المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بابما جاء في وقعة الحرة - إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة - جـ ١

[حمود بن عبد الله التويجري]

الفصل: ‌بابما جاء في وقعة الحرة

‌باب

ما جاء في وقعة الحرة

عن سعيد بن المسيب؛ قال: "وقعت الفتنة الأولى (يعني: مقتل عثمان) فلم تبق من أصحاب بدر أحدا، ثم وقعت الفتنة الثانية (يعني: الحرة) فلم تبق من أصحاب الحديبية أحدا، ثم وقعت الثالثة فلم ترتفع وللناس طباخ".

رواه البخاري تعليقا مجزوما به، ووصله أبو نعيم في "مستخرجه".

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "أخرج ابن أبي خيثمة هذا الأثر، وفيه: "ولو وقعت الثالثة"، وذكر ابن التين أن مالكا روى عن يحيى بن سعيد الأنصاري؛ قال: "لم تترك الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلا يوم قتل عثمان ويوم الحرة" ".

قال الحافظ: "ثم وجدت ما أخرجه الدارقطني في "غرائب مالك " بإسناد صحيح إليه عن يحيى بن سعيد نحو هذا الأثر، وقال في آخره: "وإن وقعت الثالثة لم ترتفع وبالناس طباخ".

وقال الحافظ في قوله: "لم تبق من أصحاب بدر أحدا": "أي أنهم ماتوا منذ قامت الفتنة بمقتل عثمان إلى أن قامت الفتنة الأخرى بوقعة الحرة، وكان آخر من مات من البدريين سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، ومات قبل وقعة الحرة ببضع سنين.

وقوله: "طباخ"؛ بفتح المهملة والموحدة الخفيفة وآخره معجمة؛ أي: قوة. قال الخليل: أصل الطباخ: السمن والقوة، ويستعمل في العقل والخير.

قال حسان رضي الله عنه:

المال يغشى رجالا لا طباخ لهم

كالسيل يغشى أصول الدندن البالي

ص: 242

و (الدندن) ؛ بكسر المهملتين وسكون النون الأولى: ما اسود من النبات". انتهى.

وقال ابن الأثير: "أصل الطباخ: القوة والسمن، ثم استعمل في غيره، فقيل: فلان لا طباخ له؛ أي: لا عقل له ولا خير عنده". انتهى.

وعن نافع؛ قال: "لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر رضي الله عنهما حشمه وولده، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة» ، وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غدرا أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر؛ إلا كانت الفيصل بيني وبينه".

رواه الإمام أحمد، والبخاري، وهذا لفظ البخاري.

وفي رواية لأحمد عن نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما جمع بنيه حين انتزى أهل المدينة مع ابن الزبير وخلعوا يزيد بن معاوية، فقال: إنا قد بايعنا هذا الرجل ببيع الله ورسوله، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«الغادر ينصب له لواء يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان» ، وإن من أعظم الغدر - إلا أن يكون الإشراك بالله تعالى - أن يبايع الرجل رجلا على بيع الله ورسوله ثم ينكث بيعته، فلا يخلعن أحد منكم يزيد، ولا يشرفن أحد منكم في هذا الأمر؛ فيكون صيلما فيما بيني وبينكم.

(الانتزاء) و (التنزي) : تسرع الإنسان إلى الشر. و (الفيصل) و (الصيلم) ؛ معناهما واحد.

قال ابن الأثير: "الفيصل: القطيعة التامة". وقال أيضا: "الصيلم: القطيعة المنكرة" انتهى.

ص: 243

وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "في هذا الحديث وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة، والمنع من الخروج عليه، ولو جار في حكمه، وأنه لا ينخلع بالفسق". انتهى.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: "جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا} ؛ قال: لأعطوها (يعني: إدخال بني حارثة أهل الشام على أهل المدينة في وقعة الحرة) ".

رواه يعقوب ين سفيان. قال ابن كثير وابن حجر العسقلاني: "إسناده صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما ". قال ابن كثير: "وتفسير الصحابي في حكم المرفوع عند كثير من العلماء".

وعن أيوب بن بشير المعافري: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في سفر من أسفاره، فلما مر بحرة زهرة وقف فاسترجع، فساء ذلك من معه، وظنوا أن ذلك من أمر سفرهم، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله! ما الذي رأيت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إن ذلك ليس من سفركم هذا. قالوا: فما هو يارسول الله؟ قال: يقتل بهذه الحرة خيار أمتي بعد أصحابي» .

