الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
و
خلاصة القول:
إنّ الآيات جاءت متوالية متتالية، تقرّر حقيقة الوسطيَّة في باب الاعتقاد، اطّرادًا مع منهج القرآن في تقريره ذلك في جميع الأبواب - كما سيأتي -.
ولولا خوف الإطالة لذكرت أمثلة تُؤكّد هذه الحقيقة وتبينها، ولكن لا أظن أنّها بعد ذلك تحتاج إلى بيان أو تأكيد.
وأشير إلى أنني اقتصرت على بابي الإيمان بالله ورسله، دون سواهما من أبواب الإيمان، لأنه إذا تحقّق الإيمان بالله ورسله على الوجه الصحيح فإن ذلك يستلزم تحقق بقية الأركان لا محالة، والحمد لله رب العالمين.
ثانيًا: التشريع والتكليف
سبق أن ذكرت أنّ ملامح الوسطيَّة اليسر، ورفع الحرج، وهذا أمر قرّره القرآن في أكثر من موضع، كقوله - تعالى -:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: من الآية 78) . وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: من الآية 185) . وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: من الآية 286) وما ذكرته هناك متّصل بما سأذكره هنا في تقرير هذه القضية.
وسأجعل الحديث عن تقرير القرآن لمنهج الوسطيَّة في التشريع والتكاليف في فقرات متتالية، ليسهل تحرير القضية واستيعابها.
1-
امتنّ الله على هذه الأمَّة في الكتاب العزيز بأن وضع عنها الإصر والأغلال التي كانت على من قبلها، ولم يحملها ما حَمَّل من قبلها، فكان ذلك مظهرًا من مظاهر وسطيَّة هذا الدّين.
يقول - تعالى - في وصف نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم في كلامه عز وجل مع قوم موسى، عليه السلام:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: من الآية 157) . كما أن من جملة دعاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم والمؤمنين:{رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} (البقرة: من الآية 286) . وقد جاء في الحديث: «قال الله: قد فعلت» . وفي رواية: «قال: نعم» (1) .
والإصر هو العهد الثقيل الذي في تحمّله أشدّ المشقّة.
والأغلال هي الشّدائد التي كانت في عبادتهم.
روى الطبري عن الربيع قوله - تعالى -: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} (البقرة: من الآية 286) يقول: التّشديد الذي شدّدته على من قبلنا من أهل الكتاب.
وقال مالك: الإصر: الأمر الغليظ (2) .
وقال سعيد: الإصر: شدّة العمل (3) .
وقال مجاهد: من اتبع محمدًا ودينه من أهل الكتاب، وضع عنهم ما كان عليهم من التّشديد في دينهم (4) .
(1) - أخرجه مسلم (1 / 116) رقم (126) .
(2)
- انظر: تفسير الطبري (3 / 158) .
(3)
- انظر: تفسير الطبري (9 / 85) .
(4)
- انظر: تفسير الطبري (9 / 85) .
قال الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الإصر: هو العهد، وأن معنى الكلام: ويضع النبي الأمّي العهد الذي كان الله أخذ على بني إسرائيل من إقامة التوراة، والعمل بما فيها من الأعمال الشّديدة، كقطع الجلد من البول، وتحريم الغنائم، ونحو ذلك من الأعمال التي كانت مفروضة عليهم، فنسخها حكم القرآن (1) .
وفي آيتي البقرة والأعراف إشارة إلى أنه، عليه السلام، قد جاء بالتيسير والسّماحة والوسطيَّة.
قال الجشمي: دلّت آية - الآية الأعراف - على أن شريعته أسهل الشّرائع، وأنه وضع عن أمته كل ثقل كان في الأمم الماضية (2) .
وجاء في فوائد أبي عمرو بن مندة بسند صحيح عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: أقرأني النبي، صلى الله عليه وسلم "إن الدّين عند الله الحنيفيَّة السّمحة لا اليهودية ولا النصرانية". قال العلائي: وهذا إنما نسخ لفظه وبقي معناه (3) .
ولبيان وسطيَّة الإسلام في التّكاليف في ضوء ما شرعه الله في كتابه، وعلى لسان رسوله، صلى الله عليه وسلم أذكر نماذج من الأحكام التي جاءت في التوراة التي بين أيديهم، يتبيَّن منها الأغلال والآصار التي كانت عليهم (4) .
