المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السادس عشر: انتقال مركز الثقل إلى مكة ويثرب - تاريخ شبه الجزيرة العربية في عصورها القديمة

[عبد العزيز صالح]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: مصادر التاريخ العربي القديم ودراساته الأثرية الحديثة

- ‌الفصل الثاني: ممهدات العصور التاريخية في شبه الجزيرة العربية

- ‌مدخل

- ‌خطوط الكتابة القديمة في شبه الجزيرة العربية

- ‌كتابة المسند:

- ‌الخط النبطي وتطوره إلى الخط العربي

- ‌الفصل الثالث: تمهيد في جنوب شبه الجزيرة العربية

- ‌مدخل

- ‌مشكلة نشأ دولة سبأ في عصورها المبكرة

- ‌الفصل الرابع: عهود المكربين في سبأ

- ‌الفصل الخامس: دولة قطبان

- ‌الفصل السادس: دولة معين

- ‌الفصل الثامن: دولة أوسان

- ‌الفصل التاسع: عودة إلى دولة سبأ في عصر الملكية السبأية

- ‌الفصل العاشر: دولة سبأ وذوربدان-وسيطرة حمير

- ‌الفصل الحادي عشر: مناطق الأطراف العربية

- ‌اولاً: المصادر المسمارية

- ‌ثانيًا: من نتائج الكشوف الأثرية الحديثة:

- ‌الفصل الثاني عشر: الجماعات العربية القديمة ذات الصلة برسالات الأنبياء

- ‌أولًا: مدين

- ‌ثانيًا: قوم عاد

- ‌ثالثًا: الثموديون

- ‌الفصل الثالث عشر: من الممالك العربية المسقرة

- ‌اولاً: دولة ددان ولحيان

- ‌ثانيًا: دولة الأنباط

- ‌الفصل الرابع عشر: من ممالك الأطراف العربية

- ‌أولًا: مملكة الحيرة

- ‌ثانيًا: دولة الغساسنة

- ‌الفصل السادس عشر: انتقال مركز الثقل إلى مكة ويثرب

الفصل: ‌الفصل السادس عشر: انتقال مركز الثقل إلى مكة ويثرب

‌الفصل السادس عشر: انتقال مركز الثقل إلى مكة ويثرب

الفصل السادس عشر: تحول مركز الثقل إلى أواسط الحجاز في مكة ويثرب

من معاني الحجاز فيما ذكرته المعاجم العربية معنى الحاجز بين الغور وتهامة وهو هابط. وبين نجد وهو ظاهر. أي بين السهل الساحلي الموازي للبحر الأحمر فيما يمتد من اليمن جنوبًا إلى خليج العقبة شمالًا، وبين مرتفعات هضبة نجد. وتعتبر سلسلة جبال السراة هي العمود الفقري لهذا السهل، وقد تخللت حافتها الداخلية عدة وديان من أهمها وادي القرى الذى تميزت من مدنه الرئيسية كل من مكة ويثرب، بعد أن ورثت كل منهما نصيبًا مما كانت تنعم به المدن القديمة الواقعة إلى شمالهما مثل: مدين ولحيان وحجر ثمود وحجر الأنباط، ثم مارست كل منهم نهضتها الخاصة فيما بين القرن الخامس وبداية القرن السابع للميلاد.

وتقع مكة في واد شحيح الماء والزراعة أشبه بحوض جبلي تحوطه مرتفعات السراة الجرداء، وتشتد حرارته صيفًا كما يشتد جفافه فيقلل أخطار أوبلة المناطق الحارة على أهله.

وبديهي ألا يكون للتنقيب الأثري دور هام في تتبع ماضي هاتين المدينتين، نظرا لما يحيط بهما من قداسة خاصة وحرمة دينية، الأمر الذي يكاد يقصر مصادر تاريخهما حتى الآن على بعض المأثورات الدينية، والروايات العربية. وبعض الملابسات الخارجية.

وقد خص القرآن الكريم مكة بماض تاريخي بعيد تبعًا لقيام البيت الحرام فيها، والذي قال فيه:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} . ويبدو أن قدم هذا البيت لم يبدأ بالضرورة بعهد إبراهيم عليه السلام في حوالي القرن التاسع عشر قبل الميلاد كما افترض بعض المؤرخين ولم يبدأ بالضرورة أيضاً منذ عهد آدم كما ذهبت إليه أقوال بعض المفسرين. وإنما قد يكفي فيه ما ينم عنه ظاهر قول إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ

ص: 173

غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [سورة إبراهيم: 37] وفي هذا ما قد يعني قيام البيت الحرام فعلًا في صورة أولية من قبل عهد إبراهيم، وأن إبراهيم توخى حمايته وحرمته فأودع زوجته هاجر المصرية وولده إسماعيل في رحابه. وذاك احتمال يزيد منطقية عما قيل من احتمال دعاء إبراهيم بالدعاء السابق عقب بنائه البيبت لأول مرة. وهو أمر لم يتم بطبيعة الحال إلا بعد أن انقضت على إسكانه أهله عنده سنوات طوال امتدت حتى شب إسماعيل عن طوقه وعاون أباه في البناء (انظر سورة البقرة: 127).

ولعل البيت المحرم أو بناء الكعبة في صورته الأولية تلك كان هو المعني بتسمية البيت العتيق التي ذكرتها له آيتان من سورة الحج 29، 33، إذا أخذت لفظة العتيق هنا بمعنى شدة القدم وهو الشائع إلى جانب معاني العتق والكرم والجمال، كما تذكر قواميس اللغة. وإن كانت هذه التسمية قد انصرفت بعد ذلك إلى بقية صفات البيت الشريف واقترنت بها. ولعل الحجر الأسود أو الأسعد هو كل ما بقي من بنيان ذلك البيت العتيق، أو هو ما أمكن الاحتفاظ به منه، ونتيجة لقيمته وندرته اكتسب شيئًا من علو المكانة وإعزاز الرسول له، والعرب ثم المسلمين بكافة، باعتباره أثرًا جليلًا فريدًا من ماض كريم بعيد. وقد لا يكون من بأس بعد هذا الفرض المقترح من النظر كذلك بعين الاعتبار الروحي إلى بعض روايات المفسرين الإسلاميين عن ماضي الحرم والحجر وارتباطهما بمعجزات سماوية لا تتطرق إليها الدراسات التاريخية عادة في مناقشاتها الحديثة، ولكن لا بأس معها في الوقت ذاته من تذكر مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن هذا الحجر بما معناه والله إني لأعلم أنك حجر لا يضر ولا ينفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك، متأدبًا في ذلك بأدب الإسلام وأدب الرسول.

