المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الخامس: دولة قطبان - تاريخ شبه الجزيرة العربية في عصورها القديمة

[عبد العزيز صالح]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: مصادر التاريخ العربي القديم ودراساته الأثرية الحديثة

- ‌الفصل الثاني: ممهدات العصور التاريخية في شبه الجزيرة العربية

- ‌مدخل

- ‌خطوط الكتابة القديمة في شبه الجزيرة العربية

- ‌كتابة المسند:

- ‌الخط النبطي وتطوره إلى الخط العربي

- ‌الفصل الثالث: تمهيد في جنوب شبه الجزيرة العربية

- ‌مدخل

- ‌مشكلة نشأ دولة سبأ في عصورها المبكرة

- ‌الفصل الرابع: عهود المكربين في سبأ

- ‌الفصل الخامس: دولة قطبان

- ‌الفصل السادس: دولة معين

- ‌الفصل الثامن: دولة أوسان

- ‌الفصل التاسع: عودة إلى دولة سبأ في عصر الملكية السبأية

- ‌الفصل العاشر: دولة سبأ وذوربدان-وسيطرة حمير

- ‌الفصل الحادي عشر: مناطق الأطراف العربية

- ‌اولاً: المصادر المسمارية

- ‌ثانيًا: من نتائج الكشوف الأثرية الحديثة:

- ‌الفصل الثاني عشر: الجماعات العربية القديمة ذات الصلة برسالات الأنبياء

- ‌أولًا: مدين

- ‌ثانيًا: قوم عاد

- ‌ثالثًا: الثموديون

- ‌الفصل الثالث عشر: من الممالك العربية المسقرة

- ‌اولاً: دولة ددان ولحيان

- ‌ثانيًا: دولة الأنباط

- ‌الفصل الرابع عشر: من ممالك الأطراف العربية

- ‌أولًا: مملكة الحيرة

- ‌ثانيًا: دولة الغساسنة

- ‌الفصل السادس عشر: انتقال مركز الثقل إلى مكة ويثرب

الفصل: ‌الفصل الخامس: دولة قطبان

‌الفصل الخامس: دولة قطبان

الفصل الخامس: دولة قتبان

أ) التكوين السياسي:

قامت دولة قتبان (ق ت ب ن) إلى الجنوب من دولة سبأ وتضمنت وادي بيحان ووادي حريب وما شغل جزءًا من اليمن وجزءًا من عدن الحاليين. وعاصر كيانها السياسي في بعض عهوده بقية الدولة العربية الجنوبية، سبأ وحضرموت ومعين وأوسان. وتراوحت آراء الباحثين في تعيين بداية هذا الكيان القتباني السياسي بما بين منتصف القرن التاسع ق. م. وبين القرن السابع ق. م. ولكن الوجود الاجتماعي والنشاط الاقتصادي لجماعات القتبانيين قد رجحنا (في ص37 - 39) إرجاعه إلى ما قبل ذلك بعدة قرون، حينما دللنا على قيام التبادل التجاري بين الجنبتين القتبانيين وبين مصر القديمة في عهد الملك تحوتمس الثالث خلال القرن الخامس عشر قبل الميلاد. ووجد هذا الدليل المصري القديم أدلة أخرى تقاربه في نتائج أبحاث بعثة أثرية أمريكية حديثًا في قتبان. فقد عثر الباحثان ألبرت جام وفرانك ألبرايت A.Jamme and F.P.Albright على مخربشات قتبانية (أي نصوص قصيرة غير متقنة) في هجر بن حميد ووادي فرع اتجهت بعض سطورها من اليسار إلى اليمين مما يعني في رأيهما قدم عهدها، كما تعرفا فيها على أشكال حروف هجائية أرجعا أسلوب كتابتها إلى حوالي القرن العاشر ق. م. واعتبارها من حيث الشكل بقية من مرحلة التحول من الخط الكنعاني القديم الذي يحتمل أن نقله بعض العرب عن جنوب الشام إلى خط آخر تميزت به النصوص الجنوبية وهو الخط المسند. وأضاف جام عن بدائية أشكال هذه الحروف أن رسمها لم يلتزم باتجاه ثابت، فبعضها يميل يمينًا وبعضها يميل يسارًا، وبعضها مقلوب وبعضها رسم على جانبه، وكان تعدد الاتجاهات في رسم الحروف من مظاهر المرحلة الأولية في الأبجدية الكنعانية في الشام حتى القرن الثاني عشر ق. م. وزكى فان بيك وآخرون هذا الوجود القتباني القديم من ناحية أخرى بدراسة تتابع الفخار في مستويات العمران في هجر بن حميد، حيث أرجعوا أنواع الفخار

ص: 63

في أقدم مستويات هذه البلدة إلى ما يدور حول القرن الحادي عشر والقرن العاشر ق. م. وزاد وندل فيليبس على هذا فافترض من ملاحظة مستويات أطلال المباني في المدن القتبانية احتمال بناء بعضها في أواسط الألف الثاني ق. م.

ومع هذا القدم النسبي للكيان القتباني، ونعني بالنسبية هنا ما يتعلق بالجنوب العربي، وهو أحدث بطبيعة الحال في تكويناته السياسية كثيرًا عن دول الهلال الخصيب الكبيرة القديمة، فقد لاحظ بعض اللغويين أن اللهجة القتبانية وإن بدت أقرب إلى لهجات حضرموت ومعين منها إلى اللهجة السبأية، إلا أن أسلوب الكتابة القتبانية الرسمية وأسلوب تركيب أسماء وألقاب الحكام الكبار فيها ظلا أقرب إلى أمثالهما في دولة سبأ. ومن التفسيرات المحتملة. لهاتين الظاهرتين أن أقوامًا من الحضارمة والمعينيين كانوا يشاركون القتبانيين أصلهم القبلي. أو كانوا يشاركونهم أرضهم في عصور قديمة. ولكن هذه الأرض خضعت في فترة ما لنفوذ سبأي سياسي وانتقل إليها ما كان شائعًا في سبأ من أسلوب الكتابة الرسمية وطريقة تركيب أسماء (أو ألقاب) الحكام. وإذا صح الشطر الأول من هذا التفسير كان فيه ما يزكي ما سبقت الإشارة إليه من أن الجماعات العربية القديمة في الجنوب وفي الشمال كذلك ظلت لفترات قديمة طويلة لاتلتزم بحدود إقليمية أو قومية قاطعة فيما بينها. من قبل أن تقوم فيها الدول السياسية واضحة المعالم والحدود.

