المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الباب السادس: القول في الإنشاء أقسام الإنشاء: الإنشاء ضربان: طلب، وغير - بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة - جـ ٢

[عبد المتعال الصعيدي]

الفصل: ‌ ‌الباب السادس: القول في الإنشاء أقسام الإنشاء: الإنشاء ضربان: طلب، وغير

‌الباب السادس: القول في الإنشاء

أقسام الإنشاء: الإنشاء ضربان: طلب، وغير طلب.

الطلب يستدعي مطلوبا غير حاصل وقت الطلب؛ لامتناع تحصيل الحاصل1، وهو المقصود بالنظر ههنا2، وأنواعه كثيرة.

‌أنواع الطلب:

التمني: منها التمني3، واللفظ الموضوع له "ليت"، ولا يشترط في التمني

ص: 249

الإمكان، تقول:"ليت زيدا يجيء، وليت الشباب يعود". قال الشاعر "من الرجز":

يا ليت أيام الصِّبَا رواجعا1

وقد يُتمنى بـ "هل"2؛ كقول القائل: "هل لي من شفيع" في مكان يعلم أنه لا شفيع له فيه3 لإبراز المتمنى -لكمال العناية به- في صورة الممكن4، وعليه قوله تعالى، حكاية عن الكفار:{فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} [الأعراف: 53] . وقد يتمنى بـ "لو"5 كقولك: "لو تأتيني فتحدثَني" بالنصب6.

قال السكاكي7: وكأن حروف التنديم والتحضيض: هَلَّا، وألّا بقلب الهاء همزة، و"لولا، ولوما" مأخوذة منهما8 مركبتين مع "لا" و"ما" المزيدتين؛ لتضمينهما معنى التمني9؛ ليتولد منه في الماضي التنديم، نحو:"هلا أكرمت زيدا"

ص: 250

وفي المضارع التحضيض، نحو:"هلا تقوم".

وقد يتمنى بـ "لعل" فتعطَى حكم ليت1، نحو:"لعلي أحج فأزورك" بالنصب؛ لبعد المرجو عن الحصول2، وعليه قراءة عاصم في رواية حفص:{لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 36، 37] .

ومنها الاستفهام3.

والألفاظ الموضوعة له: "الهمزة"، و"هل"، و"ما"، و"من"، و"أي"، و"كم"، و"كيف"، و"أين"، و"أنى"، و"متى"، و"أيّان".

فالهمزة لطلب التصديق4، كقولك:"أقام زيد؟ وأزيد قائم؟ " أو التصور5: كقولك: "أدِبْس في الإناء أم عَسَل؟ " أو: "أفي الخابية دبسك أم في الزق؟ " ولهذا لم

ص: 251

يقبح: "أزيد قائم؟ " و"أعمرًا عرفت؟ "1.

المسئول عنه بها هو ما يليها، فتقول:"أضربت زيدا؟ " إذا كان الشك في الفعل نفسه وأردتَ بالاستفهام أن تعلم وجوده2، وتقول:"أأنت ضربت زيدا؟ " إذا كان الشك في الفاعل من هو؟ وتقول: "أزيدا ضربت؟ " إذا كان الشك في المفعول من هو؟ 3.

و"هل": لطلب التصديق فحسب، كقولك:"هل قام زيد؟ وهل عمرو قاعد؟ "؛ ولهذا امتنع: "هل زيد قام أم عمرو؟ "4 وقبُح: "هل زيدا صربتَ؟ "؛ لما سبق أن

ص: 252

التقديم يستدعي حصول التصديق بنفس الفعل والشك فيما قُدِّم عليه1، ولم يقبح:"هل زيدا ضربته؟ "؛ لجواز تقدير المحذوف المفسّر مقدما كما مر، وجعل السكاكي2 قبح نحو:"هل رجل عرف؟ " لذلك، أي: لما قبح له: "هل زيدا ضربت؟ "، ويلزمه ألا يقبح نحو:"هل زيد عرف؟ "؛ لامتناع تقدير التقديم والتأخير فيه عنده على ما سبق3. وعلل غيره4 القبح فيهما بأن أصل "هل" أن تكون بمعنى "قد"، إلا أنهم تركوا الهمزة قبلها لكثرة وقوعها في الاستفهام.