وظل الحجر الأسود على طول الأمد علامة مميزة لبداية الطواف بالكعبة المشرفة.

ويبدو أن عندما تقادم البيت العتيق وطال العهد به، وهجر ما حوله وطمست بئر زمزم المجاورة له، وانقطع بهذا رواده المؤمنون به أو كادوا، تطلب الأمر الإلهي إقامة قواعده من جديد، وإعادة تعميره وإحياء شعائره. وتكفل إبراهيم بهذا وعاونه فيه ولده إسماعيل بعد أن شب عن طوقه، في مثل قول الذكر الحكيم:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .

وغني عن الذكر أن بناء الكعبة قد جدد أو رمم بعد ذلك أكثر من مرة،

ص: 174

وشارك الرسول عليه السلام في إحدى هذه المرات قبيل بداية بعثته الشريفة بقليل.

وربما أوحى بنفس القدم البعيد للبيت قول القرآن الكريم: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [في سورة الحج: 26 - 28] وذلك بما يعني إلهامه أو إرشاده إلى موضع البيت الذي قام فيه، أكثر منه إلى المكان الذي سوف يقيمه هو فيه، ثم الإذن له بأن يعمل وولده على تطهير ساحته ربما مما كان قد وجد عليها من أصنام ومحرمات.

وكان من دعاء إبراهيم وإسماعيل قولهما: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} . وهو ما قد يعني بداية تشريع هذه المناسك، أو على الأرجح هدايتهما إلى ما غاب عنهما منها والمسامحة حين النسيان والخطأ في أدائها.

أما عن نشأة البيت العتيق قبل أيام إبراهيم، وصورة بنائه، والقائمين ببنائه، فكلها أمور يصعب البت فيها برأي شاف في ضوء المعارف المتيسرة عنها حتى الآن. وحسبها إمكان تفسير أولوية هذا البيت على ما عداه بأنه أول بيت وضع للناس على الأرض لعبادة الله بخاصة. وهي أفضلية تمايز بها عن المعابد أو بيوت العبادة في الديانات الوضعية القديمة والتي كان منها ما سمي باسم البيت فعلًا، مع اختلاف لفظه باختلاف لغة أهله، ونسبته إلى موضعه أو إلى معبوده الرئيسي في كل من الحضارات المصرية والآشورية والكنعانية والآرامية والعربية القديمة أيضًا.

ومن المسلم به أن إبراهيم عليه السلام لم يكن أقدم الرسل والأنبياء الذين دعوا إلى تقديس الله وحده في بيوت العبادة، وإنما سبقه إلى مثلها، أو كلف بمثلها، أنبياء آخرون. وإذا كان قد اعتبر أبا الأنبياء فإنما يعني هذا أبوته الشريفة البعيدة لأنبياء الإسلام والتوراة أو العرب واليهود.

ولعل مثل هذه الفكرة بقدم كيان البيت عن عهد إبراهيم كانت من وراء قول بعض المفسرين القدامى، ومنهم البخاري بأن إبراهيم جاء بهاجر وإسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، ولما فارقهما ووصل الثنية استقبل بوجهه البيت ودعا بدعائه: رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم.

وعلى أيه حال فإذا كان سياق البحث قد تطلب التطرق هنا إلى مسائل دينية أمكن التجاوز عن الخوض في أمثالها في بقية فصول هذا الكتاب، فإن اختلاف التفاسير أمر مسموح به فيما لا يمس الفرائض وجوهر العقيدة.

ولن نعيد هنا ما قامت به بعض كتب التفاسير والتاريخ من تأكيد صلة

ص: 175

إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بمكة والحرم، وقصة الذبيح، دون إسحاق وبرية فاران التي قال بها يهود العهد القديم، إلا إذا كانت تسمية فاران هذه تسمية عبرية تطلق على مواضع منها مكة كما أخذ بذلك بن منظور في لسان العرب، وهو ما تزكيه كذلك تسمية التوراة للعرب بالإسماعيليين نسبة إلى أبيهم إسماعيل حيثما امتد نشاط قبائلهم من شبه الجزيرة إلى جنوب الشام، ثم قول سفر التكوين من التوراة 16: 11 في صلة هاجر بإسماعيل: وقال لها -أي: لهاجر-: ملك الرب ها أنت حبلى فتلدين ابنًا وتدعين اسمه إشماعيل لأن الرب قد استمع إلى مذلتك، وحينما أمر إبراهيم بالتضحية، بابنه كان من المفروض أن يضحي ببكر أولاده وهو إسماعيل.

ونضيف هنا أنه كان بعض غلاة اليهود قد حاولوا التشكيك في قدم اسم إسماعيل الأب الروحي للعرب، ومدى شيوعه في العالم القديم، فثمة ما يلقمهم حجرًا في وجود اسم يشمع إل بمعنى يسمع الله أو إسماعيل في نص آكدي عراقي يرجع إلى أكثر من أربعة آلاف عام، ثم وجوده بعد ذلك في نصوص نبطية وصفوية تسبق العصر الجاهلي والعصور الإسلامية.

تعددت الآراء قديمًا وحديثًا في تفسير تسمية مكة. على نحو ما تعددت أمثالها في تفسير ما عداها من مسميات المواضع القديمة. وظهر من آراء اللغويين المسلمين ما عقد الصلة بينها وبين ألفاظ عربية معينة تشبهها في الشكل والنطق أو في دلالة التقديس. ومنها: المتك وهو امتصاص الماء حين قلته. وامتصاص الفصيل للضرع، وربما امتصاص الناس إلى مكان ما، والمتك وهو القدرة على إضعاف الجبارين، والمكوك وهو المكان الهابط بين مرتفعين. وربما المك أيضًا أو المكاء وهو طواف بعض الجاهلين بالصفير أو التصفيق.

