الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر الخاص بعد العام:
وإما بذكر الخاص بعد العام1؛ للتنبيه على فضله حتى كأنه ليس من جنسه؛ تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات؛ كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]، وقوله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]، وقوله:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] .
التكرير: وإما بالتكرير، لنكتة؛ كتأكيد الإنذار في قوله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ
تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 3، 4] وفي "ثم" دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ وأشد1. وكزيادة التنبيه على ما ينفي التهمة؛ ليكمل تلقي الكلام بالقبول، كما في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} [غافر: 38، 39] . وقد يكرر اللفظ لطول في الكلام؛ كما في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 119]، وفي قوله تعالى:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110] . وقد يكرر لتعدد المتعلَّق؛ كما كرره الله تعالى من2 قوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] ؛ لأنه تعالى ذكر نعمة بعد نعمة وعقب كل نعمة بهذا القول3، ومعلوم أن الغرض من ذكره عقيب نعمة غير الغرض من ذكره عقيب نعمة أخرى. فإن قيل: قد عقّب بهذا القول ما ليس بنعمة، كما في قوله:{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ} [الرحمن: 35]، وقوله:{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ، يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 43، 44] ؟! قلنا: العذاب وجهنم وإن لم يكونا من آلاء الله تعالى، فإن ذكرهما ووصفهما -على طريق الزجر عن المعاصي والترغيب في الطاعات- من
آلائه تعالى1. ونحوه قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15] ؛ لأنه تعالى ذكر قصصا مختلفة، وأتبع كل قصة بهذا القول، فصار كأنه قال عقب كل قصة: ويل يومئذ للمكذبين بهذه القصة.
والإيغال: وإما بالإيغال، واختلف في معناه، فقيل: هو ختم البيت بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها؛ كزيادة المبالغة في قول الخنساء "من البسيط":
وإن صخرا لتأتمّ الهداة به
…
كأنه عَلَم في رأسه نار2
لم ترض أن تشبهه بالعلم الذي هو الجبل المرتفع المعروف بالهداية حتى جعلت في رأسه نارا3، وقول ذي الرمة "من الطويل":
قف العيس في أطلال مية واسأل
…
رسوما كأخلاق الرداء المسلسل4
أظن الذي يجدي عليك سؤالها
…
دموعا كتبذير الجمان المفصل5
وكتحقيق التشبيه1 في قول امرئ القيس "من الطويل":
كأن عيون الوحش حول خبائنا
…
وأرحلنا الجَزْع الذي لم يثقب2
فإنه لما أتى على التشبيه قبل ذكر القافية، واحتاج إليها، جاء بزيادة حسنة في قوله:"لم يثقب"؛ لأن الجزع إذا كان غير مثقوب كان أشبه بالعيون. ومثله قول زهير "من الطويل":
كأن فُتَات العِهْن في كل منزل
…
نزلت به حَبّ الفَنا لم يحطم3
فإن حب الفنا أحمر الظاهر أبيض الباطن، فهو لا يشبه الصوف الأحمر إلا ما لم يحطم. وكذا قول امرئ القيس "من الطويل":
حملت رُدَينيا كأن سنانه
…
سنا لهب لم يتصل بدخان4
كما سيأتي5.
وقيل: لا يختص بالنظم، ومثل له بقوله تعالى:{اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 6 [يس: 21] .
التذييل: وإما بالتذييل؛ وهو تعقيب الجملة بجملة تشتمل على معناها1 للتوكيد2؛ وهو ضربان:
ضرب لا يُخرَج مُخْرَج المثل لعدم استقلاله بإفادة المراد وتوقفه على ما قبله؛ كقوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 17] إن قلنا: إن المعنى: وهل نجازي ذلك الجزاء3؟ وقال الزمخشري: وفيه وجه آخر، وهو أن الجزاء عام لكل مكافأة، ويستعمل تارة في معنى المعاقبة، وأخرى في معنى الإثابة، فلما استعمل في معنى المعاقبة في قوله:{جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} بمعنى عاقبناهم بكفرهم قيل: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} بمعنى: وهل نعاقب4؟ فعلى هذا يكون من الضرب الثاني5.