و"هل" تخصص المضارع بالاستقبال، فلا يصح أن يقال:"هل تضرب زيدا وهو أخوك؟ "5، كما تقول:"أتضرب زيدا وهو أخوك؟ "، ولهذين6 -أعني اختصاصها بالتصديق وتخصيصها المضارع بالاستقبال- كان لها مزيد اختصاص بما كونه زمانيا أظهر؛ كالفعل7، أما الثاني8 فظاهر، وأما الأول9 فلأن الفعل لا يكون إلا صفة، والتصديق حكم بالثبوت أو الانتفاء، والنفي والإثبات إنما

ص: 253

يتوجهان إلى الصفات لا الذوات؛ ولهذا1 كان قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80] أدل على طلب الشكر من قولنا: "فهل تشكرون؟ "، وقولنا:"فهل أنتم تشكرون؟ "2؛ لأن إبراز ما سيتجدد في معرض الثابت أدل على كمال العناية بحصوله من إبقائه على أصله3، وكذا من قولنا:"أفأنتم شاكرون؟ " وإن كانت صيغته للثبوت؛ لأن "هل" أدعى للفعل من الهمزة، فتركه معها أدل على كمال العناية بحصوله؛ ولهذا لا يحسن:"هل زيد منطلق؟ " إلا من البليغ4.

وهي قسمان: بسيطة، وهي التي يُطلب بها وجود الشيء؛ كقولنا:"هل الحركة موجودة؟ " ومركبة، وهي التي يُطلب بها وجود شيء لشيء، كقولنا:"هل الحركة دائمة؟ "5.

ص: 254

والألفاظ الباقية لطلب التصور فقط1.

أما "ما" فقيل: يطلب به إما شرح الاسم2، كقولنا:"ما العنقاء؟ "، وإما ماهية المسمى؛ كقولنا:"ما الحركة؟ ". والقسم الأول يتقدم على قسمَيْ "هل" جميعا، والثاني يتقدم على "هل" المركبة دون البسيطة؛ فالبسيطة في الترتيب واقعة بين قسمي "ما"3.

وقال السكاكي4: يسأل بـ "ما" عن الجنس5؛ تقول: "ما عندك؟ " أي: أي أجناس الأشياء عندك6؟ وجوابه: إنسان، أو فرس، أو كتاب، أو نحو ذلك. كذلك تقول:"ما الكلمة؟ وما الكلام؟ "، وفي التنزيل:{فَمَا خَطْبُكُمْ} [الحجر: 57]، أيْ: أيّ أجناس الخطوب خطبكم؟، وفيه:{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة: 133] أي: أي من في الوجود تُؤْثرونه للعبادة؟ أو عن الوصف7؛ تقول: ما زيد؟ وما عمرو؟

ص: 255

وجوابه: الكريم أو الفاضل، ونحوهما1. وسؤال فرعون:{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] 2 إما عن الجنس؛ لاعتقاده لجهله بالله تعالى أن لا موجود مستقلا بنفسه سوى الأجسام، كأنه قال: أي أجناس الأجسام هو؟ وعلى هذا جواب موسى عليه السلام بالوصف3؛ للتنبيه على النظر المؤدي إلى معرفته، لكن لما لم يطابق السؤال عند فرعون عجّب الجَهَلَة الذين حوله من قول موسى بقوله لهم:{أَلَا تَسْتَمِعُونَ} ثم لما وجده مصرا على الجواب بالوصف إذ قال في المرة الثانية: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} استهزأ به وجنّنه بقوله: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} ، وحين رآهم موسى عليه السلام لم يفطنوا لذلك في المرتين، غلّظ عليهم في الثالثة بقوله:{إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} . وإما عن الوصف4 طمعا في أن يسلك موسى عليه السلام في الجواب معه مسلك الحاضرين5، ولو كانوا هم المسئولين مكانه؛ لشهرته بينهم برب العالمين إلى درجة دعت السحرة إذ عرفوا الحق أن عقّبوا قولهم:{آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 47] بقولهم: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} نفيا لاتهامهم أنهم عنوه، ولجهله6 بحال موسى إذ لم يكن جمعهما

ص: 256

قبل ذلك مجلس، بدليل1:{أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ، قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 30، 31] فحين سمع الجواب تعداه، عجّب، واستهزأ، وجنَّن، وتفيهق بما تفيهق من قوله:{لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] .