ولمالم يكن في كل هذه المشتقات ما يشفي الغليل، اتجهت آراء حديثة إلى عقد المقارنات بين اسم مكة وبين بضعة ألفاظ من لغات أو لهجات أخرى قريبة الصلة باللغة العربية الشمالية. ومنها لفظ مكربة أو مكارابو في اللغة العربية الجنوبية بمعنى التقديس والتقريب وهيكل القربان. وقد شابه هذا اللفظ الأخير ما أشار إليه الرحالة بطلميوس السكندري من وجود مدينة عربية تسمى ماكورابا Macoraba. سبق إنشاؤها بطبيعة الحال العهد الذي عاش فيه وهو منتصف القرن الثاني للميلاد.

واقترح رأي آخر تقارب اسم مكة مع لفظ مك البابلي بمعني البيت بحيث إذا أضيفت كلمة رب ليكون مكرب كان معناه بيت الرب، على سبيل

ص: 176

الاحتمال.

وإذا جاز عقد مثل هذه الصلة مع لغة أخرى من خارج شبه الجزيرة العربية فلا بأس من أن تضاف إليها مقارنة ثانية، وهي وجود لفظ مكة في اللغة المصرية القديمة ذات الصلة بمجموعة اللغات السامية، واستخدامه بما يعني الحماية وسلامة الوضع. وكما لم تكن اللغة البابلية غريبة تمامًا على إبراهيم عليه السلام مع ما قيل عن هجرته الأولى من جنوب العراق إلى جنوب الشام، فإن اللغة المصرية القديمة لم تكن غريبة كذلك عن إسماعيل عليه السلام مع بنوته للسيدة هاجر المصرية التي اصطحبته إلى مكة في رفقة إبراهيم، وما قيل كذلك في سفر التكوين من أن زوجته الثانية كانت مصرية أيضًا. وعلى أية حال فإن الاستشهاد باللفظين البابلي والمصري هنا لا يعني بالضرورة أنهما يمثلان مع لفظ مكة العربي مسمى واحدًا، ولا يعني أن أحد هذه الألفاظ الثلاثة قد اشتق من الآخر بالضرورة وإنما يكفي افتراض اشتقاقهما جميعًا من مصدر سامي قديم يصعب الآن تحديده.

ورادف القرآن الكريم بين اسم مكة وبين اسم بكة في الآية التي بدأنا الاستشهاد بنصها آنفًا. وقال المؤرخون القدامى بأنهما يكونان اسمًا واحدًا بعد قلب الميم باء على عادة بعض اللهجات العربية القديمة ومنها لهجة هوازن. أو يتكاملان بحيث تعبر بكة عن الكعبة والمسجد، وتكون مكة هي ما حوله فيما سوى ذلك من بطن الوادي. أما من حيث الاشتقاق اللفظي فقد قيل باشتقاق بكة من بك الأقدام حين التزاحم، كما قيل مؤخرًا صلتها بلفظ بك في اللغة الآرامية بمعنى البيت.

وتعددت أوصاف مكة بعد ذلك في المصادر العربية ومن أهمها فيما هو مشهور: أم القرى والبلد الأمين والقادس والمقدسة والعرش وأم الرحم

إلخ.

ولم يجد الإخباريون والمؤرخون القدامى ما يقال عن سكان مكة الأوائل من قبل عهد إسماعيل إلا احتمال نسبتهم إلى العماليق وهم الأقوام شبه الأسطوريين، الذين ردتهم أنساب التوراة إلى عملاق بن أرفخشذ بن سام بن نوح، على حد قولها. ويبدو كما روى المفسرون أن انكشاف بئر زمزم بعد اختفائها وتفجرها بالماء كرامة لهاجر وإسماعيل قد أغريا بعض الجماعات العربية التي كانت تمر بها على النزول عندها بعد أن كانت تتجاوزها من قبل لشدة جدب أرضها وشح مائها. وكانت جرهم القحطانية أو بطن منها من أولى هذه القبائل، وقيل: إن إسماعيل أخذ عنها لغتها أو لهجتها العربية الجنوبية إلى جانب لغة أبيه الأمورية أو الآرامية ولغة أمه المصرية، وربما زوجته المصرية أيضًا، وتناسل له إثنا عشر

ص: 177

ولدًا ظلوا يلون أمر قومهم وخدمة البيت الحرام حتى نافسهم فيها أبناء خؤولتهم من جرهم بعد أن تلاحقت بطونهم إلى مكة، وأزاحوهم فتفرقوا حولها وأسفلها.

ولم يلبث الجرهميون بدورهم أن فاجأتهم هجرة للأزد من اليمن وعلى رأسها خزاعة فأزاحتهم إلى ظاهر مكة كما أزاحواهم أبناء إسماعيل وبطون كنانة من قبل، وتفرقوا حولها وفي تهامة.

وولي عمرو بن لحي كبير خزاعة الحكم وشئون البيت. ولأمر أو آخر نسبت الروايات العربية إليه، أو إلى عمرو بن ربيعة المعروف بعمر بن يحيى، أنه بدل دين إبراهيم وأدخل عبادة الأصنام واستقدم بعضها من جنوب الشام. وعمل على إقامتها حول الكعبة، ربما ليغري أتباعها بزيارتها والائتناس بها كلما رحلوا إلى الحجاز، مع تقريب ما بينهم وبين شعائرها بعد أن قل وفودهم إليها اتقاء لبغي جرهم وما قيل عن تعديها على قوافل التجارة المارة بها وقوافل الحج القاصدة إليها.

وظل أمر خزاعة في يدها حتى نجح قصي الجد القديم للرسول عليه السلام، في فترة ما من القرن الخامس الميلادي، في تزعم قريش، وقريش بطن من كنانة، وكنانة من مضر، أو هي من قبائل تهامة، كما يقول النَّسابون. ويبدو أنها عاشت قبل عهده متفرقة حول مكة في تهامة أو عاشت لفترة قبل ذلك في شمال غرب الحجاز حيث اختلطت هناك ببقايا دويلاته القديمة من اللحيانيين والأنباط ومن عايشهم في أرضهم من جاليات المعينيين والحميريين الجنوبيين، واكتسبت منهم بعض عناصر حضارتهم. كما مهرت في ممارسة التجارة حتى لقد قيل: إنها سميت قريشًا لاحترافها التجارة، والتقرش هو التجمع والاكتساب والتجارة.