وقول الحماسي "من الكامل":
فدعوا: نَزَالِ، فكنت أول نازل
…
وعلام أركبه إذا لم أنزل؟! 6
وقول أبي الطيب "من الطويل":
وما حاجة الأظعان حولك في الدجى
…
إلى قمر ما واجد لك عادمه1
وقوله أيضا "من البسيط":
تمسي الأمانِيّ صرعى دون مبلغه
…
فما يقول لشيء: ليت ذلك لي2
وقول ابن نباتة السعدي "من البسيط":
لم يُبق جودك لي شيئا أؤمّله
…
تركتني أصحب الدنيا بلا أمل3
قيل: نظر فيه إلى قول أبي الطيب، وقد أربى عليه في المدح والأدب مع الممدوح؛ حيث لم يجعله في حيز من تمنى شيئا4.
وضرب يخرج مخرج المثل؛ كقوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] . وقول الذبياني "من الطويل":
ولست بمستبق أخا لا تلمه
…
على شَعَث، أي الرجال المهذب؟! 5
وقول الحطيئة "من الطويل":
تزور فتى يعطي على الحمد ماله
…
ومن يعط أثمان المكارم يُحمَد1
وقد اجتمع الضربان في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 34، 35]، فإن قوله:{أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} من الأول، وما بعده2 من الثاني، وكل منهما تذييل على ما قبله.
وهو أيضا إما لتأكيد منطوق كلام3؛ كقوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ} الآية [الإسراء: 81] .
وإما لتأكيد مفهومه4؛ كبيت النابغة5؛ فإن صدره دل بمفهومه على نفي الكامل من الرجال، فحقق ذلك وقرره بعجُزِه.
التكميل: وإما بالتكميل، ويسمى الاحتراس أيضا، وهو أن يؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه، وهو ضربان:
ضرب يتوسط الكلام؛ كقول طرفة "من الكامل":
فسقى دياركِ -غير مفسدها
…
صوب الربيع ودِيمة تَهْمِي1
وقول الآخر "من الكامل":
لو أن عزة خاصمت شمس الضحا
…
في الحسن عند موفق لقضى لها2
إذ التقدير: "عند حاكم موفق"؛ فقوله: "موفق" تكميل3.
وقول ابن المعتز "من الطويل":
صببنا عليها ظالمين سياطنا
…
فطارت بها أيد سراع وأرجل4
وضرب يقع في آخر الكلام، كقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] فإنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة على المؤمنين لتُوُهم أن ذلتهم لضعفهم، فلما قيل:{أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} علم أنها منهم تواضع لهم؛ ولذا عدي "الذل" بـ "على"1 لتضمينه معنى العطف، كأنه قيل: عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع، ويجوز أن تكون التعدية بـ "على"؛ لأن المعنى أنهم -مع شرفهم وعلوّ طبقتهم وفضلهم على المؤمنين- خافضون لهم أجنحتهم2.
ومنه قول ابن الرومي فيما كتب به إلى صديق له: "إني وليك الذي لا يزال تنقاد إليك مودته عن غير طمع ولا جزع، وإن كنتَ لذي الرغبة مطلبا، ولذي الرهبة مهربا".
وكذا قول الحماسي "من الطويل":
رهنت يدي بالعجز عن شكر بره
…
وما فوق شكري للشكور مزيد3
وكذا قول كعب بن سعد الغنوي "من الطويل":
حليم إذا ما الحلم زين أهله
…
مع الحلم في عين العدو مَهيب4
فإنه لو اقتصر على وصفه بالحلم، لأوهم أن حلمه عن عجز؛ فلم يكن صفة مدح، فقال:"إذا ما الحلم زين أهله" فأزال هذا الوهم، وأما بقية البيت فتأكيد للازم ما يُفهَم من قوله:"إذا ما الحلم زين أهله" من كونه غير حليم حين لا يكون الحلم زينا لأهله؛ فإن من لا يكون حليما حين لا يحسن الحلم لأهله يكون مهيبا في عين العدو لا محالة، فعلم أن بقية البيت ليست تكميلا كما زعم بعض الناس1.
ومنه قول الحماسي "من الطويل":
وما مات منا سيد في فراشه
…
ولا طُلّ منا حيث كان قتيل2
فإنه لو اقتصر على وصف قومه بشمول القتل إياهم؛ لأوهم أن ذلك لضعفهم وقلتهم، فأزال هذا الوهم بوصفهم بالانتصار من قاتلهم.
وكذا قول أبي الطيب "من الوافر":
أشد من الرياح الهُوج بطشا
…
وأسرع في الندى منها هبوبا3
فإنه لو اقتصر على وصفه بشدة البطش، لأوهم ذلك أنه عنف كله، ولا لطف
عنده، فأزال هذا الوهم بوصفه بالسماحة، ولم يتجاوز في ذلك كله صفة الريح التي شبّهه بها، وقوله:"إنه أسرع في الندى منها هبوبا"؛ كأنه من قول ابن عباس رضي الله عنهما: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان؛ كان كالريح المرسَلَة"1.