وبدأ الحكم في دولة قتبان بنفس الصبغة الثيوقراطية أو الدينية التى بدأ بها في بقية الدول العربية الجنوبية. فتلقب أوائل حكامها الكبار منذ القرن السابع ق. م. (في عرف أصحاب التاريخ المختصر) بلقب مكرب وهو لقب تناولنا مدلولات مثيله من قبل في سياق الحديث من حكام سبأ. ومنذ نهاية القر الخامس ق. م. أو بداية القرن الرابع ق. م. فيما يرى ألبرايت غلب الحكام القتبانيون الصبغة المدنية والسياسية في حكمهم وتلقبوا بألقاب الملوك. وليس من المستبعد أن ذلك التحول قد ارتبط في حينه بنصر سياسي أو حربي رفع من شأن الحكام القتباني في نظر نفسه ونظر شعبه وجعله يعتبر نفسه لا يقل مكانة عن ملوك سبأ الذين سبقوا في التحول إلى نظام الملكية، لا سيما بعد أن خف الضغط الذي فرضته هذه الدولة على جيرانها في عهد ملكها الداهية كرب إيل وتر.

ويبدو أن قتبان قد استفادت من وضع كانت قد سمحت لها به دولة سبأ المعتزة بقوتها. ثم استغلته هي لمصلحتها. فقد مر بنا أن كرب إيل وتر منشئ نظام الملكية في سبأ أقطع قتبان بعض الأراضي التى استولت جيوشه عليها من دولة أوسان مكافأة لها على التزامها بموقف الحياد خلال حروبه، وهو مطمئن إلى

ص: 64

بقائها موالية له. وكانت هذه الأراضي الأوسانية الأصل تطل على ساحل البحر الأحمر وتنتفع من موارده التجارية، ولهذا عملت قتبان على تدعيم سلطانها عليها وتوسيع رقعتها لمصلحتها.

ومع منطقية هذين السببين السياسي منهما والتوسعي للتحول إلى الملكية في قتبان، لا بأس من تقدير عوامل أخرى داخلية غالبًا ما تتماثل نتائجها في نظم الحكم الثيوقراطية الأصل. ذلك أن تجارب التاريخ أوضحت أن الصبغة الثيوقراطية في الحكم أشبه بسلاح ذي حدين. فهي وإن ضمنت القداسة للحاكم الأعلى وكفلت له الولاء لروحي من شعبه. إلا أنها كانت تخلق أمامه على مر الزمن منافسين من كبار رجال الكهنوت الذين يشاركونه السلطة باسم الدين، وحينذاك يرى من مصلحته أن يرتفع عن مستوى رياسة الكهنوت إلى مستوى الملكية ذات السلطات الشاملة.

وعلى أية حال. فإن التحول نحو الملكية في قتبان لم يمنع بعض ملوكها من العودة إلى التلقيب بلقب المكرب بين حين وآخر تأكيدًا لصفتهم الدينية ولا سيما في أوقات الأزمات، وقد تلقب به الملك يدع أب ذبيان في القرن الثاني ق. م. وكذا الملك شهر يجل يهرجب، ولم يقلل من استمساكهم بالألقاب التي أكدت صلتهم المباشرة بمعبوداتهم والتي كان منها ما يعتبر الملك ولد المعبود عم، والابن البكر لكل من أنباي وحوكم.

واستمر الحكم الأعلى وراثيًا في الأسرة المالكة في قتبان يتولى العرش فيه الابن بعد أبيه، أو الأخ بعد أخيه إن لم يكن له ولد يخلفه. وربما اشترك ولي العهد مع الملك الحاكم بعد أن تتقدم به السن كي يأخذ عنه خبرته ويمارسها بصورة عملية، ويؤيد حقه الوراثي عن طريق هذا الاشتراك ويضمن عدم منافسة إخوته له فيه بعد موت أبيه، وحينذاك تصدر المراسيم باسم الحاكمين الشريكين معًا. ولم يكن الوطن القتباني أقل منزلة عند أهله من مقدساتهم الدينية، فإلى جانب القسم الرسمي بأسماء المعبودات لاسيما عم وأنباي، وباسم الملك الحاكم، كان يقسم كذلك باسم قتبان.

وفي ظل الملكية قام في قتبان مجلس للأعيان من شويخ القبائل وكبار الموظفين أطلق عليه اسم (م س د) أو مسود، ووجد له شبيه بنفس الاسم في دولة معين، ولا ندري أيهما سبق الآخر. وجرت العادة على أن يجتمع هذا المجلس في العاصمة تمنع بدعوة من الملك، ربما لمرتين على الأقل في كل عام، للنظر فيما يعرض عليه من شئون الضرائب والمنشآت العامة، وللمداولة في أمور لحرب والسلم. وإصدار العفو الكلي أو العفو الجزئي في القضايا الكبيرة.

ص: 65

ويتعرف الملك على نتائج قرارات المجلس فإن أقرها صيغت على هيئة مراسيم وأعلنها باسمه، أو وقعه معه رئيس مجلس المسود. وربما وقعها كذلك في بعض الأحوال كبار رجال المجلس بأسمائهم مشفوعة بأسماء عشائرهم أو قبائلهم. وهكذا توافرت لمجلس المسود القتباني صفات متعددة: فهو مجلس ملكي يجتمع بأمر الملك وينفض بأمره، وهو مجلس استشاري يحق للملك أن يقبل اقتراحاته أو يرفضها، ثم هو في الوقت نفسه مجلس للدولة يضم كبار أعيان قبائلها وأقليمها ويبحث في مصالحها. كما أنه مجلس تشريعي يصوغ القوانين بعد موافقة الملك عليها ثم يوقع رئيسه عليها وربما وقع أعضاؤه الكبار عليها كذلك بعد توقيع الملك عليها.

وعلى الرغم من صدور المراسيم باسم الملك القتباني الحاكم إلا أنها لم تكن تؤرخ بسنوات حكمه، وإنما تؤرخ بعام رياسة رئيس مجلس المسود. ويبدو أن هذه كانت رياسة دورية يتعاقب عليها كبار أعضاء المجلس لفترات محدودة قد تقتصر على عام أو عامين لكل منهم، وقد تزيد عن العامين في أحوال استثنائية يتجدد فيها اخيتار الرئيس أكثر من مرة لسبب أو لآخر.

وكانت الأوامر أو المراسيم الملكية تنقش على مدخل العاصمة تمنع أحيانًا، وتنقش على نصب تقام في السوق الرئيسية وفي المعابد. وتخدم بذلك أغراضًا شتى منها توفير العلنية للمراسيم، وتخليدها لذكرى الملك الحاكم الذي صدرت باسمه، ولتظل مرجعًا لما يعقبها من عهود وقوانين. ويضاف إلى هذه الأغراض فيما يختص بنقشها على نصب المعابد أن من المعابد ماكان لها موضعها المتوسط داخل المدن، ويتردد عليها كثير ممن يعرفون القراءة، فضلًا عما توحي به من وضع الأوامر الملكية تحت رعاية أربابها، وإشعار الناس أن هؤلاء الأرباب شركاء فيها، لاسيما إذا تناولت حقوقًا مفروضة للمعابد ومنشآتها وكهنتها. وليس ما يمنع بعد هذا من افتراض وجود منادين يعلنون مضمون هذه الأوامر والمراسيم شفاهة في الأحياء والأقاليم والقبائل باسم الملك الحاكم.