وثمة نص للملك الحضرمي إيلعز يليط من حوالي القرن الثالث الميلادي تحتمل دلالته على أن موكب الملك إلى الحصن الملكي أنود قد تضمن عشر نساء قرشيات. ولو صحت هذه القراءة لزكَّت قدم قريش واتصال بعض بطونها بجنوب شبه الجزيرة العربية أيضًا.

وسلك قصي زعيم قريش سبيل السياسة أولًا، فأصهر إلى زعيم خزاعة حتى إذا ما ارتفع شأنه وبان ضعفها انقلب عليها، وربما استعان عليها ببطن من قضاعة قد يكون من الغساسنة أو ممن والاهم. وأجلى خزاعة عن مكة هم ومن والاهم من بكر فارتحلوا إلى بطن مر في وادي فاطمة حيث انضمت إليهم فيما بعد بطون من كنانة وخزيمة بن مدركة وحالفوهم، وأطلق عليهم مع مر الزمن اسم الأحابيش بمعنى الموالي أو شيء من هذا القبيل، وربما عاش في مجتمعهم جماعات من أصول أفريقية ضمت رقيق التجارة والحروب ومن إليهم.

وضمت قريش حضرًا وبدوًا. وعاش حضرها في داخل مكة واقتسموها

ص: 178

أرباعًا، وسمح لهم قصي بالبناء حول الكعبة بعد أن كان الجرهميون والخزاعيون يقيمون على مسافة منها، وهؤلاء هم قريش الأبطح -وهو واد بمكة- أو قريش البطاح -أي: المناطق المنخفضة- وكان منهم أغلب التجار وأهل الثراء. وانتشترت بطون أخرى من قريش خارج مكة وتوزعت في الشعاب والمرتفعات، وهؤلاء هم قريش الظواهر، وكان منهم أهل سطو وإغارة.

وجمع قصي بين رئاسة الحكم في مكة وبين شعائر الحرم، وولي أمر السقاية والحجابة والرفادة واللواء. وعمل على تجديد بناء الكعبة وتسقيفها. ولكنه مع ما اجتمع له من رئاسة أمور الدنيا والدين في بلده، قد حافظ على التقاليد القبلية في نظام حكمه، وأقام دارًا للحكومة والمشورة عرفت، أو عرفت مثيلتها فيما بعد، بدار الندوة لتكون منتدى للملإ من قومه ورؤساء العشائر المشهود لهم بالكفاية والفضل ممن تخطوا سن الأربعين، وكانوا يتشاورون فيها في المعاملات الكبيرة وأمور الحرب وإقرار السلم وعقد ألوية البعوث. وربما عقدوا فيها عقود زواج أشرافهم أيضًا. ولعلها أشبهت حينذاك مجلس المسود السبأي أو القتباني والمعيني القديم. وقد بلغ من شهرتها أن رأى فيها بعض المستشرقين والكتاب الحديثين صورة من صور التنظيم الجمهوري الذي يجمع بين خصائص الارستقراطية وخصائص الديمقراطية، بل وشبيهًا بإكليزيا أثينا القديمة. وما لبث أبناء قصي وخلفاؤه أن اقتسموا مختلف صلاحياته الدينية والدنيوية عن تراض حينًا وبالتنافس حينًا آخر.

وعوضت قريش قلة إنتاجها الزراعي والصناعي بالتوسع في التجارة المحلية والعربية وكان من سلعها التي تتاجر بها بين العرب: الأدم والزبيب والصموغ والتبر والحرير والبرد اليمانية والثياب العدنية والأسلحة. وانتفعت في ذلك بالأسواق الكبرى التي كانت تعقد بالقرب منها في مواقيت متعاقبة من الأشهر الحرم لضمان أمنها. ومنها أسواق عكاظ ومجنة وحباشة وذو المجاز وغيرها.

ومنذ أوائل القرن السادس الميلادي سنحت الفرص أمام قريش وأهل الحجاز للعمل باسم العرب على نطاق واسع، وهم بمنأى عما تدخلت به وأدت إليه أطماع الحبشة والبيزنطين والفرس في شئون اليمن والحيرة وغسان. وقامت مكة بالدور الأكبر في هذا السبيل، وانتفعت فيه بتوسط موقعها في قلب الحجاز وبعدها النسبي وحصانتها الطبيعية، وحرمتها الدينية ومنزلتها الروحية بين عرب الشمال وعرب الجنوب، فضلًا على سابق خبرتها بالتجارة والوساطة التجارية بين ممالك اليمن والشام.

ص: 179

ومن أجل تنشيط هذا الدور والخروج به من دائرته الإقليمية اتجهت بعوث رؤساء مكة إلى العالم الخارجي لعقد المعاهدات التجارية مع الدول الكبرى في أيامهم. وهكذا نسب إلى هاشم بن عبد مناف أنه آلف ملك الشام، أي حصل على إيلاف أو عهد من قيصر الروم أو ملك غسان الممثل له في جنوب الشام لتنشيط التعامل مع قريش وتأمين تجارتها في ممتلكاته، كما اكتسب مودة أحياء العرب وأمراء الشام المحليين لا سيما في أيلة وغزة والقدس حتى بصرى في حوران إلى الجنوب الشرقي من دمشق.

وقيل: إن إخوة هاشم فعلوا بالمثل، فعقد نوفل والمطلب إيلافًا مع دولة الحيرة ودولة الفرس ودولة سبأ وحمير وذي ريدان. وركز عبد شمس على إيلاف الحبشة وشرق أفريقية. وبهذا اجتمع لقريش إيلاف رحلة الشتاء والصيف، رحلة الشتاء إلى اليمن والحبشة، أو العراق، ورحلة الصيف إلى الشام. وقيل: إن من قوافلها ما كان يضم ألف بعير، ومنها ما يضم ما يزيد عن الألفين. وأخذت هذه القوافل بنظام المشاركة بحيث يسهم فيها القادرون من الأسر والأفراد، وقد يكون لهم فيه وكيل أو شريك أو أجير، تحت رئاسة شخصية كبيرة تقود القافلة وتعمل على حمايتها.

