الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث العاشر: في آية سورة الحشر:
مطلب في بيان ما قبل التسبيح وصلته:
الذي يلاحظ في هذه السورة الكريمة أنّه قد جاء في خاتمتها ثلاث آيات تضمنت ذكر عدد من أسماء الله وصفاته الحسنى بصورة متتابعة لم تذكر في مثلها من آيات القرآن الكريم. ولعلّ المتأمل يسأل عن سرّ ذلك. وقد اجتهد صاحب التحرير والتنوير في بيان هذا الأمر وأرى أنّه قد أصاب في اجتهاده وأجاد، والله أعلم بالمراد، فقال رحمه الله تعالى: "لمّا تكرر في هذه السورة ذكر اسم الله وضمائره وصفاته أربعين مرّة، منها أربع وعشرون بذكر اسم الجلالة وست عشرة مرة بذكر ضميره الظاهر أو صفاته العليّة، وكان ما تضمّنته السورة دلائل على عظيم قدرة الله وبديع تصرّفه وحكمته، وكان ممّا حوته السورة الاعتبار بعظيم قدرة الله إذ أيد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ونصرهم على بني النضير ذلك النصر الخارق للعادة، وذِكر ما حلّ بالمنافقين أنصارهم، وقوبل ذلك بالثناء على المؤمنين بالله ورسوله الذين نصروا الدين، ثمّ الأمر بطاعة الله والاستعداد ليوم الجزاء والتحذير من الذين أعرضوا عن كتاب الله ومن سوء عاقبتهم وختم ذلك بالتذكير بالقرآن الدالّ على الخير والمعرّف بعظمة الله المقتضية شدّة خشيته عقَّب ذلك بذكر طائفة من عظيم صفات الله ذات الآثار العديدة في تصرفاته المناسبة لغرض السورة زيادة في تعريف المؤمنين بعظمته المقتضية للمزيد
1 سورة الحشر: الآية (23) .
من خشيته، وبالصفات الحسنى الموجبة لمحبته، وزيادة في إرهاب المعاندين المعرضين من صفات بطشه وجبروته.."1.
- وإنّمّا تعرّضت لذكر هذه المقدمة باعتبار أنّ هذه الآية الكريمة التي ختمت بتسبيح الله ذاته متعلّقة بما قبلها في ذكر سلسلة من أسماء الله الحسنى وصفاته العليا. فكان لا بدّ من الوقوف على وجه الحكمة في ذلك، ولارتباط غاية مجيء التسبيح بذكر أسماء الله تعالى ههنا.
- وتبدأ هذه الآية الكريمة كسابقتها بقوله {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} وهذا التكرار للاستئناف لأنّ المقام مقام تعظيم وهو من مقامات التكرير، وفيه -أيضاً- اهتمام بصفة الوحدانية له تعالى. أي هو الإله المعبود الذي لا تصلح العبادة إلاّ له.
ثم يجيء بعد هذا ذكر أسماء وصفات له أخرى غير ما ذكر في الآية قبلها (الملك) أي المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة (القدوس) أي المبارك (السلام) أي من جميع العيوب والنقائص (المؤمن) أي الذي أمن خلقه من أن يظلمهم (المهيمن) أي الشاهد على خلقه بأعمالهم (العزيز) أي الذي قد عزّ كل شيء فقهره وغلب الأشياء فلا ينال جنابه (الجبار) أي المصلح أمور خلقه المتصرّف فيهم بما فيه صلاحهم (المتكبِّر) أي عن كلّ شرٍّ وسوء2.ومن بعد هذه الأسماء الحسنى والصفات العليا يسبح الله نفسه الكريمة وهو ما سأبينه في المطلب القادم.
1 التحرير والتنوير لابن عاشور: ج28 ص117_118.
2 انظر: تفسير الطبري ج28 ص36_37؛ تفسير ابن كثير ج4 ص343.
مطلب: في بيان التسبيح وغايته:
- ينزه الله تعالى ذاته العليّة عن شرك المشركين وعمّا اتخذوهم من شركاء له سبحانه، وذلك إثر تعداد بعض صفاته وأسمائه الحسنى التي لا يمكن أن يشاركه في شيء منها شيء أصلاً ممّا يدَّعونه شركاء له عز وجل.. وفي هذا إشارة للتعجيب من حالهم في إثبات شريك لله بعد ما عاينوا هذه الأسماء والصفات بآثارها وحقائقها ودلائلها، وبمعنى آخر مقارب أنّه لمّا تقرّر بما ذكر الله تعالى من أسمائه وصفاته كمال عظمته وجلال كبريائه ممّا ينتج عنه تنزهه وتعاليه عن شوب نقص لا سيما عن الشرك؛ نزه الله ذاته عنه داعياً عباده بذلك إلى تنزيهه وتعظيمه؛ ومتعجباً من حال من أشرك به وهو المنفرد بصفات الكمال والجلال1.
- وللفخر الرازي كلام في بيان غاية مجيء التسبيح ههنا، ولكني أرى أنّه قد حصر ذلك في جانب واحد بقضية معيّنة، والأوْلى ما ذُكِر سابقاً لإفادته العموم وهو الأنسب والله أعلم. وذلك قوله: "كأنّه قيل: إنّ المخلوقين قد يتكبرّون ويدّعون مشاركة الله في هذا الوصف -أي المتكبر- لكنّه سبحانه منزه عن التكبرّ الذي هو حاصل للخلق لأنهم ناقصون بحسب ذواتهم، فادّعاؤهم الكبر يكون ضمّ نقصان الكذب إلى النقصان الذاتي، أمّا الحق سبحانه فله العلوّ
1 انظر: تفسير أبي السعود ج8 ص234؛ نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي ج7 ص542؛ تفسير روح البيان للبرسوي ج9 ص466؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج28 ص123.
والعزّة، فإذا أظهره كان ذلك ضمّ كمال إلى كمال، فسبحان الله عما يشركون في إثبات صفة المتكبرية للخلق"1.
- وبهذا ينتهي الكلام حول هذا الموضع وبه يتم هذا الفصل والحمد لله رب العالمين.
1 التفسير الكبير للفخر الرازي: ج29 ص294.