الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
عن البيئة والسكان
توافر لشبه الجزيرة العربية موقعها المكاني المتوسط بين بلاد الشرق الأدنى القديم، ودروها البشري المؤثر فى تكوين السلالات الأكثر عددًا بين سكانه الأقدمين، كما كان لها نصيب أيضًا من دور الوساطة والتأثير فى بعض خطوط اتصالاته واقتصادياته.
وسوف يكتفي هذا الكتاب فى منهاجه العلمي بتحليل المسارات الرئيسية للتاريخ العربي القديم، والمعالم والتطورات العامة لحضاراته، مع تأجيل التوسع فى مشكلاتها وتفاصيلها إلى مجلد أكبر نصدره قريبًا على نسق بقية مؤلفاتنا الكبيرة السابقة، بمشيئة الله تعالى.
وقد عرضنا فى سياق الفصل الأول من مؤلفنا عن الشرق الأدنى القديم جـ 1 - 1967 ص 9 - 13، أو 1990 ص 14 - 19 لنوعية التأثيرات المتبادلة بين بيئة شبه الجزيرة العربية وبين أهلها فى العصور القديمة التى كانوا فيها أكثر التزامًا بظروف بيئتهم وإيحاءاتها عما هم عليه الآن إلى حد كبير، وذلك من حيث مدى انطباعهم في بعض سبل معايشهم، وبعض عاداتهم وعقائدهم، وظروف تفرقهم أو تجمعهم، وبداوتهم أو تحضرهم، وتنقلهم أو استقرارهم، بخصائص الاتساع الجغرافي الكبير لشبه الجزيرة وتنوع تضاريسها بين صحراوات وواحات وجبال ووديان وسواحل، مع غلبة الطبيعة الصحراوية عليها -وما ترتب على هذا من تفاوت أسباب ونتائج الخصب أو الجفاف، ووفرة الإنتاج أو شح الموارد، ومدى الأمن أو القلق، والانطلاق أو الانطواء، واليسر أو المشقة فى المعايش والاتصالات، وهلم جرًّا. ثم من حيث تباين الفرص التى أتيحت أمام مختلف جماعات السكان هنا أو هناك فى مجالات التبادل الاقتصادي والثقافي مع بقية الشعوب الحضرية القديمة المعاصرة لهم، نتيجة لاختلاف مواقع إقامتهم بالنسبة لجيرانهم فى الداخل وفي الخارج، وبالنسبة لاتجاهات طرق التجارة البرية والبحرية الرئيسية القديمة.
وعرضنا في الفصل ذاته لمسببات التحركات القبلية الداخلية القديمة، أو الهجرات الداخلية المحدودة لمختلف البطون والعشائر في شبه الجزيرة، تبعًا لتفرق
موارد الماء والتسابق إلى مناطق الكلأ. والتماس المواطن ذات الحماية الطبيعية والأمن النسبي والموارد الكافية. ثم ما ترتب على هذا كله من تنمية الروح الاستقلالية لدى القبائل وبين الأفراد، في مقابل تغليب المصالح القبلية على المصلحة العامة أو المصلحة القومية، وصعوبة قيام وحدة عامة بين السكان، حتى وحدهم دين الإسلام ودولة الإسلام.
وناقشنا كذلك في شيء من التفصيل المسببات المناخية والبشرية والاقتصادية المؤدية إلى خروج الهجرات البشرية الكبيرة من شبه الجزيرة إلى أطرافها. وفاضلنا بين النظريات المرجحة لتأثير دورات الجفاف الشديد المتباعدة، وبين الآراء المرجحة لتأثيرات فترات الضعف السياسي وتحول طرق التجارة الرئيسية. كما تتبعنا المراحل المحتملة لهذه الهجرات حتى استقرارها فى مناطق الهلال الخصيب أو بقربها.