ومن أهم ما تضمنته نقوش البوابة الجنوبية للعاصمة تمنع، والتى يحتمل تسميتها بوابة ذو سدان بقايا نص لتشريع صدر في عهد الملك يدع أب ذبيان بن شهر في بداية القرن الثاني ق. م. وفيه ما يقضي على القاتل القتباني بالحرمان (من الحقوق المدنية أو الدينية) بحكم خروجه على القانون، فإن تجاهل مقتضيات هذا الحكم وأصر على البقاء في قتبان أباح الملك دمه، دون أن تترتب على قاتله عقوبة أو ملامة.

ص: 66

ب) في الحياة الاقتصادية:

اعتمدت اقتصاديات قتبان وسلطة حكامها على ما اعتمدت عليه أغلب الدول العربية الجنوبية. من التجارة الداخلية والتجارة الخارجية، وتنمية الثروة الزراعية والصناعية. وربما الثروة الرعوية أيضًا. ثم الاستفادة في الوقت نفسه من تحصيل المكوس والضرائب على هذه وتلك. ووجدت مسلة حجرية صغيرة داخل العاصمة تمنع نقشت عليها بعض تنظيمات التجارة الداخلية والضرائب في عهد الملك شهر هلال بن يدع أب، وهدفت إلى ضمان حقوق الدولة في ضرائب التجارة، وحماية مصالح المواطنين التجار والمستهلكين. وتركيز تجارة العاصمة في سوق شمر، وإلزام التجار الأغراب بتبليغ الدولة عن شئون تجارتهم سواء للإذن بممارستها أو لتقدير الضرائب عليها.

وجاء في هذا المرسوم على سبيل المثال أنه إما تاجر في تمنع أو في برم، مهما كانت تجارته، يجب أن يدفع ضريبة في تمنع ليكون له دكانه في سوق شمر. وهذا حق وواجب لكل تاجر أياما كانت قبيلته. فإذا أسس دكانه أصبح له الحق في أن يتاجر وحده أو يشارك غيره. دون اعتراض من مدير شمر. وإذا سمح مدير شمر للتجار القتبانيين بأن يتجولوا بين القبائل للتجارة وأعلن ذلك أصبح حقًا لهم.

فإذا أخطروه بأن أجنبيًا نافسهم في هذه التجارة أو خدع أحدهم، غرم هذا الأجنبي خمسين وزنة ذهبية.

ومن أدي ضريبة سوق تمنع ليتاجر فيها. فتاجر مع قبيلة أخرى، فقد حقه في ممارسة هذه التجارة، وذلك حفاظًا على حق القتبانيين الذي خصصه الملك.

وإذا أجر مواطن داره أو مختنًا لتاجر أصبح ملزمًا بأداء ضريبة السوق في تمنع إلى الملك. من تجارة المستأجر وما تغله، فإن لم تكف دفعها مما يملكه ومن كسبه الخاص.

وإذا باع شخص تجارة جملة. وكان ينبغي أن تباع في سوق شمر، وجب أن يجري بيعها بالتجزئة عن طريق وسطاء قتبانيين.

وإذا دخل تاجر سوق شمر بتجارة يود أن يبيعها ليلًا، وجب على الناس أن ينفضوا من حوله حتى يطلع النهار.

وانتهى المرسوم بالنص على أن للملك حق السيادة على كل معاملة وكل تجارة تجري في منطقته وهذا أمر ينبغي على كل ملك تال أن يؤيده.

ص: 67

ويبدو أن ما يستخرج حتى الآن من كميات الملح من نهاية وادي بيحان، وعلى أعماق مختلفة فيه، ثم يصدر بعضه إلى مناطق أخرى من الجنوب العربي. كان يمثل موردًا اقتصاديًا له اعتباره كذلك في العصور القديمة.

ومن أجل خدمة وتشجيع قوافل التجارة الخارجية أو تجارة المرور (الترانسيت) لا سيما فيما يختص بالبخور بأنواعه ومشتقاته، ومن أجل إحكام الإشراف عليها في الوقت نفسه. مد القتبانيون الطرق البرية ومهدوها. ومن أهمها طريق ممر مبلقة (العقبة) الذي بذل فيه مجهود بارع بالنسبة لعصره وبيئته ليصل عبر الجبال بين وادي بيحان ووادي حريب. وتعبره القوافل المتجهة من عدن إلى نواحي مأرب في سبأ. عبر الأراضي القتبانية. وقد مهدت أرضيته بالأحجار باتساع يتراوح بين أربعة وخمسة أمتار. وامتد نحو ثلاثة أميال بين ارتفاع وانخفاض بانحناءات كثيرة في أجزاء شقتها الطبيعة وأجزاء أخرى مهدتها يد الإنسان على مدرجات جبلية تحمي جوانبها جدارن منحوتة أو مبنية، وأقيم على كل من طرفي هذا الطريق الطويل حوض للماء لخدمة القوافل وسقاية الإبل. ووردت ثلاثة نصوص من عهد الملك يدع أب ذبيان بن شهر تحدثت عن تعبيده في أيامه. ولوحظ أن هذا المجهود كان يمكن توفيره باستخدام طرق سهلي آخر يمتد من غرب العاصمة تمنع رأسًا إلى وادي حريب، لولا حرص القتبانيين على التحكم في التجارة التي تمر في منطقتهم ورغبتهم في إطالة مسالكها داخل أرضهم ليحصلوا أكبر نسبة من المكوس عليها. ونظرًا للأهمية الاقتصادية لهذا الطريق نشأت بعض البلدان حوله. ومنها ذو غيلان (حصن الحضيري) عند مدخله. وبجوارها هجر بن حميد على جانبه الشرقي. وحنو الزرير على جانبه الغربي. ولعلها قامت في بداية أمرها كمحطات للقوافل ومراكز لتحصيل المكوس ثم اتسع عمرانها.

ومهد القتبانيون طريقًا آخر في ممر نجد مرقد على الحافة الصحراوية بين وادي بيحان ووادي حريب أيضًا. ورصفوه. وتمر القوافل خلاله بين جدارين يبلغ سمك الواحد منهما نحو المتر، وقام فيه مركز لتحصيل المكوس من قوافل التجارة المتجهة إلى حريب التي تبعد عنه بنحو خمسة أميال. أو الخارجة منها فى اتجاهها إلى بيحان والعاصمة تمنع.