رواه يعقوب بن سفيان. قال ابن كثير: "وهو مرسل".

وعن أبي ذر رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنت وقتلًا يصيب الناس حتى تغرق حجارة الزيت بالدم؟ ! قلت: ما خار الله لي ورسوله. قال: "الحق بمن أنت منه". قال قلت: يا رسول الله! أفلا آخذ بسيفي فأضرب به من فعل ذلك؟ قال: "شاركت القوم إذًا، ولكن ادخل بيتك ". قلت: يا رسول الله! فإن دخل بيتي؟ قال: "إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف؛ فألق طرف ردائك على وجهك؛ فيبوء بإثمه وإثمك، فيكون من أصحاب النار» .

ص: 244

رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، وأبو داود السجستاني، وابن ماجه، والحاكم، وقال:"صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه"، وقد تقدم ذكره في (باب الفتن) مطولا.

وعن محمد بن سعيد (يعني: ابن رمانة) : "أن معاوية رضي الله عنه لما حضره الموت؛ قال ليزيد بن معاوية: قد وطأت لك البلاد، وفرشت لك الناس، ولست أخاف عليكم إلا أهل الحجاز، فإن رابك منهم ريب؛ فوجه إليهم مسلم بن عقبة المري؛ فإني قد جربته غير مرة، فلم أجد له مثلا لطاعته ونصيحته. فلما جاء يزيد خلاف ابن الزبير ودعاؤه إلى نفسه؛ دعا مسلم بن عقبة المري وقد أصابه الفالج، وقال: إن أمير المؤمنين عهد إلي في مرضه إن رابني من أهل الحجاز رائب أن أوجهك إليهم، وقد رابني. فقال: إني كما ظن أمير المؤمنين؛ اعقد لي، وعب الجيوش. قال: فورد المدينة، فأباحها ثلاثا، ثم دعاهم إلى بيعة يزيد أنهم أعبد له قن في طاعة الله ومعصيته، فأجابوه إلى ذلك؛ إلا رجلا واحدا من قريش، أمه أم ولد، فقال له: بايع ليزيد على أنك عبد في طاعة الله ومعصيته. قال: لا؛ بل في طاعة الله. فأبى أن يقبل ذلك منه، وقتله. فأقسمت أمه قسما؛ لئن أمكنها الله من مسلم حيا أو ميتا أن تحرقه بالنار. فلما خرج مسلم بن عقبة من المدينة؛ اشتدت علته فمات، فخرجت أم القرشي بأعبد لها إلى قبر مسلم، فأمرت به أن ينبش من عند رأسه، فلما وصلوا إليه؛ إذا ثعبان قد التوى على عنقه قابضا بأرنبة أنفه يمصها. قال: فكاع القوم عنه، وقالوا: يا مولاتنا! انصرفي؛ فقد كفاك الله شره، وأخبروها. قالت: لا؛ أو أوفي لله بما وعدته. ثم قالت: انبشوا من عند الرجلين. فنبشوا، فإذا الثعبان لاو ذنبه برجليه. قال: فتنحت، فصلت ركعتين، ثم قالت: اللهم! إن كنت تعلم أنما غضبت على مسلم بن عقبة اليوم لك؛ فخل بيني وبينه. ثم تناولت عودا، فمضت إلى ذنب الثعبان، فانسل من مؤخر رأسه، فخرج من القبر،

ص: 245

ثم أمرت به، فأخرج من القبر، فأحرق بالنار".

رواه الطبراني.

قوله: "فكاع القوم عنه"؛ أي: جبنوا وأحجموا عنه.

باب

ما جاء في فتنة الحجاج وقتل ابن الزبير رضي الله عنهما

عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن في ثقيف كذابًا ومبيرًا» .

رواه: الإمام أحمد، والترمذي، وأبو يعلى. وقال الترمذي:"هذا حديث حسن غريب". قال: "وفي الباب عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ".

قال: "ويقال: الكذاب: المختار بن أبي عبيد، والمبير: الحجاج بن يوسف ".

وقال النووي: "اتفق العلماء على أن المراد بالكذاب هنا المختار بن أبي عبيد، وبالمبير الحجاج بن يوسف ". انتهى.

وقال ابن الأثير: " (مبير) ؛ أي: مهلك يسرف في إهلاك الناس". انتهى.

