الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
في آية سورة الإسراء:
قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} 1.
مطلب: في معنى الآية الأولى وصلتها بآية التسبيح:
- قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} متصّل بقوله تعالى قبله {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} 2.
ووجه الصلة أنّه عَوْدٌ وتتمّة في الردّ على المشركين عبّاد الأصنام وإبطال تعدّد آلهتهم طلباً لاستئصال عقائدهم من جذورها3.
- والمخاطب -في الآية - بالأمر بالقول هو النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لدمغهم بالحجة المقنعة والبرهان الجليّ بفساد قولهم. وافتتاحها به اهتماماً بها وتحضيضاً لهذا الأمر بالتبليغ؛ وإن كان جميع القرآن مأموراً صلى الله عليه وسلم بتبليغه4.
1 سورة الإسراء: الآيتان (42-43) وقرأ ابن كثير وحفص على الغيبة (كما يقولون)، وقرأ الباقون بالخطاب (كما تقولون) . وقرأ حمزة والكسائي وخلف على الخطاب في (عما تقولون) . وقرأ الباقون على الغيبة أي (عما يقولون) . (انظر: النشر في القراءات العشر لابن الجزري ج2 ص307) .
2 سورة الإسراء: الآية (39) .
3 انظر: تفسير القرطبي ج10 ص265؛ تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور ج15 ص110.
4 انظر: تفسير القرطبي ج10 ص265؛ تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور ج15 ص110.
- ثمّ إنّ قوله تعالى: {كَمَا يَقُولُونَ} جملة معترضة، ويراد منها التنبيه والإشارة إلى أنّ تعدّد الآلهة لا تحقّق له وإنّما هو مجرد قول لا أساس له من الصّحة والواقع1.
- ويأتي من بعدُ الجوابُ على ما افترض وجوده بقوله: {إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} ، فـ (إذاً) تدلّ على الجواب والجزاء وتؤكّد معناهما الذي دلّت عليه اللام المقترنة بجواب (لو) الامتناعية الدالّة على امتناع حصول جوابها لأجل امتناع وقوع شرطها. وبهذه الإجابة يكون الاستدلال على انتفاء إلهية الأصنام والملائكة الذين جعلوهم آلهةمع الله تعالى2.
وهذا الاستدلال يحتمل معنيين ذكرهما المفسرون، وما دام أنّ كليهما يؤديان إلى غاية الاستدلال، فلا مانع من إبانتهما زيادة في الحجة والبرهان وهما على ما يلي:
المعنى الأول: وهو الذي ذهب إليه عمدة المفسرين ابن جرير الطبري3 وتبعه فيه ابن كثير4 (رحمهما الله) وحاصله أنّه لو كان الأمر كما يزعمون من
1 انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج15 ص110.
2 انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج15 ص110_111.
3 هو محمد بن جرير بن يزيد الطبري، أبو جعفر: المؤرخ المفسر الإمام، ولد في آمل طبرستان عام 224هـ واستوطن بغداد وتوفي بها عام 310هـ، عرض عليه القضاء فامتنع والمظالم فأبى، من أشهر مؤلفاته: أخبار الرسل والملوك، جامع البيان في تفسير القرآن، اختلاف الفقهاء (انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي ج2 ص351؛ البداية والنهاية لابن كثير ج11ص156-158؛ لسان الميزان لابن حجر ج5 ص100-103؛ سير أعلام النبلاء للذهبي ج14 ص267 –282؛ الأعلام للزركلي ج6 ص69) .
4 هو إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوّ بن درع القرشي البصروي ثمّ الدمشقي، أبو الفداء، عماد الدين: حافظ مؤرخ ومفسر وفقيه. ولد في قرية من أعمال بصرى الشام عام 701هـ، وانتقل مع أخ له إلى دمشق عام 706 هـ، ورحل في طلب العلم وتوفي في دمشق عام 774هـ. من أشهر مؤلفاته: البداية والنهاية، تفسير القرآن العظيم، الباعث الحثيث إلى معرفة علوم الحديث، الفصول في اختصار سيرة الرسول. (انظر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامن لابن حجر ج1 ص371؛ النجوم الزاهرة لابن تغري بردي ج9 ص292؛ طبقات الشافعية للسبكي ج6 ص84؛ الأعلام للزركلي ج1 ص320) .