وتوفر للاستثمار الزراعي دور كبير آخر في اقتصاديات قتبان، ولا سيما في سهل بيحان وحريب. وبدأت مشروعات الري في وادي بيحان منذ القرن الخامس ق. م. وهو واد كبير ينحدر من المرتفعات الجنوبية ناحية الشمال التقريبي ويبلغ متوسط اتساعه بين ثلاثة وأربعة كيلو مترات، وإن زاد عن ذلك كثيرًا أو قل

ص: 68

عنه في بعض أجزائه. وفي انحداره تتعاقب على جانبيه تكوينات بركانية من الشست والكوارتز. ثم لا تلبث هذه التكوينات حتى تختفي تحت رملة السبعتين الصحراوية الضخمة. وقامت على البداية الشمالية للوادي مدينة تمنع عاصمة قتبان. كما قامت على بدايته الجنوبية حاضرة أخرى تعرف الآن باسم بيحان القصاب ولازالت أغلب آثارها لم تكتشف بعد.

وعادة ما كانت مياه الأمطار الموسمية تصل إلى وادي بيحان على هيئة السيول فتملأ مجراه الذي يمتد نحو 65 كيلو متر بعد أن يترك الجبال. وباتساع يتراوح بين مائة ومائتي متر عرضًا. وقد تنقطع هذه السيول لعدة سنوات، وتتشرب الأرض الرملية جانبًا منها -ولكن مواسمها وسيولها القديمة أرسبت على مدرجات الوادي مع توالي الأزمنة طبقات كثيفة من الطمي تراوح عمقها في بعض مواضعها بين 15 وبين 18مترًا.

ولا ندري هل استفاد القتبانيون خبرة ما من نتائج مشروعات الري في أراضي جارتهم سبأ وقلدوها أم لا؟ ولكن الدلائل تشير إلى أنهم أحسنوا استغلال أوضاع واديهم فأنشأوا فيه شبكة مائية ضخمة. يفهم من وصف المتخصصين لها أن مجاري المياه الرئيسية منها، والتي تتلقى معينها من سيول الأمطار الموسمية، امتدت كيلو مترات طويلة وبلغ اتساع بعضها نحو 40 مترًا وارتفعت عن مستوى الأرض الزراعية بنحو أربعة أمتار ولهذا بنيت فيها أهوسة ساعدت على نقل مياه الري من المجاري المرتفعة إلى أهوسة أخرى فرعية منخفضة في مستوى الحقوق. حيث تتوزع منها على قنوات كثيرة صغيرة. وكانت سرعة توزيع المياه على هذه الفروع الصغيرة مما يضمن الاستفادة بها. وعادة ما كسيت منحنيات الترع بمداميك حجرية تتراجع مع جوانب المجرى إلى الخلف لتمنع تآكلها.

وقامت منشآت ري أخرى وشقت ترع في وادي حريب الذي يقع إلى الغرب من وادي بيحان ويصل بينهما وادي مبلقة عبر الجبال. ووادي حريب أعرض من وادي بيحان ولكنه أقصر. وامتدت الترع والمنشآت المائية إلى وديان فرعية تتصل به (مثل وادي العين ووادي مقبل ووادي مبلقة ووادي وهبة). ولاتزال بعض أطلال مباني هذه المشروعات المائية ظاهرة بينما غطت الأكوام على بعضها الآخر، وتآكلت بقيتها نتيجة لارتفاع المجاري المائية عن الحقوق المنزرعة كما أسلفنا مما جعل عوامل التعرية تعمل عملها فيها. ولاتزال تتناثر في الوديان نتيجة لهذه المشروعات بعض حفر وجذور ما كان ينمو فيها من نخيل التمر والدوم وأشجار المر الذي أشار الرحالة استرابون في القرن الأول ق. م. إلى شهرة قتبان بالاتجار فيه وإنتاج بعض أنواعه.

ص: 69

ومارس القتبانيون إنشاء السدود ضمن مشروعات الري. على نطاق ضيق. ومنها سد فرعي في منطقة الحضرة يحتمل إرجاعه إلى القرن الرابع ق. م. لصد مياه وادي حماد. وشيد بأسلوب بسيط بني بأكوام من الرديم والطين الجاف دعمت واجهتها المواجهة لتيار الماء بالأحجار كما دعمت أعاليها بالأحجار أيضًا. وثمة بقايا سد آخر بجوار بيحان القصب.

ومن المشروعات المائية القتبانية أيضًا حر الصهاريج. ولا تزال تتوزع على قمة جبل ريدان وسفوحه آثار صهاريج قتبانية كان البعض منها يتسع لآلاف الجالونات. ويبدو أنها وزعت على مستويات مختلفة بحيث إذا فاض الماء في أحدها نزل الفائض منها إلى ما يليه. وحفرت هذه الصهاريج في الأرض وكسيت من الداخل بلياسة من أسفلها حتى الارتفاع المحتمل لما تختزنه من الماء. واختلف الرأي في توقيت إنشائها بين ما يعاصر العصر الفارسي في القرن الخامس ق. م. وبين القرن الميلادي الأول.

ولم تغن كل هذه المشروعات القتبانية عن حفر الآبار العادية في المناطق التي تحتاجها، ويحتمل أنه كانت تتسرب إليها المياه الزائدة في المزارع فتختزن طبيعيًا فيها حتى يحين وقت الحاجة إليها ويتيسر رفعها.

وحول نبع طبيعي في وادي فرع في بيحان ظاهرة طريفة، حيث مهد الطريق إليها بمررات ضيقة مرصوفة، وليتيسر وصول الرعاة ورجال القوافل إليه حفرت علامات على الصخور قبل الوصول إليه بنحو كيلو متر، ومنها ما يمثل شخصًا يشير بإصبعه إلى مكان الماء. ولهذه العلامات ما يماثلها في مناطق متفرقة من صخور بيحان وفي مناطق قريبة من الربع الخالي حيث تشتد الحاجة إلى معرفة أماكن المياه.

ومع هذه التيسيرات لتوفي مياه الري والشر. لوحظ في آثار المدن والقرى (في هجر بن حميد والحرجة وجبل الحضرة والنقب) أنه كان يوضع أمام كل دار حوض قليل العمق مليس من الداخل. لملئه بالماء.

وظلت مشروعات المياه تؤدي أغراضها حتى القرن الثالث الميلادي. لاسيما في وادي بيحان. غير أن استمرار الاستفادة منها كان يتطلب استرمار العناية بها. فقد كان ارتفاع المجاري الرئيسية عن مستوى الأراضي المزروعة يعرضها لعوامل التعرية كما ذكرنا، كما أن ارتفاع الإرساب نتيجة لنظام الصرف المستعمل وتوزيع المياه في الحقول. كان يتطلب الارتفاع بالقنوات الفرعية والارتفاع بمداخلها إلى مستوى الحقول.