ولم تقتصر مكة على بطونها القرشية الكبيرة وحدها وإنما تضمنت معها أعدادًا ممن كانوا يقيمون فيها لفترات مؤقتة أو دائمة من تجار الحبشة والفرس والروم، أو من أملاكهم. وكانت تفرض المكوس والعشور عليهم وما يقابل أمنهم وخفارة متاجرهم. ولتشجيع نزلائها من حلفاء وموال وحجاج وتجار، أقام سادة مكة فيما بينهم حلف الفضول على ألا يظلم في رحابها قريب أو غريب، ولا حر أو عبد، إلا وكانوا معه حتى يأخذوا له بحقه من أنفسهم ومن غيرهم. وقد امتدح الرسول عليه السلام فكرة هذا الحلف وأثنى عليها.

ومع توالي الاتفاقات التجارية مع أقيال اليمن وأمراء اليمامة وملوك غسان والحيرة توسعت قريش في التجارة المباشرة ومتاجر الوساطة. وهكذا تحدثت الروايات العربية عن خفارة قريش للطائم ملوك الحيرة إلى عكاظ وكانت تتضمن المسك والمنسوجات وكثيرًا من المصنوعات. كما تحدثت عن تصديرها بضائع اليمن وما يصلها من الهند من العطور والجلود والمنسوجات والسيوف إلى بلاد الشام حيث تستورد عوضًا عنها أنواع الحبوب والزيوت والخمور والجواري.

وكما انتفعت مكة بتجارة البر انتفعت كذلك وإلى حد ما بتجارة البحر الأحمر وما يحمله من متاجر شرق أفريقية والمحيط الهندي، عن طريق مينائها الشعبية التي بقيت حتى عهد عثمان حيث سأله أهل مكة أن ينقل الساحل من

ص: 180

الشعبية إلى جدة لقربها منهم فأمر به، وكانت تقع في جون من البحر ويصلها التجار والوسطاء البحريون من مصر والحبشة والصومال، فينقلون المتاجر منها وإليها، كما كانت تمير منها سفن الروم، وأغنت هذه الميناء مكة عن أداء المكوس لمواني اليمن وغيرها من المواني الخارجية.

ومضت الأمور سراعًا في مصلحة مكة وحلفائها لسد الفراغ التجاري الناشئ من تعاقب الاضطرابات السياسية والدينية في بلاد اليمن منذ حوالي عام 520م خلال الصراع بين أنصار الديانتين اليهودية والمسيحية والتدخل الحبشي فيها، ثم فشل الحبشة وحلفائها في تعويض تناقص سفن الروم في تجارة البحر على نطاق واسع، مع تخلخل أمن الطرق التجارية في الهلال الخصيب بين العراق والشام خلال الحروب البيزنطية الفارسية.

ولم ينج ازدياد نشاطات مكة وحلفائها من العرب الشماليين من إجراءات مضادة ضمنية ومباشرة، لوأدها قبل استفحالها، من قبل اليمن والحبشة وبيزنطة.

وتمثلت الإجراءات الضمنية في تزكية حملات التبشير بالمسيحية في أرجاء اليمن وتأييد الحبشة وبيزنطة لها. وبطبيعة الحال لم يكن في انتشارها من بأس لولا أن رأت مكة في هذا الانتشار ما يهدد مكانتها الدينية بين العرب الجنوبيين.

وقد سلفت الإشارة إلى تسمية كبرى كنائس نجران وصنعاء حينذاك بتسمية الكعبة اجتذابًا لمشاعر العرب وصرف ولائهم عن حرم مكة إليها. ولم تنجح هذه الخطوة كثيرًا في صرف العرب الجنوبيين عن البيت الحرام ومقام إبراهيم، أو صرفهم عن عباداتهم الوضعية القديمة.

وأما الإجراءات العسكرية المباشرة فأشهرها هو ما روته بعض المصادر العربية عن حملة ضد مكة قادها من يدعى حسان بن عبد كلال من أقيال اليمن.

وقد أسر وباءت حملته بالفشل.

وكانت حملة أبرهة الحبشي ملك سبأ وحمير ضد مكة وحرمها المقدس في عهد عبد المطلب بن هاشم حوالي عام 570م هي الأكثر إعدادًا وأشد وقعًا. وقد أسلفنا في الفصل العاشر أنها قد تفسر بطموح أبرهة إلى مد سلطانه إلى غرب شبه الجزيرة ووسطها وشمالها، ورغبته في استعادة سيطرة اليمن على شريان التجارة الرئيسي الذي أوشكت مكة، ويثرب، على احتكار مكاسبه، أو تفسر بالتعصب الديني ورغبته في المشاركة بصورة ما في الحرب البيزنطية الرابعة عشرة 571 - 580م والاستجابة فيها لدعوة الروم إلى التضييق على المصالح التجارية لأعدائهم الفرس عن طريق ربط مصالح الدولة المسيحية الجديدة في اليمن بالدولة الغسانية المسيحية في جنوب الشام، باعتبارهما جميعًا من حلفاء بيزنطة، وفشلت

ص: 181

حملة أبرهة بما سبق التعقيب به في الفصل نفسه، وعوضًا عما طمع فيه من إضعاف مكة وهدم كعبتها، أصبح فشله فيها من عوامل ازدياد شهرتها.

وعندما انقضى عهد والديه القصير، ونجح سيف بن ذي يزن في إجلاء الأحباش عن اليمن بمعونة الفرس. ترأس عبد المطلب شيخ قريش وفدها لتهنئته.

وقرن زيارته بتجديد اتفاقيات مكة التجارية مع كبار أقيال اليمن وأمراء اليمامة.

كما جدد من ناحية أخرى اتفاقياتها مع ملوك غسان والحيرة.