أنّ مع الله آلهة أخرى إذاً لابتغت تلك الآلهة سبيل القربة منه والتمست الزلفة لديه والمرتبة عنده لأنهم دونه؛ وهم قد اعتقدوا أنّها تقربهم إلى الله زلفى؛ فإذا علموا أنّ هذه الآلهة هي ذاتها محتاجة إلى الله تعالى؛ فقد بطل بذلك أنّها آلهة1 وفي هذا المعنى يقول ابن كثير: "لو كان الأمر كما يقولون وأنّ معه آلهة تُعبد لتقرب إليه وتشفع عنده لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه ويبتغون إليه الوسيلة والقربة فاعبدوه أنتم وحده كما يعبده من تدعونه ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه.."2.
المعنى الثاني: أن يكون المراد بالسبيل طريق السعي إلى الغلبة والقهر، أي لطلبوا مغالبة الله ذي العرش. ووجه هذا المعنى أنّ من شأن أهل السلطان أن يسعوا لتوسعة ملكهم وسلطانهم؛ ويكون ذلك بمغالبة ومقاتلة ومنازعة غيرهم من السلاطين والملوك، فلو كان مع الله آلهة لسلكوا عادة أمثالهم. وتمام هذا الدليل محذوف للإيجاز، ويدلّ عليه ما تستلزمه المغالبة والمدافعة من اختلال العالم وفساده لانشغال مديريه بمقاتلة بعضهم بعضاً. وإلى هذا ذهب جماعة من المفسرين3.
1 انظر: تفسير الطبري ج15 ص64؛ تفسير القرطبي ج10 ص266.
2 تفسير ابن كثير: ج3 ص41.
3 انظر: تفسير البغوي ج3 ص116؛ تفسير القرطبي ج10 ص265؛ تفسير أبو السعود ج5 ص174؛ تفسير الخازن ج4 ص161؛ تفسير الألوسي ج5 ص82_83؛ تفسير زاد المسير ج5 ص38؛ تفسير محاسن التأويل للقاسمي ج10 ص231؛ تفسير فتح القدير للشوكاني ج 3 ص236؛ تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور ج15 ص111؛ أضواء البيان للشنقيطي ج3 ص594.
لطيفة: إنّ في استحضار الذات العليّة بوصف {ذِي الْعَرْشِ} دون اسمه العلم لما تتضمّنه الإضافة إلى العرش من الشأن الجليل الذي هو مطمع الآلهة في ابتغاء القربة والزلفى من سعة ما عنده تعالى على المعنى الأول، أو الذي هو مثار حسد الآلهة إياه وطمعهم في انتزاع ملكه تعالى على المعنى الثاني1.
مطلب: في بيان آية التسبيح وغايته:
- لمّا أقام الله عز وجل الدليل القاطع على كونه منزهاً عن الشركاء؛ وعلى أنّ القول بإثبات الآلهةقول باطل، أتبعه بما يدلّ ويؤكِّد على تنزيهه عن هذا القول وتلكم الفرية والبهتان فقال منزهاً ذاته وممجّدها ومقدّسها عمّا لا يليق بها {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} 2.
- ولم يقتصر التنزيه على لفظة {سُبْحَانَهُ} وإن كانت تؤدي إلى المعنى المراد؛ ولكنّما جيء بعدها بقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً3 كَبِيراً} ، وذلك لمزيد التأكيد لمعنى تنزيه الله عز وجل عن قولتهم الشنيعة في حقِّه العظيم وشأنه الجليل.
1 انظر: تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور: ج15 ص112.
2 انظر: تفسير الطبري ج15 ص65؛ تفسير القرطبي ج10 ص266؛ التفسير الكبير للفخر الرازي ج20 ص217؛ تفسير ابن كثير ج3 ص41؛ تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور ج 15 ص113.