ص: 70

واستفادت الدولة من ضرائب الزراعة كما استفادت من ضرائب التجارة ويفهم من دراسات البحث رودو كاناكيس Rhodokanakis للنظم القتبانية أن الضرائب في قتبان وفي غيرها من الدول العربية الجنوبية كانت تعادل العشر أو ما يقرب منه، وتؤدي عينية عادة أي من نفس محصول الأرض والمصانع والمتاجر. ويتولى الإشراف على تحصيلها ولاة الأقاليم وشيوخ القبائل أحيانًا. كما كانت الدولة تأخذ بنظام الالتزام في تحصيل ضرائبها أحيانًا أخرى، فتسمح لبعض كبار أهل القرى والأقاليم والمعابد بأن يتولوا جباية ضرائب معينة وتخصص لهم جعلًا منها.

وامتد تحصيل الضرائب إلى ما هو أكثر من هذا، فورد في أمر أصدره ملك قتباني إلى كبير إحدى القبائل بأن يؤدي إلى خزائنه من ضرائب قبيلته ما ترجمه رودوكاناكيس: عشر كل ربح صاف وكل ربح يرد عن طريق الالتزام وكل ربح يجبى من بيع ومن إرث. وقد تدل العبارة الأخيرة على تحصيل رسوم على عقود البيع وعقود التوريث على نحو ما تجري عليه قوانين الضرائب في أغلب المجتمعات المعاصرة.

ح) من آثار العمران والفنون:

قدر الاتساع القديم لمدينة تمنع (هجر كحلان الحالية) عاصمة قتبان بنحو 52 فدانًا -وخلد الرحالة بليني أهميتها حينما روى أنها كانت تتضمن65 معبدًا. ومع ما في رواية بليني من مبالغة واضحة فإن الآثار الباقية في تمنع تشهد بروعتها النسبية القديمة فعلًا رغم عوامل التخريب التي لحقت بها قديمًا وحديثًا. وقد أنشئت هذه العاصمة فوق ربوة مرتفعة بعض الشيء عند النهاية الشمالية لوادي بيحان، وكان يحيطها سور يحميها وإن تداخلت بعض المساكن في أجزائه نتيجة لازدياد العمران. وتضمن السور أربع بوابات كشف عن اثنتين منها في ناحيتي الجنوب الغربي والجنوب الشرقي للمدينة. وكانت أولى البوابتين وتعرف عادة باسم البوابة الجنوبية، هي الأقدم، وترتب على بنائها بأحجار صلبة كبيرة أن بقي للآن جزء من بنيانها يرتفع أكثر من ثلاثة أمتار، وأجزاء من الصرحين أو البرجين اللذين كانا يحيطان بها. ويبدو أنه كان لمدخلها باب خشبي ضخم ينزل من أعلى إلى أسفل حين غلقه ويدعمه من الخلف عارض خشبي أفقي متين. واحتفظت جدران البوابة، وهذا هو الأهم، بنصوص عديدة سجلت بأسماء بعض ملوك قتبان، وكان من أقدمهم يدع أب ذبيان -كما تضمن أحدهم تشريعًا للدولة أشرنا من قبل إلى فقرة منه.

ص: 71

وقام في داخل المدينة مبنى متسع فخم، اعتبره فإن بيك معبدًا رئيسيًا، واعتبره جام قصرًا ملكيًا للاحتفالات العامة. وقد شيدت الأجزاء الأقدم منه على مرحلتين خلال عهود المكربين بين القرن السابع والقرن السادس ق. م. ثم جددت أجزاؤه وأضيفت إليها إضافات مرتين أيضًا على الأقل في عصور الملكية في أواخر القرن الرابع ق. م. ثم في القرن الأول ق. م. وتشابهت بعض هذه الإضافات مع أساليب العمارة الشائعة في الحضارات الخارجية التى اتصل القتبانيون بها، فشيدت جدران المبنى خلال مرحلة البناء الثانية بمشكاوات رأسية (أو دخلات رأسية) متسعة تعاقبت على مسافات متساوية، وكان هذا الأسلوب المعماري شائعًا من قبل في أقطار شرقية قديمة مثل نواحي العراق ومصر وفارس وغيرها. وعندما تمت المرحلة الأخيرة لتجديد المبنى في عهد الملك شهر يجل يهرجب في بداية القرن الأول ق. م. أخذت عناصره ببعض خصائص فن العمارة الهيلنستية الشائعة في عصره. وقد بدأ في صورته العامة عند اكتماله تؤدي إلى بابه درجات متسعة يحف بها جداران جانبيان. ويؤدي مدخله إلى فناء كبير مرصوف كانت تحيط به من ثلاثة جوانب أعمدة مربعة، بينما يتوسط ضلعه الشرقي (المقابل للمدخل) خمس درجات حجرية متسعة أخرى يزيد عرضها عن ستة أمتار، وتؤدي إلى بهو كبير مرتفع تحتمل تكسية أرضيته وأسافل جدرانه الداخلية ببلاطات من الألباستر القرمزي رقمت بحروف تساعد على وضع كل صف منها في موضعه المناسب. وتوسط هذا البهو ممر للمواكب قامت على جانبيه أربعة صفوف من المباني الصغيرة لم يتضح الغرض منها حتى الآن. ولعل الارتفاع التدريجي من باب الدخول إلى الفناء ومن الفناء إلى البهو كان مقصودًا لذاته.

وكشفت البعثة الأمريكية للآثار التي أظهرت تفاصيل هذا المبنى الفخم منذ عام 1950 - 1951 عن مساحة واسعة أيضًا حول البوابة الجنوبية لمدينة تمنع تضمنت مزيدًا من الجدران المتصلة بها ومدخل فنائها وشارعين وعدة مبان. كما كشف الأهلون بعد ذلك بطريق المصادفة عن مبان أخرى. وتعددت الفروض بشأن الأغراض التي خدمتها هذه العناصر المكتشفة وكانت منها دور تضمنتت نصوصًا تحدد أسماءها وأسماء أصحابها أحيانًا (مثل: دار يفش، ودار يافع، ودار هدث، ودار شعبان، ودار عثمان .. إلخ).

وظهرت مبان أخرى افترض مكتشفوها أنها خدمت أغراضًا عامة. ففي داخل بوابة المدينة وجدت على سبيل المثال ساحة رصفت بالحجر وقامت على جانبيها دكات حجرية مما احتمل معه أنها كانت ساحة سوق أو ساحة اجتماعات (بما يشبه ساحة أو دار للندوة) ومبنى آخر شيد على دكة مرتفعة ويؤدي إليه

ص: 72

درجان (أحدهما من ناحية الجنوب والآخر من ناحية الشرق)، وتضمن في مدخله صفوفًا من المناضد الحجرية، مما دفع بمكتشفه إلى أن يفترض أنه كان يمثل دار محكمة مركزًا للشرطة أو نحوه.

