الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاختلاف بسبب خطأ الراوي
الخطأ في رِوَايَة الثقات أمرٌ وارد، إِذْ لا يلزم من رِوَايَة الثقة أن تكون صواباً، إِذ الأصل فِيْهَا الصواب والخطأ طارئٌ محتمل، فالراوي الثقة مهما بلغ أعلى مراتب الضبط والإتقان فالخطأ في روايته يبقى أمراً محتملاً وليس بعيداً، والخطأ في حَدِيْث الثقة لا يتمكن من مَعْرِفَته إلا الأئمة الجامعون، وَقَدْ يطلع الجهبذ من أئمة الْحَدِيْث عَلَى حَدِيْث ما فيحكم عليه بخطأ راويه الثقة مع أن ظاهر الْحَدِيْث السلامة من هَذِهِ العلة القادحة، لَكِن العالم الفهم لا يحكم بِذَلِكَ عن هوى بَلْ يترجح لديه أن أحد الرُّوَاة قَدْ أخطأ في هَذَا الْحَدِيْث، وذلك للقرائن الَّتِيْ تحيط بالحديث، ومثل هَذِهِ الْمَعْرِفَة لا تتضح لكل أحد، بَلْ هِيَ لِمَنْ منحه الله فهماً دقيقاً واطلاعاً واسعاً وإدراكاً كبيراً ومعرفة بعلل الأسانيد ومتونها ومشكلاتها وغوامضها، ومعرفة واسعة بطرق الْحَدِيْث ومخارجه، وأحوال الرُّوَاة وصفاتهم.
وما دام إدراك الخطأ في حَدِيْث الثقة أمراً خفياً لا يتمكن مِنْهُ كُلّ أحد، ولا ينكشف لكل ناقد فإن بعضاً من أخطاء الثقات قَدْ ظن جَمَاعَة من القوم أنها صحيحة لظاهر ثقة رجالها واتصال إسنادها وظاهر خلوها من العلة، وَقَدْ أخذوا بتلك الأحاديث وعملوا بِهَا تحسيناً لظنهم بأولئك الرُّوَاة الثقات فحصل اختلاف بَيْنَ الأحاديث مِمَّا أدى إلى اختلاف في الفقه الإسلامي.
مثال ذَلِكَ: حَدِيْث وائل بن حجر في الجهر بآمين بَعْدَ قِرَاءة الفاتحة في الصلاة.
فَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيْث: سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل (1) ، عن حجر بن العنبس (2) ، عن وائل بن حجر، قَالَ: ((سَمِعْتُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قرأ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فَقَالَ: آمين ومد بِهَا صوته)) (3) .
وَقَدْ أخطأ الإمام الحافظ شعبة بن الحجاج، في هَذَا الْحَدِيْث فخالف سفيان في رِوَايَة هَذَا الْحَدِيْث إِذْ رَوَاهُ عن سلمة بن كهيل، عن حجر أبي العنبس، عن علقمة بن وائل، عن وائل، قَالَ:((صلى بنا رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأ: {غَيْر المغضوب عليهم ولا الضالين} قَالَ: آمين وأخفى بِهَا صوته)) (4)
(1) هُوَ سلمة بن كهيل الحضرمي، أبو يحيى الكوفي: ثقة. التقريب (2508) .
(2)
هُوَ حجر بن العنبس الحضرمي، أبو العنبس، ويقال: أبو السكن، الكوفي، ادرك الجاهلية، رَوَى عن علي بن أَبِي طالب، ووائل بن حجر قَالَ فيه يحيى بن معين: شيخ كوفي ثقة مشهور، وَقَالَ الْخَطِيْب: كَانَ ثقة احتج بِهِ غَيْر واحد من الأئمة. تهذيب الكمال 2/69، وذكره ابن حبان في الثقات 6/234، وَقَالَ الذهبي في الكاشف 1/314 (950) :((ثقة)) .
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (7960) ، وأحمد 4/315 و 317، والدارمي (1250) ، وأبو داود
(932)
، والترمذي (248)، وفي علله الكبير: 68 (98) ، والدارقطني 1/333 و 334، والطبراني في المعجم الكبير 22/ (111) ، والبيهقي 2/57، والبغوي (586) .
(4)
رَوَاهُ عن شعبة: سليمان بن حرب، وأبو الوليد الطيالسي عِنْدَ لحاكم 2/232، ووكيع بن الجراح عِنْدَ الطبراني في " الكبير " 22/ (112) .
واختلف عَلَى شعبة فِيْهِ.
