الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس: في آية سورة القصص:
قال الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1.
مطلب: في نزول هذه الآية الكريمة:
قال الواحدي2 في أسباب النزول: "قال أهل التفسير: نزلت جواباً للوليد بن المغيرة حين قال فيما أخبر الله تعالى عنه أنّه لا يبعث الرسل باختياره"3.
- وتفصيلاً لكلام الواحدي أذكر كلام الخازن4 في تفسيره إذ يقول: "نزلت هذه الآية جواباً للمشركين حين قالوا: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ
1 سورة القصص: الآية (68) .
2 هو علي بن أحمد بن محمد بن علي بن متُّوية، أبو الحسن الواحدي: مفسر، عالم بالأدب، نعته الذهبي بإمام علماء التأويل، كان من أولاد التجار، أصله من ساوة (بين الري وهمذان) ومولده ووفاته بنيسابور، من أشهر مؤلفاته: أسباب النزول البسيط الوسيط - الوجيز في التفسير_شرح ديوان المتنبي وتوفي عام 468هـ (انظر: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي ج5 ص104؛ وفيات الأعيان لابن خلكان ج1 ص333؛ مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده ج1 ص402؛ الأعلام للزركلي ج4 ص255) .
3 أسباب النزول للواحدي: ص255_256. وانظر: جامع النقول في أسباب النزول لخليفة عليوي ج2 ص262.
4 هو علي بن محمد بن إبراهيم الشيحي علاء الدين المعروف بالخازن: عالم بالتفسير والحديث، من فقهاء الشافعية، بغدادي الأصل، نسبته إلى شيحة من أعمال حلب، ولد ببغداد وسكن دمشق مدة، وكان خازن الكتب بالمدرسة السميساطية فيها، واشتهر بالخازن بسبب ذلك، أشهر كتبه لباب التأويل في معاني التنزيل. ولد عام 678? وتوفي 741? (انظر: الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة لابن حجر ج3 ص97؛ الأعلام للزركلي ج5 ص5) .
مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 1 يعني الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي. أخبر الله تعالى أنّه لا يبعث الرسل باختيارهم لأنّه المالك المطلق وله أن يخصّ ما يشاء بما يشاء لا اعتراض عليه البتة2".
أقول: ولعلّ سياق هذه الآيات الكريمة يؤيد ماذهب إليه أهل التفسير من أنّ الآية نزلت في شأن إرسال الرسل واختيارهم فإنّه قد قال تعالى قبلها في شأن المشركين: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ. فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ} 3 وبعد هاتين الآيتين جيء بالاعتراض في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} 4 وهذه الآية التي نحن بصددها من تمام الاعتراض ووجه عطفها أنّ الله بيّن قبلها بأنّ الأمر موكلٌ إليه بحكمته في خلق قلوب قابلة للهداية وقلوب قاسية صمّاء، وهو الذي يختار من بين مخلوقاته لما يشاء ممّا يصلح له جنس ما من شأنه الاختيار، ومن ذلك اختياره للرسالة من يشاء إرساله وهذا في معنى قوله تعالى: {
…
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ
…
} الآية5. وأن ليس ذلك لاختيار الناس ورغباتهم.
1 سورة الزخرف: الآية (31) .
2 تفسير الخازن: ج5 ص180؛ وفي لباب النقول للسيوطي حول نزول هذه الآية الكريمة عن قتادة قال الوليد بن المغيرة: لو كان ما يقول محمد حقاً أنزل عليّ هذا القرآن أو على مسعود الثقفي. فنزلت الآية (لباب النقول في أسباب النزول ص188) .
3 سورة القصص: الآيات (65_66) .
4 سورة القصص: الآية (67) .
5 سورة الأنعام: الآية (0124) .