ومن أهم الدور الخاصة التي أشرنا إلى الكشف عنها قرب بوابة المدينة مبنيان متصلان سمي أقدمهما بيت يفش، وسمي الآخر بيت يافع أو يفعم، واتصل به بطريق يؤدي إلى فناء، وكنموذج للمباني الثرية في تمنع لا بأس من تقديم وصف مفصل لبيت يفش. فقد تألف من طابقين: طابق أرضي ذي صفات أو بواكي مسقوفة، وعدة غرف تقوم بدور مصانع خاصة صغيرة، ثم طابق علوي تضمن شرفات ومقصورة مباخر ومخزنين للبخور. ويستنتج من ستة نصوص تعلقت به أنه شيد في أواخر القرن الثاني ق. م. (كما يعتقد ألبرايت) ثم اشتراه وجدده رجل من أثرياء العاصمة يدعى هوفعم بن ثونب في بداية القرن الأول ق. م. ووقفه باسمه (وربما باسمه مع اثنين من أسرته مرة أخرى؟) على كبار معبودات قتبان: أنباي، وإيل تعلاي، وعثتر، وعم، وذات سنتم، وذات ظهران، وورفو. وبقيت بين أطلال هذا المبنى ثلاث غرف في حالة طيبة بحيث عثر في داخلها على صناديق للبخور ومرايا برونزية وما شابهها.

وأمتع ما عثر عليه بجوار جداره الجنوبي المواجه لبوابة العاصمة تمثالان من البرونز (ارتفاع كل منهما61 سم وطوله 70سم) ولا يعرف إن كان في الأصل متجاورين أو متقابلين. ويمثل كل منهما لبؤة بكفل أسد ترفع إحدى ساقيها الأماميتين، ويعتليها غلام عار يمسك قوسًا بيمناه ويقبض بيسراه على حلقة لسلسلة كانت تنتهي بطوق يحيط بعنق اللبؤة، ولعله كان يسمك أيضًا بسوط أو نحوه. والغلامان توأمان مع اختلاف يسير بينهما في الملامح، ويعتبر التمثالان من أروع القطع الفنية التى احتفظت بها مناطق الجنوب العربي حتى الآن والتى تزكي ما رواه استرابون في القرن الأول ق. م. عن مهارة العرب الجنوبيين في الصناعات المعدنية. وسجل على قاعدة أحد التمثالين اسما الفنانين ثويب وولده عقرب (حرفيًا: ثويبم وعقربم) اللذين قاما بزخرفة الدار وقلدا بالتمثالين نموذجًا من الفن الهيلينستي السكندري فنجحا في عملية التقليد إلى حد ملحوظ وإن ظل تشكيلهما أقل إتقانًا من الأصول الهيلينستية المماثلة لهما والتي وجد بعضها في منف في مصر. وإلى جانب الهدف الزخرفي في هذه المجموعة الفنية افترض بعض الباحثين أنها رمزت إلى معنى ميثولوجي (أي ديني أسطوري). وفي تحديد هذا المعنى آراء شتى، ومنها ما يرى أن اللبؤتين ترمزان إلى شمس الشتاء وشمس الصيف، وأن راكباهما التوأمين يمثلان عثتر نجم الشعرى ابن القمر، كما

ص: 73

يقومان بدور سدنة عم المعبود الأكبر لدولة قتبان وقد أخضعا له الشمس وروضاها. وليس ما يمنع من افتراض أن المجموعة كلها كانت تخدم كذلك غرض الحماية الرمزية لبيت يفشان، أو غرض الحماية الرمزية لما يدخل من بوابة المدينة المجاورة له من قوافل التجارة. ولكل من هذه الفروض والآراء ما يبرره من عقائد العرب الجنوبيين ومن العقائد الهيلينستية المنقولة لا سيما من مدينة الأسكندرية التي روى بعض المؤرخين الكلاسيكيين أن وفودًا من التجار العرب الجنوبيين كانوا يشتركون في مواكبها وأسواقها ويتبادلون الأفكار مع أهلها، فضلًا عمن كان يقصد بلاد العرب نفسها من رحالة العصر الهيلنستي، وما يصلها عن طريق التجارة من القطع الفنية ذات الدلالات أو الأغراض العقائدية والتى تغري الفنانين بتقليدها.

ولم تخل دار من الدور الباقية الأخرى من آثار تدل على ثراء أهلها وتدل على أهمية ما يمكن أن يظهر من آثار بقية المدينة حين يتم الكشف عنها، وهو ما ندع التفصيل فيه الآن.

وكانت لقتبان فنونها المحلية في النحت والنقش وصناعة الحلي وقطع الزينة وهذه نتجاوز عنها أيضًا مؤقتًا مراعاة للإيجاز. ومن نماذج النحت في الحجر التى تأثرت بالفن الهيلينستي ولت على اتساع صلات قتبان بالخارج، رأس مرمرية توضع في مستوى تمثالي اللبؤتين والغلامين البرونزيين، وهي لأنثى أطلق عمال الحفائر الأثرية عليها اسم مريم أو مريام فاشتهرت به. وعثر عليها فى إحدى مقابر حايد بن عقيل جبانة العاصمة، ويحتمل إرجاع صناعتها إلى ما بين القرن الأول وبين القرن الثاني ق. م. وقد انعقدت خصل شعرها خلف رأسها من نفس مادة الحجر بما يشبه الطريقة المصرية القديمة، واحتفظ محجرا عينيها بآثار التطعيم باللازورد على عادة كثير من تماثيل الجنوب وعادة التماثيل المصرية أيضًا. وعنقها طويل كانت تحيط به قلادة، وأذناها مثقوبتان ليتدلى منهما قرطان. ومع ما أخذت به هذه الرأس من الأسلوب الهيلينستي، حز فنانها على صدغيها تقليدًا لوشم أو شريط قد يعبر عن عادة محلية أو قبلية، إن لم يكن تقليدًا لأثر حجامة أجريت لصاحبة الرأس ابتغاء الشفاء من مرض ما.