الجنس والاسم:
تعددت الآراء قديمًا وحديثًا حول تحديد الموطن الأصلي للجنس الغالب في شبه الجزيرة العربية، وهي آراء رغم كثرة ترديدها فى مؤلفات التاريخ القديم، لا تكاد تؤدي إلى نتائج يقينية فى سوى أمرين: أولهما أن ضخامة الكتلة الصحراوية لشبه الجزيرة قد ساعدت على النقاء الجنسي واللغوي بين أهلها، ومناطقها الوسطى بخاصة، إلى حد نسبي كبير. والقول بالنسبية هنا ضرورة علمية لازمة حيث لا وجود لسلالة بشرية لم تختلط بغيرها قط، بينما دلت الشواهد التاريخية على أن اختلاط السلالات والأمم بعضها ببعض قد يؤدي أحيانًا إلى تجديد حيويتها وثراء حضارتها، وذلك على شريطة ألا تطغى العناصر الدخيلة على العناصر الأصيلة فيها.
أما الأمر الثاني فهو ترجيح انتماء سكان شبه الجزيرة العربية في لبانتهم أو فى جوهرهم إلى سلالة بشرية متجانسة ذات خصائص رئيسية متشابهة تعرف عادة باسم السلالة السامية أو الساميين. وهو اسم اصطلاحي نشر للباحث النمسوي شلوسر ( August Ludvig Schlozer) في أواخر القرن الثامن عشر 1781م، واستعاره مما ذكرته أنساب التوارة في مثل الإصحاح العاشر من سفر التكوين عن ولد لنوح عليه السلام يدعى شام أو سام في مقابل ولد آخر يدعى حام، وولد ثالث هو يافث. وتواتر استخدام اسم الساميين بين معظم الباحثين، وإن أصبح بعضهم يطلقونه أساسًا على مجموعة اللغات ذات الأصل المشترك التى استخدمها سكان شبه الجزيرة وأطرافها. وجيرانهم ممن اتصلوا بهم بصلة الدم في
الهلال الخصيب، أو بصلة الجوار والاستيطان والتعامل على الساحل الأفريقي لجنوب البحر الأحمر. وعلى الساحل الشمالي لأفريقيا لا سيما فى قرطاجة الفينيقية، وذلك أكثر مما يرتبونه على سلالة بشرية مغلقة على ذاتها. وهذا اتجاه سليم نعود إليه فى موضوع آخر.
ويكفي أن نشير هنا إلى أن القرآن الكريم لم يذكر للنبي نوح عليه السلام غير ولد واحد كان من المغرقين. وذلك مما يعنى عدم ضرورة الالتزام بالرواية العبرية وإن لم ينفها تمامًا، وأن الفوارق الطبقية والشعوبية التى وضعها العبرانيون فى أنساب التوراة بين الساميين وبين الحاميين هى مفتعلة لم يسبب ظواهرها من حيث اختلاف اللون واللغة فى واقع الأمر غير الفوارق المناخية ومطالب البيئات وفوارق اللهجات. على أننا قد نضطر إلى استخدام تعبير الساميين وتعبير الحاميين أحيانًا فى سياق أحاديثنا نظرًا لشيوعهما، ولا بأس من ذلك ما دمنا نتبين حقيقة الأمر فيهما.