وأما "مَنْ" فقال السكاكي2: هو للسؤال عن الجنس من ذوي العلم3، تقول:"من جبريل؟ بمعنى: أبشر هو أم ملك أم جني؟ " وكذا: "من إبليس؟ ومن فلان؟ " ومنه قوله تعالى حكاية عن فرعون: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه: 49] أي: أملك هو أم بشر أم جني؟ منكِرا لأن يكون لهما رب سواه؛ لادعائه الربوبية لنفسه، ذاهبا في سؤاله هذا إلى معنى:"ألكما رب سواي؟ " فأجاب موسى عليه السلام بقوله: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] كأنه قال: نعم، لنا رب سواك هو الصانع الذي إذا سلكت الطريق الذي بيّن بإيجاده لما أوجد، وتقديره إياه على ما قدره، واتبعت فيه الخِرِّيت الماهر، وهو العقل الهادي عن الضلال؛ لزمك الاعتراف بكونه ربا، وأن لا رب سواه، وأن العبادة له مني ومنك ومن الخلق أجمع حق لا مَدْفَع له.

وقيل: هو للسؤال عن العارض المشخِّص لذي العلم4، وهذا أظهر؛ لأنه إذا

ص: 257

قيل: "من فلان؟ " يجاب بـ "زيد" ونحوه، مما يفيد التشخيص، ولا نسلم صحة الجواب بنحو:"بشر أو جني" كما زعم السكاكي1.

أما "أي" فللسؤال عما يميز أحد المتشاركين في أمر يعمهما2، يقول القائل:"عندي ثياب" فتقول: "أي الثياب هي؟ " فتطلب منه وصفا يميزها عندك عما يشاركها في الثوبية، وفي التنزيل:{أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا} [مريم: 73] أي: أنحن أم أصحاب محمد عليه السلام؟ 3.

وفيه: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38] أي: الإنسي أم الجني؟

وأما "كم" فللسؤال عن العدد، فإذا قلت:"كم درهما لك؟ وكم رجلا رأيت؟ " فكأنك قلت: "أعشرون أم ثلاثون أم كذا أم كذا؟ " وتقول: "كم درهمك؟ وكم مالك؟ أي: كم دانقا4 أو كم دينارا؟ وكم ثوبك؟ أي: كم شبرا أو كم ذراعا؟ وكم زيد ماكث؟ أي: كم يوما أو كم شهرا؟ وكم رأيتك؟ أي: كم مرة؟ وكم سرت؟ أي: كم فرسخا؟ أو كم يوما؟ قال الله تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19] أي: كم يوما؟ أو كم ساعة؟ وقال: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ}

ص: 258

[المؤمنون: 112]، وقال:{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} [البقرة: 211] .

ومنه قول الفرزدق "من الكامل":

كم عمة لك يا جرير وخالة

فَدْعَاء قد حلبت علي عِشارى1

فيمن روى بالنصب، وعلى رواية الرفع تحتمل الاستفهامية والخبرية2.

وأما "كيف" فللسؤال عن الحال، إذا قيل:"كيف زيد؟ " فجوابه: صحيح، أو سقيم، أو مشغول، أو فارغ، ونحو ذلك.

وأما "أين" فللسؤال عن المكان، إذا قيل:"أين زيد؟ " فجوابه: في الدار، أو في المسجد، أو في السوق، ونحو ذلك.

وأما "أنَّى" فتستعمل تارة بمعنى "كيف" قال الله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] أي: كيف شئتم، وأخرى بمعنى:"من أين"3 قال الله تعالى: {أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37] أي: من أين لك هذا؟

وأما "متى، وأيّان" فللسؤال عن الزمان، إذا قيل:"متى جئت؟ " أو "أيان جئت؟ " قيل: يوم الجمعة، أو يوم الخميس، أو شهر كذا، أو سنة كذا. وعن علي بن عيسى الربعي: أن "أيان" تستعمل في مواضع التفخيم4؛ كقوله تعالى: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 6]، وقال تعالى:{يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [الذاريات: 12] .

ثم هذه الألفاظ كثيرا ما تستعمل في معانٍ غير الاستفهام بحسب ما يناسب

ص: 259

المقام1؛ منها الاستبطاء2 نحو: "كم دعوتك؟ " وعليه قوله تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214] .