جاء في سفر الخروج في الإصحاح الحادي والعشرين:
(1) - انظر: تفسير الطبري (9 / 85) .
(2)
- انظر: تفسير القاسمي (7 / 2882) .
(3)
- انظر قواعد العلائي لوحة (27) ، نقلا عن رفع الحرج في الشريعة ص (158) .
(4)
- انظر لما سيأتي: رفع الحرج في الشريعة ص (158) .
"من شتم أباه وأمه يُقتل قتلا. إذا نطح ثور رجلا أو امرأة وكان الثور نطاحًا من قبل، وقد أشهد على صاحبه ولم يضبطه فقتل رجلا أو امرأة فالثور يرجم وصاحبه يقتل".
وفي الإصحاح الخامس والثلاثين وفي السفر نفسه: "ولا تأخذوا فدية عن نفس القاتل المذنب للموت بل إنه يقتل".
وفي الإصحاح الحادي عشر من سفر اللاويين: "كل من مسّ حائضًا يكون نجسًا إلى المساء، وكل ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجسًا، وكل ما تجلس عليه يكون نجسًا، وكل من مسّ فراشها يغسل ثيابه، ويستحم بماء، ويكون نجسًا إلى المساء".
وفي الإصحاح الثاني والعشرين من سفر التثنية: "لا تحرث على ثور وحمار معًا، ولا تلبس ثوبًا مختلطًا صوفًا وكتانًا معًا".
قال الدكتور صالح بن حميد بعد أن ساق هذه النماذج: وأصدق من ذلك وأبلغ قول الحق تبارك وتعالى في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه، تنزيل من حكيم حميد:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} (النساء:160) وقوله - سبحانه - في بيان أنواع من المحرمات عليهم بسبب بغيهم: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (الأنعام:146) .
وكل ذلك ساقه الله في كتابه لبيان ما امتنّ به على هذه الأمَّة من التخفيف، والتيسير والتسهيل، ونعت نبيه، صلى الله عليه وسلم بأنَّه:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: من الآية 157) .
وقد ذكر علماؤنا رحمهم الله شيئًا من الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا، منها: قطع موضع النجاسة من الثوب أو منه، ومن البدن، وإحراق الغنائم، وتحريم السبت، وقطع الأعضاء الخاطئة، وتعيّن القصاص في العمد والخطأ من غير شرع الدّية، وأمروا بقتل أنفسهم علامة على التوبة، وطلب منهم أداء ربع المال في الزكاة، وعدم جواز الصلاة إلا في البيعة، وحرمة الجماع في أيّام الصوم بعد العتمة والنّوم، وحرمة الطعام بعد النوم، وعدم التّطهير بالتيمم، وكتابة ذنب الّليل بالصّبح على الباب. (1) .
ومما سبق يتّضح دلالة آيتي البقرة والأعراف على تقرير منهج الوسطيَّة في التّشريع والتّكليف.
(1) - انظر: لكل ما سبق كتاب رفع الحرج في الشريعة ص (158) وما بعده.
2-
وردت آيات كثيرة تُبيّن أن الله لا يُكلّف نفسًا فوق طاقتها، ولا يُكلّف نفسًا إلا وسعها وقدرتها، قال - تعالى -:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: من الآية 286) . {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} (الطلاق: من الآية 7) . وقال: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: من الآية 233) وقال - جل في علاه -: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (الأنعام: من الآية 152) وقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (الأعراف: من الآية 42) وقال تعالى: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} (المؤمنون: من الآية 62) .
وعلى الرغم من أن قوله - تعالى -: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: من الآية 286) ظاهر الدلالة على عدم التّكليف إلا في حدود القدرة والميسرة، إلا أن الله سبحانه وتعالى قد أعقب هذه الجملة بدعاء على لسان عباده المؤمنين، يُبيّن فيه أن ما امتنّ عليهم من عدم المؤاخذة بالخطأ والنّسيان، وحطّ الآصار والأغلال، وعدم التّكليف بما لا يُطاق، وقد انتظم ذلك في ثلاثة أمور:
الأول: قوله - تعالى -: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة: من الآية 286) .
الثاني: قوله: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} (البقرة: من الآية 286) .
