الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس
في آية سورة مريم:
مطلب: في بيان الآية السابقة لآية التسبيح وصلتها:
- جاءت هذه الآية الكريمة أي قول الله تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
…
} الآية بعد بيان الله تعالى لحقيقة عيسى عليه السلام من قوله عز وجل: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً. وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً. وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً. وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} ii.
والمراد من قوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} . أي ذلك الذي ذكرناه هو عيسى ابن مريم لاكما تزعم اليهود إنّه لغير رشدة وأنه ابن يوسف النجار، ولاكما تقول النصارى إنه إله أو ابن الإله iii.
{قَوْلَ الْحَقِّ} iv من قرأ برفع اللام على أنّه نعت لعيسى عليه السلام كما سمي كلمة الله، والحق هو الله عز وجل. وقيل: التقدير: هذا الكلام قولُ الحق.
i سورة مريم: الآيتان (34_35) .
ii سورة مريم: الآيات (30-33) .
iii انظر: تفسير القرطبي ج11 ص105.
iv قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب بنصب اللام {قولَ الحق} وقرأ الباقون برفعها (انظر: النشر في القراءات العشر لابن الجزري ج2 ص318) .
ومن قرأ بالنصب فعلى المصدر أي أقول قول الحق i. {الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} فمن قائل إنه ابن الله ومن قائل إنه هو الله وغير ذلك من الأقوال التي اختلفوا فيها وتجادلوا وناقض فيها بعضهم بعضاً.
مطلب: في بيان موضع التسبيح وآيته:
- لمّا ذكر الله عز وجل فيما قبل حقيقة عيسى عليه السلام وأنّه خلقه عبداً نبياً نفى عن ذاته الكريمة اتخاذ الولد ردّاً على النصارى الذين قالوا ببنوّته عليه السلام تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً –فقال عز وجل: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} أي ما يصحّ ولا يليق ولا يتأتّى ولا يُتصوّر في حقه جلّ وعلا أن يتخذ ولداً ii. وكما قال الجمل iii في حاشيته على الجلالين: "والمعنى أنّ ثبوت الولد له محال"iv. وهو كقوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} v.
وهذه الجملة الكريمة تفيد انتفاء الولد عنه تعالى بأبلغ وجه؛ وذلك لأنّ لام الجحود تفيد مبالغة النفي، وأنّه ممّا لايلاقي وجود المنفي عنه ولأن في قوله:
i انظر: تفسير البغوي ج3 ص195؛ تفسير القرطبي ج11 ص105؛ حجة القراءات لابن زنجلة ص443.
ii انظر: تفسير البغوي ج3 ص195؛ تفسير القرطبي ج11 ص106؛ تفسير الخازن ج4 ص245؛ فتح القدير للشوكاني ج3 ص336؛ تفسير السعدي ج5 ص104 أضواء البيان ج4 ص277.
iii هو سليمان بن عمر بن منصور العجيلي الأزهري الشافعي، المعروف بالجمل: فاضل من أهل مدينة عجيل (إحدى قرى الغربية بمصر) انتقل إلى القاهرة. له مؤلفات منها: الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية (حاشية على الجلالين) ، وفتوحات الوهاب (حاشية على شرح المنهج في فقه الشافعي، توفي عام 1204هـ (انظر: الأعلام للزركلي ج3 ص131) .
iv حاشية الجمل على الجلالين: ج3 ص62.
v سورة مريم: الآية (92) .
{أَنْ يَتَّخِذَ} إشارة إلى أنّه لو كان له ولد لكان هو خلقه واتخذه؛ فلم يَعْدُ أن يكون من جملة مخلوقاته، فإثبات البنوّة له خُلْف من القول، وكذلك فإن الإتيان بـ (مِن) مزيدة قبل المفعول في قوله:{مِنْ وَلَدٍ} يفيد تأكيد عموم النفي ومبالغته i.
- وبعد أن نفى الله تعالى عن ذاته العليّة الولديّة أكّده – أي النفي- بتنزيهها عنه وعن كلّ ما لايليق بكماله وجلاله إذ قال: {سُبْحَانَهُ} ثمّ جاء بحجة تعدّ بمنزلة علّة لهذا التنزيه ii وهي قوله تعالى: {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . وقد تقدم في المبحث الأول الكلام عن هذه الحجة بما فيه الكفاية، والإتيان بها – ههنا - مع مافيها من عدّة التنزيه فإنّها تفيد –أيضاً- تبكيتاً للنصارى ببيان أنّ شأنه تعالى إذا قضى أمراً من الأمور أن يعلّق به إرادته فيكون حينئذ بلا تأخير؛ فمن هذا شأنه كيف يتوهّم أن يكون له ولد iii.
* لطيفة:
ذكر صاحب أضواء البيان iv فائدة لطيفة في لفظ {مَا كَانَ} الدالّ على النفي من جهة المعنى.
i انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج16 ص102-103؛ أضواء البيان للشنقيطي ج4 ص277-278.
ii انظر: حاشية الجمل على الجلالين ج3 ص62.
iii انظر: تفسير أبي السعود ج5 ص265.
iv هو محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (1325-1393هـ) : ولد عند ماء يسمى (تنبه) من أعمال مديرية (كيفا) من القطر المسمى بشنقيط وهو دولة موريتانيا الإسلامية الآن. حفظ القرآن وعمره عشرسنوات، وطلب العلم على عدد من علماء بلده، خرج من بلاده لأداء الحج ومن ثمّ استقر في المدينة المنورة ودرّس بالمسجد النبوي الشريف وتلقى الناس عنه. له مؤلفات عدة أهمها: أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن، مذكرة الأصول على روضة الناظر، دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب. (انظر: ترجمة الشيخ عطية سالم له في أول كتاب أضواء البيان 1/7-64) .
فقال: "اعلم أنّ لفظ {مَا كَانَ} يدل على النفي، فتارة يدلّ ذلك على النفي من جهة المعنى على الزجر والردع كقوله تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأََعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
…
} الآية، وتارة يدلّ على التعجيز كقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ. أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا
…
} الآية. وتارة يدلّ على التنزيه كقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَد
…
} الآية"i.
i أضواء البيان للشنقيطي: ج4 ص277.والآيات على الترتيب: سورة التوبة (120) ، سورة النمل (60) ، سورة مريم (35) .