الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التمهيد
في معنى التّسبيح وأصله اللغوي واشتقاقاته
يحسن بي وأنا أتعرّض للحديث عن تسبيح الله تبارك وتعالى أن أمهِّد له ببيان معنى التسبيح استناداً إلى أصله اللغوي، ومن ثمّ أذكر مااشتُقّ منه من كلمات أصبحت منتسبة إلى حقيقته الشرعية. فأقول والله المستعان سبحانه:
التسبيح: مصدر سَبَح، وأصل معنى سَبَح في اللغة: إذا أَبْعَدَ وذهب - على وجه السرعة والخفّة- في الماء أو الهواء أو الأرض. والسَبْحُ: التباعد1.
وتُوسِّع في استعماله فجيء به في معنى مرّ النجوم في الفلك. ومثاله قوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 2 واستعمل أيضاً لمعنى جري الفرس، ومثاله قوله تعالى:{وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً} 3 ومنه: فرس سبُوح أي واسع الجري. وجاء أيضاً بمعنى التصرّف في المعاش والإبعاد في العمل ومثاله قوله عز وجل: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً} 4.ومن تلكم الاستعمالات ما أنا بصدد بيانه وهو التسبيح لله تعالى على أنّه يراد به -على ما سبق من بيان الأصل اللغوي إبعاده عمّا لا يليق به5.
1 انظر: لسان العرب لابن منظور ج2 ص472؛ تفسير أبي السعود ج5 ص154؛ تفسير الخازن ج4 ص127؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج1 ص405.
2 سورة يس: الآية (40) .
3 سورة النازعات: الآية (3) .
4 سورة المزمل: الآية (7) .
5 انظر: لسان العرب لابن منظور ج2 ص471_472؛ ترتيب القاموس المحيط للطاهر الزاوي ج2 ص 506_ 507.
وفيه قال الراغب1 في مفرداته:"وأصله المرّ السريع في عبادة الله تعالى، وجُعل ذلك في فعل الخير كما جُعل الإبعاد في الشر فقيل: أبعده الله. وجُعل التسبيح عاماً في العبادات قولاً كان أو فعلاً أو نيّة "2.وبمثله في لسان العرب قوله:"وجماع معناه بُعده تبارك وتعالى عن أن يكون له مِثْل أو شريك أو ندّ أو ضدّ "3.
- وتبعاً لهذا التوسُع في استعمال معنى التسبيح كما ذكر الراغب في عبارته السابقة "وجُعل التسبيح عاماً في العبادات قولاً كان أو فعلاً أو نيّة"؛ فإنّه قد أطلقت كلمات عدّة اشتقت من هذا المصدر وأصبحت معلومة مشهورة، منها: أنّه يطلق التسبيح ويراد به الدعاء والذكر والصلاة. وفيه يقول القائل: قضيت سُبْحتي. والسُبْحة: الدعاء والذكر وصلاة التطوع والنافلة4.
وعليه فسّر البعض قول الله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} 5على أنّه يأمرهم الله بالصلاة في هذين الوقتين6.
1 هو الحسين بن محمد بن المفضل، أبو القاسم الأصفهاني أو الأصبهاني المعروف بالراغب: أديب، من الحكماء العلماء، من أهل «أصبهان» سكن بغداد واشتهر حتى كان يقرن بالإمام الغزالي، توفي 502هـ، من أشهر مؤلفاته: المفردات في غريب القرآن، محاضرات الأدباء، الذريعة إلى مكارم الشريعة. (انظر: بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي ص 396؛ كشف الظنون لحاجي خليفة ج1 ص36؛ الأعلام للزركلي: ج2 ص255) .
2 المفردات للراغب الأصفهاني: ص221.
3 انظر: لسان العرب لابن منظور ج2 ص471.
4 المرجع السابق: ج2 ص473.
5 سورة الروم: الآية 17.
6 انظر: تفسير أبي السعود ج7 ص55؛ والآية في سورة الروم رقم (17) .
أقول: ولا ريب إنما سميت الصلاة والذكر كذلك لكونهما يتضمّنان تنزيهاً لله وتعظيماً له من كل سوء ونقيصة.
- ومنها يُقال: السُبُحات ويراد بها مواضع السجود. ويقال أيضاً: سُبُحات وجه الله أي أنواره وجلاله وعظمته. وسُبحة الله: جلاله. والسُبْحة: خرزات للتسبيح تعدّ1.
واستناداً إلى ما سبق ذكره من أصل كلمة التسبيح في اللغة واستعمالاتها اللغوية والشرعية يمكن أن يُعرَّف التسبيح لله تعالى بأنّه: قول أو مجموع قول مع عمل يدلّ على تعظيم الله تعالى وتنزيهه وبراءته من كل سوء ونقيصة وممّا لا ينبغي أن يوصف به فيما لا يليق بجلاله وكماله2.والله أعلم.
- وممّا يجدر الإشارة إليه أنّ هذا اللفظ (التسبيح) بمعناه الشرعي لا يصلح إلا لله تعالى ولا يصحّ إطلاقه على غيره؛ إذ إنّ من صفاته عز وجل"سُبُّوحٌ قُدُّوس" كما جاءت به السنة المطهرة3.