التتميم: وإما بالتتميم، وهو أن يؤتى في كلام لا يوهم خلاف المقصود بفضلة تفيد نكتة2؛ كالمبالغة في قوله تعالى:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] أي: مع حبه، والضمير للطعام أي: مع اشتهائه والحاجة إليه، ونحوه:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177]، وكذا:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وعن فضيل بن عياض:"على حب الله"3؛ فلا يكون مما نحن فيه4.
وفي قول الشاعر "من المنسرح":
إني على ما تريْنَ من كبري
…
أعرف من أين تؤكل الكتف5
وفي قول زهير "من البسيط":
من يَلْقَ يوما -على عِلَّاته- هَرِما
…
يلق السماحة منه والندى خُلُقا1
الاعتراض:
وإما بالاعتراض، وهو أن يؤتى في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنى2 بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب لنكتة سوى ما ذُكر في تعريف التكميل3، كالتنزيه والتعظيم4 في قوله تعالى:{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} 5 [النحل: 57] .
والدعاء في قول أبي الطيب "من الطويل":
وتحتقر الدنيا احتقار مُجرِّب
…
يرى كل ما فيها -وحاشاك- فانيا6
فإن قوله: "وحاشاك" دعاء حسن في موضعه.
ونحوه قول عوف بن محلم الشيباني "من السريع":
إن الثمانين -وبُلِّغتَها-
…
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان1
والتنبيه في قول الشاعر "من الكامل":
واعلم -فعلم المرء ينفعه-
…
أَنْ سوف يأتي كل ما قُدِرا2
وتخصيص أحد المذكورين بزيادة التأكيد في أمر عُلِّق بهما؛ كقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} 3 [لقمان: 14] .
والمطابقة مع الاستعطاف في قول أبي الطيب "من الكامل":
وخفوق قلب لو رأيتِ لهيبَه
…
"يا جنتي" لرأيتِ فيه جهنما4
والتنبيه على سبب أمر فيه غرابة؛ كما في قول الآخر "من الطويل":
فلا هجره يبدو وفي اليأس راحة
…
ولا وصله يبدو لنا فنكارمه1
فإن قوله: "فلا هجره يبدو" يشعر بأن هجر الحبيب أحد مطلوبيه، وغريب أن يكون هجر الحبيب مطلوبا للمحب، فقال:"وفي اليأس راحة" لينبه على سببه.
وقوله تعالى: {لَوْ تَعْلَمُونَ} في قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 75-77] اعتراض في اعتراض؛ لأنه اعتُرض به بين الموصوف والصفة2، واعترض بقوله:{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} بين القسم والمقسَم عليه3.
ومما جاء بين كلامين متصلين معنى قوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} [البقرة: 222، 223]، فإن قوله:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} بيان لقوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} يعني أن المأتى الذي أمركم به هو مكان الحرث؛ دلالة على أن الغرض الأصلي في الإتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة، فلا تأتوهن إلا من حيث يتأتى فيه هذا الغرض، وهو مما جاء في أكثر من جملة أيضا4، ونحوه في كونه أكثر من جملة قوله تعالى:{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} [آل عمران: 36]، فإن قوله:{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} ليس
من قول أم مريم1، وكذا قوله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا، مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 44-46] إن جُعل "من الذين" بيانا لـ {الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} ؛ لأنهم يهود ونصارى، أو لأعدائكم؛ فإنه على الأول يكون قوله:{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} اعتراضا، وعلى الثاني يكون {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} اعتراضا، ويجوز أن يكون {مِنَ الَّذِينَ} صلة لـ "نصيرا"2 أي: ينصركم من الذين هادوا؛ كقوله: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا} [الأنبياء: 77] 3، وأن يكون كلاما مبتدأ على أن {يُحَرِّفُونَ} صفة مبتدأ محذوف تقديره:"من الذين هادوا قوم يحرفون"؛ كقوله:
وما الدهر إلا تارتان؛ فمنهما
…
أموت، وأخرى أبتغي العيش أكدح4
وقد علم مما ذكرنا أن الاعتراض كما يأتي بغير واو ولا فاء، قد يأتي بأحدهما5.
ووجه حسن الاعتراض على الإطلاق: حسن الإفادة، مع أن مجيئه مجيء ما لا معوَّل عليه في الإفادة، فيكون مَثَله مَثَل الحسنة تأتيك من حيث لا ترتقبها1.