وأضافت بعض المصادر العربية نبأ محاولة دبلوماسية استهدف البيزنطيون منها ضمان ولاء مكة أو تبعيتها السياسية لهم، حيث أيدوا أحد سادة قريش وهو عثمان بن الحويرث، وكان قد عدل عن الوثنية وتنصر. فيكون ملكًا على مكة من قبلهم. وروي أنه جمع كبار قومه ولوح لهم بقوة قيصر الروم وثرائه، وسيطرته على مجالات التجارة في أملاكه، ولكنهم رفضوا وعده ووعيده، ورفضوه هو أيضًا. وكان في بعدهم عن تناول الروم وحاجة الشام إلى وساطتهم التجارية ما أنجاهم من أي رد فعل خارجي مباشر.

ومع هذه التجارب ظلت قريش تؤثر الحياد بين القوى الكبرى والمتنازعة في عصرها، كي تضمن أمن تجارتها وأمن حجيجها، ولكي يزداد المتعاملون معها. ووقفت في منتصف الطريق ما استطاعت بين عرب الشمال وعرب الجنوب، وبين الحيرة وغسان، وبين الفرس والروم.

وليس كثيرًا ما ارتآه البعض من أن اتساع الأهمية الدينية والتجارية لمكة قد جعل منها ملتقى لقوى العرب المتفرقة وبداية لجمعهم في إطار واحد ذي تقاليد قومية مشتركة.

وبحكم طابعها الحضاري ونشاطها وأسفارها الخارجية، اتسعت مكة لأخلاط كثيرة من العقائد الوضعية والعقائد الكتابية والحنيفية، وأخلاط أخرى من طوائف العرب والأجانب أحرارًا وموالي وأرقاء وجواري، مما أثرى لغتها وثقافتها، وأشاع فيها عملات وأوزانًا وصناعات فارسية وبيزنطية ويمنية. ومن طريف ما يروى أن نجارًا أو بناء قبطيًّا، أي: مصريًّا أو روميًّا بالتبعية، يدعى باخوم اشترك في إعادة بناء الكعبة المشرفة بعد أن تطلب بنيانها إصلاحه قبيل عهد البعثة النبوية، فصنع لها سقفًا مسطحًا يرتكز فيما روى الأزرقي على دعائم وعمد. وكانت قريش قد استخدمت لها أخشاب سفينة حبشية أو رومية دفعها الريح إلى ساحل الشعبية حيث عطبت فركب إليها جماعات من قريش وأخذوا خشبها.

ولم يكن سلام مكة سلامًا مطلقًا أو دائمًا، ولم تكن تستطيع أن تنأى بنفسها

ص: 182

عما يحيط بها من نزعات قبلية وروح جاهلية. فتعرضت لحروب متقطعة أرخت المصادر العربية بأيامها تذكرة بسوء ما حدث فيها، ومنها حرب الفجار وعام الغدر، وقد انتهكت فيهما الشهر الحرم ذاتها.

ولم يكن ثراء المكيين وتنوع طوائفهم المحلية والطارئة بغير أثر سيئ تمثل في اتساع الهوة بين مختلف طبقاتهم، وفي تجبر بعض رؤسائهم وشيوع المفاسد بين مترفيهم. فضلًا على تباعدهم شيئًا فشيئًا عن الدين القويم وأخلاقياته، وهو ما تصدت الدعوة الإسلامية له فيما بعد بالإصلاح والتقويم والتغيير، ونشر التوحيد، وهو ما يخرج بحثه عن نطاق دراسات العصور القديمة.

مدينة يثرب

لمدينة يثرب كيان قديم كفله لها تعدد أوديتها وعيونها وآبارها، وخصوبة تربتها، وبالتالي وفرة أرباضها ومزارعها، مع كثرة إنتاجها وسكانها كثرة نسبية، وأهمية أسواقها المحلية والموسمية، فضلًا على موقعها قرب شرايين التجارة الرئيسية البرية والبحرية، وتعاملها بالتالي مع متاجر اليمن ومصر والشام.

وتقع يثرب في مهاد من الأرض ذات لابات أو حرار سبخة، أهمها حرة واقم وحرة الوبرة وحرة قباء. وهي مفتوحة الحدود، وأقرب الجبال إليها جبال أحد وعير، وسلع وسليع، وهي ذات ارتفاعات متباينة.

وانتفعت يثرب بميناء الجار في عمليات التصدير والاستيراد المناسبة لعصرها القديم، وكانت تصل إليها وتخرج منها بعض متاجر عدن وشرق أفريقية والهند ومصر، وبلغ من شهرتها القديمة أن سمي الساحل الممتد منها إلى خليج أيلة بساحل الجار لفترة من الزمن -ولعلها هى البريكة الحالية التى عمرت لفترة طويلة من العصر الإسلامي- وجاورتها جزيرة صغيرة كانت ترسو عليها سفن الحبشة بخاصة. وظلت الجار كذلك حتى حلت محلها في الأهمية ميناء ينبع.

وعثر في جبل المكتب خارج المدينة على نصوص قديمة لم يتم بحثها بعد، كما عثر في جبل الصويدرة على مبعدة منها على نصوص ثمودية وصور حيوانات منقورة. وعثر في داخل المدينة نفسها عن طريق المصادفة وخلال حفر أساسات بعض المباني بالمناخة وغيرها على بقايا عمران سابق لم يتيسر تحديد عهده.

واحتفظ الإخباريون المسلمون لمدينة يثرب بأسماء كثيرة تراوحت عدتها

ص: 183

في مؤلفاتهم بين العشرة، والأحد عشر، والتسعة والعشرين، بل والأربعة والتسعين، وكانت في أغلبها صفات قد يسهل تفسير القليل منها وتعليله، بينما تصعب معرفة مدلول الكثير منها أو تحليله. وكان اسم يثرب من أقدمها، أو هو أثرب، وقد يكونان لهجتين لمسمى واحد كان يشغل جزءًا من المدينة غرب مشهد حمزة الحالي، ثم عم عليها. ومن الأهمية بمكان أن ذكر نص للملك نابونهيد آخر ملوك بابل الكلدانية في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، اسم أتربيو في نهاية توسعه بجيوشه في أرض الحجاز، وخلال محاولته السيطرة على عواصم الطريق التجاري الكبير بين غرب شبه الجزيرة وبلاد الشام. وحدث هذا التسجيل بطبيعة الحال بعد نشأة يثرب فيما قبل القرن السادس ق. م بعهود طويلة.