- ولكن مع ما ذُكر أقول: إنّ الله تبارك وتعالى قد أجاب عن قول المشركين في آية سورة الزخرف: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} في ذات الموضع في الآية بعدها وبنفس السورة بما يدحض قولهم ويبيّن بطلانه وقد تكون آية سورة القصص ههنا تتمة لذلك الجواب بأسلوب آخر وفي موضع آخر ناسب الردّ عليهم مرة أخرى لبيان شناعة قولهم ذلك، وكان الجواب عليهم آنذاك هو قوله تعالى:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 1 والمعنى أنّه لمّا قسم الله تعالى بين الناس معيشتهم فكانوا مسيرين في أمورهم على نحو ما هيأ لهم من نظام الحياة، وكان تدبيره ذلك ببالغ حكمته فجعل منهم أقوياء وضعفاء وأغنياء ومحاويج فسخر بعضهم لبعض في أشغالهم على حسب دواعي حاجة الحياة، ورفع بعضهم فوق بعض، وجعل بعضهم محتاجاً إلى بعض.. فإذا كانوا بهذه المثابة في تدبير المعيشة الدنيوية، فكذلك الحال في إقامة بعضهم دون بعض للتبليغ فإنّ ذلك في أعظم شؤون البشر، ولمّا كان الاصطفاء للرسالة رحمة لمن يصطفى لها ورحمة للناس المرسل إليهم، جعل تحكّمهم في ذلك قسمة منهم لرحمة الله باختيارهم من يختار لها وتعيين المتأهِّل لإبلاغها إلى المرحومين.. وهو ما لا يملكونه ولا يستطيعونه2.
وعلى ما ذكرته فقول من قال إنّ هذه الآية: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ..} الآية نزلت جواباً فيما قاله الوليد بن المغيرة هو قول يحتاج إلى كثير من الدِّقة والتحري.. والأولى أن يقال إنّ هذه الآية الكريمة كانت ممّا نزل جواباً على
1 سورة الزخرف: الآية (32)
2 انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج25 ص201.
مِثل ما قاله الوليد بن المغيرة وغيره في هذه الدعوى وذلكم الاقتراح. وإضافة إلى ذلك فإنّ هذا النصّ يفيد العموم وإن كان السياق يوجِّه إلى موضوع إرسال الرسل، والعبرة في مثله بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والله أعلم.
مطلب: في بيان ما قبل التسبيح:
- يخبر الحقّ تبارك وتعالى في مطلع هذه الآية الكريمة مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أنّه المنفرد بالخلق والاختيار، وأنّه ليس له في ذلك منازع ولا مزاحم ولا معقِّب {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، والأمور كلّها خيرها وشرها مرجعها إلى تقديره وحكمته في خلقه1.
وكذلك هو سبحانه الذي يختار لخلقه من التشريع ما يشاء ولا اعتراض على اختياره وحكمه البتة ويؤيّد هذا المعنى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ..} الآية2.
- وإنّما ابتدأت الآية بإثبات أنّ الخلق لله تعالى - وإن كان معلوماً لدى المشركين - ليمهِّد للمقصود وهو قوله بعده {وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} .
والمراد: كما أنّ الخلق له تعالى ومن خصائصه فكذلك الاختيار3.
- و (ما) في قوله {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} نافية على الأصّح.
وهذه الجملة الكريمة استئنافية مؤكِّدة لمعنى ما قبلها من قصر الاختيار لله وحده، وأنّه ليس لأحد أن يختار على الله أو أن يعترض على اختياره وحكمه.
1 انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج3 ص397.
2سورة الأحزاب: الآية (36) .
3 انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج20 ص165.
ثمّ إنّ المجيء ب (كان) هنا للدلالة على نفي للكون وهو يفيد أشدّ مما يفيد لو قيل ما لهم الخيرة1.
وأمّا (الخيرة) فهي اسم من الاختيار يقوم مقام المصدر، وهي اسم للمختار أيضاً كما يقال: محمد خيرة الله من خلقه2.