الثالث: قوله - تعالى -: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (البقرة: من الآية 286) . قال البقاعي تعليقًا على هذه الآية: وقد عرف الله عباده المؤمنين مواقع نعمه من دعاء رتّبه على الأخف فالأخف على سبيل التعلي، إعلامًا بأنه لم يؤاخذهم بما اجترحوه نسيانًا، ولا بما قارفوه خطأ، ولا حمل عليهم ثقلا، بل جعل شريعتهم خفيفة سمحة، ولا حمّلهم فوق طاقتهم، مع أنَّه له جميع ذلك، وأنَّه عفا عنهم في سترهم فلم يخجلهم بذكر سيئاتهم. (1) .
قال الدكتور / صالح بن حميد معلّقًا على آيات عدم التّكليف بما لا يُطاق: ولاشكّ أنّ الأحكام الشّرعية إذ كانت مطلوبة في حدود الوسع والاستطاعة دون بلوغ غاية الطّاقة، ففي ذلك الدّلالة الظّاهرة على أن الحرج مرفوع، وأنَّ الشريعة مبنية على التيسير، وعدم التعسير، فهي حنيفيَّة سهلة سمحة (وسطيَّة) ، فلله الحمد والمنَّة (2) .
وقال الإمام الطبري: يعني بذلك - جلّ ثناؤه -: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: من الآية 286) فيتعبدّها إلا بما يسعها، فلا يضيّق عليها، ولا يجهدها (3) .
(1) - انظر: تفسير القاسمي (3 / 733)، وانظر: لما سبق كتاب رفع الحرج في الشريعة ص (71) .
(2)
- انظر: رفع الحرج في الشريعة ص (73) .
(3)
- انظر: تفسير الطبري (3 / 154) .
ففي كلام الطبري رحمه الله الدّلالة على أن هناك تكليفًا وأمرًا بالتعبد، ولكنه في حدود الوسع والطاقة، لا تضييق فيه ولا إجهاد، وهذه حقيقة الوسطيَّة.
وقال رشيد رضا في تفسير قوله - تعالى -: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: من الآية 286) ولا يُحاسبها إلا على ما كلّفها، والتّكليف هو الإلزام بما فيه كلفة، والوسع ما تسعه قدرة الإنسان من غير حرج ولا عسر، وقال بعضهم: هو ما يسهل عليه من الأمور المقدور عليها، وهو ما دون مدى طاقته.
والمعنى: أنَّ شأنه - تعالى - وسنته في شرع الدّين ألا يُكلّف عباده ما لا يطيقون (1) .
وخلاصة القول: إنّ هذه الآيات تُقرّر منهج الوسطيَّة في التكليف، فهناك أوامر ونواهي، ولكنها في حدود الوسع، وعدم المشقّة، وليس فيها تضييق وعسر وإحراج.
(1) - انظر: تفسير المنار (3 / 145) .
3-
ومما يؤكّد ويقرّر منهج الوسطيَّة في التشريع والتّكليف الآيات التي وردت برفع الحرج، كقوله - تعالى -:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (المائدة: من الآية 6) . وقوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: من الآية 78) . وقوله: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} (الأحزاب: من الآية 38) .
ومثل ذلك الآيات التي جاءت تنفي الحرج عن فئة معينة، كقوله - تعالى - في سورتي النور (1) والفتح:{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} (الفتح: من الآية 17) . وبعد أن بيّن - سبحانه - جواز الزواج من زوجة الابن المتبني حيث زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب بعد طلاق زيد لها، قال - سبحانه -:{لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} (الأحزاب: من الآية 37) .
(1) - الآية: (61) .
قال الدكتور / صالح بن حميد: إن رفع الحرج، والسّماحة والسهولة راجع إلى الوسط والاعتدال، فلا إفراط ولا تفريط، فالتنطع والتّشديد حرج في جانب عسر التكاليف، والإفراط (1) والتقصير حرج فيما يؤدي إليه من تعطل المصالح وعدم تحقيق مقاصد الشرع.
قال - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة: من الآية 143) . فالتوسط هو منبع الكمالات، والتّخفيف والسّماحة ورفع الحرج على الحقيقة هو في سلوك طريق الوسط والعدل. (2) .
قال المفسّرون في آيتي المائدة والحج: إن الله سبحانه وتعالى ما كلّف عباده ما لا يطيقون، وما ألزمهم بشيء يشقّ عليهم إلا جعل الله لهم فرجًا ومخرجًا.
ولقد كانت الشّدائد والعزائم في الأمم، فأعطى الله هذه الأمَّة من المسامحة واللين ما لم يعط أحدًا قبلها، رحمة من الله وفضلا.