وتضمنت بعض النصوص المعينية القديمة اسم يثرب أيضًا، كما ذكره الرحالة بطلميوس السكندري في منتصف القرن الثاني للميلاد، بصيغتي Iathrip- Pa or Jathrippe، وأشار إليه اسطفانوس البيزنطي باسم Iathrippa Polis أي مدينة يثرب، وذلك بما يدل على أنها كانت قد استكملت الطابع المدني وتميزت به عما حولها من أراضي الزراعة ومضارب البدو. وتأيد هذا في تسميتها العربية المدينة التي قد تعبر عن هذا التحول، وتكون عربية الأصل، إن لم تكن مشتقة من لفظ آرامي قديم عبر العبرانيون عنه بصيغة مدينتو أو مدينتا بنفس معناه العربي أو بمعنى الحمى. وعندما دخل الإسلام يثرب استحب الرسول لها اسم المدينة وصفة طيبة أو طابة دون اسم يثرب الذي قيل: إنه قد يعني معنى الفساد أو التثريب أي المؤاخذة بالذنب. وشاعت للمدينة صفات أخرى من أهمها: أم القرى المدينة، والجارة والمجيرة والمجبورة. والبحرة والبحيرة .. إلخ.

أدي خصب يثرب وثراؤها النسبي إلى كثرة عمرانها، وأدى موقعها والظروف التي مرت بها إلى تعدد طوائف سكانها. وهي طوائف يصعب تحديد مسمياتها الأولى، ولم يجد النسابون لديهم إلا أن يجعلوا من أقدمها طائفة العماليق ذات الصيغة شبه الأسطورية، كما أشاروا إلى بطون متأخرة من جذام وبلى وسليم ومن قيس عيلان وغيرها ظلت بقاياها خارج المدينة حتى العصر الجاهلي، وربماكانت في الأصل بداخلها حتى غلبها غيرها على أمرها وأخرجها منها. وفازت بالشهرة أكثر منها قبائل ذات أصول قحطانية اختطلت بالعدنانية، وبقيت منها في العصر الجاهليطوائف الأوس والخزرج ببطونها الكثيرة. وجاورتها طوائف عبرية بقي منها في العصر الجاهلي أيضاً بنو النضير وقينقاع وقريظة، وبطون غيرها صغيرة. ولعل ما يقال عن تداخل الجماعات ذات الأصول القحطانية والعدنانية في يثرب يشبه ما كانت الحال عليه قديمًا في لحيان وتيماء وغيرها من حيث نزول جاليات تجارية عربية جنوبية معينية وسبأية في أرضها لكي ترعى

ص: 184

المصالح التجارية لدولها الجنوبية، ولما طال المقام بها اختلطت وتصاهرت مع السكان الأصليين من العرب الشماليين ولكن النسابين ظلوا يردونها إلى أصولها القحطانية أو الجنوبية الأولى من حين إلى آخر.

وكان من الطبيعي أن تهتم طوائف المدينة بحماية حدودها وأرباضها ومزارعها بتحصينات صناعية تمثل أكبرها في الآطام جمع أطم، وعرفت صغارها باسم الصياصي. وبني بعضها من اللبن وبني بعضها الآخر بأحجار صغيرة أو كبيرة، وزودت بأبراج كما احتوت على آبار ومخازن بحيث يحتمي بها أهلها حين الغارة، ويتحصن بها الشيوخ والنساء والصغار حين خروج رجالها إلى الحرب. وكما كانت ليثرب حصونها العامة كانت لكل طائفة من سكانها حصونها الخاصة نتيجة فيما يبدو لعدم خلوص نوايا بعضهم للبعض الآخر.

واهتم رواة اليهود وكتابهم بتاريخ طوائفهم في يثرب اهتمامًا كبيرًا لا يخلو من الغرض، وتخيلوا لها ماضيًا بعيدًا تباروا في القول ببدايته منذ أيام موسى وهارون في القرن 13 ق. م، أو بعد انتصار داود على معارضيه في القرنالعاشر ق. م، أو بعد سقوط مدينة السامرة الإسرائيلية أمام الغزو الآشوري في عام 721 ق. م، أو بعد تدمير البابليين لأورشليم وهيكل سليمان في عام 586 ق. م، أو بعد قضاء القائد الروماني تيتوس على ثورة اليهود الأولى وتخريب معبدهم في عام 70م، أو بعد القضاء على ثورتهم الثانية في عهد الإمبراطور هادريان بين 132 - 135م، أو هم قد جمعوا بين أشتات من كل هؤلاء. ومع وضوح الشك في هذا الخليط الكثير من الآراء وجد آذانًا صاغية ممن أخذوا عن الإسرائيليات وصدقوا رواتها باعتبارهم من أهل الكتاب والكتابة لا سيما وأنه لم تظهر للأسف لعرب يثرب القدامى كتابات أصيلة تتحدث باسمهم حتى الآن.

وافترض بعض المؤرخين من القدامى والمحدثين رأيًا وسطًا. احتملوا فيه أن يكون يهود يثرب أو أغلبهم من العرب المحليين الذين قد يرتد نسبهم إلى الجنوب، وأنهم تهودوا في يثرب حينما بلغتها الديانة اليهودية بطريقة ما، شأنهم في ذلك شأن من تهود من عرب تيماء وتبوك ووادي القرى وعرب اليمن أيضًا.

وزكوا هذا الفرض بما قيل من أن هؤلاء اليهود المحليين لم يكونوا يعترفون بالتلمود كله، وأن معارفهم الدينية كانت محدودة بحيث أنكر عليهم بعض يهود الشام في القرن الثالث الميلادي صدق يهوديتهم. وربما انضمت إليهم أشتات صغيرة مهاجرة من الإدوميين مثلا بعد أن زالت دولتهم؛ حيث وجد رأي ينسب بني قينقاع إليهم. ولم يكن هؤلاء وهؤلاء كثرة كبيرة، وإنما قدر عدد رجالهم في إحدى المناسبات بما لا يزيد عن الألفين.