ومنها التعجب3 نحو قوله: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20] .

ومنها التنبيه على الضلال4 نحو: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26] .

ومنها الوعيد5؛ كقولك لمن يسيء الأدب: "ألم أؤدب فلانا؟ " إذا كان عالما بذلك، وعليه قوله تعالى:{أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} [المرسلات: 16] .

ومنها الأمر6 نحو قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 14]، ونحو: {فَهَلْ

ص: 260

مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 15] .

ومنها التقرير1: ويُشترط في الهمزة أن يليها المقرَّر به2 كقولك: أفعلتَ؟ إذا أردتَ أن تقرره بأن الفعل كان منه، وكقولك:"أأنت فعلت؟ " إذا أردت أن تقرره بأنه الفاعل. وذهب الشيخ عبد القاهر والسكاكي3 وغيرهما إلى أن قوله: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 62] من هذا الضرب. قال الشيخ4: لم يقولوا ذلك له عليه السلام وهم يريدون أن يُقر لهم بأن كسر الأصنام قد كان، ولكن أن يقر بأنه منه كان، وكيف وقد أشاروا له إلى الفعل في قولهم:{أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا} وقال عليه السلام: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ولو كان التقرير بالفعل في قولهم: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ} لكان الجواب: "فعلتُ أو لم أفعل"5.

وفيه نظر؛ لجواز أن تكون الهمزة فيه على أصلها6؛ إذ ليس في السياق ما يدل على أنهم كانوا عالمين بأنه عليه السلام هو الذي كسر الأصنام، وكقولك:"أزيدا ضربتَ؟ " إذا أردت أن تقرره بأن مضروبه زيد.

ص: 261

ومنها الإنكار1: إما للتوبيخ، بمعنى: ما كان ينبغي أن يكون2 نحو: "أعصيتَ ربك؟ " أو بمعنى: لا ينبغي أن يكون3؛ كقولك للرجل يضيع الحق: "أتنسى قديم إحسان فلان؟ " وكقولك هذا للرجل يركب الخَطَر: أتخرج في هذا الوقت؟ أتذهب في غير الطريق؟ والغرض بذلك تنبيه السامع حتى يرجع إلى نفسه فيخجل أو يرتدع عن فعل ما همّ به.

وإما للتكذيب بمعنى: "لم يكن" كقوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا} [الإسراء: 40] وقوله: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات: 153]، أو بمعنى: لا يكون؛ نحو: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28]، وعليه قول امرئ القيس "من الطويل":

أيقتلني والمشرفي مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟ 4

فيمن روى "أيقتلني؟ "5 بالاستفهام. وقول الآخر "من الطويل":

أأترك أن قلّت دراهم خالد

زيارته؟ إني إذن للئيم6

والإنكار كالتقرير يشترط "فيه" أن يلي المنكر الهمزة، كقوله تعالى:{أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} [الأنعام: 40]، {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} [الأنعام: 14] ، {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ}

ص: 262

[القمر: 24]، وكقوله تعالى:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 31، 32]، أي: ليسوا هم المتخيرين للنبوة من يصلح لها، المتولين لقسم رحمة الله التي لا يتولاها إلا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته. وعد الزمخشري قوله:{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] وقوله: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} [الزخرف: 40] من هذا الضرب، على أن المعنى: أفأنت تقدر على إكراههم على الإيمان؟ أو أفأنت تقدر على هدايتهم؟ على سبيل القصر والإلجاء؛ أي: إنما يقدر على ذلك اللهُ لا أنت. وحمل السكاكي1 تقديم الاسم في هذه الآيات الثلاث2 على البناء على الابتداء، دون تقدير التقديم والتأخير؛ كما مر3 في نحو:"أنا ضربت" فلا يفيد إلا تقوِّي الإنكار4.