د) علاقات قتبان بجيرانها:

شهدت دولة قتبان أطوارًا مختلفة من التوسع ومن الانكماش في تاريخها الطويل. وكيفت سياستها نحو جيرانها الأقربين، صداقة أو عداء أو حيادًا. بما يتمشى مع قدراتها وإمكاناتهم. فقد مر بنا في تتبع العلاقة بينها وبين جارتها القوية سبأ، كيف أنها لزمت الحياد والشماتة أيام حروب كرب إيل وتر السبأي ضد

ص: 74

معين وأوسان (قبل عام 430 ق. م.) وكيف أمنت بهذا على أرضها من أطماعه بل وحصلت منه على بعض أراضي أوسان القريبة من البحر الأحمر مكافأة لها على مسلكها إزاءه. غير أن تلاصق الحدود بين الدولتين الطموحتين سبأ وقتبان كان من شأنه أن يهيئ استمرار فرص التنافس والاحتكاك ثم الاشتعال بينهما. وقد ورد في نصين ذكر حربين بينهما صعب توقيتهما إن كانتا سابقين على أيام الحياد في عهد كرب إيل وترى السبأي أم تاليتين لها. وصعب كذلك ترتيب أسبقية إحداهما على الأخرى. وعن إحدى هاتين الحربين تحدث قائد سبأي يدعى تبع كرب عن حرب بين الدولتين استمرت خمسة أعوام. وكانت قتبان فيما يبدو هي البادئة بها، وانتهت إلى ما يشبه الصلح أو الهدنة، الأمر الذي دعاه إلى أن يخصص أوقافًا كثيرة لمعابد أرباب سبأ الكبار، وذلك مما يعني من ناحية أنه اعتبر الصلح كسبًا ينبغي شكر أربابه عليه، ويعني من ناحية أخرى أن الحرب بين الدولتين لم تنته إلى نتيجة فاصلة وأن أيًا منهما لم تستطع القضاء على الأخرى.

وتحدث قائد قتباني يدعى يذمر ملك عن الحرب الأخرى وروى عن مرحلة منها أنه هزم عدة قبائل وعشائر واستولى على مدنها ونخيلها وأرضها، ثم أعلن تقديمها إلى المعبود عم وإلى أنباي وإلى ملكه يدع أب يجل بن ذمر عالي ملك قتبان. وذلك مما يعني أنه مع فخره بمجهوده في الحرب قد رد الفضل في النصر والحق في تملك الأرض المكتسبة ونتائج النصر إلى معبودي دولته الكبيرين وإلى ملكه الذي كان يعتبر نفسه ولدًا لهما وممثلًا لهما على وجه الأرض. وزاد ذلك القائد عبارة في نصه تحدث فيها عن مرحلة حرب واسعة شنتها سبأ وإمارة رعنان وقبائلها التي ساءها أن تملك القتبانيون جزءًا من أرضها، ضد قتبان. ولكي يضخم القائد القتباني من كثرة الأعداء وضراوة الحرب ألمح إلى أنه تجمع فيها حقد عهود المركبين وعهود الملوك السبأيين ضد ملكه يدع أب يجل بن ذمر عالي ملك قتبان وضد قتبان نفسها وضد أولاد عم جميعًا.

وبعد هذه الحرب التي لا يعرف شيء مؤكد عن نتائجها، والتي يفترض ألبرايت أن الملك القتباني الذى ذكر في سياق نصها وهو يدع أب يجل قد حكم في منتصف القرن الرابع ق. م -شقت قتبان طريقها وظلت تسيطر على أجزاء من المناطق الساحلية التى كانت تشغلها من قبل دولة أوسان والتي عاشت في بعض أجزائها قبائل حمير ذات الصلة والقرابة بالقبائل السبأية. وقد تلونت هذه القبائل الحميرية حينذاك بالولاء القتباني واعتبرت نفسها من ولد المعبود عم معبود القتبانين. وأطلقت على حصنها الرئيسي اسم ريدان، وهو اسم يراه الباحث فون فيسمان قتباني الأصل كان يطلق من قبل على حصن رئيسي للعاصمة.

ص: 75

القتبانية تمنع وقام على ملتقى الوديان إلى الجنوب منها. وقد ذكر في نص إنشائه (قبيل بداية القرن الرابع ق. م) أنه في اتجاه حدن، ولا زال حصن حدن (أو حادي) هذا قائمًا أسفل الجبل حيث توجد أطلال ريدان.

على أنه لم يكن من المنتظر أن تسير الأمور في مصلحة قتبان دائمًا. فبعد عام 285ق. م استطاعت جيوش الملك السبأي يثع أمر بيين أن تسترد بعض الأراضي التي اكتسبتها قتبان من أسلافه خلال القرن الرابع ق. م، وذكر نصه من المدن التى استردتها جيوشه حينذاك مدن نعمان وصنعاء وذبحان ذو حمرور.

وشهدت قتبان فترة ازدهار أخيرة في عصر أسرة حاكمة ثالثة أو رابعة بلغت شأوها في عهد شهر يجل يهرجب الذي يؤرخ ألبرايت وفون فيسمان عهده ببداية القرن الأول ق. م. وقد تطلعت قتبان في عهده إلى دولة معين الواقعة إلى الشمال منها فاجتزأت جانبًا من أرضها وعقدت معها حلفًا احتفظت لنفسها فيه بالمكانة الأسمى، ولعلها استهدفت من وراء هذا الحلف أن تضيق به على دولة سبأ فتضغط هي عليها من الجنوب وتضغط حليفتها معين عليها من الشمال. ويرجع إلى أيام هذا التحالف نص من عهد ملك معين وقه إيل يثع أرخه كاتبه المعيني باسم ملكه واسم ولي عهده وشريكه في الحكم إيل يفيع يشور الثاني، كما أرخه في الوقت نفسه باسم الملك القتباني شهر يجل يهرجب، وذلك مما يدل على اعترافه الضمني بنفوذ قتبان على بلده. وعندما انفرد ولي العهد المعينى إيل يفع يشور بالحكم بعد أبيه حضر حفل توليته في عاصمته كاهنان قتبانيان نيابة عن ملكهما. ولعل هذه الفترة من الازدهار القتباني هي التي روى عنها الرحالة الروماني بليني أن إنتاج الكندر كان يأخذ طريقه من حضرموت وعاصمتها شبوة إلى حيث تتسلمه قتبان وعاصمتها تمنع على طريق البخور الممتد حتى ساحل الحبر المتوسط، وروى عنها كذلك ما سبق أن استشهدنا به من أن الجبانيتاي (أو القتبانيين) لهم مدن كثيرة أكبرها نجاو وتمنع، وأنها كان في هذه الأخيرة 65 معبدًا مما يشير إلي ثرائها.

ولكن يبدو أن بلوغ القمة قد يعقبه الانحدار أحيانًا، فقبيل عهد شهر يجل يهرجب اهتز أحد الموارد الاقتصادية للدولة بعد نجاح السفن المصرية في عصر البطالمة في اجتياز مضيق باب المندب حوالي عام 120 أو 117 ق. م للاتجاه إلى الهند والاتجار معها رأسًا دون وساطة عرب السواحل الجنوبية ومنهم القتبانيون. وليس من المستبعد أن هذا الوضع كان من أسباب تحول أطماع قتبان إلى دولة معين لكي تعوض من مكاسب تجارتها البرية ما أوشكت أن تخسره من مكاسب تجارة الساحل.