ص: 185

وكانوا يتحدثون بعربية تداخلت فيها ألفاظ ومسميات عبرية اكتسبوها من التوراة أو ممن معهم من اليهود الطارئين، وقام لهم بيت يسمى بيت المدارس، كان من المفروض أن يتدارسوا فيه أمور دينهم ويفصلوا فيه في قضاياهم. ومع عربيتهم أو استعرابهم عاشوا في أحياء محدودة ومجتمع مقفل عليهم. وقد أسلفنا في الفصل العاشر كيف ربط بعض الإخباريين بين الملك أب كرب أسعد ملك سبأ وذي ريدان وبين يهود يثرب مرة بدخولهم إليها في عهده في بداية القرن الخامس الميلادي، ومرة بامتداد نفوذه إليها حينما توسع في نواحي معد والحجاز، ومرة برحلته إليها وتهوده، ومرة بتعيينه أحد أولاده عليها حيث قتل بعد رحيله عنها

إلخ.

واعتبرت الروايات العربية الأوس والخزرج أخوين من الأزد وقضاعة هاجروا إلى يثرب بعد سيل العرم وخراب سد مأرب باليمن، وهو توقيت غير محدد بزمن صريح حيث تخرب سد مأرب في أكثر من عهد، وأصلح أكثر من مرة كما سبق التنويه بذلك في الفصل الرابع. ولهذا تباينت آراؤهم في توقيت هذه الهجرة بالقرن الثالث أو أواخر القرن الرابع، أو في القرن الخامس للميلاد.

ومرة أخرى أشاعت الروايات العبرية وما تأثر بها أو وافقها من الروايات العربية أن الأوس والخزرج اكتفوا في بداية الأمر بحياة متواضعة في يثرب في مقابل كثرة استغلال يهودها للتجارة والصناعة. وعمل بعضهم في الزراعة وتعاقدوا في حلف مع اليهود ليؤمن بعضهم بعضًا. ووجد اليهود في هذا الحلف ما يزكي وجودهم ويكفل لهم معونة الأوس والخرزج في الدفاع عن يثرب، والقيام بدور الوساطة بينهم وبين من حولهم من عرب وأعراب.

وشيئا فشيئًا أثري الأوس والخزرج وتحسنت أوضاعهم. ورأى بنو قريظة والنضير الحيلولة دون استفحال أمرهم فأهدروا حلفهم معهم واستبدوا بهم. وانكمش الأوس والخزرج زمنًا حتى استنفر هممهم زعيم الخزرج مالك بن العجلان -أو عمرو بن النعمان- وسعى معهم إلى إحراز السيادة. ويبدو أنه حالف بطونًا من قضاعة في غسان أو في غيرها من جنوب الشام، وربما حالف بعض الحميريين أيضًا، ثم فاجأ بقومه وحلفائه اليهود قبل أن يعتصموا بصياصيهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وساد هو وقومه يثرب في ختام القرن الخامس الميلادي أو بعده بقليل. ورأى بعض المؤرخين ومنهم إلفنسون أن هزيمة اليهود حينذاك في يثرب كانت انعكاسًا لهزيمتهم في اليمن، وأنها تمت في الحالين بناءً على تحريض مسيحي الحبشة في اليمن، وبناءً على تحريض مسيحي غسان في يثرب. ورأى آخرون العكس. ويلاحظ هنا أن هزيمتهم في يثرب سبقت هزيمتهم

ص: 186

في اليمن. واستبعد مؤرخون آخرون أثر التحريض الديني في يثرب وقصر أسباب النزاع بين العرب واليهود حينذاك على تضارب المصالح الاقتصادية والرغبة في الاستئثار بالسلطة.

وبعد النصر زاد الأوس والخزرج من عمران يثرب وسمعتها، وزادوا من آطامها وحصونها. وانتشر الخزرج في بقاع خصيبة من العوالي في جنوب وشرق يثرب، بينما انتشر الخزرج في بقاع أقل ثراء في الأجزاء الوسطى والشمالية منها.

وعاش عرب يثرب في بداية الأمر متحدي الصفوف، ثم ساءت العلاقات فيما بين قبائلهم الرئيسية، وفرق التنافس الاقتصادي والسياسي وحدتهم، حيث أخذ الأوس على الخزرج استئثارهم بالسيادة السياسية، بينما أخذ الخزرج على الأوس استئثارهم بأهم النواحي الاقتصادية.

وعمل اليهود من حين إلى آخر على تأجيج نار الفتنة بين الفريقين وتأليب فريق منهما على فريق. وهكذا تكررت أيام الحروب بين الأوس والخزرج، وظل أغلب النصر فيها للخزرج حتى هزموا في حرب بعاث التي سبقت هجرة الرسول إلى يثرب بنحو خمس سنين. وقبيل وصوله إليها كان الأوس قد جمعوا كلمتهم برئاسة أبي عامر بن النعمان، بينما أعاد الخزرج تنظيم صفوفهم برئاسة عبد الله بن أبي سلول وأعدوه ليكون ملكًا على يثرب كلها.

وكما تنافس الأوس والخزرج واليهود خفية وعلانية في يثرب، تنافست مكة ويثرب في شئون التجارة والاقتصاد وزعامة عرب الحجاز. وكانت أولاهما -كما سبق القول عنها- تغلب فيها العدنانية، وجدب التربة، وثراء التجارة الخارجية، وحرمة البيت، بينما غلبت في يثرب الأصول القحطانية الخليطة وخصب التربة وكثرة الإنتاج من النصيب الأقل من التجارة الخارجية،

من المؤلفات المختارة في دراسات الفصل:

أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول - القاهرة 1965.

سعد زغلول: في تاريخ العرب قبل الإسلام- بيروت 1975.

عبد القدوس الأنصاري: آثار المدينة المنورة -1973.

علي حسني الخربوطلي: الكعبة على مر العصور - القاهرة 1967.

نور الدين السمهودي: خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى - المدينة المنورة 1972.

ص: 187