ومع وحدة الأصل البعيد انشعبت اللغات السامية القديمة إلى شعبتين كبيرتين كانت لكل منهما فروعها العديدة، وذلك من قبل أن توحد لغة القرآن الفصحى بينهما. وكانتا: شعبة سامية غربية شاعت بقواعدها ولهجاتها فى غرب شبه الجزيرة العربية ووسطها وجنوبها وشمالها، وفي أغلب بلاد الشام وأغلب مصر، ثم بعد ذلك فى جزء من شمال أفريقيا وجزء من شمال السودان، بل وامتدت قديمًا من اليمن إلى أكسوم فى الحبشة وجزء من الساحل الأفريقي القريب منها. ثم شعبة سامية شرقية شاعت بخصائصها فى المناطق الشرقية من شبه الجزيرة العربية وما اتصل بها من نواحي الخليج العربي وجزره، وبلاد النهرين أو العراق القديم. وكنموذج للصلات القديمة بين الأصول وبين الفروع من هذه الشعوب المتجاورة قدمنا في الفصل الأول من كتاب الشرق الأدنى القديم نماذج من أوجه التشابه بين بعض قواعد اللغة العربية وبين بعض قواعد اللغة المصرية القديمة، على الرغم من اختلاف صور الكتابة بينهما- وذلك مع تقدير أن قواعد اللغات لا يمكن أن تنتقل مع التجارة أو باتصلات عارضة شأنها شأن المفردات اللفظية، وإنما يدل تشابهها بين اللغات على وحدة الأصول بينها فى أغلب الأحوال حتى ولو كانت أصولا بعيدة. وذلك مما يمكن تقريبه إلى افتراض وجود أم لغوية قديمة واحدة وأبناء متنوعين أخذ كل منهم يطوع مفردات لغته ولهجتها بما تناسب مع ظروف بيئته ومطالب حياته.
وتعددت الآراء مرة أخرى في منشأ وتفسير تسمية العرب، كما تعددت أمثالها فى شأن تسميات كثير من الشعوب والبلدان القديمة الأخرى مثل تسميات مصر وسومر وعراق وشام وعبري وآرام
…
إلخ.
فمن وجهات النظر العربية القديمة فيها القول باشتقاق لفظ العرب من اسم جد أعلى كان يسمى يعرب بن قحطان، أو من فعل يعرب بمعنى يفصح تدليلا على ما كان العرب يعتزون به من فصاحة البيان .. ، ثم القول باشتقاقها من اسم عربة وهو أحد أسماء مكة التى شب إسماعيل عليه السلام على أرضها، أو هو اسم لجزء منها.
ومن وجهات النظر السامية الأخرى القول باشتقاق تسمية العرب من أحد الأصول التي خرجت منها كلمات عبرية شبيهة بها وليس من الكلمات العبرية نفسها مثل عرابة بمعنى الأرض الجافة، وأرابا بمعنى الأرض الداكنة المعشبة، وإرب بمعنى الشرود عن النظام، وعابار بمعنى التجوال أو الترحال
…
إلخ.
وعندما استخدمت النصوص المسمارية العراقية القديمة تسميات أربي وأريبي وأريبو
…
إلخ، بمعنى العربي والعرب والعربية منذ القرن التاسع ق. م. لم تقصرها على سكان شبه الجزيرة وحدهم، وإنما أطلقها كذلك على بعض أهل بادية جنوب الشام، وعنت بهم الأعراب البدو في أغلب الأحوال. وكذا فعلت بعض قصص التوراة. كما مد المؤرخون والرحالة الإغريق والرومان فيما بعد تسمية أرابيا وأرايبيا إلى صحراء مصر الشرقية.
واستخدمت بعض النصوص المصرية القديمة لفظ أربايا تجريفًا فيما يبدو عن عربية أو العربية، للدلالة على المنطقة القريبة من الحدود المصرية فى شبه الجزيرة العربية. كما استخدمت النصوص الفارسية نفس اللفظ أربايا في القرن الخامس ق. م. للدلالة على بادية فلسطين وشبه جزيرة سيناء وما يتصل بهما من شمال شبه الجزيرة العربية.
ودلت تسمية ع ر ب ن، وأعرب فى نصوص الجنوب العربي القديم على معنى الأعراب أساسًا، لا سيما الخيالة والأبالة من بدو وسط شبه الجزيرة العربية، وقالت عنهم فيما قالت أعرب طودم أي أعراب الهضبة أو أعراب النجد، وأعرب تهمت أي أعراب تهامة أو الوديان والسهول الساحلية.
طبعة أولى - الرياض 1964، جدة 1975.
طعبة ثانية - القاهرة 1980.
طبعة ثالثة - القاهرة 1988.