ص: 76

ولكن ترتب على تخفيف قبضة قتبان الاضطراري على المناطق الساحلية للبحر الأحمر أن تألبت عليها قبائل حمير المنتشرة فيها، ويبدو أنها كانت قد نجحت في تجميع كلمتها من قبل بداية القرن الأول ق. م. وبيتت النية على الاستقلال عن قتبان. وليس ما يعرف حتى الآن عن تفاصيل هذه المحاولة إلا أنها حققت هدفها في النصف الأخير من القرن الأول ق. م. فقاتلت قتبان وأخذت منها ما كان باقيًا لها من سواحلها.

وتوفرت بهذا فرصة ذهبية لسبأ التى سكتت على الازدهار القتباني المجاور لها على مضض، وعانت من تضييق قتبان عليها من الجنوب وتضييق حليفتها أو تابعتها معين عليها من الشمال. فاستغلت فرصتها وبدأت بأضعف الفريقين وهي معين فهاجمت عاصمتها واستولت على مناطق واسعة من أراضيها قبل الربع الثالث من القرن الأول ق. م.

وانكمشت قتبان على خارطة الجنوب بعد أن خسرت أرض حمير وخسرت حليفتها معين، ولكنها جاهدت في سبيل البقاء وساعدها على الاستمرار أن غريمتها دولة سبأ كانت تعاني هي الأخرى من مشاكل متعددة نتعرض لها في حينها، فلم تستطع أحداهما أن تقضي على الأخرى، وإن اتصلت المناوشات بينهما.

وفي هذه المرحلة المضطربة من تاريخ قتبان توالي ملوك لا يذكر لعهودهم من الأعمال الإنشائية إلا أن أول عملة ذهبية قتبانية سكت في عهد أحدهم وهو ورواو إيل غيلان في الحصن الملكي القتباني حريب. وكانوا في مجموعهم ضعاف الحيلة إزاء اضطراب موازين القوى في الجنوب، وكان ازياد ضعفهم مشجعًا أو مترتبًا على هجوم جديد غير متوقع من جارتهم الشرقية دولة حضرموت التي بسطت نفوذها على الأجزاء الشرقية من قتبان، بحيث عثر على ثلاثة نقوش في وادي بيحان القتباني تمجد ثلاثة ملوك حضرميين. وقد روى أحدهما أن ملكه الحضرمي عمل على تسوير مدينة غيلان بعد أن تغلب أبوه على قتبان (أو على جزء منها) وروى آخر أنه تم في عهد ملك حضرمي مشروع للري في منطقة وعلان (القتبانية).

وكان في العاصمة تمنع ملك قتباني لا يزال يحسن الظن بسلطته وهو شهر هلال بن ذر أكرب. إذ وجد له نص مرسوم يطلب فيه إلى كبير العاصمة (أي المدير المحافظ أو من يؤرخ باسمه) بتحصيل الضرائب ممن يسكنون ويزرعون الأراضي في سد (قرب العاصمة) وأمر المزارعين بأن يلتزموا بمرسومه ابتداء من أول ذي فرعم إلى السادس من ذي فقحو يومًا بيوم وشهرًا بشهر. واستنتج

ص: 77

الباحث رودوكاناكيس من العبارة الأخيرة أن ذا فرعم يمثل أو شهور السنة الزراعية عند القتبانيين ،أن ذا فقحو يمثل آخرها. ولو أنه ما من بأس فيما يبدو أن يكون ذو فرعم أول الحصاد، وذو فقحو آخره، فمواسم الحصاد هي التى يستيطع المزارعون أن يوفوا فيها بالتزاماتهم تجاه الدولة، وليست مواسم الزراعة كلها. وربما دل اللفظان في سبأ على العشرتين الأوليين من الشهر.

وفي عهد الملك شهر هلال أيضا حوالي عام 100 أو 106 م دمرت تمنغ عامصة قتبان تدميرًا عنيفًا لازالت آثاره باقية في معالمها القديمة التي اكتسى بعضها بطبقة كثيفة من الرماد دلت على حريق متعمد، لا تعرف حتى الآن حقيقة المتسببين فيه.

وعلى الرغم مما لحق بها، جاهدت قتبان في سبيل البقاء لفترة أربعين عامًا أخرى أو نحوها، فاكتفت بمناطقها الغربية، ونقلت عاصمتها إلى حريب التي أشرنا إلى سك أول عملة ذهبية قتبانية فيها، ووجدت بها بالفعل عملات أخرى ضربت بها، ونقشت على بعضها صورة البومة وتحتها خنجر. وكانت صورة البومة من رموز بعض العملات الإغريقية السكندرية. ويبدو أن قتبان قد اضطرت نتيجة لضعف حيلتها أن تنضم إلى حضرموت في مشاكلها ضد دولة سبأ بعد أن أصبحت هاتان الدولتان هما مركز الثقل في الجنوب العربي فحاربت في صف حضرموت، ثم تهاوت حوالي عام 140م (أو146م) بعد أن استهلكت قوتها، وانحسر كيانها السياسي، وهجرت مناطقها الزراعية بعد أن قلت رعاية مشاريع المياه فيها، وغطت الرمال عليها. وآلت أرضها فيما بعد إلى حوزة دولة سبأ وذوريدان منذ أوائل القرن الرابع الميلادي.

ملحوظة:

أسهمنا بعض الشيء في الفصول السابقة فى مناقشة تاريخ دولة سبأ وتاريخ دولة قتبان، من حيث مشكلات النشأة، وتطور الحياة السياسية، ومشاريع العمران وفروع الفنون، وتأثير العوامل الداخلية والخارجية في كيان كل دولة منهما لكي نجعل من هذه المناقشات نموذجًا للتوسع فيما يعالج به تارخ بقية الدول العربية القديمة الأخرى التى سنحاول الاكتفاء بخطوطها الرئيسية فيما يلي، مراعاة للتخفيف مؤقتًا. وندع التفصيل فيها للجزء الثاني من كتابنا في الشرق الأدنى القديم حين يصدر في وقت لاحق قريب بإذن الله.

ص: 78

من المؤلفات المختارة في دراسات الفصل:

جواد علي: المرجع السابق -ج2 - مادة قتبان.

نيلسن وآخرون: المرجع السابق -ص132 - 136، 279 - 289.

Abdel-Aziz Saleh، op.cit.

Bowen، R. Jr،. Albright، W.F.، and others، op.، cit.،43-68 155-163.

Philby، op،cit.، 59-63.

Phillips، op.cit.،51f.

Pirenne،J.، Le Royaume Sud-Arabe des Qataban et sa Datation،

Louvain 1961.

Rhodokanakis، N.،Katabanische Texte zur Bodenwirtschaft، I-II، Vienne 1919،1922.

ص: 79