ومن الناس من لا يقيد فائدة الاعتراض بما ذكرناه، بل يجوز أن تكون دفع توهم ما يخالف المقصود، وهؤلاء فرقتان:
فرقة لا تشترط فيه أن يكون واقعا في أثناء كلام أو بين كلامين متصلين معنًى؛ بل يجوز أن يقع في آخر كلام لا يليه كلام، أو يليه كلام غير متصل به معنًى، وبهذا يشعر كلام الزمخشري في مواضع مع الكشاف:"فالاعتراض عند هؤلاء يشمل التذييل"2، ومن التكميل ما لا محل له من الإعراب؛ جملة كان أو أكثر من جملة3.
وفرقة تشترط فيه ذلك، لكن لا تشترط أن يكون جملة أو أكثر من جملة، فالاعتراض عند هؤلاء يشمل من التتميم ما كان واقعا في أحد الموقعين4، ومن التكميل ما كان واقعا في أحدهما ولا محل له من الإعراب5؛ جملة كان أو أقل من
جملة أو أكثر.
الإطناب بغير هذه الأنواع: وإما بغير ذلك1 كقولهم: "رأيته بعيني"، ومنه قوله تعالى:{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} 2 [النور: 15]، أي: هذا الإفك ليس إلا قولا يجري على ألسنتكم ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم في القلب، كما هو شأن المعلوم إذا ترجم عنه اللسان، وكذا قوله:{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] لإزالة توهم الإباحة3، كما في نحو قولنا:"جالس الحسن وابن سيرين" وليُعلَم العدد جملة كما عُلِم تفصيلا؛ ليحاط به من جهتين، فيتأكد العلم، وفي أمثال العرب:"علمان خير من علم". وكذا قوله: {كَامِلَةٌ} تأكيد آخر، وقيل: أي: كاملة في وقوعها بدلا من الهدي، وقيل: أريد به تأكيد الكيفية لا الكمية، حتى لو وقع صوم العشرة على غير الوجه المذكور4 لم تكن كاملة5. وكذا قوله:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7] فإنه لو لم يقصد الإطناب لم يذكر {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} ؛ لأن إيمانهم6 ليس مما ينكره أحد من مثبِتيهم، وحسّن ذكره إظهار شرف الإيمان ترغيبا فيه7، وكذا قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] فإنه لو اختُصر1 لتُرك قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} ؛ لأن مساق الآية لتكذيبهم في دعوى الإخلاص في الشهادة كما مر2، وحسنه دفع توهم أن التكذيب للمشهود به في نفس الأمر3، ونحوه قول البلغاء:"لا وأصلحك الله"4، وكذا قوله تعالى إخبارا عن موسى:{هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18] ، وحسنه أنه عليه السلام فهم أن السؤال يعقبه أمر عظيم يحدثه الله تعالى في العصا؛ فينبغي أن يتنبه لصفاتها حتى يظهر له التفاوت بين الحالين5، وكذا قوله تعالى:{نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء: 71] وحسّنه إظهار الابتهاج بعبادتها والافتخار بمواظبتها؛ ليزداد غيظ السائل6.
الإيجاز والإطناب النسبيان: واعلم أنه قد يوصف الكلام بالإيجاز والإطناب7
باعتبار كثرة حروفه وقلتها بالنسبة إلى كلام آخر مساوٍ له في أصل المعنى1؛ كالشطر الأول من قول أبي تمام "من الطويل":
يصد عن الدنيا إذا عَنَّ سؤدد
…
ولو برزت في زي عذراء ناهد2
وقول الآخر "من الطويل":
ولست بنظّار إلى جانب الغنى
…
إذا كانت العلياء في جانب الفقر3
ومنه قول الشماخ "من الوافر":
إذا ما راية رُفعت لمجد
…
تَلقّاها عرابة باليمين4
وقول بشر بن أبي خازم "من الوافر":
إذا ما المَكْرُمات رُفعن يوما
…
وقصّر مبتغوها عن مداها
وضاقت أذرع المثرين عنها
…
سما أوس إليها فاحتواها1
ويقرب من هذا الباب2 قوله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] .
وقول الحماسي "من الطويل":
وننكر إن شئنا على الناس قولهم
…
ولا ينكرون القول حين نقول3
وكذا ما ورد في الحديث: "الحزم سوء الظن".
وقول العرب: "الثقة بكل أحد عجز"4.