وعن أبي نوفل؛ قال: "رأيت عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما على عقبة المدينة. قال: فجعلت قريش تمر عليه والناس، حتى مر عليه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فوقف عليه، فقال: السلام عليك أبا خبيب! السلام عليك أبا خبيب! السلام عليك أبا خبيب! أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله؛ إن كنت ما علمت صواما قواما وصولا للرحم، أما والله لأمة أنت أشرها لأمة خير. ثم نفذ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فبلغ الحجاج موقف عبد الله

ص: 246

وقوله، فأرسل إليه، فأنزل عن جذعه، فألقي في قبور اليهود، ثم أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، فأبت أن تأتيه، فأعاد عليها الرسول لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك. قال: فأبت وقالت: والله لا آتيك حتى تبعث إلي من يسحبني بقروني. قال: فقال: أروني سبتي. فأخذ نعليه، ثم انطلق يتوذف حتى دخل عليها، فقال: كيف رأيتني صنعت بعدو الله؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك. بلغني أنك تقول له: يابن ذات النطاقين! أنا والله ذات النطاقين: أما أحدهما؛ فكنت أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أبي بكر من الدواب، وأما الآخر؛ فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه. أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذابا ومبيرا، فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه. قال: فقام عنها ولم يراجعها".

رواه مسلم. وقد رواه: الطبراني والحاكم؛ من حديث أبي نوفل بن أبي عقرب العرنجي بنحوه. قال الهيثمي: "ورجال الطبراني رجال الصحيح". ورواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" مختصرا، وإسناده صحيح.

وعن أبي الصديق الناجي؛ قال: "لما ظفر الحجاج بابن الزبير فقتله ومثل به، ثم دخل على أم عبد الله، وهي أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، فقالت: كيف تستأذن علي وقد قتلت ابني؟ ! فقال: إن ابنك ألحد في حرم الله فقتلته ملحدا عاصيا، حتى أذاقه الله عذابا أليما، وفعل به وفعل. فقالت: كذبت يا عدو الله وعدو المسلمين! والله لقد قتلته صواما قواما برا بوالديه حافظا لهذا الدين؛ ولئن أفسدت عليه دنياه لقد أفسد عليك آخرتك، «ولقد حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه يخرج من ثقيف كذابان، الآخر منهما أشر من الأول، وهو المبير» ، وما هو إلا أنت يا حجاج ".

ص: 247

رواه: الإمام أحمد، وأبو يعلى، والحاكم، وهذا لفظه، وزاد في رواية له:"فقال الحجاج: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقت، أنا المبير، أبير المنافقين". قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".

وعن أبي المحياة عن أمه؛ قالت: لما قتل الحجاج عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما؛ دخل على أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما فقال: يا أمه! إن أمير المؤمنين أوصاني بك؛ فهل لك من حاجة؟ فقالت: لست لك بأم، ولكني أم المصلوب على رأس الثنية، وما لي من حاجة، ولكن انتظر حتى أحدثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول:«يخرج من ثقيف كذاب ومبير» ، فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فأنت. فقال الحجاج: مبير المنافقين.

رواه البيهقي.

وعن سلامة بنت الحر رضي الله عنها؛ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في ثقيف كذاب ومبير» .

رواه أبو يعلى، وإسناده حسن.

وعن مجاهد؛ قال: قال لي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: انظر إلى المكان الذي به ابن الزبير؛ فلا تمر بي عليه. قال: فسها الغلام؛ فإذا ابن عمر ينظر إلى ابن الزبير مصلوبا. فقال: يغفر الله لك (ثلاثا) ، والله ما علمتك إلا كنت صواما قواما وصولا للرحم، أما والله إني لأرجو مع مساوي ما أصبت أن لا يعذبك الله بعدها أبدا. ثم التفت إلي فقال: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من يعمل سوءًا يجز به في الدنيا» .

ص: 248

رواه: ابن مردويه، والحاكم في "مستدركه"، وابن عساكر في "تاريخه".

وعن ابن سيرين؛ قال: "قال ابن الزبير رضي الله عنهما: ما شيء كان يحدثناه كعب إلا قد أتى على ما قال؛ إلا قوله: إن فتى ثقيف يقتلني، وهذا رأسه بين يدي (يعني: المختار) ". قال ابن سيرين: "ولا يشعر أن أبا محمد قد خبئ له (يعني: الحجاج) ".

