط) فليس من الوسطيَّة في شيء.
(1) - انظر: تفسير الطبري (16 / 170) .
(2)
- انظر: لسان العرب مادة (فرط) .
ثانيًا: التفريط والجفاء
بعد أن عرَّفنا معنى الغلوّ والإفراط، وما يدّل عليه كل منهما، نقف الآن مع ما يقابلهما، وهو: التَّفريط والجفاء. والتَّفريط في اللغة هو التَّضييع كما في لسان العرب.
وقال الزَّجَّاج: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (الكهف: من الآية 28) . أي كان أمره التَّفريط وهو تقديم العجز.
وفي حديث عليّ رضي الله عنه لا يرى الجاهل إلا مفْرِطًا أو مفرِّطًا، وهو بالتخفيف: المسرف في العمل، وبالتّشديد المقصِّر فيه.
ومنه الحديث: «أنَّه نام عن العشاء حتى تفرّطت» أي: فات وقتها قبل أدائها.
وفرّط في الأمر يُفرِّط فرطًا، أي: قصَّر فيه وضيَّعه حتى فات، وكذلك التّفريط (1) .
ومنه قول الرسول، صلى الله عليه وسلم «أما إنَّه ليس في النوم تفريط» (2) . وإذن فالتَّفريط هو التَّقصير والتَّضييع والتَّرك.
قال ابن فارس: وكذلك التَّفريط، وهو التَّقصير، لأنَّه إذا قصر فيه فقد قعد به عن رتبته التي هي له (3) .
وقال الجوهري: فرَّط في الأمر فرطًا: أي قصَّر فيه، وضيَّعه، حتى فات، وكذلك التَّفريط (4) .
وقد وردت مادة (فرط) في القرآن في عدَّة مواضع.
(1) - انظر لكل ما سبق: لسان العرب، مادة (فرط) .
(2)
- جاءت هذه العبارة في حديث أبي قتادة الطويل. أخرجه مسلم (1 / 473) رقم (681) . وأخرجه مختصرًا: أبو داود (1 / 121) رقم (441) . والترمذي (1 / 334) رقم (177) . والنسائي (1 / 294) رقم (614) . وغيرهم.
(3)
- معجم مقاييس اللغة مادة (فرط)(4 / 490) .
(4)
- انظر: الصحاح مادة (فرط)(3 / 1148) .
قال - تعالى -: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} (الأنعام: من الآية 31) .
قال الطبري: يقول: يا ندامتنا على ما ضيّعنا فيها.
قال السّدي: أما {يَاحَسْرَتَنَا} (الأنعام: من الآية 31) فندامتنا على ما فرَّطنا فيها، فضيَّعنا من عمل الجنة (1) .
وقال القرطبي: وفرَّطنا معناه ضيَّعنا، وأصله التقدّم، فقولهم:{فَرَّطْنَا} (الأنعام: من الآية 31) أي: قدَّمنا العجز.
وقيل: "فرَّطنا" أي: جعلنا غير الفارط السَّابق لنا إلى طاعة الله وتخلّفنا (2) .
وقال - تعالى - في سورة الأنعام - أيضًا-: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام: من الآية 38) .
قال الطبريّ: معناه: ما ضيَّعنا إثبات شيء منه (3) .
وقال ابن عبَّاس: ما تركنا شيئًا إلا وقد كتبناه في أمّ الكتاب (4) .
وقال ابن زيد: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام: من الآية 38) قال: لم نغفل، ما من شيء إلا وهو في الكتاب (5) .
(1) - انظر: تفسير الطبري (7 / 178) .
(2)
- انظر: تفسير القرطبي (6 / 413) .
(3)
- انظر: تفسير الطبري (7 / 188) .
(4)
- انظر: تفسير الطبري (7 / 188) .
(5)
- انظر: تفسير الطبري (7 / 188) .
وقال - تعالى -: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} (الأنعام: من الآية 61) .
قال الطبري: قد بيَّنَّا أنَّ معنى التَّفريط: التَّضييع فيما مضى قبل، وكذلك تأوّله المتأوِّلون في هذا الموضع.
قال ابن عبَّاس: "لا يُفرّطون". لا يضيِّعون.
وكذلك قال السّديّ: "لا يفرّطون". لا يضيِّعون (1) .
وفي سورة يوسف: {وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ} (يوسف: من الآية 80) .
قال الطبري: ومن قبل فعلتكم هذه تفريطكم في يوسف، يقول: أولم تعلموا من قبل هذا تفريطكم في يوسف (2) .
قال القاسميّ: {فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ} (يوسف: من الآية 80) قصَّرتم في شأنه (3) .
وقال - تعالى - في سورة النحل: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} (النحل:62) .
قال سعيد بن جبير: {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} (النحل: من الآية 62) منسيّون مضيّعون.
وقال الضَّحَّاك: متروكون في النَّار.
وقال قتادة: مضاعون.