مطلب: في بيان موضع التسبيح وغايته:
- جاء تسبيح الله ذاته العليّة في ختام هذه الآية السنيّة بقوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وغايته ومقتضاه في عدّة أمور منها:
- أنّه لمّا كان المقام – ههنا - في بيان انفراده تعالى بالخلق والتقدير والاختيار وأنّه لا نظير له في ذلك نزه الله ذاته من أن يشرك به من الأصنام أو الأنداد التي لا تخلق ولا تختار شيئاً؛ إذ المشاركة توجب المساواة، ولا مساواة - بلاشك - بين من خلق وقدّر واختار وبين من لايستطيع خلقاً ولا يملك تقديراً ولا اختياراً3.
- ثمّ إنّه لمّا كان الدافع لهؤلاء المشركين في اقتراحهم واختيارهم وإعراضهم عن اختيار الله هو شركهم به – تعالى - فإنّه سبحانه نزه نفسه عنه؛ وليدلّ على أنّ غاية أمرهم في ذلك إنّما هو ما امتزجت به نفوسهم من ضلالات شركهم وأهوائهم وجهلهم بقدر الله وحقيقته4.
1 انظر: تفسير ابن كثير ج3 ص397؛ محاسن التأويل للقاسمي ج13 ص121؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج20 ص165.
2 تفسير البغوي: ج3 ص452_453.
3 انظر: تفسير ابن كثير ج3 ص397؛ تفسير المهايمي: ج2 ص122.
4 انظر: محاسن التأويل للقاسمي ج13 ص 121.
وليدلّ أيضاً على أنّه لم يجترئ أحد على أن يصف الله تعالى بما لايليق به -آنذاك- إلاّ أهل الشرك هؤلاء. فسبحان الله وتعالى عما يصفون1.
لطيفة:
يذكر ابن عاشور2 لطيفة حول إضافة سبحان إلى اسم الجلالة العَلَم - مع أنّ المقام مقام إضمار بعد أن قال: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} دون أن يقول سبحانه فعلّل ذلك بقوله: "لأنّ اسم الجلالة مختص به تعالى وهو مستحق للتنزيه بذاته؛ لأنّ استحقاق جميع المحامد ممّا تضمنّه اسم الجلالة في أصل معناه قبل نقله إلى العَلَمية"3.
مطلب في صلة ما بعد التسبيح به وبما قبله:
- إنّ موقع هذه الجملة الكريمة التي يسبِّح الله فيها ذاته المقدّسة معترضة بين المتعاطفين من قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} وما جاء بعدها من قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ. وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 4.
1 انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج20 ص166.
2 هو محمد الطاهر بن عاشور رئيس المفتين المالكيين بتونس وشيخ جامع الزيتونة وفروعه بتونس، مولده ووفاته ودراسته بها، عُيِّن عام 1932م شيخاً للإسلام مالكياً، وهو من أعضاء المجمعين العربيين في دمشق والقاهرة، ولد عام 1296هـ وتوفي 1393هـ، له مصنفات مطبوعة من أشهرها: مقاصد الشريعة الإسلامية، أصول النظام الإجتماعي في الإسلام، تفسير التحرير والتنوير. (انظر: الأعلام للزركلي ج6 ص174) .
3 التحرير والتنوير لابن عاشور: ج20 ص166.
4 سورة القصص: الآيات (69_70) .
وهاتان الآيتان بعدها فيهما مزيد تنزيه لله تبارك وتعالى وثناء عليه؛ فإنّه عز وجل بعلمه لما تخفيه صدورهم وما يعلنونه من أقوالهم وأفعالهم فهو المستحقّ والمنفرد بأن يختار لهم ما يشاء دون سواه، وبالتالي فهي أيضاً بمثابة علّة للاختيار.. والآية التي تتلوها كذلك هي في ذات موضوعها وتؤكِّده؛ وذلك بما جاء فيها من إثبات ألوهيته تعالى وأنّه المنفرد بالوحدانية، وأنّ جميع المحامد إنّما تجب له دون غيره، وأن لا حكم إلاّ له دون مشاركة فيه لغيره وإليه من بعد المرجع والمصير1. والله أعلم بمراده.
1 انظر: تفسير القرطبي ج13 ص307؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج20 ص166.