رواه عبد الزراق في "مصنفه"، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، والطبراني. قال الهيثمي:"ورجاله رجال الصحيح".

وقد رواه الحاكم في "مستدركه" من حديث الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف: "حدثني البريد الذي أتى ابن الزبير برأس المختار، فلما رآه قال ابن الزبير: ما حدثني كعب بحديث إلا وجدت مصداقه؛ إلا أنه حدثني أن رجلا من ثقيف سيقتلني ". قال الأعمش: وما يدري أن أبا محمد خذله الله خبئ له.

وعن عامر بن عبد الله بن الزبير: أن أباه حدثه: «أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحتجم، فلما فرغ قال: "يا عبد الله! اذهب بهذا الدم؛ فأهرقه حيث لا يراك أحد"، فلما برزت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ عمدت إلى الدم فحسوته، فلما رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: "ما صنعت يا عبد الله؟ ". قال: جعلته في مكان ظننت أنه خاف على الناس. قال: "فلعلك شربته؟ ". قلت: نعم. قال: "ومن أمرك أن تشرب الدم؟ ! ويل لك من الناس وويل للناس منك!» .

رواه: أبو يعلى، والحاكم، والبيهقي.

وعن أبي عذبة الحمصي؛ قال: "جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأخبره أن أهل العراق قد حصبوا أميرهم، فخرج غضبان، فصلى لنا صلاة، فسها فيها، حتى جعل الناس يقولون: سبحان الله! سبحان الله! فلما

ص: 249

سلم أقبل على الناس، فقال: من هاهنا من أهل الشام؛ فقام رجل، ثم قام آخر، ثم قمت أنا ثالثا (أو رابعا)، فقال: يا أهل الشام! استعدوا لأهل العراق؛ فإن الشيطان قد باض فيهم وفرخ، اللهم إنهم قد لبسوا علي فألبس عليهم بالغلام الثقفي يحكم فيهم بحكم أهل الجاهلية؛ لا يقبل من محسنهم، ولا يتجاوز عن مسيئهم".

رواه البيهقي.

وعن الحسن؛ قال: قال علي رضي الله عنه لأهل الكوفة: "اللهم كما ائتمنتهم فخانوني، ونصحت لهم فغشوني؛ فسلط عليهم فتى ثقيف الذيال الميال؛ يأكل خضرتها، ويلبس فروتها، ويحكم فيهم بحكم الجاهلية". قال الحسن: وما خلق الله الحجاج يومئذ.

رواه: عبد الرزاق، والبيهقي في "الدلائل"، وهو منقطع، قال البيهقي:"ولا يقول علي ذلك إلا توقيفا".

وعن مالك بن أوس بن الحدثان عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه قال: "الشاب الذيال الميال أمير المصرين؛ يلبس فروتها، ويأكل خضرتها، ويقتل أشراف أهلها، يشتد منه الفرق، ويكثر منه الأرق، ويسلطه الله على شيعته".

رواه البيهقي في "الدلائل".

وعن أم حكيم بنت عمرو بن سنان الجدلية؛ قالت: "استأذن الأشعث بن قيس على علي رضي الله عنه، فرده قنبر، فأدمى أنفه، فخرج علي رضي الله عنه، فقال ما لك وله يا أشعث؟ ! أما والله لو بعبد ثقيف تحرشت لاقشعرت شعيرات استك. قيل له: يا أمير المؤمنين ومن عبد ثقيف؟ قال: غلام يليهم لا يبقى أهل بيت من العرب إلا ألبسهم ذلا. قيل: كم يملك؟ قال: عشرين

ص: 250

إن بلغ".

رواه الطبراني.

وعن هشام بن حسان؛ قال: قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: "لو أن الأمم تخابثت يوم القيامة، فأخرجت كل أمة خبيثها، ثم أخرجنا الحجاج؛ لغلبناهم".

رواه أبو نعيم في "الحلية"، ورواه البيهقي من حديث هشام بن يحيى الغساني عن عمر بن عبد العزيز بنحوه.

وقال ابن أبي الدنيا وإبراهيم الحربي: حدثنا سليمان بن أبي سنح: حدثنا صالح بن سليمان؛ قال: قال عمر بن عبد العزيز: "لو تخابثت الأمم، فجاءت كل أمة بخبيثها، وجئنا بالحجاج؛ لغلبناهم، وما كان الحجاج يصلح لدنيا ولا لآخرة، لقد ولي العراق وهو أوفر ما يكون في العمارة، فأخس به إلى أن صيره إلى أربعين ألف ألف، ولقد أدى إلي عمالي في عامي هذا ثمانين ألف ألف، وإن بقيت إلى قابل؛ رجوت أن يؤدى إلي ما أدي إلى عمر بن الخطاب مائة ألف وعشرة آلاف ألف".