(1) - انظر: تفسير الطبري (7 / 218) .
(2)
- انظر: تفسير الطبري (13 / 35) .
(3)
- انظر: تفسير القاسمي (13 / 35) .
وقال آخرون: إنَّهم معجلون إلى النَّار مقدّمون إليها، وذهبوا في ذلك إلى قول العرب: أفرطنا فلانًا في طلب الماء إذا قدّموه لإصلاح الدّلاء والأرشية. وقيل غير ذلك. ورجّح الطبري أن معنى {مُفْرَطُونَ} (النحل: من الآية 62) مخلّفون متروكون في النَّار، منسيّون فيها (1) .
وقال - تعالى - في سورة الكهف: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (الكهف: من الآية 28) .
روى عن مجاهد: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (الكهف: من الآية 28) ضائعًا.
وروي عنه: ضياعًا.
قال الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصّواب، قول من قال: معناه: ضياعًا وهلاكًا، من قولهم: أفرط فلان في هذا الأمر إفراطًا، إذ أسرف فيه وتجاوز قدره، وكذلك قوله:{وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (الكهف: من الآية 28) معناه: وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا في الرّياء والكبر، واحتقار أهل الإيمان، سرفًا قد تجاوز حدّه، فضيّع بذلك الحقّ وهلك (2) .
وقال ابن الجوزي: في الآية أربعة أقوال:
أحدها: أنّه أفرط في قوله، روي عن ابن عباس.
والثاني: ضياعًا، قاله مجاهد، وقال أبو عبيدة، سرفًا وتضيّيعًا.
(1) - انظر لما سبق: تفسير الطبري (14 / 177) .
(2)
- انظر: تفسير الطبري (15 / 236) .
الثالث: ندمًا، حكاه ابن قتيبة عن أبي عبيدة.
الرابع: كان أمره التَّفريط، والتَّفريط: تقديم العجز، قاله الزَّجَّاج (1) .
وفي سورة الزمر: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} (الزمر:56) .
قال الطبري: يقول: على ما ضيَّعت من العمل بما أمرني الله به، وقصَّرت في الدنيا في طاعة الله.
وروي مثل ذلك عن مجاهد والسّدّي (2) .
وقال القاسمي: {يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ} (الزمر: من الآية 56) أي قصَّرت. {فِي جَنْبِ اللَّهِ} (الزمر: من الآية 56) أي في جانب أمره ونهيه (3) .
هذه هي الآيات التي ورد فيها ما يدلّ على التَّفريط، كما بيَّنت من خلال أقوال المفسّرين، وكلّها تدلّ على التَّضييع والتَّقصير، والتَّرك والتَّهاون، مع اختلاف يسير بين مدلول هذه المعاني.
وكلّها في مقابل الإفراط والغلوّ، كما سبق بيانهما.
(1) - انظر: زاد المسير (5 / 133) .
(2)
- انظر: تفسير الطبري (24 / 19) .
(3)
- انظر: تفسير القاسمي (14 / 5146) .
أما الجفاء
فقال ابن فارس: الجيم والفاء والحرف المعتلّ يدلّ على أصل واحد: نبو الشيء عن الشيء، من ذلك: جفوت الرجل اجفوه، وهو ظاهر الجفوة، أي: الجفاء، وجفا السَّرج عن ظهر الفرس، وأجفيته أنا.
وكذلك كل شيء إذا لم يلزم شيئًا يُقال جفا عنه يجفو.
والجفاء: خلاف البّر، والجفاء: ما نفاه السّيل، ومنه اشتقاق الجفاء (1) .
وقال ابن منظور (2) جفا الشيء يجفو جفاءً وتجافى: لم يلزم مكانه، كالسَّرج يجفو عن الظّهر، وكالجّنب يجفو عن الفراش، وفي التَّنزيل:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} (السجدة: من الآية 16) وفي الحديث: «أنه كان يجافي عضديه عن جنبيه في السّجود» (3) أي يباعدهما.
وفي الحديث: «إذا سجدت فتجاف» وهو من الجفاء: البعد عن الشيء، ومنه الحديث:«اقرءوا القرآن ولا تجفوا عنه» (4) . أي تعاهدوه ولا تبتعدوا عن تلاوته.
قال أبو عبيد في معنى الجفاء في الحديث: والجافي عنه التَّارك له، وللعمل به.
وفي الحديث عن أبي هريرة، قال: قال، صلى الله عليه وسلم «الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النَّار» (5) .
(1) - انظر: مقاييس اللغة مادة (جفو)(1 / 465) .
(2)
- انظر: لسان العرب مادة (جفا) .
(3)
- أخرجه مسلم (1 / 357) رقم (497) من حديث ميمونة رضي الله عنها. وأخرجه أبو داود (1 / 194) رقم (730) . والنسائي (2 / 211) رقم (1101) من حديث أبي حميد الساعدي. وأخرجه أحمد (3 / 295) من حديث جابر. وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (4738) .