يقول ابن العربي: ولو ذهبت إلى تعديد نعم الله في رفع الحرج لطال المرام (3) .
قال الطوفي الحنبلي: إن الله - تعالى - لم يشرع حكمًا إلا وأوسع الطريق إليه ويسره، حتى لم يبق دونه حرج ولا عسر.
وقال: ويحتج بهذه الآية ونحوها من رأى أنه إذا تعارض في مسألة حكمان اجتهاديان خفيف وثقيل يرجح الخفيف دفعًا للحرج (4) .
(1) - الصحيح: والتفريط، ولعله خطأ مطبعي.
(2)
- انظر: رفع الحرج في الشريعة ص (13) .
(3)
- انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3 / 1293) ورفع الحرج في الشريعة ص (60) .
(4)
- انظر: الإشارات الإلهية ص (132) مخطوط، ورفع الحرج ص (61) .
ويقرّر ذلك الكيا الطبري حيث يقول: ويحتج به في نفي الحرج والضّيق المنافي ظاهره للحنيفيَّة السّمحة. وقد علّق على ذلك القرطبي بقوله: وهذا بيّن (1) .
وقال رشيد رضا في تفسير آية المائدة:
ولما بيّن فرض الوضوء وفرض الغسل، وما يحلّ محلهما عند تعذّرهما أو تعسرّهما، تذكيرًا بهما ومحافظة على معنى التعبّد فيهما - وهو التيمم - بيّن حكمة شرعهما لنا مبتدئًا ببيان قاعدة من أعظم قواعد هذه الشّريعة السمحة. فقال:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (المائدة: من الآية 6) . أي: ما يُريد الله ليجعل عليكم فيما شرعه لكم في هذه الآية - ولا في غيرها أيضًا - حرجًا ما. أي: أدنى ضيق وأقل مشّقة، لأنه - تعالى - غنّي عنكم، رءوف رحيم بكم، فهو لا يشرع إلا ما فيه الخير والنفع لكم (2) .
(1) - انظر: تفسير القرطبي (3 / 432) ورفع الحرج ص (61) .
(2)
- انظر: تفسير المنار (6 / 258) .
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: من الآية 78) . أي ما كلّفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء يشقّ عليكم إلا جعل الله لكم فرجًا ومخرجًا، ولهذا قال، عليه السلام:«بعثت بالحنيفيَّة السمحة» (1) . وقال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى اليمن: ((بشّر «ولا تُنفّرا ويسّرا ولا تُعسّرا» (2) . والأحاديث في هذا كثيرة، ولهذا قال ابن عباس في قوله:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: من الآية 78) يعني من ضيق (3) .
وقد اتضح لنا مما سبق أن آيات رفع الحرج دليل واضح وبرهان قاطع على وسطيَّة هذا الدين في تشريعه وتكاليفه.
4-
ونواصل ذكر الأدلة من القرآن الكريم في باب التّشريع والتّكليف التي تقرّر منهج الوسطيَّة، وأنه سمة هذا الدّين، وسرّ من أسرار عظمته، وهذه الآيات هي آيات التّخفيف والتّيسير.
(1) - تقدم تخريجه ص (110) .
(2)
- تقدم تخريجه ص (109) .
(3)
- انظر: تفسير ابن كثير (3 / 236) .
قال - سبحانه -: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: من الآية 185) . وقال - جلّ في علاه -: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} (الأعلى:8) . وقال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (الشرح:5،6) . وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (النساء:28) .
فهذه الآيات تبيّن أن الله أراد بهذه الأمَّة اليسر والتّخفيف، ونفي إرادة العسر والمشقّة.
وهذه الآيات وإن كان بعضها ورد في سياق قضية خاصة، كالآية الأولى وردت في شأن الرّخصة في الصيام إلا أن المراد منها العموم، كما صرح بذلك غير واحد من المفسّرين، ومثل ذلك آية النساء، فقد وردت في سياق ما أبيح من نكاح الإماء عند العجز عن الحرائر. إلا أن الذي صرح به كثير من المفسّرين أن المراد عموم التّخفيف في الشّريعة، وإرادة التيسير ورفع المشقّة (1) .
(1) - انظر: رفع الحرج في الشريعة ص (68) .