ومن مجيء الهمزة للإنكار نحو قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]، وقول جرير "من "الوافر":

ألستم خير من رَكِب المطايا

وأندى العالمين بطون راح5

أي: الله كافٍ عبده، وأنتم خير من ركب المطايا؛ لأن نفي النفي إثبات، وهذا مراد من قال: إن الهمزة فيه للتقرير، أي: للتقرير بما دخله النفي، لا للتقرير

ص: 263

بالانتفاء1. وإنكار الفعل مختص بصورة أخرى2، وهي نحو قولك: "أزيدا ضربتَ أم عمرا؟ " لمن يدعي أنه ضرب إما زيدا وإما عمرا دون غيرهما؛ لأنه إذا لم يتعلق الفعل بأحدهما، والتقدير أنه لم يتعلق بغيرهما؛ فقد انتفى من أصله لا محالة، وعليه قوله تعالى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 143] أخرج اللفظ مخرجه؛ إذ كان قد ثبت تحريم في أحد الأشياء ثم أريد معرفة عين المحرَّم، مع أن المراد إنكار التحريم من أصله. وكذا قوله: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59] إذ معلوم أن المعنى على إنكار أن يكون قد كان من الله تعالى إذن فيما قالوه، من غير أن يكون هذا الإذن قد كان من غير الله فأضافوه إلى الله، إلا أن اللفظ أُخرِج مُخْرَجَه إذا كان الأمر كذلك؛ ليكون أشد لنفي ذلك وإبطاله، فإنه إذا نُفِي الفعل عما جُعل فاعلا له في الكلام، ولا فاعل له غيره، لزم نفيه من أصله.

قال السكاكي رحمه الله3: "وإياك أن يزول عن خاطرك التفصيل الذي سبق4 في نحو: أنا ضربت، وأنت ضربت، وهو ضرب من احتمال الابتداء، واحتمال التقديم، وتفاوت المعنى في الوجهين، فلا تحملْ نحو قوله تعالى: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59] على التقديم، فليس المراد أن الإذن يُنْكَر من الله دون غيره5، ولكن احملْه على الابتداء مرادا منه تقوية حكم الإنكار".

ص: 264

وفيه نظر؛ لأنه إن أراد أن نحو هذا التركيب -أعني ما يكون الاسم الذي يلي الهمزة فيه مُظهَرا- لا يفيد توجه الإنكار إلى كونه فاعلا للفعل الذي بعده؛ فهو ممنوع1، وإن أراد أنه يفيد ذلك إن قدر تقديم وتأخير، وإلا فلا -على ما ذهب إليه فيما سبق- فهذه الصورة مما منع هو ذلك فيه على ما تقدم2.

لا يقال: قد يلي الهمزةَ غيرُ المنكر في غير ما ذكرتم، كما في قوله "من الطويل":

أيقتلني والمشرفي مضاجعي3؟!

فإن معناه أنه ليس بالذي يجيء منه أن يقتل مثلي4 بدليل قوله:

يغط غطيط البكر شُدّ خناقه

ليقتلني والمرء ليس بقتّال5

لأنا نقول: ليس ذلك معناه؛ لأنه قال: "والمشرفي مضاجعي" فذكر ما يكون منعا من الفعل، والمنع إنما يحتاج إليه مع من يُتصور صدور الفعل منه دون من يكون في نفسه عاجزا عنه.

ومنها التهكم6 نحو: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا

ص: 265

مَا نَشَاءُ} [هود: 87] .

ومنها التحقير1 كقولك: من هذا؟ وما هذا؟

ومنها التهويل2 كقراءة ابن عباس رضي الله عنهما: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ، مِنْ فِرْعَوْنَ} [الدخان: 30، 31] بلفظ الاستفهام، لما وصف الله تعالى العذاب بأنه مُهين لشدته وفظاعة شأنه، أراد أن يصور كُنْهه فقال:{مِنْ فِرْعَوْنَ} أي: أتعرفون من هو في فرط عتوه وتجبره؟ ما ظنكم بعذاب يكون هو المعذَّب به؟ ثم عرّف حاله بقوله: {إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} .

ومنها الاستبعاد3 نحو: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان: 13، 14] .

ومنها التوبيخ والتعجيب جميعا4؛ كقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ

ص: 266

أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28] أي: كيف تكفرون، والحال أنكم عالمون بهذه القصة؟ وأما التوبيخ؛ فلأن الكفر مع هذه الحال يُنبئ عن الانهماك في الغفلة أو الجهل. وأما التعجيب؛ فلأن هذه الحال تأبى ألا يكون للعاقل علم بالصانع، وعلمه به يأبى أن يكفر، وصدور الفعل مع الصارف القويّ مظنة تعجب، ونظيره:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] .

ص: 267