الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقفة مع سورة الفاتحة
أجد خير بداية لبيان المنهج القرآني في تقرير الوسطيَّة أن أقف مع أمّ الكتاب، حيث إنها من أولها إلى آخرها تقرّر هذه الحقيقة وتؤكدها.
ولكن أبرز آية فيها ناطقة بذلك هي قوله - تعالى - {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة:6) . وما بعدها.
وهذه الآية صريحة في تحديد المنهج الوسط، ذلك أنّه بيّن أن هذا الصرّاط هو صراط الذين أنعم الله عليهم.
قال الطبري: أجمعت الأمَّة من أهل التأويل جميعًا على أنّ الصّراط المستقيم هو الطّريقُ الواضحُ الذي لا اعوجاج فيه، وكذلك ذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك قول جرير الخطفي:
أمير المؤمنين على صراطٍ
…
إذا اعوج الموارد مستقيم
قال ابن عباس:
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة:6) يقول: ألهمنا الطّريق الهادي، وهو دين الله الذي لا عَوَجَ له (1) .
ثم قال: وكلّ حائد عن قصد السّبيل وسالك غير المنهج القويم فضالٌّ عند العرب، لإضلاله وجه الطّريق (2) .
(1) - انظر: تفسير الطبري (1 / 73،74) .
(2)
- انظر: تفسير الطبري (1 / 84) .
وقد بيّن الله لنا أن الصّراط المستقيم هو منهج الوسط، حيث قال واصفًا الصراط المستقيم:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: من الآية 7) ومنهج المغضوب عليهم يمثل التفريط، بينما يمثل منهج الضّالين الإفراط، فهما منهجان دائران بين الغلوّ والجفاء.
قال ابن كثير: غير صراط المغضوب عليهم، وهم الذين فسدت إرادتهم، فعلموا الحقّ وعدلوا عنه، ولا صراط الضّالين، وهم الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في الضّلالة، لا يهتدون إلى الحق (1) .
وبهذا يتّضح لنا أن هناك ثلاثة سبل: سبيل الذين أنعم الله عليهم، وسبيل المغضوب عليهم، وسبيل الضالين.
ونحن مأمورون بالالتزام بسبيل الذين أنعم الله عليهم، لأنَّه هو الصّراط المستقيم، وهو المنهج الوسط بين طريقين منحرفين، وهما طريقا اليهود والنصارى، وكل طريق منحرف عن منهج الصّراط المستقيم فله حظّ. من أحد هذين السبيلين.
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (1 / 29) .
ولأن الاستقامَة تعني الوسطيَّة كما توضحها آية الفاتحة، وكما حرّرت ذلك في مبحث سابق، جاءت الآيات متعدّدة تدعو إلى الاستقامة بأساليب متعدّدة وألفاظ مُتقاربة، وهي تدور بين الخبر والإنشاء. ومن هذا المنطلق، وبعد أن تقرّر أن طريق الاستقامة هو طريق الأمَّة الوسط، فإن كل آية وردت في الاستقامة فهي آية في تحقيق الوسطيَّة والدّعوة إليها.
والآيات في هذا الباب كثيرة جدًّا أذكر بعضًا منها دلالة على المراد، وبيانًا لهذا المنهج.
قال - سبحانه -: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا} (هود: من الآية 112) . وقال: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (الشورى: من الآية 15) .
وأجد في هاتين الآيتين ما يستحقّ التّنبيه عليه، ونحن بصدد الحديث عن الوسطيَّة، وذلك أنّه قال في الآية الأولى:{وَلَا تَطْغَوْا} (هود: من الآية 112) بعد أن أمر بالاستقامَّة، والطغيان هو مجاوزة الحدّ (1) . وهو خروج عن منهج الوسطيَّة إلى الانحراف عن السبيل.
(1) - انظر: تفسير القرطبي (9 / 107) .
وفي الآية الثانية: قال: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (الشورى: من الآية 15) واتباع الهوى خروج عن الاستقامَة، وانحراف عن منهج الوسط.
وتتواصل الآيات في هذا الشأن، ففي سورة البقرة:{يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة: من الآية 142) . وفي آل عمران: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (آل عمران: من الآية 101) . وفي الأنعام: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (الأنعام: من الآية 153) . وفيها: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (الأنعام: من الآية 161) . وفي النحل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (النحل:76) . وفي الزخرف: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الزخرف:43) .
وفي سورة الملك: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الملك:22) .
إلى غير ذلك من الآيات، حيث إن كل واحدة منها دالّة على أنّ الصّراط المستقيم هو الطّريق الذي أمرنا باتّباعه واجتناب ما عداه، لأنّه هو طريق الحقّ والعدل والوسط، وما عداه طريق الضّلال والغواية والانحراف عن الصّراط المستقيم، وهاهو الشّيطان يُعلن هذه الحقيقة قائلا كما ذكر الله في سورة الأعراف:{فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (الأعراف: من الآية 16)، وصدق الله العظيم. إذ يقول:{مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الأنعام: من الآية 39) .
وكما بدأنا في آيات الدعوة للاستقامة نختم بها، قال - سبحانه -:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الاحقاف:13) .
وفي سورة الجن: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} (الجن:16) . وفي التّكوير: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (التكوير:27، 28) .
وهذه الآية نصّ في أنّ القرآن كله دعوة للاستقامة والسير على المنهج الحقّ، قال القرطبيّ:{إِنْ هُوَ} (التكوير: من الآية 27) يعني القرآن {إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (التكوير: من الآية 27) أيْ: موعظة وزجر. {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (التكوير:28) أي يتبع الحق ويُقيم عليه (1) .
ومما سبق يتّضح لنا أن سورة الفاتحة وضعَت القاعدة والمنطلق، ورسمَت المنهج وحددت معالمه، ثم جاءت الآيات بعد ذلك مقرّرة لذلك، وداعية إليه.
(1) - انظر: تفسير القرطبي (19 / 343) .