(4)
- أخرجه أحمد في المسند (3 / 428، 444) . قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7 / 170، 171) : رواه أحمد والبزار بنحوه، ورجال أحمد ثقات. وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (1168) .
(5)
- انظر: غريب الحديث (1 / 483) ووسطية أهل السنة ص (14) وهذا الحديث أخرجه الترمذي (4 / 321) رقم (2009) . وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجه (2 / 1400) رقم (4184) . وأحمد (2 / 501) . وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (3200) .
وفي الحديث الآخر: «مّنْ بدا جفا» (1) . بالدّال المهملة، خرج إلى البادية، أي: من سكن البادية غلظ طبعه، لقلّة مخالطة النَّاس.
والجفاء غلظ الطّبع.
وفي صفته، صلى الله عليه وسلم ليس بالجافي المهين، أي ليس بالغليظ الخلقة، ولا الطّبع (2) .
وقال - تعالى -: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} (الرعد: من الآية 17) . قال الطبري: وأمَّا الجفاء، فإني حدّثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنَّى، قال: قال أبو عمرو بن العلاء: يُقال: قد أجفأت القدور، وذلك إذا غلت فانصبّ زبدها، أو سكنت فلا يبقى منه شيء.
وقد زعم بعض أهل العربيَّة من أهل البصرة أن معنى قوله: {فَيَذْهَبُ جُفَاءً} (الرعد: من الآية 17) تنشفه الأرض، وقال: يقال: جفا الوادي وأجفى: في معنى نشف (3) .
وقال - تعالى -: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} (السجدة: من الآية 16) . قال الطبري: تتنحَّى جنوب هؤلاء الذين يؤمنون بآيات الله، الذين وصفت صفتهم، وترتفع عن مضاجعهم التي يَضْطَجعون لمنامهم، ولا ينامون.
وتتجافى: تتفاعل من الجفاء، والجفاء: النبو.
وإنَّما وصفهم - تعالى ذكره - بتجافي جُنوبهم عن المضاجع لتركهم الاضطجاع للنوم شغلا بالصّلاة.
(1) - أخرجه أحمد (2 / 371، 440) . وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة رقم (1272) .
(2)
- انظر: لسان العرب مادة (جفا) .
(3)
- انظر: تفسير الطبري (13 / 137) .
ثم قال: إن الله وصف هؤلاء القوم بأنَّ جنوبهم تنبو عن مضاجعهم، شغلا منهم بدعاء ربّهم وعبادته، خوفًا وطمعًا، وذلك نبوّ جنوبهم عن المضاجع ليلا.. إلخ (1) .
ومما سبق يتَّضح أن الجفاء هو النبوء والتَّرك والبعد، وهو غالبًا ما يحدث خلاف الأصل والعادة.
وأكثر ما يرد الجفاء لما هو محظور ومنهيّ عنه، كالجفاء بما يقابل الصلة والبّر، والجفاء الذي هو من الشّدة والغلظة، ونحو ذلك.
(1) - انظر: تفسير الطبري (21 / 99-102) .
وسأذكر بعض الأمثلة التي يتَّضح فيها معنى التَّفريط والجفاء:
1-
تأخير الصلاة عن وقتها تفريط، ولذلك ورد في الحديث:«أمَّا إنّه ليس في النوم تفريط، إنَّما التَّفريط على من لم يصلّ الصّلاة حتى يجيء وقت الصَّلاة الآخر» (1) .
2-
رؤية المنكرات وعدم إنكارها مع القدرة تفريط.
3-
إهمال تربية الأولاد، تفريط.
4-
ترك الأخذ بالأسباب، تفريط.
5-
تأخير عمل اليوم إلى الغد - دون سبب - تفريط.
6-
الغلظة في المعاملة، جفاء.
7-
عقوق الوالدين، جفاء.
8-
قطع الأرحام وعدم صلتهم، جفاء وتفريط.
9-
عدم القيام بحقوق العلماء وضعف الصلة بهم، جفاء وتفريط.
10-
السلبيَّة مع واقع المسلمين وشئونهم وشجونهم، جفاء وتفريط.
وبهذا يتبيَّن معنى التّفريط والجفاء، وأن بينهما عمومًا وخصوصًا. وهما يُقابلان معنى الغلوّ والإفراط.
وعند التَّأمّل في استعمال العرب لهما يلحظ أن الجفاء يستعمل - غالبًا - فيما فيه قصد الأمر من التَّرك والبعد وسوء الخلق. أمَّا التَّفريط فمنشؤه - غالبًا - التَّساهل والتَّهاون.
(1) - جاءت هذه العبارة في حديث أبي قتادة الطويل. أخرجه مسلم (1 / 473) رقم (681) . وأخرجه مختصرًا: أبو داود (1 / 121) رقم (441) . والترمذي (1 / 334) رقم (177) . والنسائي (1 / 294) رقم (614) . وغيرهم.