فَقَدْ رَوَاهُ أبو داود الطيالسي (1024) – ومن طريقه البيهقي 2/57 – ويزيد بن زريع عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيّ 1/334، وأحمد بن جعفر عِنْدَ أحمد 4/316 ثلاثتهم عن شعبة، عن سلمة، عن حجر، عن علقمة، قَالَ: حدثنا وائل أو عن وائل، بِهِ.
ورواه أبو الوليد الطيالسي عِنْدَ الطبراني في " الكبير " 22/ (109) ، وحجاج بن نصير عِنْدَ الطبراني في
"الكبير" 22/ (110) كلاهما عن شعبة، عن سلمة، عن حجر، عن وائل، بِهِ. وَلَمْ يدخلوا فِيْهِ علقمة.
ورواه وهب بن جرير، وعبد الصمد بن عَبْد الوارث عِنْدَ ابن حبان (1805) كلاهما عن شعبة، عن سلمة، عن حجر أبي عنبس، عن علقمة، عن وائل، بِهِ. وَلَمْ يذكروا فِيْهِ:((إنه خفض صوته)) .
ورواه أبو الوليد الطيالسي عِنْدَ البيهقي 2/58، عن شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن حجر أبي عنبس، عن وائل، وذكر فِيْهِ:((أنه قال آمين رافعاً بِهَا صوته)) .
فعلى هَذَا يَكُوْن خطأ شعبة في الْمَتْن ظاهرٌ إِذْ إنه رجع إلى الصواب، وهذا معنى كلام البيهقي الَّذِيْ سنذكره بَعْدَ قليل. إن شاء الله.
فَقَدْ خالف شعبة سفيان في سند الْحَدِيْث:
عندما أضاف علقمة.
أبدل حجر بن عنبس بـ: (حجر أبو العنبس) .
خالفه في الْمَتْن فَقَالَ: ((خفض بِهَا صوته))
قَالَ الإمام الترمذي: ((سَمِعْتُ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيْل – البخاري – يقول:
((حَدِيْث سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل في هَذَا الباب أصح من حَدِيْث شعبة، وشعبة أخطأ في هَذَا الْحَدِيْث في مواضع، قَالَ: ((عن سلمة بن كهيل، عن حجر أبي العنبس، وإنما هُوَ حجر بن عنبس، عن وائل بن حجر، ليس فِيْهِ علقمة، وَقَالَ:
((وخفض بِهَا صوته)) وَالصَّحِيْح أنه جهر بِهَا)) وسألت أبا زرعة فَقَالَ: ((حَدِيْث سفيان أصح من حَدِيْث شعبة، وَقَدْ رَوَاهُ العلاء بن صالح (1)) ) (2) .
وَقَدْ عقّب الحافظ البيهقي عَلَى قَوْل هذين الجهبذين فَقَالَ: ((أما خطؤه في متنه فبين، وأما قوله: ((حجر أبو العنبس)) فكذلك ذكره مُحَمَّد بن كثير عن الثوري (3)
(1) هُوَ العلاء بن صالح التيمي العبدي، الأسدي الكوفي العطار: صدوق لَهُ أوهام.
تهذيب الكمال 5/524-525 (5161) ، والكاشف 2/104 (4334) ، والتقريب (5242) .
(2)
الجامع الكبير 1/289، والعلل الكبير: 68 (98) ، ورواية العلاء بن صالح ستأتي.
(3)
رِوَايَة مُحَمَّد بن كثير عن الثوري عِنْدَ أبي داود (932) ، والطبراني في " الكبير " 22/ (111) .
ويزاد على هَذَا أن رِوَايَة وكيع بن الجراح – وَهُوَ ثقة - التقريب (7414) -، والمحاربي: عَبْد الرحمان ابن مُحَمَّد بن زياد، وَهُوَ ثقة – تهذيب الكمال 4/466 -، روياه عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيّ 1/333 عن سفيان الثوري، عن سلمة، عن حجر أبي عنبس، بِهِ لذا نجد المزي صدّر الترجمة بقوله:((حجر بن العنبس الحضرمي، أبو العنبس)) ، تهذيب الكمال 2/69 (1120) .
، وأما قوله: عن علقمة فَقَدْ بين في روايته أن حجراً سمعه من علقمة، وَقَدْ سمعه أَيْضاً من وائل نفسه (1) ، وَقَدْ رَوَاهُ أبو الوليد الطيالسي عن شعبة نحو رِوَايَة الثوري)) (2) .
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ((كَذَا قَالَ شعبة وأخفى بِهَا صوته، ويقال: إنه وهم فِيْهِ؛ ولأن سفيان الثوري ومحمد بن سلمة بن كهيل، وغيرهما رووه عن سلمة، فقالوا: ورفع
صوته بآمين، وَهُوَ الصواب)) (3) .