وعن عمرو بن عثمان عن أبيه عن جده؛ قال: كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى عدي بن أرطاة: "بلغني أنك تستن بسنة الحجاج، فلا تستن بسنته؛ فإنه كان يصلي الصلاة لغير وقتها، ويأخذ الزكاة من غير حقها، وكان لما سوى ذلك أضيع".

رواه أبو نعيم في "الحلية".

وعن الزبير بن عدي؛ قال: أتينا أنس بن مالك رضي الله عنه نشكو إليه ما نلقى من الحجاج، فقال:«اصبروا؛ فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده»

ص: 251

«شر منهه، حتى تلقوا ربكم. سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم» .

رواه: الإمام أحمد، والبخاري، والترمذي، وقال:"هذا حديث حسن صحيح".

وعن هشام بن حسان؛ قال: "أحصوا ما قتل الحجاج صبرا، فبلغ مائة ألف وعشرين ألف قتيل".

رواه الترمذي.

وقال الأصمعي: "حدثنا أبو عاصم عن عباد بن كثير عن قحدم؛ قال: أطلق سليمان بن عبد الملك في غداة واحدة أحدا وثمانين ألف أسير كانوا في سجن الحجاج، وقيل: إنه لبث في سجنه ثمانون ألفا، منهم ثلاثون ألف امرأة، وعرضت السجون بعد الحجاج فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفا لم يجب على أحد منهم قطع ولا صلب، وكان فيمن حبس أعرابي وجد يبول في أصل ربض مدينة واسط، وكان فيمن أطلق، فأنشأ يقول:

إذا نحن جاوزنا مدينة واسط

خرينا وصلينا بغير حساب

"

ذكره ابن كثير في "تاريخه".

قال: "وقال الرياشي: حدثنا عباس الأزرق عن السري بن يحيى؛ قال: مر الحجاج في يوم الجمعة، فسمع استغاثة، فقال: ما هذا؟ فقيل: أهل السجون يقولون: قتلنا الحر. فقال: قولوا لهم: اخسؤوا فيها ولا تكلمون. قال: فما عاش بعد ذلك إلا أقل من جمعة، حتى قصمه الله قاصم كل جبار".

وعن الشعبي: أنه قال: "يأتي على الناس زمان يصلون فيه على الحجاج ".

رواه ابن عساكر في "تاريخه".

ص: 252

قلت: وقد ذكر لي عن بعض المنتسبين إلى العلم في زماننا: أنه كان يثني على الحجاج، ويتمنى أن يكون في زماننا من هو مثله أو كمثله مرتين، فذكر له عمر بن عبد العزيز، فقال كلاما يتضمن الغض منه، وأنه ضعيف، وهذا يدل على سريرة خبيثة عند ذلك الرجل، وأنه يحب الظلم وأهل الظلم، ويكره العدل وأهل العدل.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «المرء مع من أحب» .

متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

ولهما أيضا من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

باب

ما جاء في بني العباس

عن العباس رضي الله عنه؛ قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقال:«"انظر؛ هل ترى في السماء من نجم؟ ". قال: قلت: نعم. قال: "ما ترى؟ ". قال: قلت: أرى الثريا. قال: "أما إنه يلي هذه الأمة بعددها من صلبك اثنين في فتنة» .

رواه: الإمام أحمد، والطبراني، والحاكم في "مستدركه"، والبيهقي من طريق الحاكم. قال الهيثمي:"وفيه أبو ميسرة مولى العباس، ولم أعرفه إلا في ترجمة أبي قبيل، وبقية رجال أحمد ثقات".

قوله: "اثنين في فتنة": يحتمل أن يكون مرفوعا وأن يكون منصوبا وأن يكون مجرورا: والرفع أقرب؛ لاستغنائه عن التقديرات، وتكون هذه اللفظة باقية على طريقة المتقدمين في الخط؛ فإنهم يسوون بين المرفوع والمنصوب

ص: 253

في الخط ويفرقون بينهما في اللفظ، وأما النصب والجر؛ فيحتاجان إلى تقدير، والجر أقرب، وتقديره: تكون ولاية اثنين في فتنة. وتقدير النصب: توقع الولاية اثنين في فتنة. والله أعلم.

وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة؛ لكونه وقع كما أخبر؛ فإنه ولي أمر هذه الأمة من بني العباس عدد كثير سبعة وثلاثون خليفة، منهم اثنان في فتنة عظيمة، وهما المأمون والمعتصم؛ فإنهما افتتنا بالقول بخلق القرآن ونفي الصفات عن الله عز وجل، وفتنا كثيرا من الناس بدعائهم إلى هذه المحنة، حتى أجابوا مكرهين، ومن امتنع من إجابتهم كالإمام أحمد وغيره عذبوه بأنواع العذاب؛ من حبس وضرب وإهانة، ثم سلك الواثق سبيلهما في الدعاء إلى هذه الفتنة الصماء والمحنة الشنعاء، وقتل بسببها أحمد بن نصر الخزاعي رحمه الله تعالى، وروي أن الواثق رجع في آخر عمره عن القول بخلق القرآن، ذكر ذلك الخطيب والآجري وأبو نعيم في حكاية عن المهتدي بالله ابن الواثق، فإن كان ذلك صحيحا فقد انحصرت الفتنة في المأمون والمعتصم، وإن لم يكن صحيحا؛ فليس في الخبر ما ينفي الزيادة عن الاثنين، ويكون الاقتصار عليهما لعظم ضررهما. والله أعلم.

وعن أبان بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط؛ قال: "قدم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما على معاوية رضي الله عنه وأنا حاضر، فأجازه، فأحسن جائزته، ثم قال: يا أبا العباس! هل لكم دولة؟ فقال: أعفني يا أمير المؤمنين! فقال: لتخبرني. قال: نعم. فأخبره. قال: فمن أنصاركم؟ قال: أهل خراسان ولبني أمية من بني هاشم بطحات".

رواه: يعقوب بن سفيان، والبيهقي.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: «"مررت بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا معه»

ص: 254

«جبريل، وأنا أظنه دحية الكلبي، فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه لوسخ الثياب وسيلبس ولده من بعده السواد» .

رواه البيهقي، وقال:"تفرد به حجاج بن تميم، وليس بالقوي".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس: «فيكم النبوة وفيكم الملك» .

رواه البيهقي، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن العامري، قال ابن كثير:"وهو ضعيف".

وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تكون الدنيا للكع بن لكع» . قال معمر: هو أبو مسلم الخراساني؛ يعني: الذي أقام دولة بني العباس.

قلت: هذا الحديث قد روي موصولا من حديث أبي هريرة وحذيفة وأم سلمة رضي الله عنهم، وسيأتي ذكر ذلك في أشراط الساعة إن شاء الله تعالى، ولعل مراد معمر أن أبا مسلم الخراساني ممن يشمله هذا الحديث، لا أنه المراد به وحده؛ فإن الحديث عام يدخل فيه أبو مسلم وغيره من اللئام الذين نالوا شهواتهم من حظوظ الدنيا وسعدوا بالرياسات والمناصب الزائلة.

وعن عبد الله بن المبارك: "أنه سئل عن أبي مسلم: أهو خير أم الحجاج؟ فقال: لا أقول: إن أبا مسام كان خيرا من أحد، ولكن كان الحجاج شرا منه، قد اتهمه بعضهم على الإسلام، ورموه بالزندقة، ولم أر فيما ذكروه عن أبي مسلم ما يدل على ذلك، بل على أنه كان ممن يخاف الله من ذنوبه، وقد ادعى التوبة فيما كان منه من سفك الدماء في إقامة الدولة العباسية، والله أعلم بأمره".

ص: 255

رواه البيهقي.

وذكر ابن جرير: "أن أبا مسلم قتل في حروبه وما كان يتعاطاه لأجل دولة بني العباس ستمائة ألف صبرا، زيادة عمن قتل بغير ذلك".

قلت: وهذا أكثر مما ذكر عن الحجاج؛ كما تقدم ذكر ذلك قريبا.

باب

انتزاع الملك من قريش بسبب المعصية

عن معاوية رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن هذا الأمر في قريش؛ لا يعاديهم أحد إلا كبه الله في النار على وجهه، ما أقاموا الدين» .

رواه: الإمام أحمد، والبخاري.

قال البيهقي: "أي: أقاموا معالمه، وإن قصروا هم في أعمال أنفسهم".