قال القرطبي: قال مجاهد والضّحاك: اليسر الفطر في السّفر. والعسر: الصّوم في السفر. قال القرطبي: والوجه: عموم اللفظ في جميع أمور الدين، كما قال - تعالى -:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: من الآية 78)(1) .
وقال رشيد رضا في الآية: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: من الآية 185) . وهذا تعليل لما قبله، أي: يريد فيما شرعه من هذه الرخصة في الصيام، وسائر ما يشرعه لكم من أحكام، أن يكون دينكم يسرًا تامًّا لا عسر فيه (2) .
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (النساء:28) . أي: في شرائعه، وأوامره، ونواهيه، وما يقدره لكم (3) .
وقال مجاهد: أي في نكاح الأمَّة، وفي كل شيء فيه يسر (4) . ومن هنا نخلص إلى أن آيات التيسير والتّخفيف جاءت لإرساء قواعد هذا الدِّين، وذلك أن الوسطيَّة ركن من أركان ديمومة هذا الدِّين وعالميته.
5 -
وأختم هذا الباب بذكر بعض الأدلّة العلمية التي تؤكّد وسطيَّه هذا الدين في باب التّشريع والتكليف:
(1) - انظر: تفسير القرطبي (2 / 301) .
(2)
- انظر: تفسير المنار (2 / 164) .
(3)
- انظر: تفسير ابن كثير (1 / 479) وتفسير القاسمي (5 / 1201) .
(4)
- انظر: تفسير الطبري (5 / 30) .
(أ) قال - تعالى - في شأن المطلقات: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} (البقرة: من الآية 236) . وقال: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (البقرة:241) . والقضية تدور على عدة محاور؛ فإما ألا يكون هناك أي تمتيع للمطلقة، وهذا له آثاره السلبية، وبخاصة على المطلّقة التي ستستقبل حياة جديدة، تحتاج إلى تخفيف وقع الطّلاق وأثره حسّيًّا ومعنويًّا. وإمّا أن يكون هناك تمتيع مغلّظ، وهذا فيه إثقال على الزوج المطلق.
وإما أن تكون هناك متعة يُراعى فيها ظروف الزوج وإمكاناته، مع عدم إهمال حقّ المطلقة في المتعة.
وهذا هو الأمر الوسط الذي أقرّه القرآن، وأصبح شرعًا من لدن حكيم عليم.
(ب) قال - تعالى -: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (البقرة:225) . وفي سورة المائدة: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} (المائدة: من الآية 89) .
وموضوع الحنث في اليمين، إما أن يكون فيه كفارة بإطلاق، أو لا يكون فيه كفارة بإطلاق، أو التفصيل.
والأمر الأول: فيه من المشقّة والعسر ما لا يخفى.
والأمر الثاني: يُؤدّي إلى الاستهانة باليمين، وهو قادح من قوادح الإيمان.
أمّا التفصيل: وهو التفريق بين لغو اليمين الذي يصعب التحرز منها، فهذا معفو عنه، أمّا ما عداه ففيه الكفارة الشّرعية صيانة لليمين والقسم، فهذا هو الأمر الوسط، فلا إفراط فيه ولا تفريط.
(جـ) قال - تعالى - في بيان كفارة اليمين: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (المائدة: من الآية 89) .
والوسطيَّة في هذه الآية من ثلاثة وجوه:
1-
أنَّ إطعام المساكين يُراعى في نوعية الطعام أو الكسوة الوسط في ذلك، وجعل المقياس الذي يُرجع إليه في اختيار هذا الوسط إطعام الرجل لأهله أو كسوتهم، فينظر في ذلك ويخرج الوسط منه.
وفي هذا تتحقق الوسطيَّة من وجهين - أيضًا -.
الأول: مراعاة الوسط في حق كل إنسان، فلم يؤخذ من أعلى ماله أو أدناه، بل الوسط منه، مراعاة للفقير - أيضًا -.
الثاني: مراعاة الفرق بين حال الغني والفقير والمتوسط، وهذا فيه من معنى الوسطيَّة ما فيه، فلم يأت الحكم بالتسوية بينهم.
2-
أنَّه جعل الكفارة تدور على أحد ثلاثة أمور: إمّا الإطعام، أو الكسوة، أو الإعتاق، والحالف مخيّر بينها دون إلزام بواحد منها، وهذا فيه من التوسعة والتيسير ما لا يخفى.
3-
إذا لم يجد الحالف أو لم يستطع على أي نوع من هذه الثلاثة انتقل إلى الصيام، وهذه رحمة من الله وتوسعة على عباده.