(علواً) مفعول مطلق عامله (تعالى) جيء به على غير قياس فعله للدلالة على أنّ التعالي هو الاتصاف بالعلوّ بحقّ لا بمجرد الادّعاء (التحرير والتنوير لابن عاشور ج15 ص113) .
ومبالغة في النزاهة -أيضاً- وصف العلّو بالكبر؛ وليدلّ على أنّ المنافاة بين ذاته وصفاته عز وجل وبين نسبة الشريك له بلغت في القوة والكمال بحيث لا يشوبها شيء من جنس ما نسبوه إليه1 والمعنى: أي تعاظم عن ذلك -تعالى- تعاظماً كبيراً غاية في الكمال لايشوبه شيء من جنس ما نُسب إليه، فإنّ مثل هذه الفرية والبهتان ممّا يتنزه ويترفع عنه مقامه الأسمى2.
لطيفة: ذكر صاحب محاسن التأويل (القاسمي) 3 لطيفة بلاغية ههنا فقال: "قال الشهاب: وذِكْرُ العلّو بعد عنوانه بـ (ذي العرش) -في الآية قبلها- في أعلىمراتب البلاغة"4.
مطلب: في فائدة ذكر تسبيح السموات والأرض ومن فيهن بعد تسبيح الله ذاته:
- بعد تنزيه الله تعالى ذاته العليّة من تلك الفرية الزريّة يذكر سبحانه تسبيح السموات والأرض ومن فيهنّ له بقوله: {تُسَبِّحُ5 لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ
1 انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي ج20 ص217؛ فتح القدير للشوكاني ج3 ص236؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج15 ص113.
2 انظر: محاسن التأويل للقاسمي ج10 ص232.
3 هو جمال الدين أو محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق، من سلالة الحسين بن علي رضي الله عنه إمام الشام في عصره علماً بالدين وتضلعاً من فنون الأدب، مولده ووفاته في دمشق. رحل إلى مصر، وزار المدينة. له مؤلفات أشهرها: محاسن التأويل في التفسير موعظة المؤمنين. ولد عام 1283? وتوفي عام 1332?. (انظر: الأعلام للزركلي ج2 ص135) .
4 محاسن التأويل للقاسمي ج10 ص232.
5 قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف (تسبح) بتاء جماعة المؤنث، وقرأ الباقون (يسبح) [انظر: النشر في القراءات العشر لابن الجزري ج 2 ص307] .
وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} 1.
وفي ذكره لهذه الحقيقة العظيمة شهادة بصحة وقوة ما أورده الله من الاستدلال على ألوهيته ووحدانيته؛ فالعوالم كلّها علويّها وسفليّها تقدّسه وتنزهه وتعظمه عمّا يقوله هؤلاء المشركون وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وألوهيته2. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإيراد التسبيح لكل العوالم ههنا - فيه إنكار شديد على هؤلاء المشركين القائلين بما لا يليق به سبحانه. وفي هذا يقول الطبري: " أي تنزهه السموات والأرض ومن فيهن أيها المشركون عمّا وصفتموه به إعظاماً له وإجلالاً، وأنتم مع إنعامه عليكم وجميل أياديه عندكم تفترون عليه بما تفترون!! "3.
ويدلّ على هذا الوجه ويؤيده ختام الآية بقوله عز وجل {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} إذ فيه تعريض بأنّ مقالتهم تقتضي تعجيل العقاب لهم في الدنيا؛ ولكنّ الله عاملهم بحلمه وإمهاله، وفيه أيضاً تعريض لهم بالحث على الإقلاع عن شركهم وكفرهم ليغفر الله لهم4.
1 سورة الإسراء: الآية (44) .
2 انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي ج20 ص217؛ تفسير ابن كثير ج3 ص41؛ محاسن التأويل للقاسمي ج10 ص232.
3 تفسير ابن جرير الطبري: ج15 ص65.
4 انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج15 ص115؛ محاسن التأويل للقاسمي ج10ص235.