قلت: وفي تقييده صلى الله عليه وسلم بقاء ملك قريش بإقامة الدين دليل على أنهم إذا لم يقيموا الدين فإن الأمر يخرج عنهم إلى غيرهم، وهكذا وقع الأمر؛ كما هو معروف عند أهل العلم.

ويستفاد من هذا الحديث أن ملك ملوك المسلمين مرتبط بإقامة دين الإسلام، فمن أقامه ثبت ملكه، ومن ضيعه خرج الأمر من يده ولا بد.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في قريب من ثمانين رجلًا من قريش

(فذكر الحديث، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تشهد ثم قال:)«أما بعد! يا معشر قريش! فإنكم أهل هذا الأمر ما لم تعصوا الله، فإذا عصيتموه بعث إليكم من يلحاكم كما يلحى هذا القضيب»

ص: 256

« (لقضيب في يده، ثم لحا قضيبه؛ فإذا هو أبيض يصلد» ) ".

رواه الإمام أحمد، قال الهيثمي:"رجاله رجال الصحيح". ورواه أبو يعلى والطبراني في "الأوسط"، قال الهيثمي:"ورجال أبي يعلى ثقات ".

قال الجوهري: " (اللحاء) ممدود: قشر الشجر، ولحوت العصا ألحوها لحوا: إذا قشرتها". انتهى.

و (يصلد) : معناه: يبرق ويبص. قاله ابن الأثير وابن منظور في " لسان العرب ".

وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال هذا الأمر فيكم وأنتم ولاته ما لم تحدثوا أعمالا تنزعه منكم، فإذا فعلتم ذلك سلط الله عليكم شرار خلقه فالتحوكم كما يلتحى القضيب» .

رواه: الإمام أحمد، والطبراني، والحاكم وهذا لفظه.

قال الهيثمي: "ورجال أحمد رجال الصحيح؛ خلا القاسم بن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث، وهو ثقة ". وقال الحاكم: " صحيح الإسناد ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي في " تلخيصه ".

وعن عطاء بن يسار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش: «أنتم أولى الناس بهذا الأمر ما كنتم مع الحق، إلا أن تعدلوا عنه، فتلحون كما تلحى هذه الجريدة (يشير إلى جريدة في يده) » .

رواه الشافعي في " مسنده " وهو مرسل صحيح الإسناد.

وقد وقع الأمر طبق ما في هذه الأحاديث، فبعث الله على بني أمية لما عصوه من لحاهم وانتزع الأمر من أيديهم، وكذلك بنو العباس لما كثرت معاصيهم بعث الله عليهم من لحاهم، وانتزع الأمر من أيديهم، وكذلك وقع

ص: 257

لكثير سواهم من ولاة الأمور الذين عصوا الله ورسوله، فسلط الله عليهم من لحاهم، وانتزع الأمر من أيديهم.

ليعابر ولاة الأمور بمن خلا قبلهم من ولاة الأمور الذين سلبوا ملكهم، وبدلوا بالعز ذلا، وبالكرامة إهانة؛ جزاء على مخالفتهم لأوامر الله وارتكابهم لمحارمه.

وعن حذيفة رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن هذا الحي من مضر لا يدع عبدًا لله في الأرض صالحًا إلا فتنة وأهلكه، حتى يدركهم الله بعد بجنود من عنده أو من السماء، فيذلها حتى لا تمنع ذنب تلعة» .

رواه أبو داود الطيالسي، وإسناده صحيح على شرط "الشيخين"، ورواه الإمام أحمد في "مسنده" من طريق أبي داود الطيالسي، وإسناده على شرط مسلم.

وقد رواه ابن أبي شيبة، ولفظه: عن حذيفة رضي الله عنه: أنه قال: «لا تدع مضر عبدا لله مؤمنا؛ إلا فتنوه أو قتلوه، أو يضربهم الله والملائكة والمؤمنون حتى لا يمنعوا ذنب تلعة ". فقال له رجل: يا أبا عبد الله! تقول هذا وأنت رجل من مضر؟ ! قال: ألا أقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» ؟ !.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

رواه الإمام أحمد: قال الهيثمي: "وفيه مجالد بن سعيد، وثقه النسائي وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات".

قلت: والحديث قبله يشهد له ويقويه.

وقد وقع مصداق هذين الحديثين في بني أمية وبني العباس؛ كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.

ص: 258