وبهذا اجتمعت أطراف الوسطيَّة في هذه القضية، وهي قضية جزئية يسيرة، فلا شك أن ما كان أعلى منها وأشدّ كلفة تكون مراعاة الوسطيَّة فيه من باب أولى، لأن الله غني عنًا وعن أعمالنا، ولكن التّشريع ميدان للامتحان والابتلاء، والله بنا رءوف رحيم.
(د) كذلك نلحظ الوسطيَّة في هذا التشريع، قال - سبحانه -:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} (المائدة: من الآية 5) . والوسطيَّة تبرز في موضوع الطعام، وموضوع النكاح من أهل الكتاب، مما لا يحتاج إلى شرح أو تفصيل.
(هـ) وكذلك نرى إقرار منهج الوسطيَّة في موضوع الطّلاق وأحكامُه فلم يحرم الطّلاق، ولم يجعله مُتاحًا دون قيد أو شرط أو وصف.
بل إنَّه فرّق بين الحالات التي تبينُ فيها المرأة من طلقة واحدة أو من ثلاث طلقات، وهكذا.
ولا شك أن موضوع الطّلاق وأحكامه من أقوى الأدلة على هذا المنهج الذي روعيت فيه أحوال وأوضاع تتعلّق بالرجل والمرأة والأسرة.
والآيات التي وردت في سورتي البقرة والطّلاق هي البرهان على ذلك.
هذه بعض الأدلّة العملية على الوسطيَّة التي رسمها القرآن، وأكدها في أكثر من موضع في باب التشريع والتّكاليف.
ومن خلال ما سبق، اتضحت المنطلقات الأساسية التي تُبيّن المنهج الشّرعي في التّشريع والتّكليف، حيث ذكرت أن الله وضع عنّا الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا، وأن الله لا يُكلّف نفسًا فوق طاقتها، بل لا يكلّف نفسًا إلا وسعها، وما آتاها، وآيات رفع الحرج دلالة قويّة على متانة هذا المنهج في وسطيَّة التّشريع، يؤكد ذلك ويقرّره ما صاحب ذلك من يسر ورفع للعسر والمشقة. كل ذلك أوصلنا للحقيقة التي استهدفناها، وبدأنا بها، وهي أنَّ القرآن الكريم عنى عناية تامة في رسم منهج الوسطيَّة وتثبيته.
أولا: الآيات التي تبيّن انحراف أولئك الذين صرفوا العبادة عن وجهها الصحيح، وذلك مثل قوله - تعالى -:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} (الزمر:64) . وقوله: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} (النمل:43) . وقوله: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} (المائدة: من الآية 76) . وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: من الآية 3) . ومثل ذلك قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الحج:11) .
فهذه الآيات وأمثالها ترسم منهج الوسطيَّة في العبادة ببيان انحراف طريق هؤلاء الذين قلبوا العبادة على وجهها الصحيح.
قال ابن كثير في قوله - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} (الحج: من الآية 11) قال مجاهد وقتادة وغيرهما: (على حرف) على شك.
وقال غيرهم: على طرف، ومنه حرف الحبل، أي: طرفه، أي: دخل في الدين على طرف، فإن وجد ما يحبه استقر وإلا انشمر (1) .
وانظر إلى قول القرطبي، حيث إن قوله نصّ في دلالة الآية على المراد. قال:(على حرف) . على شكّ، قاله مجاهد وغيره. وحقيقته أنه على ضعف في عبادته، كضعف القائم على حرف مضطرب فيه، وحرف كل شيء: طرفه وشفيره وحده، ومنه حرف الحبل، وهو أعلاه المحدّد.
وقيل: (على حرف) ، أي على وجه واحد، وهو أن يعبده على السّراء دون الضرّاء، ولو عبدوا الله على الشكر في السّراء والصبر على الضرّاء لما عبدوا الله على حرف.
وقيل: (على حرف) . على شرط (2) .
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (3 / 209) .
(2)
- انظر: تفسير القرطبي (12 / 17) .
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: من الآية 3) . أي ليشفعوا لنا ويقرّبونا عنده منزلة، ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجّوا في جاهليتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك، وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدّهر وحديثه، وجاءتهم الرسل، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بردّها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم لم يأذن الله فيه، ولا رضي به، بل أبغضه ونهى عنه (1) .
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (4 / 45) .