والذي يهمنا في مجال بحثنا هُوَ خطأ الإمام شعبة بقوله: ((أخفى بِهَا صوته)) ، والمرجح هنا هُوَ رِوَايَة سفيان، وعند الاختلاف من غَيْر مرجحات فرواية سفيان أقوى من رِوَايَة شعبة؛ إِذْ قَالَ شعبة نفسه:((سُفْيَان أحفظ مني)) ، وَقَالَ لَهُ رجل: وخالفك سُفْيَان قَالَ: ((دمغتني)) ، وَقَالَ يحيى بن سعيد القطان:((ليس أحدٌ أحب إليّ من شعبة، ولا يعدله عندي، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان)) (4) . وَقَالَ البيهقي: ((لا أعلم اختلافاً بَيْنَ أهل العلم بالحديث أن سفيان وشعبة إذا اختلفا فالقول قَوْل سفيان)) (5) .
وَقَدْ احتج ابن قيم الجوزية (6) بترجيح رِوَايَة سفيان بخمس حجج:
الأولى: قَوْل العلماء السابق في ترجيح رِوَايَة سفيان.
الثانية: متابعة العلاء بن صالح (7)
(1) كَمَا بينا – فِيْمَا سبق – في تخريج حَدِيْث شعبة فبعض الرُّوَاة رووا الْحَدِيْث عن حجر، عن علقمة، عن وائل، أو عن وائل فيشبه أن يَكُوْن حجر قَدْ سمعه من علقمة، ومن أبيه وائل أَيْضاً.
(2)
السنن الكبرى، للبيهقي 2/58.
(3)
سنن الدَّارَقُطْنِيّ 1/334.
(4)
انظر: تهذيب الكمال 3/220.
(5)
انظر: اعلام الموقعين 2/377-378.
(6)
انظر: اعلام الموقعين 2/377-378.
(7)
وَهِيَ عِنْدَ أبي داود (933) ، والترمذي (249) ، والطبراني في الكبير 22/ (114) .
تنبيه: وقع في رِوَايَة أبي داود: ((علي بن صالح)) قَالَ الإمام المزي: ((إن أبا داود سماه في روايته، علي ابن صالح، وَهُوَ وهم)) . تهذيب الكمال 5/525. وانظر: تحفة الأشراف 8/327، وتهذيب التهذيب 8/184، وبذل المجهود 5/233.
، ومحمد بن سلمة بن كهيل (1) لسفيان في روايتيهما عن سلمة بن كهيل (2) .
الثالث: هُوَ أن أبا الوليد الطيالسي رَوَى عن شعبة في الْمَتْن بنحو حَدِيْث الثوري، إذن فَقَد اختلف عَلَى شعبة في روايته فَقَالَ البيهقي:((فيحتمل أن يَكُوْن تنبه لِذَلِكَ فعاد إلى الصواب في متنه، وترك ذكر ذَلِكَ عن علقمة في إسناده)) .
الرابع: هُوَ أن رِوَايَة الرفع متضمنة لزيادة، وكانت هَذِهِ الزيادة أولى بالقبول.
الخامس: هِيَ أن هَذِهِ الرِّوَايَة موافقة ومفسرة لحديث أبي هُرَيْرَة: ((إذا أمن الإمام
فأمنوا)) (3) .
ثُمَّ إن الْحَدِيْث ورد من طريق علقمة بن وائل (4) ، وعبد الجبار بن وائل (5) ، وكليب بن شهاب (6) ؛ ثلاثتهم رووه عن وائل بن حجر بنحو رِوَايَة سُفْيَان، وهذا كله يدل عَلَى أن شعبة قَدْ أخطأ في هَذَا الْحَدِيْث.
(1) ذكر هَذِهِ المتابعة الدَّارَقُطْنِيّ 1/334، والبيهقي 2/57، وَلَمْ نقف عَلَيْهَا مسندة.
(2)
قَالَ الحافظ ابن حجر في " التلخيص الحبير " 1/253: ((وَقَدْ رجحت رِوَايَة سفيان بمتابعة اثنين لَهُ بخلاف شعبة؛ فلذلك جزم النقاد بأن روايته أصح، والله أعلم)) .
(3)
سيأتي تخريجه – إن شاء الله – عِنْدَ عرض المسألة الفقهية.
(4)
عِنْدَ أحمد 4/318، والبيهقي 2/58 من طريق أبي إسحاق، عن علقمة، بِهِ.
(5)
عِنْدَ ابن أبي شيبة (7959) ، وأحمد 4/315، وابن ماجه (855) ، والدارقطني 1/334 و 335، والطبراني في الكبير 22/ (30) و (31) و (32) و (34) و (35) و (36) و (37) و (38) و (39) و (40) ، والبيهقي 2/58.
(6)
عِنْدَ أحمد 4/318.