1 انظر: لسان العرب لابن منظور ج2 ص473؛ترتيب القاموس المحيط للطاهر الزاوي ج2 ص507.
2 انظر: تفسير البغوي ج3 ص92؛التفسير الكبير للفخر الرازي ج20 ص146؛ تفسير القرطبي ج10 ص204؛فتح القدير للشوكاني ج3 ص211؛أضواء البيان للشنقيطي ج3 ص397؛ التحرير والتنوير لابن عاشورج15 ص9_10.
3 انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج10 ص204. وقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده «سُبُوح قُدُوس ربُّ الملائكة والرُّوح» وقال النووي في شرحه له: معنى (سبوح) المبرأ من النقائص والشريك وكل ما لايليق بالإلهية. (كتاب الصلاة: باب ما يقال في الركوع والسجود، حديث 195ج3 ص124) صحيح مسلم بشرح النووي.
أمّا كلمة (سُبحان) على وزن فُعلان فهي عند أكثر النحويين اسم عَلَم للتسبيح يقوم مقام المصدر مع الفعل. قال الفخر الرازي1. في تفسيره الكبير:"قال النحويون: سبحان اسم علم للتسبيح يقال: سبحت الله تسبيحاً وسبحاناً. فالتسبيح هو المصدر، وسبحان اسم علم للتسبيح، وتفسيره تنزيه الله من كل سوء"2.
-كما أنّ هذه اللفظة (سبحان) تدلّ على المبالغة في تنزيه الله عز وجل من عدّة وجوه ذكرها أبو السعود3 إذ قال: "وفيه ما لا يخفي من الدلالة على التنزيه البليغ من حيث الاشتقاق من السَبْح الذي هو الذهاب والإبعاد في
1 هو محمد بن عمر بن الحسن التيمي البكري، أبو عبد الله، فخر الدين الرازي، الإمام المفسر، قرشي النسب، أصله من طبرستان ومولده في الريّ وإليها نسبته ويقال له (ابن خطيب الري) ،رحل إلى خوارزم وما وراء النهر وخراسان، وتوفي في هراة، من المتكلمين، وكان واعظاً بارعاً، أشهر مؤلفاته مفاتيح الغيب في التفسير، والمحصول في علم الأصول، ولد عام 544هـ وتوفي عام 606هـ (انظر: لسان الميزان لابن حجر ج4ص426؛طبقات الشافعية للسبكي ج5 ص33؛ البداية والنهاية لابن كثير ج13ص60؛ الأعلام للزركلي ج6 ص313) .
2 التفسير الكبير للفخر الرازي: ج20 ص145.وفي لسان العرب قال ابن جنّي "سبحان اسم علم لمعنى البراءة والتنزيه بمنزلة عثمان وعمران، اجتمع في سبحان التعريف والألف والنون وكلاهما علّة تمنع من الصرف" لسان العرب ج2 ص471.
3 هو محمد بن محمد بن مصطفى العمادي، المولى، أبو السعود: مفسر وشاعر، من علماء الترك المستعربين. ولد بقرب القسطنطينية، ودرس ودرّس وتولى القضاء في بلاد متعددة وأضيف إليه الإفتاء عام 952?، من أهم مؤلفاته تفسيره إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم. ولد عام 898? وتوفي عام 982?. (انظر: شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي ج8ص398؛ الأعلام للزركلي ج7 ص59) .
الأرض، ومن جهة النقل إلى التفعيل، ومن جهة العدول من المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصَّة، وهو علم يشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن، ومن جهة قيامه مقام المصدر مع الفعل"1.
- هذا وقد تطلق العرب هذه الكلمة لما يُتعَّجبُ منه، فيقولون: سبحان من كذا، يريدون التعجّب من ذلك الشيء 2.
- وأختم كلامي حول هذه الكلمة بما ذكره الفيروز آبادي3 في بصائره من أنّها جاءت في القرآن الكريم في خمسة وعشرين موضعاً في ضمن كل واحد منها إثبات صفة من صفات المدح ونفي صفة من صفات الذمّ4 وهي ما سأفصل فيها القول - بإذن الله تعالى - في الصفحات القادمة وأسأل الله التوفيق والسداد.
1 تفسير أبي السعود: ج5 ص154.
2 انظر: لسان العرب لابن منظور ج2 ص471؛ترتيب القاموس المحيط ج2 ص506.
3 هو محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر، أبو طاهر، مجد الدين الشيرازي الفيروزآبادي: من أئمة اللغة والأدب، ولد بكارِزين من أعمال شيراز، وانتقل إلى العراق، وجال في مصر والشام، ودخل بلاد الروم والهند، ورحل إلى زبيد عام 796هـ فسكن بها وولي قضاءها وتوفي بها، من أشهر مؤلفاته: القاموس المحيط بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز. وكان شافعياً، وكان قوي الحافظة يحفظ مائة سطر كل يوم قبل أن ينام، ولد عام 729هـ وتوفي عام 817هـ (انظر: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكاني ج2 ص280؛ الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي ج10ص79؛ بغية الوعاة ص117؛ مفتاح السعادة ومصباح السيادة لطاش كبرى زاده ج1ص103؛ الأعلام للزركلي ج7 ص146_147) .
4 انظر: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز ج3 ص176.